رواية اغصان الزيتون كاملة بقلم ياسمين عادل عبر مدونة دليل الروايات
رواية اغصان الزيتون الفصل التاسع و السبعون 79
“لم يكن ثمنًا مناسبًا، ومع هذا ارتضته.”
___________________________________
كان مهمومًا حزينًا، وهو يجلس على الطريق الخاوي كأنما ينتظر شيئًا، ينظر للفراغ من حولهِ مستشعرًا الوحدة الثقيلة وقد تسلطت مشاعرها عليه. وإذ به يختنق على حين غُرة، وتُطبق على أنفاسهِ خيوط من الحرير القاسي، فـ غرز أصابعه فيها كي يحرر أنفاسهِ المكتومة، حتى نجح وتملص منها، فـ نهض مندفعًا ونظر للخلف، كي يتفاجأ بشقيقتهِ القتيلة ممسكة بوشاحها الحريري وترغب في قتله، تجمدت الدماء في عروقهِ، وجحظت عيناه مرتعبًا، وكل ما يتردد على لسانه هي محاولاتهِ لتبرئة نفسهِ من ذنبٍ وقع في أحضانه ويعجز عن التخلص منه :
– مش انا، أنا معملتش حاجه يا يسرا صدقيني.
كانت تدنو منه وطرفيها يُسيلان خيوط الدموع، فتراجع للوراء بخطواتٍ مرتبكة ومازالت عبارات الدفاع تتكرر على لسانه :
– أنا مالـيش ذنـب.. انتي السبب في كل اللي حصلك وحصلنا.. مش انا ، مش انــا…
وقع من أعلى فراشهِ بعدما أفاق من نومه الثقيل، وقد اكتشف أن ما رآه لم يكن سوى كابوس لعين سيتكرر أمام عينيه ويحرمه حتى النوم. تناول أنفاسه بصعوبة متلاحقة، وقد ارتفعت حرارة جسدهِ متأثرًا بالدفء الذي أغرق الغرفة، ثم سرعان ما تذكر أن الرضيع ينام بجواره، فـ التفت ينظر نحو الفراش ليراه خاويًا، فـ تلفتت عيناه ينظر يمينًا ويسارًا دون جدوى، ثم تحامل على نفسه لينهض واقفًا وقد أدرك إنها لم تتركه إليه. تأفف منزعجًا وهمّ بالخروج من الغرفة، وأول مكان دخل إليه هو غرفته، متنبئًا إنها بالداخل، وقد كان. استمع لصوت هدير المياه يأتي من دورة المياة، وملابس الصغير موضوعة على الفراش، فـ سار متبعًا صوت همهماتهِ حتى دخل عليهما، فرآها تُحممه بنفسها، وبدون أن تلتفت نحوه كانت تردف بـ :
– أقفل الباب أحسن الولد ياخد برد.
فدخل وأغلق الباب من خلفهِ، ووقف من خلفه يراقب ماذا تفعل، كانت متمرسة حتى في طريقة إمساكها لـ “زين” بحرص مقنن، بينما كان الأخير مستمتعًا بالماء الدافئ ويضرب الماء بيداه ويلوح بكفهِ في الهواء، حتى انتهت “سُلاف” من تحميمه، ومدّت يدها لتسحب المنشفة فلم تطالها، ليتدخل “حمزة” ويناولها إياها، فـ وضعته “سُلاف” بداخل المنشفة لتجففه جيدًا، حينئذٍ خرج “حمزة” ليجلب ملابسه من على الفراش وعاد يدخل إليها وهو يقول :
– لبسيه هنا عشان ميبردش.
وأغلق الباب من جديد، فـ رمقتهُ “سُلاف” بإستنكار وهي تقول :
– إيه الإهتمام ده كله!
شارك “حمزة” في تلبيسه ملابسه، وكانت يداه تسابق يدها، فأصابها بالتشتت المتوتر، لا سيما مع جوابه على سؤالها :
– عادي، بنتعود على بعض.
انتابها الذعر، وهزّت مخاوفها ذلك القلب النابض بداخلها هزًا عنيفًا، وتجلّى ذلك على نبرتها المرتجفة، وهي تسحب “زين” لأحضانها وتقول :
– متتعودش يا حمزة، أبعد عن زين خالص.
واندفعت بالخروج من دورة المياة، فـ لحق بها “حمزة” بعدما انتفضت عروقهِ الغاضبة، وأوقفها ممسكًا رسغها ليقول مستهجنًا :
– يعني إيه أبعد عنه!!.. مش ده ابني اللي عملتي حرب عشان اعترف بيه!.. مش ده اللي قلبتي حياتي كلها بيه وبدأتي لعبتك القذرة مستغلية وجوده!.
رأى لمحة الخوف البرّاقة في وميض عينيها، فـ انتابته الهواجس التي بدأت تُزعزع أفكاره :
– انتي خايفة مني ليه؟؟.. إيه اللي مخليكي قلقانة أوي كده من علاقتي بـ ابني!.
أفصحت عن جزء صغير من الحقيقة المؤرقة التي تعكر صفو حياتها بالكامل، مُعلنة تمسكها الشديد بحقّها فيه :
– في يوم من الأيام مش هنكون في مكان واحد فـ متعشمش نفسك بعلاقة أب وابنه دي! ، ابني هيكون معايا مهما حصل، يعني مش لازم تبني علاقات وتفتكر نفسك ممكن تاخده مني.
قطب جبينه بإستغراب، وسألها متعجبًا :
– مين قالك إني ممكن آخده من حضنك؟.
خلّصت “سُلاف” ذراعها منه وهي تقول :
– مفيش حاجه بعيدة عليك يا حمزة، بس أنا بقولك أنسى.
نفخ “حمزة” منزعجًا، وابتعد عنها بسئمٍ وهو يقول :
– أنا دماغي مش فاضية خالص للهري ده، لو دي معتقداتك فاانا هسيبك تواجهيها لوحدك وماشي.
تناول ثيابًا نظيفة من غرفة الملابس الملحقة بغرفته وخرج إليها من جديد ليجدها قد غادرت، فـ تنهد قبل أن يسلك طريقه نحو دورة المياة، كي ينعم بجلسة استحمام طويلة، تُنعش عقله قليلًا.
**************************************
نظر “زيدان” لساعة هاتفه الصغير، فوجدها قد تخطت الثانية عشر منتصف الليل، ولم يفي “حمزة” بالموعد الذي أعطاه إياه في العاشرة مساءًا. تأفف متذمرًا وهو ينهض عن المقعد، وكاد يغادر محيط الحديقة الملحقة بالمنزل، لولا خروج “حمزة” من الباب الرئيسي مرتديًا ثيابه الرياضية الثقيلة، وحول عنقهِ وضع وشاح صوفي أسود لئلا يتسلل الهواء البارد لبدنهِ. لمحه واقفًا هناك، فأشار له وهو ينادي :
– تعالى يا ابو زيد.
خطى “زيدان” نحوه متعجلًا حتى وصل إليه، فـ أفسح له “حمزة” الطريق لكي يعبر للداخل، ثم اقتاده لغرفة المكتب وهو يقول :
– تعالى نقعد في المكتب.
دخل “زيدان” بدون أن يشتبه فيه أو يستشعر منه غدرًا، فقد فرش له “حمزة” بُساط الطمأنينة ولم يتركه يشك بأي شئ، حتى حانت اللحظة المناسبة، فتفاجأ “زيدان” بذلك الوجه الذي يراه، گالضبع الذي خرج ليلًا للنيل من فريسةٍ ثمينة. انقضّ عليه “حمزة” واضعًا نصل السكين الحاد على عنقهِ، وبأصابعه الأخرى كاد يفترس قصبته الهوائية مسببًا وفاتهِ مختنقًا، حتى كاد “زيدان” يلفظ أنفاسه الأخيرة بين يديه، حتى استمع صوته گالفحيح السام يتسرب لآذانه متسائلًا :
– شـعـبان فـين يا زيـدان ؟.. شريكك الـ ×××× فين؟.
ثم أرخى أصابعه عن رقبته قليلًا وصرخ فيه هادرًا :
– رد علــيـــا.
سعل “زيدان” بقوة حتى كاد يتقيأ كل الطعام الذي تناوله، وما أن استطاع التنفس حتى أردف بـ :
– وغلاوة ربنا ما أعرف يا باشا، وحياة عيالي مااعرف أي حاجه عن اللي حصل ولا اعرف لابن الو××× ده طريق جرّة.
خدشه طرف السكين، فـ انساب منه خيط رفيع من الدماء؛ لكن “حمزة” لم يتركه حُرًا، ليتابع صياحه المجنون وهو يسأل :
– عايز تفهمني إنـك متعـرفـش بعملته السوداء!.
نفى “زيدان” عن نفسه اتهامًا گهذا، متشددًا في محاولاته لتبرئة نفسه :
– محصلش ياباشا أقسم بالله، أنا راجل و×× وفيا العبر صحيح، لكن معضش الأيد اللي بتوكلني عيش ولا على رقبتي.. بس اديني فرصة بس وانا اجيبلك النجس ده لحد رجليك.
أنزل “حمزة” ذلك السكين عن نحره، وعيناه تُبصق شررًا حامية، ونيران الثأر تتقافز من نظراته قفزًا، حتى “زيدان” هاب النظر لحالته تلك. مسح “زيدان” على عنقهِ حتى رأى أثر دماءهِ، فـ اتسعت عيناه عن آخرها وهو يردف مستهجنًا :
– كنت هتسبح دم واحد برئ ياباشا الله يسامحك.
قبض “حمزة” على ياقتهِ هادرًا في وجهه :
– لو مجبتليش الـ ×××× هاخد حق اختي منك انت وعيالك ومراتك بس يا زيدان، والله العظيم ما هسيبك ساعتها.
– والله ياباشا متقلقش هلاقيه، أنا سلطت عليه العيال بتوعنا كلهم منين ما حد يلمحه يعكشه (يمسكه) على طول.. واللي خلق الخلق حق الهانم المرحومة ما هيفضل على الأرض.
أطاح “حمزة” بالسكين على سطح المكتب، وزأر بعنفٍ مندفع :
– لو وصلت لا تاكل ولا تنام عشان تجيبهولي أعمل ده.
– عيني ياباشا، ميكونش عندك شك خالص.. بس انت أهدا عليا شويه وانا هعملك اللي يرضيك.
**************************************
تعاون الممرضات من أجل نقلها للفراش، ثم بدأن بوضع المصل لتغذية أوردتها، بعدما قطعت الطعام والشراب وأيضًا. نظر “صلاح” لحالها بإشفاقٍ مرير، وقد أحس بالقهر يأكل كل قطعة في قلبه، بعدما توالت الأحداث كلها وراء بعضها البعض، فأحس وكأنه لا يحتملها جميعًا، لا سيما فقدان وحيدته بذلك الشكل المريع. خرج “صلاح” من الغرفة برفقة الطبيب، وحاول أن يبدو أمامه ثابتًا وهو يسأله :
– أكيد في حل ولو بتدخل جراحي.
هزّ الطبيب رأسه نافيًا وهو يرد عليه :
– في سنها ده صعب جدًا، إحنا محتاجين تتخطى المرحلة دي الأول وبعدين هنبدأ العلاج النفسي والفيزيائي (الحركي)، وإن شاء الله نوصل لنتيجة كويسة.. أنا هسيب معاها مرافقة تخلي بالها منها، ولو في جديد بلغني على طول.
أومأ “صلاح” رأسه بالإيجاب، فـ تحرك الطبيب نحو الباب وهو من خلفه حتى ودّعه، وفي تلك الأثناء التي كان ينبض فيها قلبه بحرارةٍ حارقة، استخدم هاتفه لإجراء مكالمة هاتفية :
– أيوة يا شافعي، يعني إيه معرفتش توصل لراغب؟؟.. كمان باع البيت؟.. ده مجهز كل حاجه بقى!
غلى داخله گالقدر المحموم، وتيقن من صدق الشكوك التي ذهبت كلها إليه، فـ انفلتت أعصابه منه وهو يتوعده :
– أنا مش هسيبه يفلت بعملته.. ولو نزل لسابع أرض هجيبه، ومش هبقى عليه ولا هرحمه زي حمزة ما عمل.
**************************************
استعاد قليل من الهدوء، ليساعده على التفكير فيما سيفعله من خطوات بالفترة المقبلة، فـ ارتاح “زيدان” وارتخت عضلاته، رغم إنه لم يأمنه مائة بالمائة؛ لكن على الأقل ضمن احتياج “حمزة” له.
ترك “زيدان” قطعة القطن التي مسح بها دمه، ثم نظر إليه ليرى هالة من الغموض تحيط به، فـ أفصح له عن ذكاءه الذي اخترق الهدف الحقيقي لـ “حمزة” من وراء ما حدث اليوم :
– بس عجبتني النمرة اللي عملتها النهاردة ياباشا، حقيقي يعني سقفتلك.
تغضن جبين “حمزة” بعدم فهم في البداية، فـ اعتدل في جلسته وهو يسأل :
– نمرة إيه!.
غمز له “زيدان” وهو يجيبه :
– النمرة اللي عملتها على الصحافة.. كانت حكاية والله، بس قولي بقى انت عايز توصل الرسالة لمين.
نهض “حمزة” عن مكانه وهو يقول :
– لو فهمتني للدرجة دي تبقى خطر يا زيدان!
ضحك “زيدان” ساخرًا، حتى تبينت أسنانه المُصفرة بفعل التبغ :
– لا خطر ولا حاجه يا ابو البشوات، حط في بطنك بطيخة صيفي، أنا الوحيد اللي تقدر تأمنله في حياتك، وبكرة الأيام تثبتلك.
نهض “زيدان” عن مكانه ووقف قبالته، ثم تحقق من عيناه التي امتزج فيها الحزن والشر، وأعاد سؤاله عليه :
– مقولتش عايز توصل لمين؟.
فلم يخفيه “حمزة” سرًا، وأجاب عليه بشفافية ووضوح :
– عايز مصطفى زيّان.
كانت السيارة تسير بسرعة متهادية – وفقًا لإرداتها – ، وهي تراقب الطريق تارة، وتراقب صغيرها تارة أخرى. السير في ذلك الطريق أحيا في ذاكرتها ذكرى أليمة، ذكرى تنام وتصحو كل يوم وهي تستعيدها في ذهنها، ذكرى كانت قادرة على جعل الإنتقام غاية ضرورية بدونها لن تستطيع العيش. ضمت “سُلاف” الرضيع “زين” لأحضانها، فـ تجمعت الدموع في عيناها، ولم تكفي يداها لتُكفكف دمعها الغزير، وهي تستمع لتلك الجملة تتردد گالصدى على مسامعها :
– (للأسف انتي مُصابة بعيب خُلقي نتيجة ولادتك المبكرة قبل المعاد المظبوط، وده هيخلي فكرة الحمل بالنسبالك مستحيلة.)
انهار كل شئ في لحظة واحدة، و ولدت هي لكي تعيش معاناة لا تستطيع أي أنثى أن تتقبلها، حُرمت من أغلى نعم الله، وستبقى وحيدة طوال حياتها، بعدما كُتب عليها أن تولد قبل أن تكتمل أعضائها المسؤولة عن الحمل، فـ عاشت وشعور القهر يكبر معها يومًا بعد يوم، ولا شئ تراه مناسبًا للثأر لنفسها سوى أن تعوض حرمانها ذلك بقطعة منه هو، أن تحرمه هو أيضًا من طفله الذي قررت أن يكون لها عوضًا، وكأنه الهدية التي بعث بها القدر ليكون شفاءًا لجرحها الذي لا يلتئم أبدًا.
**************************************
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية اغصان الزيتون ) اسم الرواية