رواية كاليندا كاملة بقلم ولاء رفعت عبر مدونة دليل الروايات
رواية كاليندا الفصل الثامن 8
_ أنتم إزاي جالكم قلب و تعملوا كده في بنتي يا محمود؟
صاحت بها زينب بحدة وغضب، فبادلها الآخر بنظرة تحذيرية ثم نظر إلي محمد شقيقه وقال:
_ جري إيه يا محمد جايب لي مراتك تعلي صوتها عليا في بيتي.
أجابت بنفس وتيرة غضبها المستطير:
_ ده أنا هعلي و هافضحكم وهاخد بنتي وهاروح أشتكيكم في القسم.
صاحت شوقية:
_ ما تهدي علي نفسك يا زينب، الحق علينا كنا عايزين نستر بنتك بعد ما حطت راس أبوها وأعمامها في الطين.
كادت تجيب لكن قاطعها محمد وقال:
_ بنتي ماغلطتش يا أم محمد، بنتي مجني عليها و كل اللي بيتقال في حقها ده كذب في كذب وحسبي الله ونعم الوكيل في كل اللي ظلمها سواء بقول أول فعل.
_ وأفترضنا إنه اللي حصلها غصب عنها زي ما بتقول، كان لازم نشوف حل للمصيبة دي وأنا و أخواتك ملقناش حل غير إننا نخلي واحد يكتب عليها ويطلقها بعد كام يوم عشان نسكت أي كلب يتكلم، وتبقي تقدر ترفع راسك قدام أي واحد يجي يطلبها منك وتقوله دي كانت متجوزه مش لا مؤاخذه…
قاطعته زينب بغضب ثائر:
_قطع لسان أي حد يجيب سيرة بنتي بكلمة بطالة، و أنتم تقرروا علي أساس إيه؟، أنا وأبوها لسه عايشين مموتناش، بنتي أخوكم سابها عندكم أمانة وأنتم طلعتوا مش أهل للثقة، ولا طلعتم أهل أصلاً.
صاح محمود:
_ سامع مراتك يا محمد عماله تغلط في أخواتك وأنت واقف وساكت لها.
رمقه الأخر بنظرة خذلان وخيبة وندم قائلاً:
_ أخواتي!، يمكن الكلمة دي كانت قبل اللي تعملوه في بنتي، لكن بعد اللي حصل أنسوا إن ليكم أخ، اعتبروني مُت، ولولا أبوكم الله يرحمه كان زماني قدمت فيكم بلاغ.
_ هو ده اللي ربنا قدرك عليه يا أخويا؟
تفوه بها محمود، فأجاب شقيقه بنبرة جادة و يتخللها البرود:
_ ده لو كنت أخوك، كنت عملت حساب للكلمة دي من زمان، من وقت ما مراتك أذت مراتي، وقت ما كنت أنت عايزني أعيش تحت رحمتك وتمشيلي حياتي علي مزاجك، ودلوقتي بكل جبروت وظلم جنيت علي بنتي وحكمت عليها من غير رحمة ولا شفقة.
صاح به الأخر:
_ مش بنتك لوحدك، اللي يمسها يمسنا، يمس العيلة كلها.
_ وهي فين العيلة دي يا حاج محمود!
ألتفت الجميع إلي صاحب الجملة الأخيرة الساخرة، فقالت شوقية بذهول:
_ كريم؟
ولج من باب المنزل شاب في بداية الثلاثينات من عمره يشبه أخوته في الملامح لكن أكثر وسامةً وشباباً، وقف في مواجهتهم جميعاً وقال:
_ إيه؟، مش متوقعين إن ممكن أجي عشان أشوف المصيبة اللي دبروها ونفذوها أخواتي بقيادة الحاج محمود.
حدق محمود بتجهم نحوه و سأله:
_ مين اللي قالك؟
أجاب الأخر:
_ أومال مكنتش عايزني أعرف، عشان عارف إن أنا هعارضك وهارفض اللي عملتوا في بنت أخونا اللي كلنا عارفين تربيتها وأخلاقها، و عقلك وتفكيرك العقيم بدل ما يخليك تفكر تعاقب الجاني وتاخد لها حقها من اللي عمل فيها كده، رايح تظلمها أكتر وتجني عليها كأنها مُذنبة.
_ والله وجه اليوم يا كريم اللي تعلي فيه صوتك و واقف بكل بجاحة راس براس في وش أخوك الكبير اللي وقف جمبك و كان بيعملك إنك ابنه مش أخوه وبس.
رد كريم بحسم:
_أنا اللي عملت نفسي، أنا اللي شقيت وسفيت التراب لحد ما خلصت بُنا شقتي و أتغربت في محافظة تانية عشان أقدر أتجوز وأفتح بيت من غير ما أستني إحسانك وعطفك عليا، بس ده مش موضوعنا دلوقت، أنا كل اللي يهمني من الليلة دي كلها بنت أخويا اللي يعلم ربنا معزتها في قلبي وكأنها بنتي اللي مخلفتهاش، أنا راجع وحالف إن مش هاسيب حقها.
سأله محمود بسخرية:
_ إيه ناوي تنتقم مني؟
أجاب بتهكم:
_ أنت و يحيي و حجازي بالنسبة لي أخوات بالاسم ليس إلا، لكن بالنسبة للانتقام مابقاش راجل لو ماخدتش حق شمس من الـ… اللي عمل فيها كده هو وعيلته.
قالت زينب والبكاء والشجن يتخللا نبرتها:
_ و دول حد يقدر عليهم يا كريم؟
أقترب منها ووقف أمامها وبكل ثقة قائلاً:
_ أنا أقدر، وكله بالقانون يا مرات أخويا.
※※※
في سيارة كريم، تجلس زينب برفقة ابنتها في المقاعد الخلفية و محمد يجلس بجوار شقيقه الذي يقود وينظر كل حين والآخر عبر المرآه علي وجه ابنته الشاحب ونظرتها المتبلدة، لا حياة في عينيها وكأنها جسد خاوي.
أراد أن يقطع هذا الصمت القاتل فقال:
_ أنا علي فكرة قبل ما أجي عرضت الموضوع علي محامي صاحبي، قالي ما تقلقش إحنا لو قدمنا بلاغ و رفعنا القضية فبالتأكيد هيطلبوا تقرير الطب الشرعي وبيه نثبت واقعة الاعتداء.
ربت محمد عليه بشكر وعرفان قائلاً:
_ تسلملي يا أخويا، بس أنا سابقتك قبل ما أعرف اللي حصل وكلت محامي معرفة تبع واحد صاحبي في الشغل، حتي لما قابلته وشرحت له ظروفي وهياخد أتعابه بعد ما نكسب القضية.
_ وأنا مش عايزك تقلق من ناحية الفلوس، اللي أنت هتطلبه تحت أمرك فيه، شمس بنتي زي ما هي بنتك، وحقك عليا علي اللي عملوه أخواتك، أقسم لك لو كنت موجود مكنش حد فيهم أتجرأ يقربلها.
تدخلت زينب قائلة:
_ عارفين والله يا كريم، يعلم ربنا معزتك وغلاوتك في قلوبنا مش مجرد عم بنتي بالعكس أنت غلاوتك من غلاوتها، كفاية وقوفك جمب محمد لما تعبت وفضلت تلف معاه في المستشفيات بيا وترجع تقعد مع شمس وتراعيها.
ابتسم بامتنان وقال:
_ ماتقوليش كده يا أم شمس، إحنا أهل ولو أنا ماوقفتش مع أخويا في وقت الشدة مين اللي هيوقف معاه، الغريب مثلاً.
رفعت جانب فمها بتهكم وقالت:
_ والله ما جت من إخواتك حتي السؤال كانوا مستخسرينوا.
أستدار محمد برأسه إليها موبخاً إياها:
_ ما خلاص بقي يا أم شمس، وفضيها سيرة، ربنا يسهلهم ويبعد عننا آذاهم.
رد كريم:
_ أحسن دعاء ليهم ربنا يديلهم علي قد نيتهم وحسبي الله ونعم الوكيل.
نظرت زينب نحوه وكأنها تذكرت أمراً ما وقالت:
_ ألا قولي، أنت عرفت إزاي اللي حصل، إحنا لولا البت رحاب اللي خسارة في أهلها أتصلت علي أخوك مكناش نعرف أي حاجة.
تنهد الأخر وأجاب:
_ رشا أتصلت بيا وحكتلي علي كل حاجة، بس اللي فهمته إنها عند أهلها، حجازي كالعادة عشان يراضي محمود أتخانق معاها ومد أيده عليها كل ده عشان اعترضت علي اللي بيعملوه.
زفر شقيقه بضيق وقال:
_ لا حول ولاقوه إلا بالله، طول عمرها حقانية ما بتحبش الظلم ولا الحال المايل، وبرغم كده استحملت حجازي سنين كفاية بعد ما عرفت إن تأخير الحمل من عنده كملت وصبرت معاه، وياريت بيقدر ده بالعكس بيجي عليها، و ممكن يبيعها في ثانية لو محمود قاله يعمل كده.
ألقت الأخرى نظرة علي ابنتها قبل أن تتحدث فوجدتها مغمضمة العينين، يبدو إنها تغط في نومٍ عميق.
و بعد ساعة وصلوا أمام المنزل، فقامت بإيقاظ ابنتها تربت عليها:
_ أصحي يا حبيبتي، خلاص وصلنا.
لا رد منها، وضعت يدها تتحسس وجنتها لتجد حرارتها منخفضة، صاحت بخوف:
_ شمس؟، يا شمس؟، ألحقني يا محمد بنتك ما بتصحاش، وجسمها متلج.
وبعد أن ترجل كريم من السيارة دلف إليها مرة أخري وصاح مسرعاً:
_ مستنين إيه، يلا ناخدها علي أقرب مستشفى.
وأنطلق بالسيارة علي أقصي سرعة، بينما والدتها تحاول أيقظها والأخرى كأنها كالموتى لم تستيقظ بعد.
※※※
و في المشفى التابع لمركز المحافظة، خرج الطبيب من غرفة الفحص بعدما قام بمنع دخول أي منهم حتي يتثنى له الفحص بدون إزعاج وكان معه ممرضة.
أسرع ثلاثتهم نحوه فسأله كريم بلهفة و قلق:
_ شمس مالها يا دكتور؟
أجاب الطبيب بجدية:
_ أطمنوا، هي بخير الحمدلله، الإغماء اللي عندها طبيعي جداً، وعملنلها فحص كامل زي ما حضرتك طلبت وهاكتب لكم تقرير بكده.
قالت زينب بحزن وآسي علي ابنتها:
_ طبعاً لازم يا عين أمها يغمي عليها من اللي حصلها والظلم اللي شفته، ومكنتش بتاكل، منهم لله.
أجاب الطبيب:
_ هي فعلاً شكلها مكنتش بتاكل و ده واضح عليها وممكن كمان عندها إنيميا، أنا علقتلها محاليل، لكن السبب الرئيسي للإغماء إنها حامل.
شهقت وهي تضرب بكفها علي صدرها، بينما كريم أبتلع غصته بصعوبة وهو يتلقي الكلمة غير مصدق، لكن محمد كان أسوأهم حالاً، أخذ يردد الكلمة علي طرف لسانه و بدأ يشعر بدوار ووخز في أطرافه اليمني يليه بخدر، يتراجع إلي الخلف حتي أرتمي علي المقاعد فاقداً وعيه، ألتفت جميعهم إليه، صرخت زوجته مسرعة نحوه:
_ محمد!
※※※
ولج حمزة إلي المنزل يجر حقيبة سفر صغيرة خلفه، فوجد والدته وشقيقته يجلسان أمام التلفاز، فقالت والدته بعدما تفاجأت:
_ أنت إيه اللي جابك؟
لم يجب عليها وأكمل سيره إلي غرفته، ذهبت خلفه والغضب ينبعث من عينيها، قامت باستدارته عنوة عنه لينظر لها مباشرة وصاحت به:
_ في إيه يالاه، أنت خلاص مابقاش يهمك حد، لما أكلمك ترد عليا.
نفض يديها بغلظة من علي عضديه وصاح بها:
_ ملكيش دعوة بيا، وأحسن لك تتجنبيني خالص، ولا أقولك اعتبرني هوا.
أنتفضت وتراجعت إلي الخلف لكن لم تظهر له خوفها من ما أدركته من مغزي كلماته وتهديده الصريح لها فقالت:
_ مش أبوك محذرك إنك تيجي هنا، لحد ما هايشوف عملتك الهباب دي هترسي علي إيه.
حمل الحقيبة وألقاها أعلي التخت بعنف وقام بفتح السحاب قائلاً:
_ والله مش المفروض أنا اللي أسيب بيتي، هم اللي يسيبوا بيتهم، ده لو أبوها راجل عنده كرامة و ذرة رجولة كان خد بنته و مراته وعزلوا من البلد.
رمقته بإزدراء وقالت:
_ يا بجاحتك يا أخي!، أنا لو مكان أمها وجه حتة عيل صايع شمام زيك وعمل في بنتي كده، ما كان يهمني حد وكلته بسناني حتت.
فتح الخزانة خاصته وقام بإلقاء ثيابه بداخلها،
نظر إليها من أعلي إلي أسفل بازدراء وقال:
_ وكنتي فين لما سبتيني لعمي يعذب فيا بعد ما…
أسكتته بكتم فمه بكفها و قالت بصوت منخفض:
_ أخرس يا حيوان، أقسم بالله لولا إنك ابني كان زماني…
صمتت وهي تزجره بعينيها نظرة مرعبة، لكن لم تأثر به، بل دفع يدها وقال:
_ كنتي زمانك قتلتيني زي ما قتلتي جدي؟!
عم الصمت بينهما وكل منهما يرمق الآخر بنظرة عدائية قاطعها دخول حماد الذي جاء للتو من الخارج:
_ بتعمل إيه عندك ياض؟، مش قولتلك تغور علي إسكندرية و ماشوفش وشك غير لما الدنيا تهدي.
أجاب الآخر بسفاقة وعدم حياء:
_ والله أنا أقعد في أي حتة تعجبني، واللي مش عاجبه الحيطان كتير يروح ينقي الحيطه اللي تعجبه ويخبط راسه فيها.
زجره والده بغضب عارم، دفعه في صدره ثم أمسك تلابيبه بعنف:
_ مين ده يا ابن الـ… اللي يخبط راسه في الحيطة.
أمسكت هدي بيده وقالت:
_ بالتأكيد مش قصدك أنت يا حاج، هو يقصد محمد نصار و بنته.
نفض يده وهو يرمقه بتقزز وقال:
_ ماشي يا حمزة، لما هاشوف أخرتها معاك، بس لو الموضوع وصل لبوليس ومحاكم مش هارحمك، أي نعم هعمل كل حاجه عشان ماتتسجنش بس اللي هعملوا فيك ما يجيش واحد من مليون اللي كنت هاتشوفه في السجن، هخليك تتمني تسلم نفسك للقسم عشان يرحموك مني، كتك داهية فيك وفي أمك اللي بدل ما تربيلي راجل، ربتلي ست.
تركهما وغادر الغرفة، فتنفست هدي الصعداء وقالت وهي تلكزه في ذراعه:
_ عجبك كده، ماينوبنيش من وراك غير التهزيق، أبقي إستحمل وش أبوك التاني، وأجارك الله من قلبته.
قالتها ثم بصقت نحوه وذهبت تاركة الآخر في نيران غضبه، نهض وصفق الباب خلفها وأخذ يلقي بكل شيء أمامه.
※※※
و بالعودة إلي المشفى مرة أخري، يقف كل من كريم و زوجة أخيه أمام غرفة العناية المركزة.
فقالت زينب وهي تبكي:
_ كان مستخبي لنا فين ده يارب.
أوقفها الأخر ونهرها قائلاً:
_ أستغفري الله يا أم شمس، كل ده قضاء و قدر وفي نفس الوقت اختبار من ربنا وعليكم بالصبر وبإذن الرحمن هيقوم بالسلامة وهانتطمن عليها و هانجيب حقها كمان.
جلست علي المقعد الحديدي بقلة حيلة وبقوي منهكة:
_ أنا كل اللي يهمني دلوقت إنهم يقوموا بالسلامة، مش عايزة حاجة تاني.
خرجت الممرضة من العناية وقالت لهما:
_ لو سمحت يافندم أنت والمدام ممنوع التواجد قدام غرف العناية، أتفضلوا أنزلوا تحت في الاستقبال.
أخبرها الأخر:
_ إحنا عايزين نطمن علي أخويا الأول.
أجابت الأخرى:
_ لو قصدك الأستاذ محمد الدكتور معاه جوه، واللي عنده ده بسبب ضغطه أرتفع فجأة وكانت هتحصل جلطة بس الحمدلله لحقناه، والدكتور بعد ما يخلص مرور علي المرضي هيقابلكم، يعني في كل الحالات وجودكم هنا مش هايفيدوا أتفضلوا أستنوا تحت وأحنا هانبعت حد يبلغكم أول ما الدكتور يخلص.
أخذت زينب تردد وهي تحاول أن تستوعب ما قيل للتو:
_ يارب أنت الشافي، يارب قومه لي بالسلامه أحنا ملناش غيره.
أقترب منها كريم وربت عليها:
_ يلا يا أم شمس تعالي ننزل نستني قدام الأوضة اللي فيها شمس، خليكي معاها وأنا هابقي أطلع لما الدكتور يخلص.
※※※
و بعد مرور يومان…. استردت شمس عافيتها و أصبحت صحتها أفضل، بينما محمد أمر الطبيب بإبقائه في العناية تحت الملاحظة، ولأن من قوانين المشفى عدم المبيت لأكثر من مرافق، فأنتظر شقيقه بعدما أوصل زوجة أخيه و ابنتها إلي المنزل.
وفي اليوم الغير مناسب لما يحدث، كانت شمس تمكث في غرفتها وبعد أن علمت بخبر حملها لا تعلم ما تلك الحالة الغريبة التي أصابتها، تحاول إقناع نفسها إنها بداخل كابوس ولم تستيقظ منه بعد.
انتبهت إلي بعض الضجة في الخارج، ذهبت إلي النافذة، لتفاجئ بهذا المنظر، العديد من فروع المصابيح الملونة في كل مكان تتوسطها عدة ثريات متدلية من أوتاد خشبية وسرادق مزركشة، فُتات الخشب الملون يفترش أرض الشارع من أوله إلي آخره، والطاولات متراصة وحول كل منها كراسي موضوعة بشكل منظم، وإذا بعينيها تقع علي منصة مرتفعة مُزينة بأقمشة من الحرير والتول والورود يعلوها أريكة مخملية علي جانبيها إضاءة خافتة تكمل هذا الديكور المعروف في حفلات الأعراس، بدأت الموسيقي والزغاريد تعلو فتسمرت في مكانها،
وقبل أن تتحرك قدميها إلي الداخل ظهرت لهما سحر تلك الحرباء و تعمدت أن تقول:
_ أزيك يا شمس، أبوكي عامل إيه دلوقت؟
رمقتها بتجهم وأجابت باقتضاب:
_ كويس الحمدلله.
فقالت بدهاء وخبث ونظرات تشفي في عينيها:
_ معلش بقي كنت أنا وعمك كامل هنيجي نزوره في المستشفي، بس أديكي شايفة عقبال ليلتك كده، أحمد ابني النهاردة فرحه علي مروة بنت عمته.
تصنعت شمس عدم اللامبالاة لكن بداخلها يعتصر ألماً وقهرا، ابتلعت غصة علقت في حلقها واكتفت برد مقتضب:
_ مبروك.
※※※
توالت الأيام وبعد أن أسترد محمد صحته وعافيته قرر أن يثأر لابنته عن طريق أخذ حقها بالقانون برفع دعوي قضائية ضد حمزة السفوري، وبالرغم نصيحة شقيقه كريم له إنه تحري عن المحامي المدعو رأفت متولي وجد إنه محامي لن يأخذ العدل مبدأه بل يبيع ضميره من أجل حفنة من المال، تعلل شقيقه بقلة حيلة هذا الوحيد الذي تقبل قضيته من المحيطين حيث كلما ذهب إلي محامي وسمع اسم حماد السفوري فيعتذر علي الفور ويتحجج بانشغاله في قضايا أخري، و هذا الرأفت تقبلها عن صدر رحب خاصة يربطهم معرفة وصلة قرابة بعيدة.
وقبل أن يذهب إليه أخذ ابنته وتوجها إلي قسم الشرطة وقدم بلاغاً رسمياً سردت فيه شمس للضابط كل ما حدث معها بالتفاصيل، و الذي جعل والدها يتخذ تلك الخطوة قبل أن يذهب إلي المحامي فهذا علي سبيل الاحتياط و ربما ولج الشك بداخل قلبه بعد كلام شقيقه.
و بداخل غرفة مكتب قديم و أثاثه الخشبي المهترئ و نافذة خشبية تآكل مقبضها الحديدي من الصدأ، يجلس خلف المكتب هذا المُدعو رأفت متولي كما مدون علي القطعة الرخامية المتآكلة، يمسك بين يديه ملف ورقي يتطلع علي أوراقه باهتمام زائف، قائلاً:
_ يا أستاذ محمد صورة البلاغ اللي قدمته في المُدعي عليه بتهمة الاعتداء علي الآنسة شمس بنت حضرتك ملهوش أي لازمة من غير أي دليل يثبت أن حمزة حماد السفوري أعتدي علي بنتك.
رمقه الأخر بامتعاض ثم سأله:
_ تقصد إيه يا متر، يعني هافضح بنتي ونروح نتبلى علي الناس من غير دليل!
ابتسم بسماجة وهو يجفف قطرات عرقه بمحرمته المنسوجة من القطن ،فقال :
_ لاء طبعاً ما أقصدش كده لاسمح الله، يعني اللي فهمته من كلام بنتك في المحضر إنها معاها دليل قوي يُدين إبن حماد السفوري.
نظرت شمس بتردد إلي والدها الجالس مقابلها، فأومأ لها بنظرة طمأنينة قائلاً:
_ معانا الدليل اللي يوديه هو وعيلته في ستين داهية.
و مع آخر حرف تفوه به محمد بكل طيبة و عفوية قابلها هذا الذئب الدنيء بابتسامة انتصار و زفر بأريحية، فميزان العدل الذي يُزين الجدار خلفه لا يمت لأعماله بصلة، ضميره في سُبات عميق لن يستيقظ منه بل هو قد باعه بثمن بخس لكل ظالم مُتجبر يعث في الأرض فساداً ويأتي له لكي يدافع عنه ويخرجه من أي كارثة أقترفها حيث يقوم باستغلال كل ثغرات القانون بكل الطرق الملتوية.
أخرجت من حقيبتها هاتف من الطراز الحديث و يديها مُرتجفة من التوتر، كاد يسقط منها لكن أنقذ والدها الموقف و أمسك به ووضعه أمامه فوق المكتب قائلاً:
_ أتفضل ساعدتك ده الموبايل بتاع المجرم اللي ربنا ياخده كان معاه في وقت اللي حصل.
أمسك به الآخر وأخذ يحدق به يقول:
_ هو ده اللي صور عليه اللي عمله فيكي؟
انتابتها حالة من القشعريرة من سؤاله الذي يدل علي حماقته، بدأت عبراتها بالتجمع في مقلتيها، فأجابت بصوت محشرج :
_ أيوه هو، لما فوقت من الإغماء اللي كنت فيه قعدت أدور علي موبايلي ملقتهوش، لاقيت موبايله واقع جمبى.
أنحني بجذعه جانباً ليلتقط حقيبته الجلدية، ووضع الهاتف بداخلها، ثم نظر إليهما وبدأ بالنفاق يتحدث:
_ أطمن يا أستاذ محمد إن شاء الله حق بنتك هايرجع وابن حماد السفوري مش هيطلع عليه نهار غير وهو مشرف علي البورش مع المجرمين اللي زيه، و ده بعد ما أقدم للنيابة الدليل ده و معاه التقرير الطبي اللي يثبت حالة الاعتداء.
و بعد مغادرتهما المكتب، كشر هذا الضبع عن أنيابه الكريهة، أمسك بهاتفه وقام بالاتصال علي رقم طالما يتمني أن يصل إلي صاحبه بشتي الطرق حتي يحظى علي سخائه الذي يفضي به علي كل من يقدمون إليه الخدمات الهامة ولا أهم من تلك الفرصة الذهبية ولابد من استغلالها.
_ أيوه، مين معايا؟
تحمحم وبزهو وفخر أجاب:
_ أنا رأفت متولي المحامي اللي ماسك قضية شمس محمد نصار رفعها أبوها ضد ابنك.
_ والمطلوب مني إيه إن شاء الله، بص يالاه أنا مابتهددش و روح قول للي إسمه محمد أعلي ما في خيلك أركبه وشوف حد تاني غير ابني يلبسه عملة بنته الفاجرة.
_ إهدي كده يا باشا وروق أعصابك، يعني أنا لو ضدك إيه اللي هيخليني أتصل بيك عشان أحدد معاك ميعاد نتقابل ده غير معايا حاجات تهمك أوي ممكن بسببها يروح المحروس ابنك في ستين مليون داهية ومهما عملت، القضية لبساه.
_ وإيه طلباتك بقي يا حضرة الأڤوكاتو؟
تهللت أساريره وقال:
_ كده بقي جبت من الآخر والمفيد، طلباتي دي مش عايزة مكالمة في تليفون، أنا أجي لك لحد عندك أشرب فنجان القهوة وتسلمني وأسلمك.
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية كاليندا ) اسم الرواية