رواية نبع الغرام كاملة بقلم رحمة سيد عبر مدونة دليل الرويات
رواية نبع الغرام الفصل الثالث 3
كانت “غرام” متصنمة بمكانها أمام “أيوب” والبقية الشاهدين على عقد القران، تتابع إنهاء اجراءات عقد القران بتبلد وكأن ما يحدث لا يخصها، لا زالت تذكر كيف أتته بعد الساعتين مباشرةً لتبلغه بقرارها بالموافقة، لا… لم يكن قرار بل كان إقرار من القدر بمصيرٍ محتوم، فأي تفكير مخالف كان سيودي بها للتهلكة حتمًا.
وبالفعل صارت زوجة أيوب العماري.. الرجل الذي اتخذته درعًا لمواجهة هجوم الظلم الكاسح، تتمنى أن يكون كذلك وألا يتفتت ذلك الدرع الوهمي الذي اختلقه عقلها ليكون شظايا مُدببة تُغرز فيها.
بدأ الأشخاص المعدودين يغادرون واحد تلو الآخر حتى غادر الجميع، نهض أيوب من مكانه وتحرك نحوها، فاضطربت أنفاسها وهي تُهيء نفسها ربما لحديث قادم، ولكنه خالف ظنها حين سحبها من معصمها قائلًا بجفاف:
-يلا هنمشي.
غمغمت بحروف مذبذبة كحالها:
-هنروح فين؟
-هنروح لكامل.
أخبرها وهو يسير وهي خلفه، فتوقفت تلقائيًا ما أن سمعت اسم “كامل” وازداد اضطراب مشاعرها التي طفت على قسماتها، ثم تمتمت بصوتٍ مكتوم:
-هنروحله ليه؟ أنا مش عايزة أروحله.
زفر أيوب بصوتٍ مسموع عنيف وكأنه يكتم غضبه، يُغضبه رؤية “كامل” يفرض سطوته وجبروته على آخر كما كان يفعل معه، خاصةً إن كان هذا “الآخر” ليس سوى… زوجته!
أمسكها من كتفيها ضاغطًا عليها بحزم مخلوط بشيء من القسوة غير المتعمدة:
-أنتي بجيتي مرت أيوب العماري، إنسي الضعف والخوف دا، أنتي ماعملتيش حاچة تخافي منها، حاولي تكوني شديدة وتستحجي المكانة اللي بجيتي فيها.
اخترقتها كلماته الصلدة، يحاول أن يبثها الصلابة ولكن بطريقة قاسية، كمَن يلهب الحديد بالنيران ليزداد صلابة.
ثم هزت رأسها مؤكدة بطاعة دون أن تنطق، فتحرك أيوب وهي خلفه، وقد سلمته مقاليدها بالكامل حتى وإن لم تعلنها.
بعد قليل….
دخل المتجر الصغير الذي يمتلكه والده، دون استئذان كعادته بعدما قرر استباحة كل ما هو له.
فنهض “كامل” من كرسيه فور رؤيته له، وهتف ساخرًا:
-إيه أيوب چاي لغاية عندي….
وقطع كلماته بعدما رأى “غرام” التي ظهرت خلف ظهر “أيوب” فقال ضابطًا نبرته على انفعال مصطنع لا تمتلكه أعصابه حاليًا:
-مين جاب البت دي هنا ؟ يا مچرمة، الشرطة هتجيبك فاكرة نفسك هتهربي من دم البريئة يا جادرة يا سافلة.
زمجر فيه أيوب بشراسة:
-بس ولا كلمة.
ردد كامل مستنكرًا بغيظ:
-أنت بتزعجلي يا أيوب؟
استطرد بخشونة صارمة:
-لما تتعدى على مرت أيوب العماري يبجى لازم تسكت.
بهتت ملامح كامل بذهول وإتسعت عيناه دون استيعاب وهو يسأله:
-إيه بتجول إيه؟ مرت مين؟ مرت أبني أنا؟! دي مچرمة و جتلت مرتي.
هنا هزت غرام رأسها نافية بسرعة:
-ماحصلش.
أردف أيوب وهو يرمق والده بنظرة مزدردة متوعدة:
-بس يا غرام سيبه يجول ويتكلم ويغلط.
رفع كامل كلا حاجبيه باحتجاج:
-أنت مصدج البت دي؟!
هدر فيه باهتياج وعينين ناريتين بالغضب:
-جولتلك دي مرت أيوب العماري، يعني لسانك مايطولش وأنت بتتكلم عنها.
تابع من بين أسنانه:
-وأنت چايبها هنا ليه؟
-عشان تعرف مجامك وجبل ما تتكلم ولا تهلفط بأي كلمة ضدها جدام البوليس او حتى بينك وبين نفسك، تفتكر إنها بجت تخصني وتعمل لدا ألف حساب.
لوى شفتاه مستنكرًا رغم التخبط الذي أصاب دواخله؛ من صدمة ثم قلق وتوجس:
-وأنا هخاف منك إياك؟!
توهج الظلام الموحش في عينيه وتربضت القسوة الدفينة فيهما وهو يُخطره بهسيس شيطاني راعد:
-لازم تخاف مني فعلاً عشان لو فكرت تجيب اسم غرام في أي حاچة هوديك ورا الشمس.
تشدق بصوتٍ أجش متشبثًا بكبرياؤه الذي يأبى الاستسلام لسطوة ابنه حتى لو تعاظمت:
-ماتجدرش، لو كنت أنت مفكر نفسك فرعون فأنا أبو الفرعون دا.
هز أيوب رأسه مؤكدًا والمرارة خانته وتسربت لتنضح من حروفه التي لم تتخلى عن قشرة القسوة:
-فعلًا أنت اللي اتسببت إني أكون فرعون، بس چرب حظك وشوف هجدر ولا لا، ولو كنت أنت هتجيب شاهد أنا هجيب عشرة يجولوا إننا كنا بنكتب الكتاب وجت ما حصل اللي حصل، وفي الاخر مفيش حد هيكون مُشتبه فيه غيرك يا چوزها.
قال كلمته الأخيرة بابتسامة خبيثة ملتوية شامتة خاصةً حين ترآى له شحوب وجه “كامل” فسحب غرام من معصمها برفق وغادر بنفسٍ راضية يحاوطها ضباب الحقد من كل جانب.
فيما شعرت غرام لأول مرة أنها مُطمئنة ولو بنسبة ضئيلة، أن لها سندًا يحميها من كافة الشرور، رغم أن قسوته تُخيفها وقلبها يُنبئها أنها حتمًا لن تنجو من هذه القسوة وستذوقها يومًا، ولكنها قررت ترك الارتياح يحبو لضفاف قلبها ولو مؤقتًا..!
فيما ضرب كامل على المنضدة وهو يهدر بجنون:
-مش هتعملها يا أيوب، مش هتجدر تخلص مني، هعمل أي حاچة ومش هسيبك تنفذ اللي في دماغك.
****
حين كانت ليلى مع والدتها في طريقهم للعودة لمنزلهم القديم في البلدة الاخرى التي كانوا يعيشون فيها مع زوج والدتها قبل أن تقررا الهرب بعد أن ضيق زوجها عليهم البلدة وجعلها دربًا من الجحيم.
إتصلت والدتها بأحدى جيرانهم المقربين جدًا، بل تعتبر بمثابة أخت لها، لتخبرها بقدومهما، ومكوثهما المؤقت عندها حتى تستطيعا تدبير أنفسهما.
ولكن بمجرد أن أخبرتها بنيتهما في القدوم حتى زمجرت فيها الاخرى مُحذرة:
-إياكم تيچوا، الناس اللي چوزك نصب عليهم مش ساكتين ولا هو ساكت، ولو چيتوا مش بعيد يرمي كل البلاوي دي على دماغكم تاني زي ما عمل مع ليلى جبل كدا.
ضاقت أنفاسها والخوف يعود ليطرق بمطرقته الضارية أبواب صدرها، ثم سألته بصوت يكاد يسمع:
-إيه؟ معجول لسه؟
فأكدت الاخرى دون تردد:
-ايوه والله، انتوا ربنا نچاكم إنكم بعدتوا عن ابن الحرام دا، ولو چيتوا هتندموا ومش هيچيلكم غير وجع الجلب.
غمغمت بتحسر وقلة حيلة:
-ماشي تسلمي يا ام فدوى.
استفسرت بقلق:
-حصل معاكم حاچة عندكم ولا إيه؟
هزت رأسها نافية وكأنها تراها:
-لأ ماتجلجيش مشكلة صغيرة كدا وفكرنا نرچع بس الظاهر مكتوب علينا نكمل حياتنا هنا.
مطت الاخرى شفتيها والشفقة تستحوذ على خلاياها، ثم تمتمت بخفوت معبق بالشجن على حالهما:
-ربنا ييسرهالكم ويرزجكم الرضا والراحة دايمًا.
هزت رأسها مرددة خلفها:
-امين يارب، تسلمي يا حبيبتي ماتحرمش منك ابدًا.
-ولا منك يارب.
-مع السلامة.
قالتها ثم أغلقت الخط لتنظر نحو ليلى التي اكفهرت ملامحها وتجلى الانهيار فيها، وحسب ما فهمت من حديث والدتها؛ كل الطرق تؤدي بها لـ ظافر العبادي !
****
وصلت بعد فترة للمستشفى التي بدأت عملها بها في البداية قبل أن يطلب “سالم العبادي” ممرضة والتي صارت هي بعد أن وقع الاختيار عليها من الطبيب المشرف المسؤول.
تود وضع حدًا لباب الخوف الذي فتحه ظافر العبادي على حياتها، إن اضُطرت ستعود للعمل في المستشفى من جديد وتبتعد بكل الطرق الممكنة عن طريق ظافر، إن تركها تفعل!
بحثت عن ذلك الطبيب في كل حدب وصوب حتى وجدته أخيرًا فأوقفته بلهفة قائلة:
-دكتور، عايزة أتكلم مع حضرتك في حاچة لو فاضي خمس دجايج.
عقد ما بين حاجبيه متعجبًا من وجودها:
-إيه في يا ليلى ؟ حصل حاچة ولا إيه؟
أخبرته حاسمة أمرها:
-أنا مش عايزة أكمل شغل عند سالم العبادي.
سأل مستغربًا:
-ليه إيه اللي حصل؟
تفوهت كاذبة بشيء من التوتر:
-ماحصلش، أنا مش مرتاحة.
بدأت بوادر الغضب تمتزج بكلماته وهو يوبخها:
-بعد شهرين چايه تقولي مش مرتاحة؟ هو لعب عيال ولا إيه؟!
-ممكن حضرتك تشوف أي ممرضة تانية بديلة ليا.
ولكن تعنته وإصراره كان غريب وهو يقول:
-وهو أنتي شايفة إن في ممرضات كتير؟ وبعدين مفيش حد شاطر زيك يا ليلى.
هزت رأسها بابتسامة صفراء:
-ربنا يخليك بس أنا مش حابه أرجع تاني.
عاد يسألها من جديد بصبر قارب على النفاذ:
-حصل حاچة هناك؟ او حد ضايجك؟
فأصرت هي الاخرى على موقفها:
-لا بس أنا مش عايزة أشتغل هناك، مش هجدر.
وقبل أن يجيبها كان رنين هاتفه يصدح، فأخرجه من جيب بنطاله وأجاب، ليأتيه صوت سيدة يعرفها جيدًا على الطرف الاخر، تقول مباشرةً ودون مقدمات:
-ظافر زمانه چاي عندكم المستشفى يجلب الدنيا ويرچع ليلى الممرضة، لازم تستغل دا وترچعها تاني بأي طريقة، مش هنبوظ كل اللي خططنا له ونبدأ من الصفر مع ممرضة چديدة!
هز رأسه موافقًا بتأكيد كأنها تراه وبإجابة مختصرة:
-ماشي ماتجلجيش.
ثم أغلق الخط، وبالفعل ما هي إلا لحظات حتى وجدا “ظافر” يدخل من رواق المستشفى بملامح متجهمة مشتعلة تطوفها شياطين الغضب، ما أن رأى ليلى حتى سحبها لخارج المستشفى معه من يدها دون أن ينبس ببنت شفة، بينما ليلى تحاول التملص من قبضته معترضة بتذمر يشوبه القلق:
-أنت واخدني على فين ؟
لكنه أيضًا لم يجيبها، بل أدخلها عنوة لسيارته وأغلق الباب ثم ركب هو الآخر وإنطلق بالسيارة…..
****
الفصل الثالث ” الجزء الثاني ” :
وصلت “غرام” مع “أيوب” لمنزلها الصغير الشبه متهالك، لتلملم ما يخصها قبل أن تغادر معه لمنزله، رغم أنه أبدى رفض غير منطوق لرغبتها في القدوم واحضار اشيائها من المنزل، ولكن اللا مبالاة جعلت ذلك الرفض يضمحل فوافق على مضض.
اتجهت للغرفة الوحيدة بالمنزل، ألا وهي غرفتها وبدأت بالفعل تعد اشيائها، بينما كان أيوب يتفحص ذلك المنزل بهدوءٍ تام قبل أن يغادر تاركًا لها المساحة والوقت لجمع ما تريد، صوت خبيث صدح داخلها يخبرها أنه حتمًا متفاجئ ونافر من مستواها الاجتماعي المتدني مقارنةً بمستواه..
ونادم أيضًا على هذا الزواج ممَن هي أقل منه في كل شيء!
ولكنها حاولت تجاهله بكل ما تملك من قوة، وبعد فترة سمعت صوت طرقات على الباب فعلمت أنه عاد، فتحت له الباب دون قول شيء وهو الاخر لم يتنازل لقطع ذلك الصمت، وكأنهما في عقد الزواج تعاهدا على الصمت!
أنهت جمع أهم ما ستحتاجه، خرجت من الغرفة تحمل بين ذراعيها ماكينة الخياطة الخاصة بها، فارتفع حاجبا أيوب تلقائيًا ولم يتردد في قوله المستنكر:
-إيه دا ؟
وكأنها كانت قد جهزت الرد بشجاعة فلم يتأخر ثانية:
-دي المكنة بتاعتي.
هز رأسه وهو يهتف ساخرًا:
-ما أنا شايف إنها المكنة بتاعتك، چيباها معاكي دلوجتي ليه؟
أجابت ببديهية:
-عشان هاخدها معايا.
اشتد قرع استنكاره في نغمة صوته وهو يردف:
-هتاخديها معاكي ليه؟ مين جالك تچيبيها أصلًا ؟!
ضمتها لها كأنما تستمد منها القوة والثبات وهي تخبره بكلمات حاولت تغطيتها بثوب القوة المُرقع الذي تمتلكه:
-دي شغلي ومصدر رزجي.
وتعمدت اخباره أنها لن تعتمد عليه وتكون عالة مهما بلغ الفارق بينهما.
قال بصوتٍ أجش جاف:
-كان شغلك وكان مصدر رزجك، حياتك الاول كوم وحياتك دلوجتي كوم تاني خالص، انتي بجيتي مرت أيوب العماري، فـ لازم تبجي شبهي.
أحست أنه ينتقص منها، يخبرها بطريقة غير مباشرة ألا تكن مصدر للعار له !
غار قلبها بوجعٍ ساحق نفذ من بين ضلوعها لينزف في حروفها وهي تتشدق:
-مين اللي جال إنه لازم؟ ماتنساش ظروف چوازنا، لولا اللي حصل كنت أنت هتفضل في دنيتك وأنا هفضل في دنيتي.
زحفت أشباح الغضب لتظلل سوداوتيه وهو يقترب منها خطوتين ليصبح قريبًا منها على بُعد إنشات قليلة، مد يديه ضاغطًا على يديه اللتان تحملان الماكينة، حتى تأوهت بألم طفيف لم يأبه به وهو يستطرد بخشونة صلدة:
-أنا اللي جولت مش هتاخديها، وطالما أنا جولت كدا يبجى دا اللي هايحصل، لو متمسكة بحياتك كدا، ماكنتيش چيتي ليا ولا دخلتي حياتي بإرادتك، طالما وافجتي وبجيتي مرتي يبجى هتمشي زي ما أنا أحدد!
ثم خفف قبضته الفظة عليها لترفع عيناها اللامعتان الدامعتان المجروحتان بكلماته القاسية كالمبرد، وباحت عيناها بسؤال لم يبُح به لسانها… لِمَ يتخذ القسوة منهجًا في تعامله معها ؟ او في تعامله بشكلٍ عام !؟
ولكنه تجاهله عن عمد وهو ينتشل منها الماكينة بحركة غليظة كسابقتها، ثم وضعها على كرسي كان موجود، وأمسك بحقيبتها في يد، واليد الاخرى كانت تسحبها من معصمها خلفه دون أن يضيف أكثر ودون أن تملك هي حق الاعتراض.
****
في سيارة “ظافر العبادي”…
كانت ليلى تتخبط كالقط المذعور، تنظر يمينًا ويسارًا علها تستطع تخمين وجهته، وتردد بلا توقف بهلع:
-وجف العربية، نزلني، أنت واخدني على فين؟
ولكنه اعتكف داخل صومعة الصمت فلم يجيب على أيًا من اسئلتها الفزعة وكأنه يستمتع بغزو الهلع لملامحها الانثوية الخبيثة!
ظلت تضرب على زجاج السيارة بعنف وهي تصيح:
-إلحجوني، إلحجوني.
ثم نظرت نحوه مرة اخرى صارخة بأعصاب منفلتة:
-بجولك وجف العربية ونزلني.
لم يهتز له جفن بصراخها الأهوج، وفي لحظة تهور بحتة كانت تنحني نحوه وتحرك مقود السيارة بحركات عشوائية خرقاء جعلت السيارة تتحرك يمينًا ويسارًا ولحسن الحظن لم تكن هنالك سيارة تسير جوارهما مباشرةً وإلا لكانت النتيجة مُريعة!
أوقف ظافر السيارة بصعوبة مسيطرًا على يديها اللتين أصرتا على جعله يفقد زمام السيطرة على السيارة، كبل يديها بيديه وهو ينحني مقتربًا منها بجسده فتراجعت تلقائيًا للخلف ملتصقة بالكرسي من خلفها، ولكنه دون شعور وبتلقائية كان يقترب أكثر حتى صار وجهه على أعتاب وجهها، فهدر فيها بغضب ناري:
-قسمًا بالله لو ما هديتي لأهديكي أنا بطريجتي ومحدش هيندم غيرك.
اهتزت عيناها البُنية باضطراب ملحوظ لقربه منها ورمشت بعينيها اللتان بدت بريئتان للغاية هذه اللحظات، لأول مرة يكون وجهه بهذا القرب من وجهها، فتتضح لها للمرة الاولى ملامحه الرجولية الوسيمة رغم الغضب الذي يلطخ رونقها معظم الوقت ويجعلها اخرى مُخيفة..
بينما هو لبرهة قصيرة من الزمن، استرقت عيناه النظر لقسماتها السمراء المميزة، وكأن رجولته تعي للتو أن الماثلة أمامها انثى جميلة !
إنتفض مبتعدًا عنها وكأن الادراك ثعبان لدغه في غفلة منه، فعاد هسيس شيطانه يتردد بعقله… انثى بوجه جميل وعقل شيطاني خبيث.
كز على أسنانه وهو يهز رأسه مؤكدًا سامحًا للغضب الذي تراجع بضع إنشات أن يعود لاحتلال كيانه من جديد.
فيما غمغمت هي بحروف متقطعة خافتة:
-أنت خاطفني وعايزني اهدى وماتكلمش؟
إلتفت رأسه نحوها فجأة وهو يشدد على حروف كلمتها:
-خاطفك؟
ثم إلتوت شفتاه بسخرية جارحة متعمدة وهو يردد:
-ماتديش نفسك حجم أكبر من حجمك، أنتي مين أصلًا عشان أخطفك؟
عَلى صكيك أسنانها الذي يروي انفعالها المكتوم، ثم سألته من بين أسنانها:
-امال واخدني على فين؟
استرسل ببرود كأنه صار أمر واقع:
-على البيت عشان هاتكملي شغلك مع چدي.
إتسعت حدقتاها ذهولًا من تباسطه من فرض الأمر عليها، ثم زمجرت بغيظ دفين:
-بس أنا مش عايزة أكمل.
ضرب على المقود بعنفٍ وهو يهدر بوجهها بشراسة:
-جولتلك مش بمزاچك، أنتي اللي چيتي للبيت دا بمزاچك، لكن إنك تمشي منه دي بمزاچي أنا.
صدح صوت ساخر داخله يخبره أنه كاذب، فلولا الشجار الحاد الذي صار بينه وبين جده لأول مرة منذ فترة طويلة… بسببها !
لما كان جعلها تعود لبيتهم مرة اخرى أبدًا، وربما حجته الركيكة أنه رغم أنها تحرى عنها إلا أنه لم يجد ما يثير قلقه وشكوكه، لم يجد أي شبهه تخصها.
رفعت ليلى حاجبها الأيسر وهي تواصل بتحدي سافر:
-ولو ماكملتش، هتحبسني بالعافية؟ أنت مفكر البلد مافيهاش قانون؟
اقترب بوجهه قليلًا منها ثم رسم ابتسامة كريهة خبيثة على شفتيه قبل أن يتفوه بنبرة ذات مغزى تحمل تهديد مبطن:
-لأ طبعًا فيها، والقانون دا اللي هايچبلي حجي منك اللي أنا اتنازلت عنه في المرة الأولى يا نصابة!
****
بعد فترة….
كانت “غرام” ملتزمة الغرفة التي أخبرها أيوب أنها ستمكث فيها منذ مجيئهم، كانت في حاجة ماسة لترتيب أفكارها المشوشة للغاية، فهي لا تدري ماذا سيحدث بعد؟
هل انتهى التهديد المتمثل في والده ؟ لا تظن.
الالغاز تحيط بحواف حياتها بأكملها، فحتى “أيوب العماري” بالنسبة لها لغز، فمن جهة ترى وتشعر أنه لا يطيقها ولا يطيق عقد الزواج الذي جمعهما، ومن جهة لا تدري لِمَ قرر مساعدتها بل هو الذي عرض عليها الزواج أيضًا ؟
هزت رأسها وهي تزفر أنفاسها، لا تدري أي شيء، ولكن حدسها يُنبئها أن القادم يحمل لها المتاعب.
على ذكر المتاعب، فتح مُترأسهم “أيوب” الباب فجأة دون استئذان وكأنه اعتاد على ذلك.
ثم ألقى على الفراش كيس بلاستيكي به ملابس وهو يقول لها بصوت خاوٍ:
-الهدوم دي ليكي، ابجي إلبسيها عشان هانعمل عزومة في البيت بمناسبة چوازنا.
هزت رأسها نافية في اعتراض لم تتردد في إخراجه للنور هذه المرة:
-بس أنا مش محتاچة هدوم معايا هدومي.
تأفف أيوب بصوتٍ مسموع، ومن ثم تابـع بنفاذ صبر:
-ليه مابتفهميش الكلام من أول مرة لازم أعيد مرة واتنين وعشرة؟ جولتلك أنتي بجيتي مرتي يعني بتمثليني يعني لازم تبجي زيي.
ها هو يعيد من جديد كلماته المسمومة التي تغتال كرامتها، فانتفضت وهي تزئر في وجهه بحدة:
تنفس بصوتٍ عالٍ وأشهرت عيناه تهديد صريح لأول مرة يلتمع فيهما وهو يزجرها بخشونة:
-إلبسيهم أحسنلك يا غرام واتجي شر الحليم إذا غضب.
فهو لن يسمح لكامل أن يشمت به ولو للحظة واحدة لزواجه ممَن هي أقل منهم في المستوى، لن يسمح أن يرى انتقاص او ثغرة واحدة في أي ركن من أركان حياته، عليه أن يبدو أمامه تحديدًا في غاية المثالية!
بينما غرام هذه المرة لم تستطع منع لسانها الأحمق الذي تمتم بعفوية هوجاء:
-من شابه أباه فما ظلم، برضو مش هلبسهم مهما تجول.
أردكت متأخرة أنها بجملتها التي شبهته فيها بوالده حررت المارد الشيطاني داخله ليعلو ظلامه الحالك المُخيف قمم عيناه التي تسلحت بقسوة ضارية وبزغ العنف فيهما، واشتدت عضلاته بالكامل، قبل أن يتحرك نحوها فانحسرت أنفاسها هلعًا وهي تتراجع خطوة للخلف، ولكنها كانت خطوة بطيئة للغاية فلم تلحق الهرب منه…
اذ باغتها وبحركة غير متوقعة كان يشق عباءتها لنصفين بيديه حتى تمزقت تمامًا كاشفة عن لحمها الأبيض الغض لعينيه المحترقتين بجحيم لم تدرك ماهيته!
فشهقت بفزع أكبر وهي تغطي جسدها بيديها، فيما قال هو بجمود بارد قاسٍ:
-كدا هتلبسيهم غصب عنك، ولو لاجيتك لابسة أي حاچة تاني غيرهم هجطعها برضو!
ثم استدار مغادرًا الغرفة صافعًا الباب خلفه بينما هي تلتقط أنفاسها المسلوبة… رباااه مع مَن تورطت هي؟ هل هربت من شيطان لتقع في إبليس ؟!
****
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية نبع الغرام ) اسم الرواية