رواية اغصان الزيتون كاملة بقلم ياسمين عادل عبر مدونة دليل الروايات
رواية اغصان الزيتون الفصل الثاني و الثمانون 82
“عليك أن تخشى الهدوء، فهو بوابة الغضب الأكثر خطرًا على الإطلاق.”
____________________________________
كانت تراقب ما يجري بالأسفل وعيناها گالصياد الجائع، إلى أن استطاع بصرها تمييّز شكل شهادة الميلاد الموضوعة بين أصابع “حمزة”، فـ تفشّى التوتر بكافة مداركها، وعانقت بأنظارها وقفتهم تلك، محاولة استنباط أي ردة فعل، تودي بها للوصول إلى مضمون الحديث. على ما يبدو أن الموضوع يخصّ عائلتها، وإلا ما أتى ذلك البغيض إلى هنا في هذا الليل، وبالأخص يخص الأمر “راغب”، أكثر إنسان يكرهه “شافعي” ويضمر له السوء إن استطاع. دلفت “سُلاف” للداخل، وهي تفرك أصابعها بقلقٍ مرتبك، فرأت أمام عيناها مشهدًا بديهيًا سيحدث لا محالة.
غرز “حمزة” أصابعه في عُنقها يكاد يخنقها، فـ شحبت بشرتها على الفور مُصابة بإختناق شديد، وبدا صوته الجهوري بعيدًا على مسامعها وهو يصيح بجنونٍ سيطر عليه :
– يعني مثلتوا على أخـتي ودخـلتوها هي كمان في اللعبة، خـدتـوا انتقامكم من أبـويـا فـيا أنا واخـتي ؟؟.. لـــيه! طب انا راجل و×× ونمت معاكي وجيبتي مني عيل، إنما هي ليـه؟! .. يـسـرا عملتلـكم إيــــه ؟؟.
انتفضت “سُلاف” انتفاضة مُفزعة، وفركت عُنقها بقساوةٍ غير متعمدة، وكأنها استشعرت بالفعل أصابع “حمزة” على عنقها، نفضت رأسها من هاجسها المرتعب، وراحت تتفقد هاتفها عسى أن ترسل منه إشارة إنذار أو ما شابه، أي شئ بوسعه إنقاذ الموقف؛ لكن الوقت كان گالسيف ولم يسعفها، انفتح بابها وظهر من خلفه “حمزة”، ممسكًا بتلك الشهادة بين يديهِ، ونظراتهِ تنُم عن خيبة عظيمة تعرض إليها. أغلق الباب، وأشار إليها بكل هدوء :
– تعالي أقعدي، عايز أسألك سؤال وردّ غطاه.
تركت هاتفها جانبـًا، وملامحها مغلفة بثبات إنفعالي هادئ ورزين، بإحترافية – گعادتها – غطت على كل مشاعر القلق المزروعة ببواطنها، وأردفت بصوتها المتعقل :
– خلينا نتكلم تحت عشان الولد نايم.
فتح لها الباب، وانتظرها لتمرّ من أمامه، ثم اتبعها للأسفل دون أن ينبث كلمة واحدة، ثم استوقفها قائلًا :
– تعالى للمكتب.
استبق خطواتها بإتجاه الردهه المؤدية لغرفة المكتب، فـ سارت في أعقابه حتى بقى كلاهما بالداخل، وأوصدت الباب من خلفها تعبيرًا عن عدم خشيتها منه، فـ بسط لها “حمزة” يده بشهادة الميلاد وهو يسأل :
– في إيه تاني وراكي يا سُلاف؟.. خلاص كلكوا اتكشفتوا ومبقاش في حاجه تخبيها.
تناولت شهادة الميلاد لتلقي إليها نظرة واحدة، ثم طوتها وهي تعاود النظر إليه :
– ولاد عم؟؟.. إزاي قدرتوا تستغفلونا كل السنين دي! أكتر من تسع سنين وهو جمبي زي ضلي، إزاي؟.
لم يقوَ على كبح جماح غضبه لأكثر من ذلك، فـ ثارت ثورتهِ، وقفز الشر من عينيه گالشرر المتطاير وهو يقبض بقوةٍ غاشمة على كلا ذراعيها ويدفع بها نحو الحائط، حتى التصق ظهرها فيه، فـ صرخ في وجهها گالمجنون :
– لــــيــــه كـل الحـــقـــد والكـُــــره ده لـيا لـــيـــه ؟؟؟؟
حاولت أن تدفعه عنها؛ لكن هيهات بين فارق القوة الجسمانية بين كلاهما، لاسيما تلك الطاقة العنيفة التي تولدت بداخله، نتيجة كتمان طويل، فـ ما وجد من كلماتها المُبررة سوى أعواد من الكبريت تحك نيرانهِ لتتضاعف قوتها :
– راغب عمره ما آذاك، كل اللي عمله عشان تكون عينا معاكم، وانت عمرك ما مسكت عليه غلطة واحدة عشان مكنش في نيته يأذيك.
هزّها هزّة قوية ارتطم فيها ظهرها بالحائط وهو يجأر بصوتٍ جلجل الأرجاء :
– أخــرســـي كُل ده ومـعـملش حـاجه ؟؟.. خــاني وضـربني في ضـهري ومعملش حاجه، طـعــنـني في شـرفـي وسـرق أخـتـي ومـعـملش حـاجـه ؟.. ضـحك في وشـي وأكـل في بيتـي وعـرف سـري وبتقولـيلي مـعـملش حـاجـه ؟؟ أمال لـو عـمل كان هـيعمل إيـه أكـتر من كـده.
جذبها بعيدًا عن الحائط، ثم قذف بها نحو المقعد الكبير لتقع جالسة عليه، ومازال يتابع صياحه الهادر :
– على الأقـل انتـي ضربتينـي في وشـي!.. من أول يوم ونيتـك الو××ـة معروفة وباينة.. إنما هو…!!!
التقط أنفاسهِ المتصارعة وعيناه تنهم من النظر الغاضب إليها، وقد ضاق عليه صدرهِ حتى كاد يكسر ضلوعه :
– أنا مش هغفرله ذنبه لو آخر يوم في عمري، بحق كل يوم كان جمبي فيه، هخليه يندم على السوء الكبير اللي قدمهولي.. ومن دلوقتي بقولك هتقري الفاتحة على ابن عمك قريب.
هبّت من جلستها دون أن تهتز منها شعرة واحدة، كأن كل ما هدد وتوّعد به سرابًا في الهواء :
– ولا هتقدر تعمل حاجه، خلاص اللي بدأناه بينتهي ياحمزة، كلها أيام ومش هيكون في سيرة لصلاح القُرشي، وانت كمان هتحصله.
لم يحافظ على بقايا الثبات الهشّ بداخله، وحرر ذلك البربري فيه ليتعامل معها بكل قسوة، فـ غرز أصابعه برأسها ممسكًا بشعرها، واجتذبها بقوةٍ حتى صرخت متألمة :
– وانـا كــنت عـمـلتلـك إيــه لكل ده يا ××××.. إيــه الطــار اللي بينـي وبينـك عشـان تاخـدي حـقك مـنـي أنـا.. انــطــقــي وخــلـصينـي يابنت الـ ××××.
ضربت ساقهِ بقدمها عسى أن تتخلص منه؛ لكنه ذلك لم يُزيدهُ إلا تشبثًا وعِنادًا، وبدلًا من أن يحررها كليًا ترك شعرها، وبذراعهِ كان يطوّق عنقها كي يُعيق دفاعها عن نفسها، وألصق ظهرها في صدره متابعًا :
– كـبيركـم فـين ياولاد الـ ××××× ، ردي علـيا خـلاص اللعـبة خـــلــصـت.. خــــلـــصــت.
—جانب آخر—
وصل “راغب” أمام المنزل بنفس لحظة وصول “عِبيد”، بعدما أبلغه الأخير عبر الهاتف بتطور الأوضاع وخروجها عن طورها الطبيعي، فـ أوقفه “عِبيد” لدى البوابة وهو يقول :
– أنا هدخل أجيبهم وأخرج، بلاش انت ياراغب.
رفض “راغب” ذلك التقاعس رفضًا متعنتًا، واستبقه للداخل راكضًا بينما جميع الحرس من خلفهم.
—عودة لغرفة المكتب—
دخل عليهم “زيدان” فجأة وبين يديهِ طفلها “زين”، وبكاءهِ يُوقظ النائمين جميعًا من شدتهِ، فـ انتفضت “سُلاف” بين ذراعيهِ اللاتي يتشبثن بها وهي تصرخ :
– ابني انت واخد ابني فـين؟؟.. أبـعد زيـن بـعـيد عن أي حاجه يا حمزة، سيبني و أديني ابني بـقولك.
لم يستجب لإستغاثاتها، مُصرًا على تنفيذ المخطط الطارئ الذي وضعه خلال اللحظات السابقة :
– أنا مش عـايـز اسـمع صـوتـك خـالص، ولو عايزة نخرج من هـنا كلنا بسلام تـحطي لسانك جوه بوقك وتسمعي كـلامي، أحسن بالله العظيم هتشوفي مني اللي مشوفتيهوش طول الخمس الشهور اللي فاتوا.
تجاهل “زيدان” حوارهم وأبلغه قائلًا :
– أنجز ياأبو البشوات زمان العيال بتوعها داخلين علينا.
– عملت اللي قولتلك عليه؟؟
– كله اتحل بعون الله.
انقبض قلب “سُلاف” بتخوفٍ شديد، وهي تستمع لكلماتهم المُبهمة، والتي تنمّ عن مخططٍ أُعِد له مُسبقًا، كل ذلك وهي عاجزة عن الخلاص منه بأي طريقة، بعدما حاصرها بذراعيهِ وظهرهِ الصلب معًا، فأصبحت محشورة بين قوتين كلاهما أعتى وأقوى، وكُل ما بإستطاعتها هو الصراخ المستغيث :
– سيبنـي وادينـي الولـد ياحـمزة، سـيبني بقولك الولد هيموت من كتر العياط.
ذلك الإضطراب الذي يحدث بالخارج، وصلت أصدائهِ إليهم، فـ استعد “حمزة” مُشهرًا سلاحهِ، بعدما سحبهُ من خلف ظهرهِ بلمح البصر، وصوبه على رأسها بنفس اللحظة التي هجم فيها “عِبيد” و “راغب” على غرفة المكتب، أثر صوت “سُلاف” الصادح الذي اتبعوه، فـ تفاجئوا بذلك الوضع الخطير الذي خرج عن سيطرتهم. اتقدت عينا “حمزة” بعدما تحوّل لإنسان آخر، وصوّب نظراته نحو “راغب” مُهددًا :
– لو مخرجتوش برا دلوقتي هحرمكم منها للأبد.
وسحب الأمان الخاص بسلاحه مستعدًا لإطلاق النار في أي لحظة :
– أبعدوا عن طريقي وإلا هيكون بحر دم هنا.
انفعل “راغب” مستشعرًا العجز الشديد، وهو يرى ابنة أخيه بين يديهِ هكذا :
– سيبها وخلينا نصفي الحساب مع بعض، سـيبـها ياحـمـزة.
كاد “عِبيد” يخطو خطوة للأمام لولا تحذير “حمزة” شديد اللهجة له :
– إيــاك تـفكر، ياإما هخرج من هنا وهما معايا، ياإما هنبقى كلنا أمــوات.. كُـــلــنا.
ارتفعت ابتسامة السخرية على محياه وهو يتابع :
– بقى كلكم عيلة في قلب بعض!.. وانا القرطـاس الوحـيد وسـطكم!!.
حاول” راغب” أن يساومه، من أجل أن يضمن سلامة “سُلاف” على الأقل :
– سيبها واحنا هنخرج من حياتك، حسابنا مبقاش معاك خلاص.
فـ صرخ فيه “حمزة” مع ذكر كلمة (الحساب)، والتي أضرمت نارًا گالحريق :
– كــان من الأول يا صــاحــبي، ياعــشـرة العُـمر يا واطـــي.. لو كنت قدمت أيدي لكـلب كان صــانها، بس انت ابن كـ××.
خطوات أخرى بالخارج، وحركات جلبت أصوات صادحة، شتتت ذهن الجميع، حتى دخل رجلين مُسلحين للداخل ليصبح المشهد أكثر خطورة :
– مسا مسا يا زيدان.
ابتسم “زيدان” شامتًا، وهو يُحييّ أتباعهِ الذين أتوا على وجه السرعة :
– أهلًا يا رجاله.
تجلّت الربكة على نظرات “راغب”، خاصة مع رؤية الفزع متجليًا على ملامح “سُلاف” :
– عايز إيـه ياحــمـزة ؟!.. اللي بتعمله ده مش هيفيدك بأي حاجه.
فهدر “حمزة” بصوته :
– ولا أذيتـي وأذيـة يسرا فادتـكم بـحاجـه.. يُــسـرا ماتت.. مـــاتت.
لم يتحمل “راغب” وزر گهذا، بينما هو مؤمنًا بالحُب الذي نبت داخله حيال الفقيدة :
– أنا مأذيتـهاش، والله العـظيم ما أذيتـها ولا حـتى نويت.
– الكلام ده مش هيفيدني بحاجه خلاص، وسعوا خلوني أخرج أنا ومراتي وابني من هنا، وأكيد هييجي اليوم اللي هنتحاسب فيه ياراغب.
انفعل “عِبيد” دون أن يدري، ليصدح صوتهِ عاليًا :
– مرات مين انت صـدقـت نـفسك ولا إيــه!.. مفيش خروج بيها من هنا إلا على جثتي.
لم ينتبه “عِبيد” لتلك الضربة الغادرة التي بطحت مؤخرة رأسهِ، فشوشت عيناه ومركز البصر كليًا، والضريبة الثانية جعلتهُ يتسطّح أرضًا وسط صرخات “سُلاف” :
– عِــــبيــد ؟!.
قبل أن يلحق به “راغب” ليتفقدهُ كان كلاهما يهجمون عليه لتكبيل حركاتهِ المنفعلة، ويسحبونه للجانب من أجل تمرير “حمزة”، ومع كل محاولات “راغب” لتخليص نفسه من بينهم كانت الغلبة للكثرة لا للقوة :
– خد زيـن وسـيب سُـلاف يا حــمـزة، سيبها و إلا والله ما هرحمك.
ضغط “حمزة” على عنقهِا غيظًا، وهو يعلن أحقيتهِ فيها :
– انتوا خدتوا مني يُسرا، يبقى سُلاف من حـقي أنا يا راغب.
وسحبها سحبًا للخارج حتى كادت تسقط على الأرض، وصرخاتها المستغيثة لم تُخرسها :
– سـيبنـي لو كنت راجل، يا جـــبـان.
فـ همس بجوار أذنيها، بصوتٍ شعّ منه الغيظ الذي كتمه طويلًا، والآن قد انفجر منه مغموسًا بالجنون :
– لو لسه باقية على دقيقة من حياتك هتيجي معايا انتي وزين، يا كده.. ياإما نموت كلنا مع بعض هنا، ويبقى ده العدل اللي كنتي بتدوري عليه.
تلوت متألمة بفعل ضغط ذراعه الغير مقصود على عنقهِا، فـ أرخاه قليلًا وهو يتابع :
– أخرجي معايا بهدوء أحسنلنا كلنا يا سُلاف، ده لو لسه عايزة تبقي مع زين في مكان واحد.
انكتم صوتها مع تهديداتهِ الصريحة، وقد أصبح هو الآن في مركز القوة وليست هي، انقلبت الأدوار، بعدما أعدّ لها “حمزة” فخّا حقيقيًا، وباتت مجبرة على الطاعة، وإلا قد تكون النتائج غير محمودة. هدأ هياجها قليلًا، ومع ذلك حبذت لو ضمنت سلامة “زين” مقابل أن تذهب معه بطواعيتها :
– طب اديني الولد وانا هاجي معاك، والله العظيم هنيجي معاك.
لم يحررها “حمزة” كليًا، والتفتت رأسهِ نصف التفاته وهو يقول لـ “زيدان” :
– اديها الواد.
تلوت شفتي “زيدان” بإعتراض، وهو يناولها طفلها قائلًا :
– حنين انت أوي ياابو البشوات.. عليا النعمة الولية دي ما تستاهل رحمتك.
رمقتهُ “سُلاف” بإحتقان، فـ أعطاها “زين” وتراجع خطوة للوراء وهو يقول :
– وياريته بيتمر.
لم تهتم له ولثرثرتهِ، مجرد أن ضمت الصغير لصدرها كان شعور الطمأنينة قد بدأ يتسرب إليها، رغمًا عن كل الضغوط العصبية النفسية التي عاشتها في الدقائق الماضية. جذبها “حمزة” للخارج مُراعيًا الرفق لئلا يؤذي الصغير الذي بدأ بكاءهِ يخفُت رويدًا رويدًا، فرأت كل رجالها محاصرين بأتباع “زيدان” وقد امتلأ المكان بهم، فمشت جوارهِ والقلق في صدرها گالنار التي تنهش جسم حتى حوّلته رمادًا، حتى أوقفها أمام سيارته، وفتح لها الباب الأمامي آمرًا إياها :
– أركبي.
وقفت بتردد لحظتين، ثم تذكرت إنها مجبرة على ذلك، وإنها لن تستطيع التمرد عليه في حين إنه الأقوى. فـ استقرت بمقعدها ثم هتفت بتذمرٍ :
– حاجة زين و…..
فقاطعها بدورهِ :
– كل حاجه في شنطة العربية.. ومش عايز اسمع منك كلمة كمان.
صفق باب السيارة وأغلقها عبر المفتاح الإلكتروني، ثم نظر لـ “زيدان” وهو يعطيه الأمر :
– محدش يتحرك من هنا قبل ما أديك التمام.
– أوامر.
وضع سلاحهِ في ظهرهِ، والتفت حول السيارة حتى استقر في مكانه، وقبل أن يبدأ في التحرك كان يعطيها إنذاره الأخير :
– قسمًا عظمًا أي حركة غدر منك لأكون مسويكي بالأرض، أنا خلاص استويت ومبقاش عندي ذرة واحدة أبقى بيها على حاجه، هقلب العربية بيا وبيكي، ونبقى نتقابل في جهنم بقى وخدي باقي حقك مني هناك.
ثم نظر نحوها بطرفهِ متابعًا سلسلة أوامره :
– أربطي الحزام.
وبدأ في قيادة سيارته للخروج من هنا، مُتبعًا الفكرة التي صخبت في رأسه وأقدم على تنفيذها دون الإهتمام بأي عواقب.
**************************************
– عملت زي ما قولتلي بالظبط، فهمته إني لسه معرفتكش حاجه وروحتله هو على طول.
ترك “صلاح” النظر للسماء المظلمة، ودخل بعدما شدّ الستار على النافذة كي يغطيها، والتفت إليه ليقول :
– حالة حمزة كانت عاملة إزاي يا شافعي؟.. باين عليه هيعمل حاجه ولا لأ؟.
-والله معرفش، خد مني الشهادة وقالي روح انت.. مكنش قابل يسمع مني كلمة.
همهم “صلاح” وهو يجلس على رأس مكتبه :
– صدمته في صاحب عمره متقلش عن صدمتي أنا في الحيوان ده!.. بعد كل السنين دي يطلع جاسوس وسطنا وكل حاجه تخصني عند أبوه!.. مش مصدق، إزاي قدر يخدعني طول السنين دي.
كان “شافعي” گالشطة الحارقة، التي تُشعل الجوف وتُبقيه محترقًا :
– عرف يمثل علينا الولاء، بس انا من أول يوم عمري ما ارتحتله.
فتح “صلاح” زرّ قميصهِ ليزيل بعضًا من اختناقه، وحبذ الإنفراد بنفسه قليلاً، كي يعيش مصيبته وحده :
– سيبني دلوقتي يا شافعي، أنا هبقى اكلمك الصبح.
– اللي تشوفه يا بوص، عن أذنك.
بقى منفردًا، فـ استعاد الشريط كاملًا أمام عينيه، بداية من دخول “راغب” بينهم على إنه صديق” حمزة”، و حتى هذه اللحظة، كأنه كان يعيش في أحضان آل زيِّان، حتى مصيبة خسارته الملايين من الجنيهات كان هو الفاعل الوحيد لها، وحياذته لكثير من التفاصيل الخطيرة التي تخص “صلاح” وبالأخص (قضاياه)، بجانب الكثير والكثير. هنا فقط أدرك “صلاح” أنهم اتبعوا استراتيجية الهدم يكون من الداخل أولًا، فـ تغلغلوا داخل عائلتهِ، ثم تزوجت ابنتهم من ابنه وحملت بطفلهِ، فأصبحت الأنساب مختلطة، لتكون القصة أكثر واقعية، ثم بدأت تسلبهم أملاكهم وأموالهم گحق مكتسب، وشاركها في ذلك شريكها الخائن، حتى أصبحوا فائزين عليه بفارق نقاط كثيرة. دفن “صلاح” وجهه بين راحتيهِ، ثم فركه ليتوهج بإحمرار، وغمغم قائلًا :
– الحساب لازم يكون عسير أوي يا مصطفى، والمرة دي مش هيكفيني حريقة، هقطع قلبك الأول، هوريك نسلك وانا بقطعه من الدنيا، وبعدين نتحاسب.
***************************************
وصل أحد المنازل التي يمتلكها في إحدى المدن الساحلية، مقررًا المكوث هنا حتى يفكر بعقلٍ سليم، فيما سيفعله لإسترداد حقه وحق شقيقتهِ المهدور، وما أن وصل، حتى أمر حارس المجمع السكني بأن يشتري له بعض اللوازم والإحتياجات الضرورية، لإستطاعة الحياة هنا بضعة أيام على الأقل.
انفردت “سُلاف” بأحد الغرف الجانبية، وأغلقت على نفسها الباب لتأمن أي غدر منه، بعدما رأت اليوم وجهًا آخر له؛ بينما هو لم يحاول حتى اعتراض طريقها، تركها تتصرف دون أدنى فضول منه، مستأثرًا بنفسه وبجرحهِ الغائر، عاجزًا عن تخطّي صدمته. بحث كثيرًا عن زجاجات الخمر التي كان يحتفظ بها هنا بكميات كبيرة لحين حضوره لإحدى سهراتهِ، فـ تعثر في استذكار مكانها، حتى إنه أصدر جلبة وكسر بعض الزجاجات والأشياء أيضًا أثناء بحثه، حتى وجد زجاجتين أخيرًا، فبدأ بإرتشاف جرعات كبيرة، لكي يغيب عن وعيهِ بضع ساعات، أو حتى يسيطر عليه النوم. وأثناء ذلك، هاجمته العديد من الذكريات التي جمعته بصديقه الأقرب، خليلهُ كما كان يُسميه، حتى الأخطاء والنوائب كانوا يرتكبوها معًا، حتى ظنهُ نفسه. كان شعورًا قاسيًا عليه، وهو يكتشف تلك الخيانة الموجعة من الوحيد الذي لم يشكّ في أخلاصه يومًا، شعور وگأنه السياط يجلد فيه بلا هوادة، انسالت دموعه دون أن يشعر بحرارتها على صدغهِ، فـ امتزجت بخليط الخمر الذي يشربه لكي يُخمد عقله، وكلما مسح على خدهِ ينظر للدموع ليهذي قائلًا :
– حتى الخمرة طلعت ميا مش خمرة!.
قذف بالكأس الفارغ فتهشم قطعًا صغيرة، ثم بدأ يشرب من زجاجة الخمر مباشرة.
خرجت “سُلاف” من غرفتها أثر الضجيج المستمر بالخارج، خشية أن تتطور الأوضاع لشئ لا تعلمه، ثم مشت بإتجاه الصوت حتى وصلت أمام المطبخ المفتوح على الصالة مباشرة، لتراه جالسًا على الأرض وسط تلك الفوضى والكثير من الأشياء المكسورة من حوله. كتمت شهقة مفزوعة، ونظرت إليه بشئ من الذهول، فـ تبسم “حمزة” ساخرًا وهو يقول :
– أنا برضو قولت كده، مش معقول أكون تايه لدرجة إني أنام مع واحدة ومفتكرهاش، أتاريه كان مسهلك الدنيا على الآخر.
ورفع الزجاجة على فمه، بينما هي تنظر إليه بصمتٍ شديد، حتى تابع :
– كنتوا بتحسوا إيه وانتوا مغفليني، أكيد إحساس كله نشوة.
تماسك قليلًا لئلا يُذرف دموع القهر أمامها، ثم هتف معترضًا :
– بس انا مأذيتش حد منكم!!.. لو صلاح آذاكم ما تأذوه هو!.. ليه إحنا؟.
استند على الأرضية ونهض واقفًا، فترنح يمينًا ويسارًا بعدما انتشر تأثير الخمر في كل نواحيه البدنية العقلية، وتابع كلامه العفوي قائلًا :
– يسرا كمان متستاهلش، كانت أطيب واحدة فينا، ليه تغدروا بيها.
لم تتحمل “سُلاف” ذلك الذنب، فحاولت بتلقائية أن تدفعه عنها :
– مش احنا، والله العظيم آ….
– شششششش
أشار إليها لتصمت، وقذف بزجاجة الخمر الفارغة، ثم خطى بخطواته المهتزة ليفتح الأخرى، دون أن يشعر بتأذي أقدامه الحافية أثر دعسهِ على الزجاج، فـ بدأت الدماء تنزف من قدميهِ، مُسببة بقعًا حمراء بازغة. شهقت “سُلاف” وأسرعت تلحق به، مطمئنة لإرتداءها حذاء القدم الرياضي خاصتها، وأوقفته عن السير وهي تصيح عاليًا :
– حـاسـب رجـلك اتفتحت من الإزاز!!
دفعها دفعةٍ خائرة فاقدًا لكل قواه، وهتف بـ :
– ملكـيش دعـوة بيـا!.
لم تهتم لصياحه، وسحبت زجاجة الخمر الممتلئة من يده لتسكبها بالكامل في الحوض :
– لما كل واحد يروح لحاله أبقى موت نفسك براحتك، إنما طول ماانت هنا معانا مش هيحصلك حاجه وانا اللي ألبسها.
تركت الزجاجة فارغة، وعادت إليه تسحبه وهي تتابع :
– تعالى معايا.
ضحك “حمزة” بتهكمٍ قبل أن يقول :
– عندك دمّ أوي؟!.. مستحيل تكوني بني آدمه زينا.
تلوت شفتيها بإستنكار و :
– كفاية انت بني آدم أوي.
أبعدت الزجاج المتناثر في الطريق بحذائها، لتضمن له طريقًا سليمًا، ثم اصطحبته للغرفة المجاورة لغرفتها، ووضعته على الفراش وهي تقول :
– خليك هنا لحد ما اشوف حاجه اعملك بيها جروحك.
أمسك رسغها واجتذبها لتجلس جواره على الفراش :
– مجاوبتيش عليا، ليه أنا مش هو؟.
فأجابته بنفس السؤال الذي حيّر عقلها لسنوات :
– انتي واحدة ظـالمـة، كلكم ظلمة، لأول مرة أكون أنا البرئ الوحيد يا سُلاف.
ومال بجسدهِ عليها وهو يتابع :
– أنا اللي ضعت في وسط حكايتكم.
وضع نصف جسدهِ على فخذيها وأغمض جفونهِ الثقيلة، فـ سقط من طرفيه آخر دمعتين كانت عيناه تبرق بهم، ليختفوا تمامًا بداخل شعرهِ، وبدأ فعليًا يغيب عن الواقع، تاركًا ثقله عليها هي، بعد كلماته العفوية المؤثرة، والتي لم يتعمدها إطلاقًا؛ لكنها أصابت قلبها الحيّ في مقتلهِ، حتى بدأت تستشعر برائته التي لم تشك فيها يومًا، وإنه سُحق بذنب أبيه ظلمًا. حررت “سُلاف” زفيرًا مهمومًا من صدرها، ووضعت كفها الأيمن على شعرهِ تمسح عليه بنعومةٍ، وبكفها الأيسر تمسح عبراتٍ بدأت تنساب على وجنتيها، وكأن حُزن العالم كله في صدرها مكتومًا….
***************************************
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية اغصان الزيتون ) اسم الرواية