رواية اغصان الزيتون كاملة بقلم ياسمين عادل عبر مدونة دليل الروايات
رواية اغصان الزيتون الفصل الثمانون 80
“أُحب رائحة الأمان التي تفوح من بين أصابعهِ، وكأنه أتى مغموسًا بريحٍ من الجنّة.”
____________________________________
دخل منزله بعد منتصف الليل، تائهًا في شوارع وطُرقات العاصمة، رافضًا العودة إلا بعد أن يخسر كل طاقتهِ، عساه يستطع النوم على الأقل، دون أن تُشاركه هي أحلامه من جديد. سيجبره الدخول لغرفته إلى المرور من أمام باب غرفتها أولًا، حتى وإن لم تكن تاركة رائحتها من خلفها، سيتخيل عقله الباطن إنه يشم ريحها الذي يحفظه، فـ تراجع عن العبور لغرفته ووقف أمام غرفة “سُلاف” للحظات مديدة، تتضارب مشاعره ما بين الدخول أو الذهاب من المنزل كله، حتى زقزق صوت همهمة “زين” في آذانه گعصفور وليد، فـ دفعه للدخول إليهم حريصًا على الهدوء والخطوات المتأنية، فوجد الظلام يكسو الغرفة كلها، عدا بصيص من الضوء دخل عبر زجاج الشرفة الذي لم تغطيه الستائر القاتمة. دلف ببطء وأغلق الباب من خلفه، اقترب من الفراش مدققًا حواسه فرآها تنام وبجوارها الصغير بداخل الغطاء الناعم، كأن مستيقظًا ينظر للنجوم المضيئة بالسقف، والتي لم يراها “حمزة” من قبل إلا في تلك اللحظة، ويلوح بيداه كأنه يرغب الإمساك بها. ابتسم “حمزة” بعفوية غير مقصودة، وانخفض بدنه للأسفل حتى جلس على الأرضية، وبسط ذراعه نحوه يمسح بلطفٍ على بشرتهِ الناعمة مقارنة بملمس يدهِ الجاف، لتهاجمه ذكريات قديمة، تعود لسنواتٍ طويلة ماضية، حينما لمس شقيقته لأول مرة، حينما داعب وجنتها واحتضنها، كأن متكفلًا بالإهتمام بها متعلقًا فيها أغلب الوقت، حتى إنه تسبب في طرد العديد من المُربيات بعدما رفض أن يعتني بها أحدًا سواه، كانت دُنياه بحق، خاصة في سنوات عمرها الأولى، وقبل أن يسطو “صلاح” على مستقبله ويصحبه معه في كل مكان ووقت، خشية أن يكبر “حمزة” على عادات وأخلاق لن يحبذها هو. رأى في “زين” تلك الصغيرة التي راعاها وارتبط بها بكامل عواطفهِ، فكانت بوابته للتعرف على أسمى مشاعر الأخوة، والآن هي بوابته الثانية لإكتشاف مشاعر جديدة كليًا لم يحسها من قبل، مشاعر الأبوة. لا يدري كيف تجمعت الدموع في جفونه، وانسابت بصمتٍ على وجنتيه كي تختفي بداخل شعيرات ذقنهِ، وكتم صوت نهنهةٍ كادت تخرج من جوفهِ محاولًا السيطرة عليها، إلا إنه لم يقوَ على إخفاء معالم أنين صوتهِ وسط هذا الصمت الشديد من حوله.
كانت “سُلاف” مستيقظة، شاعرة بكل ما يحدث من حولها؛ لكنها أدعّت النوم ولم تشعره بذلك، كانت ثابتة دون حراك، حتى أنفاسها حافظت على انتظامها لئلا تُشعره بها. سمعت أنينهِ فـ أصاب البرد قلبها، كأنها تعرّت فجأة وباتت تواجه عواصف الهواء البارد وحدها، أحست بشعور الشفقة يغلف مشاعرها بالكامل، لا يستحق أحد أن يعيش شعور الفقد، لا سيما إن كان بذلك الشكل المميت المرعب، حتى هو بكل مساوئهِ وسيئاته، لا يستحق أبدًا ما عاشه، هي أيضًا لم تكن تستحق أن تعيش كل ما تعيشه، لم تستحق العيش وحيدة بينما الجميع حولها، ولم تستحق أن تكبر دون كنف والدها وعطف والدتها، لم تستحق أبدًا أن تُحرم -للأبد- من أن تكون أم حقيقية. كل تلك الموجات القاسية ارتطمت بذاكرتها معًا دفعة واحدة، فـ غلبها شعور الضيق الأكثر شدة، ولم تعرف أتبكي حالها وتُرثيه، أم تُرثي حاله هو. وظل الوضع هكذا لساعات، لا هي تنام، ولا نيرانه تخمد، حتى انتصر عليه النوم من شدة التعب، وغاب عن الوعي أخيرًا وهو جالسًا على الأرض ممسكًا بيد الرضيع. التفتت رأس “سُلاف” تتفقده بعيناها النصف مغلقة خِلسة، حتى تأكدت إنه نام، فـ حررت زفيرًا هادئًا وأبعدت عيناها عنه، مُنتظرة حلول الشروق على الأقل، لتتمكن من النهوض عن نومتها الكاذبة.
***************************************
ظنت إنها مسيطرة على وعيها بالكامل، وما هي إلا ساعات قليلة وستستيقظ كي تتابع أعمالها الكثيفة؛ لكن النوم حطّ على مداركها، واستغرقت في نومٍ طويل وعميق، حتى بدأت تفيق أخيرًا، مستشعرة كسل شديد يمنعها عن النهوض من مكانها. نظرت جوارها فلم تجد “زين”، كان غطاءه الفوضوي فقط متواجد على الفراش، فـ هبّت من رقدتها فزعًا، وركضت للخروج من الغرفة بعدما تمكن الذعر من حواسها، غير شاعرة إنها لم ترتدي شيئًا على كنزتها الرقيقة ذات الحمالة الواحدة. نظرت من حولها وهي تنادي بأعلى صوتها :
– أم عــــلــي!.. أم عـــلـي.
خرجت “أم علي” من اتجاه المطبخ هرعًا وهي تجيب :
– أيوة يا هـانـم.
سألتها “سُلاف” بقلقٍ شديد بعدما تفشّى التوتر في أطرافها مُصيبًا إياها برجفةٍ :
– زين فين صحيت ملقيتوش جمبي؟.
أشارت “أم علي” بترددٍ في اتجاة المطبخ وهي تجيب :
– مع البيه جوا.
قبضت “سُلاف” على ذراعها تعتصره بقوةٍ دون أن تعي ما تفعله، وعلى الفور كانت تتوعدها بعقابٍ رادع جزاء تغافلها عن تنفيذ تعليماتها :
– ده انتي ليلتك سودا معايا.
ودفعتها قبل أن تتقدم بخطواتها نحو المطبخ، دخلت والحُمرة الغاضبة تنبض في وجهها، حتى رأته يضع ملعقة في فمه، فـ جنّ جنونها، واندفعت لتُطيح بالطبق الصغير كي يسقط أرضًا، وأبعدت يداه عن “زين” وهي تصيح فيه :
– انت بتــأكل ابنـي إيـه!!!.
تفاجأ من ردة فعلها، واشتعلت عيناه بنظرات الغضب وهو يقول :
– انتي اتـجـننـتـي؟!.
ضمت “زين” لأحضانها وهي تكرر سؤالها المرتاع :
– رد عليا أكلته إيـه؟.
فصاح في وجهها بعدما وصل لذروة الإنفعال :
– أكيـد مش سـمّ.
– وانا اعـرف منين.. ما اهي أمك حاولت تعملها معايا قبلك ومنجحتش!
وضع الملعقة في فمه يتناول ما فيها، ثم هتف بصياحٍ أفزع “زين” :
– ده جـزر مسـلـوق ومهروس كويس.
ابتلعت ريقها ما أن رأته يأكل من الطعام بنفسه، وذفرت بإحتقان وهي تردف :
– ابني مش بياكل الحاجات دي، وملكش دعوة بأكله خالص.
لم تتوقف جديتهِ الحازمة هنا، بل تابع بإحتدام مشيرًا لثقافته الواسعة في شئون الأطفال :
– لأ بياكلها عادي، الولد كمل ست شهور وبدأ يسنن، يعني انتي اللي مقصرة في تغذيته.
لم تتحمل اتهامهِ لها بالتقصير، فـ تشكلت غمامات الغضب في عينيها وهي تهتف :
– حـمزة!.. أنا مش هسمحلك تـ…
قاطعها رافضًا سماعها :
– تسمحي متسمحيش مش مهم، أسمعي كويس يا سُلاف، أنا قولتلك مش هفكر آخد الولد منك.. لكن نسيت أقولك إني مش هسيبك انتي كمان تحرميني منه.
تفهمت على الفور سرّ تبدل حالته، وهو إنه رأى في “زين” تعويض عن شقيقته الراحلة، فبدأ يتعلق بوجوده مفتقدًا شعور الأمان، وهذا التعلق هو نقطة الخطر بالنسبة لها، فلم تتردد في ضرب وجهه بالحقيقة، دون اعتبار أي شئ آخر، وبمنتهى القسوة كانت تقول :
– ابني مش هيحلّ محلّ يسرا يا حمزة.
توقدت مشاعره مع سماع كلماتها الثقيلة، وبدون أن يعطي لنفسه فرصة للصمت كان يرد عليها ردًا مجحفًا :
– يسرا من دمي، إنما زين حتة مني يا سُلاف.. أوعي تفكري تحطيه وسط الحرب دي، بدل مااحنا الأتنين نخسر.. أكيد فهمتيني.
أصابها بالفزع مستعينًا بكلماتهِ المقصودة في تذكيرها، بأن لا أحد منهم في صالحه استخدام طفل رضيع بداخل حرب ستلتهم كل من بداخلها، وإلا ستكون الخسائر فادحة. خرجت “سُلاف” من المطبخ مسرعة، تحاول السيطرة على بكاء “زين” الذي بدأ لتوه، حينما كان “زيدان” يدخل من الباب وهو يقول :
– ياساتر.
رآها تصعد الدرج، فـ علقت عيناه بها للحظات، قبل أن يشعر بوجود “حمزة” وهو يهتف :
– إيه اللي جايبك بدري كده!.
– عايزك في حوار ياأبو البشوات، بس ياريت برا.
ثم أشار حيث الأعلى، مشيرًا لضرورة الحفاظ على سرية الأمر، ليصطحبه “حمزة” للخارج، حيث شمس الظهيرة الساطعة التي دفأت المحيط كله. وقف “حمزة” على جانب الممر، والتفت إليه يسأله :
– في إيه اتكلم؟؟.. وصلت للحيوان ده؟.
– لأ، بس معايا حاجه كده تخصك.
قطب “حمزة” جبينه بإستغراب، وبنفاذ صبر كان يسأله :
– ما تنطق يا عم هشحت منك الكلام ولا إيه!.
استخدم “زيدان” هاتفه الجديد، فـ ضحك “حمزة” ساخرًا وهو يشيح بوجهه للجانب الآخر، وأردف بتهكمٍ :
– كله عشان خاطر عيونك والله ياابو البشوات، ده كلفني ياما وحياة غلاوتك عندي.
أعطاه “زيدان” هاتفه لينظر إليه، وسرعان ما جحظت عيناه عن آخرها، وبُهت لون بشرته في الحال، وهو يستقبل كارثة أخرى ويراها بعينه. ذمّ “زيدان” على شفتيه آسفًا، وعلل ما حدث قائلًا :
– بأمانة ربنا أنا مصدقتش عيني، البجح ده عايز إيه منك بالظبط مش عارف ، مرة آ……
انكتم صوته فجأة، وتراجع للخلف خطوة مع تلقيه نظرات “حمزة” الفتّاكة، والتي تحذره من التمادي في الحديث. ازدرد “زيدان” ريقه وأخفض عينيه وهو يتابع :
– مقصدش والله، بس انا متغاظ من امبارح وهاين عليا أهد الدنيا على دماغه.
انحشر صوت “حمزة” بحلقهِ، ولم يستطع تجاوز الصدمة على الفور، استغرق الأمر منه ثوانٍ عديدة، حتى استطاع أن يردف بـ :
– أمشي من قدامي دلوقتي.
– طب التليفون آ…..
صرخ “حمزة” في وجههِ صرخة مدوية :
– أمــــــشـــي.
تراجع “زيدان” على الفور، ومشى مسرعًا نحو بوابة الدخول، بينما علقت عين “حمزة” بالصورة التي يراها أمامه، صورة هزّت كل ثباته الذي حاول الأيام الماضية استعادتهِ، وإذ به ينهار في لحظة واحدة، مع رؤية “سُلاف” و “راغب” معًا وفي وضع يشير لمدى تودد العلاقة بينهما، وليست أبدًا صورة تنقل المشادّات التي كانت بينهما دومًا، ها هي صورة أخرى تنقل له حقيقة كان غافلًا عنها، صورة أخرى تثبت له كم كان أحمقًا مغـفـل.
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية اغصان الزيتون ) اسم الرواية