رواية غوي بعصيانه قلبي كاملة بقلم نهال مصطفي عبر مدونة دليل الروايات
رواية غوي بعصيانه قلبي الفصل الثاني عشر 12
“ رسائل لن تصل لـ صاحبها ”
-كُنت ساذجة فـ حُبك لدرجة مُثيرة للضحك ، كنت أتتبع سخافات الأبراج يومًا بيومٍ ، و أُكثر من شُرب القهوة لأرى ما يريد أن يخبرني به فنجاني عنك ، و ابتاع الجرائد يوميًا كي أطلع على صفحة حظك اليوم ، و أغري قارئة الكف بالعديد من النقود ربما تأتي بِـ قميص بشراك لـ عين أبيضت من شدة الانتظار ..
أعترف أنني كُنت لقمة شهية لبائعي الأحلام والأمنيات !
لكن همي الوحيد كان وقتها كي أعلم ..
هل أنتَ لقلبي .. أم للنسيان ؟!
نهال مصطفى
••••••••••
الرسم يحتاج ورقةً وقلم رصاصٍ وسبعة ألوانٍ أما الكتابة فتحتاج جرحاً و ورقةً وقلم رصاص، هذا ما قاله محمود درويش عندما سأله المذيع في أحّد اللقاءات عن سبب تركهِ لهواية الرسم وتوجّهه للكتابة .
إذًا ….
”ﻻ ﻳﻌﻮﺩ ﺍﻟﻤﺮﺀ ﻟﻠﻜﺘﺎﺑﺔ ﻭﻫﻮ ﺑﺨﻴﺮ، ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻜﺘﺐ ﻳﻌﺎﻟﺞ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻦ شيءٍ ما ”
تلك الكلمات كانت تحويها أحد دفاتر ” رسيل ” الخاصة ، كان سطر واحد في منتصف الصفحة بخطها ” الريحاني ” المُميز الذي أبدعت في تعلمه ..
أخذ “فـريد” يفتش في ممتلكاتها الخاصـة ، و يطلع على أسرارها التي لم تتحرر منها إلا للصفح البيضاء التي تُزينها بخبايا قلبها .
كانت الجُملة التي قرأها “فريد” فضل كبير في إثارة فضوله ليكشف أسرار تلك الحُورية التي لم ترافق في حياتها أحدًا سوى دفاترها ، قلب الورقة وشرع في قراءة رسائلها للشخص المجهول ولـ بطل كل رواياتها كما كانت توهم الجميع حول هوية ” قاسم ” وكانت رسالتها الأولى له :
-لِمَ تُعاتبني الآن ! كوني صامتة دائمة هل يعني ذلك رضائي بكل ما تفعلهُ ! لقد كُنت صامتة يا سيدي ولكني لم أكن عمياء !
تحير ” فريد ” حول هوية ذلك البطل الوهمي الذي خُلق على الورق ولكنه لا يعلم لماذا تسربت أبخرة الغيرة إلى قلبه ، كاد أن يقلب الصفحة الأخرى ولكنه توقف إثر دخول يونس المفاجئ ، صاحب العشرين عامًا من الوحدة ، اقترب نحوه وسأله بنبرة حادة :
-مالك بحاجات رسيل يا فريد !
قفل فريد الدفتر ثم تحركت جفونه الحزينة وقال متأثرًا :
-وحشتني يا أخي ! بدور عليها وسط الكتب والحروب وكل حاجة بتحبها ! أنا لحد دلوقتِ مش متقبل فكرة أنها راحت يا يونس !
اغرورقت عيون يونس بعجز ثم هتف باكيًا :
-كل اللي كانوا على المركب خرجوا إلا هي ، ملهاش وجود فـ البحر ، مفيش ليها أثر في أي قسم شرطة ولا مستشفى ، أنا هتجنن هتجنن يا فريد ، أنا مش باقي لي غيرها ، لا عارف أنام مطمن لاني لسه ماشفتش جثتها ، ولا أخاف لاقضي عمري كله أدور عليها !
حضنه فريد بقوة كأنه يود مواساة نفسه أولًا بأي شيء يحمل رائحتها ثم قال متأملًا :
-قلبي بـ يقول لي أنها عايشة وبتتنفس زينا ! أنا قلبي حاسس أنها موجودة لسه .
••••••••••••
تدلت أنظاره لأسفل إثر صوت سعالها القوي وتقيؤها صبار الوجع تحت خيمته ، ثم رُفعت عيناه الباترة لـ تراقب المشهد المُريب حوله ، اختبأت ” هدير” وراء أمها بعيون قفز بها شبح الخوف ، ولم يختلف الحال بالنسبة لـ ” عبلة ” التي تسمرت في مكانها ولم يتجول بها إلا عيونها الحاقدة .
عادت أنظاره مرة أخرى لتلك الضعيفة التي لا حول لها ولا قوة ، ثم تلاقت عيناه الفظ بملامحها المهزومة التي تُقر بها أن جميع أغصاني المُتمردة كسرتهـا الرياح !
شيء ما بداخله ذكره بـ تفاصيل مدفونة بقلبه ، تلك النظرة أحيت به ألف شخص مـيٰت تعمد تكفينه كي يُحيي شخصًا آخر به يقف صلدًا بوجه جميع الزعابيب القادمة ، تذكر رجفة يد “مها” وهي تتخذ أنفاسها بصعوبة ، وصوت العجز يرفرف بنبرتها وتتراجاه :
-خايفة يا عاصي ، خايفة ادخل العمليات مخرجش تاني ! خايفة اسيبك لوحدك تخدعك الدنيا وتوه في عتمة أيامها .. أنا مش خايفة من الموت ، أنا خايفة اسيبك لوحدك
ثم صمتت طويلًا كي تستجمع كلماتها المُتقطعة :
-أوعدني ، أوعدني أنك مش هتتتغير ، أنك مش هترجع عاصي القديم اللي عرف النور علي أيديا !
ثم أختتمت جُملتها راجية :
-سامحني ، سامحني لاني كذبت عليك .. بس كنت عايزة اسعدك حتى ولو كان التمن حياتي .
هنا فاق ” عاصي” من دوامات ذكرياته ، وبنفس الرجه التي أصابت قلبه من قبل ، تتكرر الآن ، مال بـ عجلةٍ وحملها بين يديه ، أحس أنه بين عيون أمراة لا يجب خسارتها أبدًا ، شعور الاستحواذ سيطر على فؤاده وهو يضعها برفقِ داخل سيارته ، وأشار برأسه لـ ” شمس ” الواقفة مشدوهة من هول الموقف ، فـ تفهمت ما يقصده ، ركضت سريعًا إليها أخذت تتحسس نبضها وتقوم بالإجراءات اللازمة .
وعلى المقابل ؛ أهتم عاصي بأمر الرجال الذين تطاولت أيديهم على شيء يخصه ،صاح بصوتٍ كالرعد وهو ينهرهم :
-مين اللي عمل فيها كده ؟!
انخفضت أعين الرجال بحرجٍ و أجاب أحدهم :
-أحنا نفذنا أوامر عبلة هانم !
في تلك اللحظة اخرج سلاحه من وراء ظهره و ختم ” عاصي” جملة الحراس برصاصة طائشة في ساقه ونهره :
-و دي عشان تعرف أن الأوامر بتتاخد مني أنا وبس !
هنا صرخت ” شمس ” من الخلف :
-لازم تروح المستشفى فورًا .
ادخل السلاح مكانه ثم أمر بعض رجاله بـ شرٍ حارق وصلت شظاياه لقلوب الجميع ، كل منهما منتظرًا مصيره الوخيم ، جهر آمرًا :
-تاخدوا الاتنين دول للاسطبل لحد ما ارجع لهم !
ثم اتسعت عيناه نحو أمه وخالته وابنتها وارتفعت نبرة صوته صارخًا :
-ومش عايز مخلوق يدخل أو يخرج من القصر حتى لو كانت عبلة هانم ! فاهمين !
بمجرد ما انتهت من إلقاء لائحة أوامره عاد إلى سيارته وقادها بأقصى سرعة ممكنة وهو يطالع تلك الحورية التي تتلطخ في دِمـاء الظُلم ، وترجع أنفاسها بمعاناة شديدة ، زاد من سُرعة سيارته وهو يخبرها :
-استحملي عشر دقايق ونوصل .
هنا لم تتحمل المزيد من القسوة ، وشراسة أنياب الألم الذي تمكن من جسدها وأخذ ينهش به كحيوان مفترس بدون رحمة ، أغمضت جفونها باستسلام حتى فقدت وعيها تمامًا ، إغمائها ثار بركانًا أخر برأسها عندما تكرر الموقف أمامه ورؤية تلك العيون تُقفل أمامه وهو عاجزٌ عن إنقاذها ، ضرب مقود السيارة بقوة متوعدًا :
-والله لاوريكم !
•••••••••••••
اجتمع ثلاثي الشر بالغرفة وكل منهما يكاد أن يجن من فرط القلق ، يقال بأن السحر انقلب على الساحر ، وهذا هو انتقام الدنيا الهادئ والحكيم ، رد الصفعة بالصفعة ولو بعد حين !
أمسكت هدير برأسها وأخذت تتحسس درجة حرارتها التي تتصبب عرقًا وتعول بحسرةٍ :
-يانهار مش فايت ! عاصي ممكن يودينا ورا الشمس !
التفتت جيهان نحو أختها وسألتها :
-هنعمل أيه يا عبلة ! هنفضل متكتفين كدا ! مستنين قدرنا من ابنك !
ثم تفوهت هدير مقترحة :
-أحنا نقول أنها مدت أيدها عليكِ ، ودا مبرر لتصرفنا ، وآكيد عاصي مش هينصف واحدة زي دي علي أمه !
أشعلت عبلة سيجارتها ثم قالت ببرود لا يتناسب مع الموقف :
-أنتوا قلقانين ليه ؟! عاصي لازم يعرف أنه بيلعب مع مين ! أنا مش عيلة صغيرة عشان يخدعها ويرجع في كلامه ! هو اللي وصل الأمور لكدا مش أحنا !
اتسعت أعينهم بذهول من جمود عبلة وعدم خوفها من عواقب فعلها ، أردفت جيهان بريبة :
-يعني أيه يا عبلة ! قصدك عاصي هيعديها كدا ! تبقي متعرفيش ابنك !
أخذت نفسًا طويلًا من لفافة التبغ وقالت بعدم اهتمام :
-أنتوا اللي مديين الموضوع أكبر من حجمه ! روحوا عيشوا يومكم ومتقلقوش ، عاصي مش هيقدر يعمل حاجة ، جمدوا قلبكم شوية ، لسه أحنا مش عملنا حاجة !
جيهان بنبرة مريةٍ :
-عبلة أنت ناوية علي أيه !
شردت في دُخان انتقامها وقالت :
-اطمنوا ، عاصي مش هيقدر يعمل حاجة ، وبعدين أيه يعني بنت قليلة الادب واتربت !
••••••••••••
-شمس ! أنتِ كويسة ، هتفضلي ساكتة كدا ؟!
أردف تمـيم سؤاله مُتحيرًا من أمر شمس الشاردة ، المرتجفة ، التي تصرخ ملامحها بحزن تسعين عامٍ ، لا زالت تحت سطو صدمتها ،تتخيل حالة الفتاة التي أضناها العذاب ، أخذت تتساءل في نفسها : بأي ذنب قُتلت !
حاول تميم أن يُترجم حركة شفتيها ولكن دون جدوى ، رفع نبرة صوته ملوحًا بيده مُناديًا باسمها حتى تفوهت بصوتٍ عالٍ ولكنها ليست مدركة عما يحدث حولها :
-هي عملت أيه عشان يحصلها كده !
أدرك “تميم” الحرب الدائرة بعقلها ثم هز رأسه مُتفهمًا :
-يبقى لسه بتفكري في حياة !
انتبهت على جموده وقالت معاتبة :
-هو اللي حصل يتنسي ! أنتَ متخيل أنهم كانوا هيقــٰتلوها ! أنا كل يوم خوفي بيزيد من المكان دا ! أنا مش هقدر أكمل هنا !
أومأ رأسه مُتقبلًا حديثها ثم قال :
-مش عايزك تتغري بالقصر والبدل ، الناس دي كلها إيدها مغسولة بالدٰم ، القـتٰل عندهم أسهل حاجة .. متستغربيش يا شمس ، بس هي دي الحياة !
انفجرت بوجهه معارضة :
-أنت بتتكلم عن أي حياة ! دي مش حياة دي تبقى غابة يا تميم ؟!
ثم انفعلت بدون وعيٍ :
-لو أنت عجزك مسكتك ، أنا مش هسكت يا تميم !
ختمت جُملتها بوخزة ندم فـ تراجعت معتذرة :
-أسفة ، أنا …
تقبل جُملتها بسلام نفسي تام وتفهم انفعالها ممسكًا بيدها :
-أنت مغلطتيش عشان تعتذري يا شمس !
خمدت ثورة انتقامها وثارت ثورة ارتباكها ، تناست قضيتها وشردت في مصيبتها ، تدلت عيونها على كفه الذي ضم روحها ، أحست برعشة مُباغتة رجت قلبها ، ترجمت توترها على أن فعلها يتنافى مع مبادئها ، شدت كفها المرتعشة ، وكست ملامحها حُمرة الخجل ، ثم فزعت هاربة من أمامه :
-بعد اذنك ..
تميم متحيرًا :
-رايحة فين ؟!
تصاعدت أنفاسها المترترة ثم قالت محتجة :
-هطمن على البنات ، بعد اذنك .
هربت من غرفته ركضت بقلب يلهج من بغتة تصرفه ،وقفت على أعتاب غرفته أخذت تتأمل خيوط يدها التي لامسها بنية صافية منه وكـ فعل تلقائي ليطمئنها ولكن ليست دائمًا تسري الأمور مثلما نريد ، خمد بجوفها نيران القلق ، وقذف شرارة لا تميزها ، ولم تعلم مصدرها ، امرأة لا تدرك ما هو الحب وكيف يبدو لسعة دقته الأولى ، ولا طعمه و كيفية الشعور به ، شعور لم ينضم إلى عُرفها ! ترجمته بأنه مجرد درب من الإعياء إثر انفعالها الزائد .
••••••••••••
( مساءً )
الإِنسان يمَّل حتى يصبح غير مكترث وغير أسف ، أن تتحول أنفاسه للعيش إلى تنهيدات تتمزق لها الروح ، أن تتبدل حياته المُنتفخة بالشغف إلى آخرى مثقوبة يتسرب منها الحظ والرفاق .
تتلوى على الأريكة بسكاكين من الوجع تمزق داخلها ، متمسكة بجانبها الأيمن وهى تتضور وجعًا لساعاتٍ طويلة لم يحس بها أحد ، تمضي الساعات لم يمض معها المغص القاتل ..
جاء مُراد بعد يوم شاق قضاه في عمله ، كان بدايته بأحد المواقع السكنية وبقية النهار بشركته يعد تصاميم القُرى الجديدة ، حاول فتح الباب ولكن بدون جدوى ، انفعل داخله بسبةٍ مُبهمة :
-دي قافلة الباب ! أه يابنت الـ***
أخذ يطرق بعنفٰوان على الباب مهددًا :
-لو مفتحتيش هكسره !
أتاها صوته كهواجس مُرعبة لم تدركها جيدًا من شدة سطو الوصب والوهن بها ، لم يتوقف عن دق الباب بل تفاقم مع تفاقم غضبه نحوها ، واستمر في سرد لائحة من السب تارة والتهديدات طورًا :
-أنا هعرفك نتيجة تصرفك دا ! قلت افتحي وإلا هكسر الشقة على نفوخك !
تعكزت على أحد المقاعد بجانبها بوهن وألم يصعب تحمله ، ثم شق ثغرها صرخة قوية عند محاولتها للنهوض مما جعلها ترتمي على الاريكة مرة أخرى باكية بذلول وولولةٍ ، تحملت على عكاز وجعها ووقفت بعد محاولات كثيرة من العناء والنشيج إلى أن قطعت أول خطوة سلحفية .
أحست بالدوران ورغبتها العارمة في التقيء ، فتوقفت للحظات وهي تبتهل بتسبيحات صاحب الحوت :
-يارب ساعدني يارب .
كأنَّ بُكاء العالم ينهَمِرُ من عينَيها وهي تتحمل أكثر وأكثر حتى تصل إلى الباب ، ظنًا منها بأنها طارق نجاتها من الألم الذي ينخر بجوفها .
أخيرًا وصلت إلى الباب ساندة رأسها على الحائط ويدها اليُمنى تضم وجعها وباليسرى تحاول فتح الباب ، ولحظة تزحزحه ركله مراد بكل قوته وما أن أقبل عليها ليعاقبها سبقه الوجع وسحب كل قوتها وسقطت مغشيًا عليها بصرخة قوية :
-الحقني بـ موٰت .
لا يعلم أين مكان صدعه كي يشير عليه ، ولكنه في الحقيقة لم ينكر أن قلبه اختلج لأجلها ، قفل الباب متجاهلًا جسدها الملقى أرضًا وقال :
-أنت مفكرة أنك هتصعبي عليا كدا ، عاملة الحركات العبيطة دي عشان تهربي ! انسى مش مراد المحلاوي اللي تخدعه واحدة رخيصة زيك !
انتظر أي رد منها مُقابل تعنيفه ولكن لا حول لها ولا قوة ، ألقى مفاتيحه وهاتفه على الطاولة ثم صاح :
-خليكي مرمية كدا ، لحد ما نشوف أخرة مسرحيتك دي أيه !
تركها وذهب ليتحمم ويبدل ملابسه ثم عاد إلى المطبخ ووجوده كما هو ، انفعال أكثر :
-واضح أنك مش بتسمعي الكلام ، وهتجبريني ازعلك !
اتجه إليها وركل يدها بقدمه بدون ذرة شفقة وأكمل :
-فين الاكل! ومش شايف انك شلتي ورقة من مكانها !
هنا لفت نظره جسدها المتجمد حتى بزفير انفاسها ، مال يتحسس نبضها وجده ضعيفًا للغاية ، رحمته سبقت انتقامه وحملها بين يديه فتأوهت بوجهه بهذيان :
-بطني هتمٰوتني من الوجع !
قفلت جفونها بوهنٍ شديد مسترخية على صدره مما خلقت شعور المسئولية بقلبه ، ركض هائمًا على وجهه بها ناحية المشفى ..
وعلى المُقابل خرجت ” حياة ” بصحبة ” عاصي” من باب المشفى بعد ما تأكدوا من الفحوصات وعدم وجود أي نزيف داخلي ، وسلامة أعضائها الداخلية ، صرح لها الطبيب بالمغادرة ، تسير أمامه سابقة بخطوة وما أن انزلقت قدمها بسبب أثار التعذيب الذي تعرضت له فـكانت يده خير مسندًا ، حدجها معاتبًا :
-طيب أمسكك بلاش تعاندي!
عارضته بحدة :
-قُلت لك مالكش دعوة بيا ولا تقرب لي ، أنت فاهم !
لبى بطاعة كي يستجدي رضاها :
-تمام ، تمام أنا بعيد أهو ، تعالي من هنا عشان العربية هناك !
فكرت للحظة مترددة من ذهابها معه ولكنها أبت الهزيمة والهروب قبل أخذ حقها ، صعدت السيارة بالمقعد الخلفي مما بث الغضب بداخله وسألها :
-أنت قعدتي عندك ليه !
أصدرت انين التوجع ثم أردفت بجزعٍ:
-أكيد مش هقعد جمبك !
-ليه ! هضعك ؟!
زفرت بضيق ثم ولت وجهها ناحية النافذة الأخرى كي تتحاشى النظر إليه ، صعد عاصي سيارته مُرغمًا ثم نظر لها قائلًا :
-متخافيش ، هرجع لك حقك بزيادة !
-مش عايزة منك حاجة ، حقي هعرف أرجعه لوحدي !
صمت قليلًا متفهمًا وضعها ثم قال بخزى :
-أول مرة أعتذر لحد ، بس أنا بعتذر منك ، وأوعدك اللي حصل مش هيعدي بالساهل .
إن الإعتذار الذي لا يليق بحجم الجرح، جرحٌ آخر .. رمقته بنظرة ساخرة وقالت :
-وفر اعتذارك ، كدا كدا ملهوش لازمة !
خنجر جديد غرزته في جدار كبريائه ، ابتلع قُرص إهانتها بغضب مدفون ، ثم اعتدل وشرع في قيادة سيارته ولكن ذلك لم يرحمها من نظراته الفاحصة التي كان يتفقدها بها بالمرآة .
لم يعد مؤلمًا الحزن ذاته وأسبابه ، على قدر ما أنك لا تعرف شخصًا آخر غيرك كي تذهب إليه وتشكوه مصادر حزنك وحيرتك وبأنك تايه للغاية .. انكمشت في باب السيارة ظنًا منها بأنه سيحميها من أسهم نظراته الخارقة .
من الجهة الأخرى وصل مُراد بعالية إلى نفس المشفى التي فارقها عاصي للتو ثم أخذ ينادي على أحد الممرضات ليساعدوه في حملها إلى غُرفة الفحص .
مرت الدقائق ببطء حتى قاربت على نصف ساعة قضاها مُراد في قلق لا يدرك مصدره ، ولمَ يهتم بالأمر لهذا الحد ، وسرعان ما نفض تلك الأفكار بمجرد خروج الطبيب قائلا بعبث :
-أنت جوزها !
أحس بالتردد للحظة ثم أجابه
-ايوه !
عنفه الطبيب قائلًا :
-لازم تعمل عملية الزايدة فورًا ، أنت أزاي تستنى عليها كل ده ؟!
لم ينبس ببنت شفة ، فقد أصبح ضميره فريسة لانياب الندم ، ولكن لم يتوقف الطبيب هنا ، بل ألقى جمر سؤاله الثاني :
-عندك علم عن الكدمات اللي في جسمها ! واضح أنها اتعرضت للعٰـنف ، و أنا مضطر أبلغ !
تجمدت ملامح وجهه ثم أخبره :
-هي وقعت بس وو
قاطعه الطبيب مُصرًا وهو يطالعه باستحقار :
-لما الظابط يجي ويحقق معاها أبقى نشوف وقعت فعلا ولا المدام عندها أقوال تانية !!!!! بعد أذنك .
اتعثر مراد في وحل مصيبة جديدة لم يحسب حسابها ، وجلس على أقرب مقعد مفكرًا كيف يخرج من ذلك المأزق ..
في هذه اللحظة لمحت ” شمس” من أعلى وصول سيارة عاصي للقصر ثم تسللت ببطء لجوار تميم وأخذت هاتفه وعادت للشرفة مرة أخرى كأنها تنتوي على فعل شيء ، ترنحت ذاكرة ” حياة” حول حادث الصباح ولكنها هزت رأسها لتشتت منه تلك الأفكار التي يمكن أن تهزمها وهبطت من السيارة مُتأهبة لتفجير قنبلة انتقامها ، ولكنه أوقفها ممسكًا بيدها ، وطلب منها :
-استني ، قلت هجيب لك حقك ، ولو مكنش مُرضي ليكي ، اعملي اللي عايزاه !
فكرت للحظة في اقتراحه ثم أومأت بالموافقة وقالت بتحدٍ :
-تمام ! وريني هتعمل أيه .
رأت في عينيه نظرات الحيرة ، فحماسها اندفع متسائلاً :
-أيه ! بتبص لي كدا ليه ؟! لو الموضوع كبير عليك أنا بعــ
هنا ابتلعت بقية كلماتها بشهقة مرتفعة سحبت الأوكسجين من المكان عندما باغتها بدون سابق إنذار وحملها بين يديه ، وبخته بعتبٍ :
-أنت بتعمل أيه ! نزلني !
راق له الأمر وراق له قُربها وأحس بنبضة مثيرة لم تلامسه مع أي فتاة من قبل ، حيث قال بحزم :
-مش وافقتِ أجيب لك حقك ! اسكتي بقا !
كادت أن تعلو صوتها ولكن ذكرتها بطنها بالألم ، فأخفضت صوتها محذرة :
-نزلني !
تجاهل صوتها المكتوم وتحذيراتها وصدمتها وتقدم ببسالة نحو الباب الرئيسي للقصر ، همس لها بصيغة الأمر من خلف فكيه المنطبقين :
-أفردي وشك ! واتشعبطي في رقبتي ، أنا مش خاطفك !
-كمان !!! أنـ
لم تُكمل شجارها معه بل نفذت طلبه فورًا عند سماعها صوت عبلة وهي تهبط درجات السُلم :
-كويس أنك لسه عايشة ! كنت بجهز صدقة على روحك !
لم يهتم لمكر أمه بقدر اهتمامه بضربات قلبها التي تدوى بصدره وعيونها الفاتنة التي تطالعه منتظرة انتقامه الذي وعدها بهِ ، امتدت أنظاره يسارًا فوجد جيهان وابنتها يشاهدان التلفاز ، اتجه إليهم ثم أجلسها برفقٍ مختومًا بقُبلة رأس حنون أشعلت غضبها منه أكثر وقال بثقة مخيفة :
-جيهان هانم ..
تدخلت جيهان بشماتة :
-عاملة أيه يا حياة .
كادت أن تجيبها ولكنه رمقها بنظرة قاطعة أخرستها وأكمل :
-هي كويسة ، وهتبقى أحسن لما ما تمشوا !
هبت زعابيب عبلة من الخلف :
-أنت اتجننت !
تحولت ملامحه الهادئة إلى آخرى ثائرة بجبروت وهو يشير بسبابته فألجمها :
-مش عايز كلمة فوق كلمتي !
فزعت جيهان وهدير من مكانها بدهشة ، حتى تفوهت جيهان بـ لوم :
-أنت بتطرد خالتك عشان دي يا عاصي !
رد عليها بحزم شديد :
-اللي يغلط في اللي يخصني كأنه غلط فيا بالظبط !
ثارت هدير غاضبة :
-أنت شكلك اتجننت يا عاصي ، وبقيت مش مدرك أنت بتقول أيه !
ثم وجهت حديثها لأمها بانفعالٍ :
-يلا يا ماما نلم حاجاتنا ونمشي ، عشان واضح أن ابن اختك مش في وعيه .
أوقفها على مصل سيف اللامع وقال :
-لا يا هدير ، للاسف مش مجبرة تتعبي نفسك وتلمي حاجتك لانك هتمشي بالهدوم اللي عليكِ ، وده كرم أخلاق مني !
تدخلت عبلة مدافعة عن اختها وكرامتها :
-لو كان في حد لازم يمشي هتبقى الجربوعة اللي أنت جايبها مش هما .
تجاهل ثرثرة أمه وجلس على المقعد الفخم واضعًا ساق فوق الأخرى وسرد بفظاظة :
-من ١٨ سنة ، لما دخلتو البيت دا عشان بيتكم حصلت فيه حريقة كبيرة ومكنتوش لاقيين مكان تناموا فيه ، وطبعًا قصر دويدار مفتوح للكل .
ثم أشار بسبابته ناحية هدير :
-فاكرة يا هدير ! وقتها دخلتي البيت حافية ! وعقابك هتخرجي منه زي ما دخلتي ، ده عشان تعرفي تحترمي قواعد البيت اللي لمكم من الشارع .
صرخت جيهان بوجه أختها :
-عاجبك كلام ابنك يا عبلة !
لُجمت عبلة بصاعق الصدمة ، أكمل عاصي قائلًا :
-سيبي عبلة هانم دلوقتِ عشان لسه حسابها مجاش ، المهم عارفين طريق الباب ولا انادي الحرس يطلعوكم بنفس الطريقة اللي كانوا ماسكين بيها مراتي !
برقت عيون ” حياة ” من هول ما قاله ثم ختمه بانتسابها له علنًا ، تلاقت أعينهما حائرة فـ بين عبوسة النمر وابتسامة الذئب يفنى القطيع حتمًا ، ثم جهر متسائلًا :
-ولا أيه رأيك يا حياة !
جهرت هدير بصراخ قوي مهددة :
-وديني ما هرحمك يا عاصي ، وهرد لك القلم أضعاف !
نصب قامته القوية أمامها ممسكًا بمعصمها بشدة :
-لما تتكلمي قصاد عاصي دويدار يبقى تحاسبي على كلامك ، وبعدين أحمدي ربنا اني مطلعك على رجلك ، دا بس عشان صلة الدم اللي بينا .
تلوت هدير من الوجع إثر عصر معصمها بين قبضته الصلبة ، وهنا تدخل أحد الحراس قائلًا :
-عاصي بيه ، الشرطة بره .
تعجب عاصي من مجيئ الشرطة ، وبين دهشته ، تلاقت أعين حياة وشمس للحظات حتى فهمت الاولى ما تشير إليه الثانية ، سمح عاصي بدخول الشرطة وتقدم لاستقبالهم ، أقبل الضابط مُرحب به ثم قال :
-هنا في بلاغ عن محاولة قـتٰل واحدة اسمها حياة !
حانت منه التفاتة سريعًا ناحية حياة ثم نفى قائلاً :
-بس دا محصلش ، زي ما معاليك شايف ، قعدة عائلية مع مراتي حياة وأمي وخالتي !
-لا حصل ..
تقدمت حياة بكلمتها التي بثت الرُعب في قلوبهم وأكملت بتحدٍ وهى ترمق عاصي بنظرات المنافسة وهي تشير لـ عبلة:
-عبلة هانم المحلاوي حاولت قــتٰلي .
أعين متسعة كـ فوهات البنادق في الحروب جميعها متجهة صوب حياة التي عادت لتنتقم وتأخذ ثأرها ، سألها الضابط :
-في شهود على الكلام دا !
تقدمت ” شمس ” ببسالة :
-أنا شاهدة ، وفعلا الكلام دا حصل بالحرف ، والبنات كمان شاهدين ، تقدر حضرتك تستجوبهم وتتأكد .
ثم أكملت حياة بـ جراءة وانتصار :
-ومعايا تقرير من المستشفى يبثبت كل كلمة قولتها ، هجيبه لحضرتك من العربية !
هنا أشار الضابط إلى العساكر كي يمسكون بـ عبلة وقال بأسف :
-اسف يا عاصي بيه ، بس القانون لازم ياخد مجراه !
-أنت هتسيبهم ياخدوا أمك يا عاصي !
ولى عاصي نظرته الحادة إليها وعاتبها :
-عملتي كدا ليه !
عقدت ذراعيها أمام صدرها بسعادة وشموخ :
-رفعت عنك حرج الانتقام من الست الوالدة !
نهرها بلوم :
-بس دا مش اتفاقنا !
بفظاظة إمراة تحدث القرآن الكريم عن كيدها قالت جملتها الأخيرة بنفس نبرته من قبل :
-منا غيرت الاتفاق .
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية غوي بعصيانه قلبي ) اسم الرواية