رواية ندوب الهوى كاملة بقلم ندا حسن عبر مدونة دليل الروايات
رواية ندوب الهوى الفصل السابع عشر 17
“سعادة، سعادة مفرطة قادمة مع الرياح تزيح
الستار من على الأبواب، عود ثقب مشتعل
أسفل الستار يتزحزح ليحرق الأجواء”
بدلت ثيابها التي كانت عبارة عن رائحة طهي طعام قوية، وأكثر ما يفوح منها البصل والثوم، أنهت طعام الغداء ثم سريعًا قبل أن يعود من صلاة الجمعة دلفت إلى المرحاض لتستحم وتبدل ملابسها إلى أخرى مدللة نظيفة كي تروقه قبل أي شيء، وقد فعلت، بدلت ملابسها إلى قميص طويل كالذين ترتديهم في الشقة في هذا الجو الحار وكان عبارة عن قطعة قماشية تغطي جسدها بالكامل ولكن تلتصق عليها بقوة بارزة مفاتنها بشكل مغري وغير تلك الفتحة التي تزين منتصفه من الأمام ومقدمة صدره المفتوحة قليلًا بسبب حملاته الرفيعة..
جلست في صالة الشقة في انتظاره وهناك ابتسامة عريضة مُشعة ترتسم على شفتيها بشكل رائع مُغري، تتذكر كل ما حدث بالأمس معه، لقد كان وجود “أحمد” شقيق زميلتها هو النقطة الفاصلة في حياتهم، لو كانت تعلم أنه عندما يراه سيعترف بحبها لفعلتها منذ وقت مبكر..
ابتسمت مرة أخرى باتساع أكبر من السابق ووجهها يتلون بالحمرة وداخل عقلها تسترجع جميع الذكريات التي مضت عليهم أمس وكيف كان يعترف بذلك الحب في أحضانها..
الآن لن تجعل ذلك العبث الذي يأتي إليها ليجلس داخل عقلها يؤثر بها، الآن هي تأكدت من حبه لها، طريقة اعترافه ونظراته وانفعالاته لن تجعلها تعكر صفو حياتهم مرة أخرى، ولن تتحدث عني أي شيء آخر سوى أنها تبادلة ذلك الحب القابع بقلبه، سنكون منصفين ونعترف أنها كانت تعلم ولكن الاستماع إلى ذلك شعور آخر لا تستطيع وصفه ومحو جميع الشكوك التي كانت في رأسها شيء لا تصدقه من الأساس ومع ذلك يشعرها بالسعادة المفرطة…
“جاد” يحبها وهي تحبه ولن تتخلى عن هذا الحب أبدًا مهما حدث ومهما يكون، لن تترك من تألمت لأجل حبه ليالي طويلة وشفاها الله بزواجها منه، شكر الله في هذه الحالة وبعد هذه السعادة التي حلت عليها لن يكن كافي أبدًا..
نظرت إلى باب الشقة بعد أن استمعت إلى صوته يُفتح، وجدته يطل عليها من خلف الباب بتلك العباءة البيضاء الخاصة به، كم يبدو وسيمًا رائعًا عندما يرتديها!.. مصفف خصلاته السوداء المخالطة للبنية والتي تكتسب طولًا يومًا بعد يوم ووجه وسيم نقي تزينه لحيته وشاربه..
خلع حذائه وترك المفاتيح وتقدم إلى الداخل وهو ينظر إليها، وقفت على قدميها فنظر إلى خصلاتها الطويلة بشدة والتي تغطي كامل ظهرها، وجهها المستدير الذي يحبه إلى الممات وعينيها العسلية الصافية التي تزينها بالكحل لتجعله ينجذب إليها أكثر من ذلك ولكن إلى أين!.. وتلك الشفاه الرقيقة التي تضع عليها الآن ملمع وردي يظهرها رائعة وكم كان مظهرها بالكامل وهي بهذه الفتنة رائعة..
أقترب منها إلى أن وقف أمامها مباشرةً لا يفصل بينهم شيء، وضع يده الاثنين حول خصرها يقربها منه وهو يستنشق تلك الرائحة العطرية الجميلة منها، تحدث بصوتٍ خافت وهو يقترب على أذنها:
-وحشتني يا وَحش
ابتسمت بخجل طفيف وهي تشعر به يضغط على خصرها فقالت وهي ترفع يدها نحوه تضعها خلف عنقه بشغف وحب يلمع بعينيها:
-أنتَ كمان وحشتني يا ابن أبو الدهب
احتضنها وهو لا يصدق أن كل شيء انتهى وتلك الشكوك برأسه ورأسها رحلت وذهبت إلى أبعد مكان عنهم والآن ينعمون بالسعادة بداخل أحضان بعضهم بعد ذلك الإعتراف المجنون الجامح في وقت كان بالنسبة إليه حياة أخرى..
أبتعدت عنه بهدوء لتقف قبالته قائلة بجدية وهي تبصره بهدوء وابتسامة:
-على ما تغير هدومك هكون غرفت الأكل علشان جوعت
قرص وجنتها اليسرى بيده بقوة خفيفه وهو يقول ساخرًا:
-طب سيبي الجوع ده لحد تاني
أبعدت يده عنها وهي تتألم ألم بسيط محبب إلى قلبها بسبب يده التي تركت أثرها على وجنتها، أردفت بقوة وجدية متهكمة عليه:
-محدش قالك تعمل شجيع السيما وتمنع الأكل… أنا اتحايلت عليك كتير أنتَ أدرى بنفسك بقى
ابتسم بغيظ وهو يستمع إليها فقد حاولت معه كثير حقًا أن يأكل وهو من رفض ذلك، نظر داخل عينيها قائلًا بخبث ومكر:
-لأ ما أنا كلت.. كلت كل اللي كان نفسي فيه من زمان
ابتسمت وهي تبعد وجهها بعيد عنه ثم استدارت وذهبت إلى المطبخ لكي تحضر الطعام لهم ومعها السعادة والفرحة تدفعها لفعل ذلك وتركته ينظر في أثرها الذي اختفى بعد أن فهمت ما الذي ألقاه عليها بهذه الكلمات، ابتسم بسعادة غامرة وتقدم هو الآخر ليذهب إلى غرفة النوم حتى يبدل ملابسه إلى أخرى بيتية مريحة…
بمهارة عالية أخذ جسدها يتحرك في المطبخ بسهولة ونعومة وهي تحضر أطباق الطعام الذي فعلته بيدها، وضعت بعض الأطباق على الصينية واخذتها وخرجت من المطبخ متجهة إلى غرفة السفرة التي يتناولون بها الطعام، ثم ذهبت إلى المطبخ وأعادت الأمر مرة أخرى، وقفت بهدوء جوار الطاولة تضع الأطباق عليها بينما دلف هو إلى داخل الغرفة وهو ينظر إليها وإلى هذا الطعام الذي أعدته مستشقًا رائحة شهية للغاية..
ابتسم باستغراب وهو يدلف ثم جلس على مقعدة وأشار إلى الطعام قائلًا:
-ايه كل الأكل ده… جبتيه منين الحمام ده أصلًا
جلست هي الأخرى على مقعدها بجواره ثم أجابته ببساطة وابتسامة واضحة:
-من ماما فهيمة، لما كنت عندها ادتني جوز الحمام ده وشوية ملوخية وكمان فرخة بلدي
استرسلت حديثها والإبتسامة تتسع على محياها وهي تذكر ما قالته لها عنه:
-بتقول إنك بتحب الحمام
نظر إلى مظهر الطعام على الطاولة وكم بدا له شهيًا ولذيذ وهو منذ الأمس لم يأكل شيء، عاد ببصره إليها قائلًا بمرح:
-هو أنا فعلًا بحبه وبصراحة شكله مغري أوي
ابتسمت له بحنان وهدوء عفوي وهي تقول:
-بالهنا والشفا
مد يده وبدأ في الطعام بهدوء وهو يتحدث معها باهتمام قائلًا:
-مكنتش أعرف إنك بتعرفي تطبخي حلو كده.. كنت مفكرك مش بتدخلي المطبخ أصلًا
ضيقت ما بين حاجبيها بعفوية وأردفت تلقائيًا وهي تمزح ضاحكة:
-ليه يعني على أيدي نقش الحنه، أنا ماما معلماني كل حاجه
نظر إليها بقوة وهو يبعد الطعام عن فمه قائلًا بانبهار وجدية شديدة:
-طعمه يهبل… قربي طبق الملوخية ده كده
بعد أن تذوقها همهم بتلذذ عاليًا تحت نظراتها الفرحة وكأنه لأول مرة يتذوق طعامها، ولكن حقًا هذا مختلف، كل شيء منذ اعتراف أمس سيكون مختلف، غمز إليها بعينيه الرمادية التي تلمع مع دخول أشعة الشمس عليها وهتف بنبرة ماكرة:
-مكدبتش لما قولت عليكي وَحش.. طلعتي وَحش في كل حاجه
رفعت حاجبها وتساءلت باستنكار لا يخلو من المرح وهي تعلم من الأصل في حديثه:
-لا يا شيخ
أومأ إليها وهو يضع الطعام في فمه:
-آه والله بأمانة
أكملت الطعام في هدوء وابتسامتها لم تختفي بعد ولكن أبعدت نظرها عنه، استمعت إلى هاتفه يصدر صوت وصول مكالمة هاتفية في الخارج فأردفت وهي تقف:
-موبايلك بيرن
أمسك بيدها ليجذبها جاعلها تجلس مرة أخرى وقال دون اهتمام:
-كملي أكل وسيبك منه ده أكيد الواد سمير
أشارت بيدها إلى الخارج وما تقصده هو الهاتف وقالت هي باهتمام معاكس له:
-طب ما تشوف ماله يمكن في حاجه يا جاد
نفى حديثها وهو يأكل في هدوء دون الاكتراث لأمر هاتفه وابن عمه من الأساس:
-لأ مفيش حاجه بيأكد عليا أننا ننزل الچيم بالليل
زفرت بهدوء وأبعدت نظرها عنه وهي تكمل طعامها فتحدث بنبرة رجولية جادة يقترح عليها:
-أنا هنزل معاه بالليل لو حبيتي تروحي عند أمك روحي
أجابته بصوتٍ جاد قائلة:
-لأ هذاكر شويه بدل ما أضيع وقت على الفاضي
أومأ إليها بهدوء وقد أيد فكرتها أكثر، دقائق أخرى يأكلون بها ثم أنهى طعامه ووقف من على المقعد تاركًا الطاولة ليغسل يده وتوجه لصنع الشاي لهما وهو في المطبخ..
صاح من المطبخ بصوتٍ عالٍ قائلّا:
-هعمل شاي
صاحت هي الأخرى مقابلة له بصوتها العالي ليستمع إليها قائلة:
-مش عايزة
ثم وقفت على قدميها وجمعت كل ما على الطاولة من أطباق ووضعتها على تلك الصينية ونظفت المكان بمهارة في دقائق، أخذت الصينية إلى المطبخ لتنظيف ما عليها من أطباق فخرج هو وبيده كوب من الشاي قائلًا بجدية وهو يتوجه إلى الخارج:
-هشرب الشاي في البلكونة
أومأت إليه برأسها فخرج وبقيت هي في المطبخ تنظف الأطباق الذي كانوا يأكلون بها وتعيد ترتيب المطبخ مرة أخرى..
بقيت به ما يقارب الربع ساعة ثم ذهبت إلى الخارج لتمر على الصالة وجدته يجلس على الأريكة مستقيم في جلسته وبيده كتاب القرآن الكريم ينظر به بعينيه ويتمتم بشفتيه ما يقرأه ووجه خاشع ثابت بوضوح، ابتسمت وهي تتقدم منه ثم جلست بجواره ومالت برأسها عليه لتنظر إلى ما يقرأ وجدتها سورة الكهف، أعتدلت في جلستها وبقيت تنظر إليه بحبٍ وراحة كبيرة اجتاحت جسدها وخلدها وهي تراه على هذه الوضعية وداخلها تقول أن الحمد لا يكفي على هذه النعمة الكبيرة من الله، لقد وهبها شخص لن تجد مثله ولن يكون هناك مثله من الأساس ومهما حدث ومهما فعل يبقى “جاد الله” الذي حقًا يخاف الله وقبل فعل أي شيء يفكر به وبعواقبه ونتيجته..
دائمًا يبتغي رضاء الله عليه وعلى حياته، ويرضي والديه ليرضا الله عليه، يتقرب منه ويريدها أن تتقرب منه أكثر لتكن الدنيا بالنسبة إليهم جنة الأرض ومن بعدها يخلدون في جنة السماء..
ترك كتاب الله على الطاولة أمامه بعد أن تصدق واستدار برأسه ينظر إليها فابتسمت بحبٍ وشغف كبير قابلته به قبل أي شيء وهي تعترف قائلة:
-أنا بحبك أوي يا جاد… مستحيل تتخيل أنا بحبك قد ايه ومن امتى
أقترب منها وهو يأخذ يدها ورفعها إلى فمه يقبلها بحنان معقبًا:
-وأنا بحبك أكتر يا روح جاد… وبردو مستحيل تتخيلي من امتى
استغربته ونظرت إليه باستفهام متسائلة بوضوح وكلماتها ليست الوحيدة التي تتسائل:
-إزاي مش فاهمه!.. أنتَ بتحبني من زمان؟..
أغمض عينه اليسرى ومط شفتيه قائلًا بمرح:
-أنتِ الأول يلا قولي بتحبيني من امتى بقى يا شقية
أخفضت وجهها إلى الأسفل وهي تبتسم وتتذكر هذه الذكرى البعيدة منذ عامين تقريبًا، رفعت رأسها إلى الأعلى ونظرت إلى داخل عينيه بعمق وهي تقول:
-من يوم ما رجعتلي شنطتي اللي اتسرقت
ضيق ما بين حاجبيه وهتف سريعًا باستنكار متذكرًا ذلك اليوم جيدًا الذي كان منذ عامان؟..:
-من سنتين؟.
أومأت إليه برأسها والابتسامة لا تفارق ثغرها الوردي مُكملة بحبٍ وعشق اخترق قلبها:
-آه من سنتين شوفت جاد أبو الدهب اللي حسيته فتى أحلامي، يمكن كنت قدامي طول الوقت بس عمري ما فكرت فيك أو حتى في غيرك بس فجأة ومرة واحدة حسيت إني بحب جاد.. خطفني وخطف قلبي، مرة واحدة لقيتك الراجل اللي بتمناه شهم وجدع، حنين وراجل ملو هدومك، حبيت تفاصيلك وكل حاجه فيك بقيت كل يوم بحبك زيادة عن اليوم اللي قبله..
حرك “جاد” عينيه الرمادية عليها وهي تتحدث بكل هذا الشغف والحنين إلى ما مضى، وتلك اللمعة الغريبة والواضحة بعينيها كلما تحدثت:
-بس في نفس الوقت كنت بحاول إني أبعد وأحافظ على نفسي.. بخاف ربنا أوي يا جاد وكل ما كنت أفكر فيك ابقى كأني عملت ذنب كبير وبخاف أكتر لو مكنتش من نصيبك يبقى ذنب أكبر
ابتسمت بسخرية وتجعد جوار عينيها وهي تسترسل حديثها:
-كنت في كل صلاة ادعي تكون من نصيبي وأكون من نصيبك وأحيانًا كنت بدعي إني أبطل أحبك..
قاطعها وهو يتسائل باستغراب لما قالته للتو:
-ليه؟.
ابتلعت ما بجوفها مُتحدثة بصدق وجدية وهي تنظر إلى عينيه التي يحق لها النظر وقتما شاءت:
-يعني… زي مرة من المرات لما عرفت أنك هتخطب ولما كنت بحس أنك مش ليا كنت بدعي إن ربنا ينزع حبك من قلبي.. بس سبحان الله كان دايمًا بيزيد وكل يوم أحبك أكتر.. عارف؟. كل الفترة اللي فاتت دي كان نفسي بس تأكدلي إنك بتحبني بكلمة واحدة، كنت خايفة تكون مجبور على الجواز مني وشوية أفرح وانسى وشوية مقدرش انسى
ابتسمت بسعادة غامرة وأصبح هناك غمامة دموع خلف جفنيها وهي تقول مُكملة:
-لحد امبارح بس.. الكلمتين اللي قولتهم طلعوني السما، أنا بحبك أوي يا جاد بحبك ومقدرش استغنى عنك أبدًا.. مقدرش استغنى عن حنيتك وخوفك عليا وغيرتك كمان
ابتسم باتساع عندما وجدها تقول آخر كلماتها بضجر واضح، يا له من قدر مكتوب حقًا، منذ عامين وهي تفكر به وتحبه أيضًا والإنسان يكتم ما يشعر به داخله ليظل الآخر يتعذب ويتعذب معه، هو يقول إن هناك غيره وهي كذلك، هو يقول أنها لا تريده وهي كذلك، وشكوك داخل الرأس تولد وفي النهاية لا يريد غيرها وهي لا تريد غيره.. السبب الوحيد في ذلك هو الصمت والكتمان، لو كان تحدث منذ البداية لكان عاش أسعد اللحظات معها ويستكملها الآن لا يبدأ..
سألته وهي تعتدل لتقابله بجدية وتريد أن تستمع إلى قصته معها هو الآخر:
-وأنتَ بقى؟..
ابتسم مبادلًا إياها وأكثر ابتسامته كانت سخرية لأنها مهما حدث أحبها أولًا، ظل ممسكًا بيدها بين كفه وتحدث بنبرة رجولية رخيمة تحبها كثيرًا:
-قولتلك مستحيل تتخيلي من امتى
استغربت وداخلها تفكر أكان يحبها قبل أكثر من عامان؟.. لقد كانت صغيرة في هذا الوقت، استكمل هو بوضوح:
-حبيت بنت الجيران من زمان أوي، من لما كانت بتمشي والشنطة متعلقة على ضهرها متخيلة؟.. من لما كان صوتك طول النهار في الشارع، عرفتي امتى؟
حركت رأسها يمينًا ويسارًا بخفة وهي حقًا لا تدري على أي مرحلة يتحدث ومتى كان ذلك فابتسم أكثر وضغط على يدها بقوة واسترسل مُكملًا:
-أربع سنين.. وأنتِ لسه مدخلتيش أولى جامعة، خطفتي قلبي وعقلي وروحي وكل حاجه كانت حية فيا، جمالك ورقتك والأدب اللي كنت بشوفه منك خلاني مش شايف غيرك، مش عارف حتى أحاول أشوف غيرك.. دخلتي قلبي وقفلتي وراكي بالمفتاح ولحد النهاردة مطلعتيش ومش هتطلعي
-أربع سنين يا جاد؟..
صوته الأجش أجابها بجدية وصدق:
-أربع سنين يا هدير، أربع سنين وأنا بحِبك وبتعذب بحُبك وأنا بسمع كل يوم إن فيه عريس متقدملك وبحط ايدي على قلبي لتوافقي، أربع سنين وأنا قلبي فيه نار لما مبقاش عارف أنتِ فين ولا مع مين، أربع سنين بحاول أقرب منك وأرجع تاني استغفر ربنا وأقول إن ده حرام ولو حصل ربنا مش هيكرمني بيكي
حركت عينيها عليه ورأت الصدق بملامحه واستمعت إليه بحديثه ولكن السؤال في عقلها ارهقها أثناء ذلك الحديث، فقالت بجدية وتسائل والاستغراب أكثرهم داخلها:
-طب ليه محاولتش تتقدملي، ولا مرة يا جاد ولا مرة!..
هذه المرة سيكذب، أن يقول أن والده منعه عنها عندما أراد التحدث والبوح، علاقتها بوالده جيدة للغاية وهو أيضًا فهم أن تفكره كان خاطئ وتراجع عنه، لذا لن يقول ما قاله ولن يقول أن الاعتراض من عنده من الأساس، أردف بجدية يُجيب على سؤالها:
-كنت لسه بردو يتعبر ببدأ حياتي كنت حابب أكون حد مناسب لما أجيلك بفلوسي مش فلوس الحج رشوان وسنة ورا سنة وأنا بعمل كده كنت بحاول أشوف أي مشاعر من ناحيتك ليا وعدوا أربع سنين وكل يوم بشوف حجه لنفسي علشان خايف تكوني بتحبي حد تاني..
ابتسم بسخرية وهو يعلم أنه يكذب ولكن لتكن الكذبة مقنعة أكثر:
-لدرجة إني كنت مستني لما تخلصي الكلية وتبقي البشمهندسة هدير بس الحج رشوان انقذني من الغرق ونجاني
هل يكذب؟.. لقد قال سابقًا أنه كان سيخطبها وتحدث مع والده عن ذلك، وما حدث من “مسعد” هو الذي جعل الأمر يأتي بهذه الطريقة، تسائلت بخفوت:
-بس أنتَ قولت أنك كنت هتخطبني فعلًا بس الموضوع اللي حصل خلاها تيجي بالطريقة دي
هز رأسه بتأكيد وهو يبتسم ابتسامة مصطنعة ليُكمل حديثه بها:
-آه ده حقيقي، يعني لما الحج قال إنه عايز يجوزني وكمان نقالي العروسة عرفته نيتي ناحيتك بس هو قال إن ليه نستنى طلما أنا موجود وأنتِ موجودة
ابتسمت له بسعادة وما يجول بخاطرها هو شيء واحد! كم هي محظوظة به وبوجوده جوارها ومعها، محظوظة بحبه وعشقه لها منذ ذلك الوقت الذي لم تكن تعرف عنه أي شيء سوى في الفترة الأخيرة، أهي إلى تلك الدرجة نقية وتستحق ذلك؟..
وضع “جاد” كف يده على وجنتها يحرك إبهامه عليها ببطء وحنان ويده الأخرى تمسك بكفها وأردف قائلًا بنبرة رجولية خشنة:
-تعرفي نفسي في ايه
تسائلت بلهفة وكأنه يود شيء تستطيع فعله له ولتجعله يسعد أكثر وتغمره الفرحة، ولكنه تحدث قائلًا بحنين وتمني:
-نفسي في ولد.. ولد حته مننا إحنا الاتنين، أنا عارف إن لسه بدري وعارف إن لو ده حصل هيبقى كتير عليكي وأنتِ لسه مخلصتيش كلية بس مع ذلك كل يوم بتمنى من ربنا إن ده يحصل.. أناني أنا مش كده؟
وضعت يدها فوق كفه الذي يضعه على وجنتها وابتسمت بوجهه وهي تتعمق بالنظر إلى عينيه قائلة باستنكار أولًا ثم أكملت بلهفة وصدق:
-أناني؟.. طب يحصل بس ومالكش دعوة أنتَ.. الكلية كلها كام شهر وهتخلص وحتى لو مخلصتش طول ما أنتَ معايا أنا مش هشيل هم حاجه.. بس يحصل
وضع يده خلف عنقها وجذبها ناحيته ليستقر بجبينه على جبينها وأخذ يستنشق تلك الأنفاس المنبعثة منها، أغمض عينيه وتمنى داخله أن يمن الله عليه بأخر طلباته:
-بأذن ربنا هيحصل.. كل شيء بأوان يا هدير
تركت ما يفعله وجذبت يدها منه لتضع يدها الاثنين حول عنقه ثم اقتربت منه وغمرته بشدة وقد كانت بحاجه إلى هذا العناق الذي يشعرها أن كل ما يحدث حقيقه وهي بين يدي زوجها الحبيب الأول والأخير لها ومن تمناه قلبها، وبادلها ذلك العناق مرحب به كثيرًا وهو يضغط بيده حول خصرها يقربها منه أكثر ليشعر بتواجدها معه بعد معاناة الحب الخفي والاشتياق الذي كان يقتل روحه بالبطيء..
❈-❈-❈
لم نقول أن لحظة الإعتراف بالمكنون داخل القلوب كانت أول درجة من درجات سلم السعادة، كانت لحظة بمثابة دواء أشفى جميع الجروح غائرة وسطحية واختفت جميع الندوب الذي لا تختفي..
مرت “ثلاثة أشهر” وكانت بها السعادة أبسط مثال على ما يعيشون به، الفرحة كلمة قليلة التعبير، والراحة توضيح فاشل لن يعود بالنفع، أما الهدوء فلم يتواجد بينهم فكان هناك صخب وجموح لم يعهدوه سابقًا..
كل شيء كان مختلف، اختلاف محبب إلى جميع القلوب يجعلهم يشعرون بنعيم الحياة والبساطة بها، الأمان والراحة الحب والهدوء..
هي لم تقابل رجل مثله ولن تقابل بكامل حياتها، لن تتحدث عن كم الحنان الذي يتمتع به ويفرط منه نحوها حتى وإن كان يمانع ما يريده، لن تقول كيف تكون رجولته أمام الجميع وأمامها أولًا، ولن توضح كيف يشعر بالغيرة المميتة تجاه أي رجل آخر يمر جانبها، وما يتمتع به بكثرة هو الكتمان، يشاركها ما يخصه فقط وإن كان حديث أحد غيره لا وجود له من الأساس..
ينزعج أحيانًا ولا يوضح ذلك، بل يلتزم الصمت وتجنبها ربما هذه الصفة الوحيدة الكريهة به، تود لو كان يتحدث ويسرد ما يزعجه لا ينتظر أن تشعر هي..
ولكن على أي حال هو لا يُعيبه شيء بنظرها، لا ترى أن هناك أفضل منه بل هو الأفضل وبجدارة، كان في الفترة الأخيرة يساعدها كثيرًا وكثيرًا والوصف قليل أثناء فترة امتحاناتها، كان يد العون بالنسبة إليها والنظرة في عينيه الرمادية تعد دعم خالص وراحة هائلة، لن تنسى ما فعله لأجلها أبدًا، لن تنسى أنه لم يجعلها تشعر بالضغط بل كان في تلك الفترة يصعد إلى الشقة قبل معاده ليكون بالقرب منها ويساعدها فيما تريد ويجعلها تشعر بالطمأنينة والراحة..
ولن تنسى أنه دائمًا يعطي إليها الأموال لتعطيها إلى شقيقتها، لن تنسى أنه تحدث معها بحزم حينما رفضت ذلك وتعهد بإعطاء المال لها كل شهر لأن شقيقتها أصبحت مسؤولة منه وهذا كان من وجهة نظره.. “جاد الله رشوان أبو الدهب” فريد من نوعه ولا يوجد مثله ولن يوجد ولو بعد حين، رمز للرجولة والشهامة، الأخلاق الحميدة والتربية الصالة، رجل يملك المال ولا يهمه غير أن يكون ذلك الصالح التابع لربه ويحاول جاهدًا لفعل ذلك..
وهو أخذ ما يريد، حصل على ما تمنى لمدة أربع سنوات، دعاءه ليلًا نهارًا قد زرع وها هو الآن يحصد الزرع وما به من طيبات راقته، سعادته بوجودها جواره، نومها بأحضانه وشعوره بأنها ملك له وحده زوجته وحبيته سعادة لا تقدر بثمن، لا يستطيع وصفها لو بقيٰ العمر بأكمله يصف كيف تكون..
ابتسامته عندما يراها أمامه من أجمل الابتسامات التي حصل عليها، رؤية وجهها الأبيض المحبب إلى قلبه وعينيها العسلية الصافية، ولن ينسى النمش الخفيف الذي يجعلها من أجمل جميلات العالم، رؤية كل ذلك يجعله مثل طائر كان خلف القضبان وحصل على الحرية ويرفرف في السماء عاليًا..
عندما تضع الطعام أمامه وتصر عليه أن يأكل لأنه يتعب في عمله، عندما تحضر له ملابسه حتى لا يرهق نفسه في الورشة ومعها أيضًا، خوفها عليه ولهفتها عند وصوله إلى المنزل، حنانها الذي تغدقه به وكأنها والدته، كل هذه الأشياء لن يجدها إلا في زوجة صالحة كتبها الله له بعد عناء كبير ومجاهده حادة داخله على أن يقترب أكثر من الحلال مبتعدًا عن الحرام..
كانت بالأمس ليلة زفاف “سمير” و “مريم”، ولم تكن ليلة أقل حماس من ليلة “جاد” و “هدير” بل كانت أكثر حماس والفرحة على وجوه الجميع ترتسم بدقة والسعادة تتراقص بين الرجال على أنغام الموسيقى..
كانت الليلة الأسعد والأفضل بالنسبة لهم بعد اعتراف كل منهم إلى الآخر بالحب القابع داخل قلبه وقد حدث ذلك قبل العرس بشهر كامل، فأصبحت العلاقة بينهم أكثر أريحية وصفاء ولم يكن هناك شيء يعيق فرحتهم ببعضهم البعض، بل كانوا يسبحون في مياة نقية وإحساس روعة المياة يدغدغهم..
فلم يكن “سمير” ذلك الشاب الكتوم الذي يبحث عن الفرص المناسبة بل كان دائمًا مندفع بالخير يتحدث ثم يبحث عن النتائج، يفعل ثم ينظر إلى ما فعله وقد أفاده هذا بشدة في علاقته مع زوجته “مريم” أول من دق قلبه لها بعنف ولهفة هائلة ليس طبيعية..
وساعدته “مريم” على ذلك معترفة بكل شيء منذ البداية، منذ أن رأت “سمير أبو الدهب” زوج لها وتمنته من الله ليكن كذلك خير زوج، الأمور على صراحتها تكون أفضل بكثير وتوفر أفكار ومتاعب كثيرة نأتي بها لأنفسنا وكأننا لا نريد الراحة..
ولم يكن هناك غير الفرح والسعادة من جميع الحاضرين والأكثر بينهم “هدير” ووالدتها ولم يكونوا يعلموا أن “جمال” هو الآخر يشعر بالسعادة لأن شقيقتيه قد ذهبوا من بين يده لمن يستطيع الحفاظ عليهم والاعتناء بهم، دون أن يكونوا تحت ضغط أو حزن بحياتهم فيكفي ما مر عليهم وهما معه..
ومن كان يصدق أن فتيات “الهابط” سيكونون زوجات لأبناء عائلة “أبو الدهب” من أغنى وأقدم العائلات في الحارة..
ولكن النصيب قد كتب منذ لحظة الوضع وما يحدث ما هو إلا تنفيذ له مهما حاولت التغير لن تستطيع ومهما حاولت الهرب لن تفلح، وما تستطيع فعله حقًا هو الجهاد، أن تجاهد نفسك الامارة بالسوء وتتقرب من الله وتنال رضاه ثم تنعم بالجنة..
وكان هناك أحد آخر بدأ حياته من النقطة الأصلية والتي كانت عند وجود الشريك المناسب وبشدة، لقد كانت عيني “عبده” تقع دائمًا على “رحمة” صديقة “هدير” والتي إلى الآن تتحدث معها وتسير على درب الصلاح جوارها، منذ الكثير وعينيه تقع عليها بين الحين والآخر ولن يقول إنه أحبها فهذا إلى الآن لم يحدث ولكنه للغاية معجب بها، بذلك الأدب الذي تتحلى به وجمالها الطبيعي الهادئ وكل ما بها، أي رجل يتمنى مثله في شريكة حياته لذا كان عليه أن يأخذ خطوة هو الآخر بعد أن شعر أنه يستطيع فتح بيت زوجية..
وقد كان عندما تقدم إليها مع والده ووالدته ولكن كان في وقت خاطئ يذهبون فيه إلى منشأ والدتها فكان الإتفاق على أن يتم الرد عندما يعودون..
وفي هذا الموقف ظهر تشتت رحمة التي كانت تنظر إلى شقيق صديقتها “جمال” والذي لا يرى أي شيء بحياته سوى نفسه وما ينفعه، حتى أنه لا يراها ولا يشعر بها، لم تصل إلى مرحلة الحب الذي وصلت إليها صديقتها ولكنها على الأقل تستطيع أن تقول إنها معجبة به وتريده، ولكن بعد تقدم “عبده” إليها تعتقد أنها سيكون لديها خيار آخر أفضل منه بكثير..
❈-❈-❈
-أنا عمري ما فرحت في حياتي كده
ألقت هذه الكلمات وجميع ملامح وجهها تبتسم ليست شفتيها فقط، وألقت بجسدها هو الآخر خلف كلماتها على الأريكة في صالة الشقة ناظرة إليه وهو يرتوي من زجاجة المياة بشراهة..
أخفض الزجاجة عن فمه ونظر إليها وهو يغلقها قائلًا بسعادة وراحة لأنه يجعلها تشعر بالفرحة:
-وطول ما أنا عايش مش هتحسي غير بالفرحة
ابتسمت باتساع أكثر وهي تنظر إليه، لقد أخذها في جولة ولا أروع منها احتفالًا بتخرجها وبكونها أصبحت المهندسة “هدير الهابط”، وقفت على قدميها وتقدمت لتقف أمامه واضعه يدها الاثنين خلف ظهره متحدثة بحبٍ وشغف:
-يا حبيبي ربنا يخليك ليا
قبل وجنتها قبلة سريعة بريئة وهو يبتسم قائلًا بمرح ومزاح:
-ويخليكي ليا طول العمر لحد ما اكركب كده ووشي يكرمش
ضحكت بسعادة مُردفة:
-سوا بقى متنسانيش
مرر إبهامه على وجهها ويده الأخرى خلف خصرها قائلًا بنبرة خافتة شغوفة بها:
-بقى وش القمر ده يكرمش؟.. لأ معتقدش
رفعت حاجبها الأيمن ولوت شفتيها مازحة معه قائلة باستنكار وتعجب:
-ياشيخ
أكد حديثه وهو ينظر إلى داخل تلك العسيلة الرائعة ببلاهة تستطيع أن تجعله يشعر بها دون مجهود:
-آه والله بأمانة
ترك خصرها وأبتعد قليلًا وهو يتوجه إلى غرفة النوم قائلًا بجدية:
-هجيب حاجه وجاي لحظة
وقفت تنظر إليه باستغراب وهو يبتعد تنتظره عندما يأتي وترى ما الذي سيأتي به، وفي تلك اللحظات ابتسمت عنوة وهي تتذكر ركوبها خلفه على الدراجة النارية، لقد طلب منها أن يذهب معها بالسيارة ولكنها أصرت على ركوب الدراجة لأول مرة، والذي كان صعب للغاية بالنسبة إليها وهي تجلس في ناحية واحدة بقدميها الاثنين بسبب فستانها الواسع الذي حصرته بين قدميها وتمسكت به من الإمام بقوة لدرجة أنه كاد في مرة أن يفقد توازنه عليها بسبب شعوره بتوترها وتشبثها به بطريقة غريبة..
وجدته يخرج أمامها وبيده علبة قماشها ناعم بشدة لونها أبيض وتعلم أنها علبة من علب الحلى والذهب، نظرت إليها بتدقيق متسائلة:
-ايه ده؟
فتحها بهدوء موجهًا فتحتها إليها وتسائل بابتسامة رائعة ارتسمت على شفتيه:
-ايه رأيك؟
ظهر إليها داخل العلبة سلسال ذهبي اللون رائع وقد خطف عينيها ولن تستطيع وصفه من شدة جماله واعجابها به، لقد كان عبارة عن سلسال في منتصفه فراشة كبيرة الحجم على وضعها وكأنها طائرة يتدلى منها سلاسل صغيرة حاملة فراشات أصغر بكثير بينهم اسمها الذي ظهر بشكل رائع يخطف الأنفاس..
-لأ بجد كده كتير والله أوي
دمعت عينيها بكثرة وهي ترفع نظرها إليه ثم سريعًا تقدمت منه ملقية نفسها عليه تقوم بغمره بقوة لتشعر بذلك الحب والحنان وما خلفهم من مشاعر هائلة:
حاوطها بيد والأخرى تحمل تلك العلبة يهتف بصوتٍ حاني في أذنها وهو يشعر وكأنه الآن فعل إليها الكثير وما هو إلا القليل:
-والله ما كتير عليكي، أنتِ تستاهلي أكتر من كده بكتير.. تستاهلي تعيشي في مكان أحسن من ده مليون مرة..
عادت للخلف برأسها تنظر إليه نظرة رضا وحب لا مثيل له قائلة بشغف وعشق له وحده:
-أنا مش عايزة أي حاجه غيرك ولو هقعد في متر في متر بردو مش عايزة غيرك
نظر إليها عن قرب ووجه مقارب إليها بشدة تحتضنه وهو يحاوطها بيد واحدة وقلبه يخفق بعنف لتلك الكلمات وهذه النظرة وهذا الحب الذي ينعم به معها..
أبتعدت وهي تضربه في كتفه بخفه قائلة بمرح:
-ايه تنحت ليه يلا لبسني
ابتسم إليها وهي تستدير لتقابلة بظهرها حتى يستطيع أن يضع لها السلسال، أخذه من العلبة وألقاها على الأريكة ثم وضعه على صدرها من الأمام مُمسكًا به بيد والأخرى تبعد حجابها قليلًا ليستطيع وضعه.. استمع إليها تهتف بحزن ونبرة خافتة:
-تصدق إني مالقتش الغوشتين.. أنا مش عارفه راحوا فين قلبت عليهم الشقة والله وبردو مش لقياهم
أغلق السلسال على عنقها وهتف بأريحية وهدوء:
-أكيد شيلتيهم في مكان وناسيه هيظهروا، متزعليش نفسك فداكي
استدارت تنظر إليه فنظر إلى السلسال عليها وقد كان رائع حقًا فعله لها خصيصًا وكان كذلك، ولكنه في هذه اللحظة تذكر ما حدث بالأمس فقال بحزم وجدية:
-وآه على فكرة أنتِ مصلتيش الفجر امبارح أنا سبتك بس علشان حسيت إنك تعبانة بجد لكن ده مش هيحصل تاني
أردفت مُجيبة إياه بجدية وضيق في نفس الوقت من نفسها لأنها لم تستطع أن تنهض وتؤدي فرضها معه لأول مرة:
-جاد أنتَ عارف إني مش بفوته معاك كل يوم بس بجد كنت تعبانه أوي طول الليل صاحين مقدرتش أقوم.. حتى إني قمت النهاردة جسمي مكسر
شعر أنه هو من ضغط عليها فبعد ليلة أمس الطويلة قامت بواجبها نحوه كزوجة ولم يفكر في الإرهاق أو التعب الذي يراودها في هذه الفترة بسبب وجودها مع شقيقتها منذ أيام تساعدها في ترتيبات الزواج:
-ومقولتيش ليه لما رجعنا من الفرح كنت سيبتك تنامي
ابتسمت ببساطة قائلة وهي تنهي الموضوع:
-حبيبي أنا محبتش افصلك وبعدين خلاص عدت وإن شاء الله مش هتتكرر تاني
❈-❈-❈
“بعد أسبوعين”
سار “جاد” في شارعهم ومعه ابن عمه “سمير” عائدون من صلاة العشاء في المسجد، ولكن كلما مروا على أحد نظر إليهم نظرة لم يفهم أحد منهم معناها وكانت هذه النظرات تستهدف “جاد” بالأكثر ربما البعض نظرته إليه شفقة، والآخر غضب، وربما هناك من نظر بضيق إليه، وغيره بحزن، وربما اختلطت كل هذه النظرات مع بعضهم في نظرة واحدة لم يفهم ما هي..
إلى درجة أنه تبادل النظرات مع “سمير” بحيرة وكلا منهم يريد معرفة ما الذي يحدث، هل أول مرة يروهم أم ماذا!..
تسائل “سمير” باستغراب وحيرة وهو ينظر إلى “جاد”:
-هو في ايه! الناس مالها
لوى شفتيه دليل على عدم معرفته وأردف مُجيبًا إياه هو الآخر بحيرة:
-مش عارف
ثم أكمل بمرح ومزاح وهو يرفع يده ليضعها على كتفه بعنف وقوة يقصدها كالمعتاد:
-ولا يمكن علشان العريس ظهر بيشوفوا الجواز عمل فيك ايه
-زفر “سمير” بضيق وانزعاج وهو يزيح يده عنه قائلًا بضجر:
-ياعم ياريت دول بيبصوا عليك أنتَ.. واظنك عديت مرحلة عريس دي
معه كامل الحق إنهم ينظرون إليه هو، شعر “جاد” بالحيرة حقًا وهو يراهم يتبادلون النظرات وهناك أيضًا همسات لا يستمع إليها وكأنه فعل شيء مشين الجميع يتحدث عنه في الخفاء..
سار إلى أن وصل إلى الورشة فدلف ومعه “سمير” الذي تسائل بجدية واستفهام وهو يتوجه لأقرب مقعد:
-هو فيه ايه بره يا شباب.. الحارة كلها بتبص علينا كده زي ما يكون عاملين حاجه
ألتزم الجميع الصمت بعد أن نظروا إلى “جاد” نظرة خاطفة خجلة للغاية واستداروا إلى عملهم مرة أخرى ولم ينطق منهم أحد وأيضًا هم يظهر على وجههم الحزن والذي استغربه “سمير” قبل “جاد”
مرة أخرى تساءل “سمير” وهو يقف على قدميه بعد أن شعر بأن هناك شيء قد حدث حقًا والجميع لا يستطيع التحدث به ومن الواضح أنه حدث كبير مهم:
-في ايه يا طارق! انتوا ساكتين ليه كده
رفع “طارق” عينيه عليه بخجل وأبعد وجهه مرة أخرى عنه فصاح “جاد” بخشونة وقوة هذه المرة فقد تلفت أعصابه من هذه النظرات التي بينهم بينما يقف هو وابن عمه مثل المعتوه:
-ما ترد عليه.. فيه ايه يا عبده مكتومين ليه
ترك “عبده” ما كان بيده وتقدم إليهم ثم وقف أمامهم ووجه بالأرض يختلس النظر إلى “جاد” ثم يعود إلى الأرضية، وهتف بخفوت وحرج:
صمت بعد هذه الجملة فصرخ “جاد” وهو يقترب منه بعصبية وغضب لأنه يلعب على أوتار أعصابه بهذه الطريقة البشعة وتلك النظرات الحارقة:
-ما تنطق أنتَ بتتكلم بالقطارة ولا بتلعب باعصابي فيه ايه
أخرج “عبده” هاتفه من جيبه ثم فتحه وعبث به للحظات ومن ثم قدمه لـ “جاد” الذي أخذه بين يديه يرى ما به.. وفي نفس اللحظة الذي نظر بها “سمير” إلى الهاتف أخفض بصره سريعًا وأبتعد عن “جاد” حتى لا تخونه عينيه بالنظر مرة أخرى وقد فهم الآن ما الذي حدث بالفعل..
-الصور دي نزلت في جروب على الفيس فيه العيال الصايعة بتاعت الحارة واللي نزلها صفحة لسه جديدة مفيهاش أي حاجه
هذا ما تحدث به “عبده” بخجل شديد ووجهه بالأرضية بينما “جاد” كان في وضع لا يُحسد عليه وهو ينظر إلى هذه اللقطات خلال شاشة هاتف ليس له، بل أنها الآن ملك للجميع..
أحمرت عينيه الرمادية بشدة وظهر الغضب داخلها وتوحشت نظرته بينما تشنجت عضلات جسده بالكامل وهو ينظر إلى كل هذه الصور التي أمامه..
لقد كانت لقطات لزوجته!.. وله هو الآخر معها!.. صورة وهي وحدها وخصلاتها ظاهرة بوضوح مع زينة وجهها وعنقها، وغيرها وهو من كان يلتقط ويجلس جوارها على الأريكة بتلك الابتسامة البلهاء، وغيرها وهو عاري الصدر بجانبها على الفراش تقبله من وجنته وخصلاتها معقودة في الخلف ليظهر عنقها ومقدمة صدرها المغرية التي ظهرت بسبب هذا القميص التي ترتديه.. وغيرها من الصور لكليهما..
هو لا يهم ولكن هي!.. لا يظهر منها أي شيء سوى خصلاتها وعنقها وفي هذه الصورة الوحيدة مقدمة صدرها!.. لقد كانوا عبارة عن أكثر من عشر لقطات أخذ بعضًا منهم معها في هاتفها..
رفع “جاد” نظرة عن الهاتف ولم يرى أحد أمامه، فقد كانت الدماء داخل عروقه موضوعه على موقد يشتعل على أعلى درجة..
ضغط على الهاتف بين يده بقوة كادت أن تهشمه وذهب إلى الخارج وهو يعرف وجهته إلى أين تقوده!.. لا يوجد سواها من يملك القدرة على تبرير ما حدث وإن لم تفعل فلا تلوم سوى نفسها.. توحشت نظرته وهو يتخيل كم من رجل غيره رأى مظهرها بهذا الشكل وأخذ ما لا يحلل له وحمل ذنب وجعلها تحمله معه..
ما ذلك الغضب الذي حل عليه، إنه يود أن يلكم أحدهم الآن ويظل يفعل ذلك إلى الصباح وغالبًا ستكون هي.. هي من أظهرت ما يحل لها وله هو وحده، هي من جعلت الجميع ينظر إلى جسدها وخصلاتها وزينتها التي لا تخرج إلا لزوجها.. هل يتمنى ألا يؤذيها بغضبه المفرط وعصبيته التي ستبتلع كل شيء أم يتركها تقع فيما فعلت وتتحمل صعوبة التفاهم معه في هذه الأوقات!..
لن تمر هذه الليلة مرور الكرام على الجميع وأول المتضررين هي! لأول مرة معه ومنذ زواجهم سيترك الغضب المكبوت داخله يخرج وستتحمله مهما كلفها الأمر..
❈-❈-❈
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية ندوب الهوى ) اسم الرواية