Ads by Google X

رواية جحر الشيطان الفصل الخامس و الثلاثون 35 - بقلم ندي ممدوح

الصفحة الرئيسية

   رواية حجر الشيطان كاملة بقلم ندي ممدوح عبر مدونة دليل الروايات 


 رواية جحر الشيطان الفصل الخامس و الثلاثون 35

 

إهداء إلى حبيبة القلب، ورفيقة الدرب، وعزيزة الروح، وضياء سماءي ( أسماء) اهدي لكِ هذا الفصل يا شريكة الفردوس الأعلى قراءة ممتعة.

على الرغم من إن الظلام الحالك يلفها برداء حالك السواد، والطريق معتم لا ترى حتى يديها، وجروحٌ طفيفةٌ انتشرت في جسدها بأكمله؛ جراء الزروع المشوكة التي لم تلاحظها، كانت خديجة تسير على غير هوادة ..
غير دراية ..
كانت تدرك لا ريب إنها ربما تقطع الطريق الخطأ.
وربما تواجه ما لا تستطع عليه صبرًا ..
وربما هو طريق بلا عودة ..
بلى أمل ..
بلى نجاة ..
رغم كل هذا كانت تسير في هدوء مثير للعجب، وخفيف ساقيها كان يرعد فؤادها برعدة قوية، ولسانها يردد في هدوء عكس جم ما يجوس من أعماقها، من قلق ليس على نفسها، بل على البنات :
_ لا إله إلا الله.
بيقين تام، وثقة، وحسن ظن في الخالق، كانت ترددها بكل راحة.
أوليس بذكر الله تطمئن القلوب، وتسكن؟
وهي كانت مطمئنة القلب، واثقة الإيمان.
فجأة! قفزت في ذهنها أنشودة من اللا مكان .. أنشودة عن الحبيب محمدٍ ﷺ وراح عقلها يرددها
"فيا حبٌ فيا وجد واشتياقٌ لا يحدُ
يا رسول الله قلبي لم يزل باسمك يشدو
أنت للعالم رحمة جئت تمحو كل ظلمة
نحن يا خير رسول بك صرنا خير امة
حبك الساكن فيا لم يزل يهمي عليا
بهجة في الروح فاضت وسلاما ابديا
صل يا رب عليه واسقنا من راحتيه
ذابت الروح وتاقت وبكت شوقا اليه
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة مرحبا يا خير داع"

وبغتة انفجرت باكية، وهي ترددها كأن قلبها قد وجد ضالته، واستندت إلى جذع الشجرة وانهارت على ركبتيها، وهي تنظر حولها في خوفٍ وبعد إن شق عليها هذا الظلام الحالك، رفعت عينيها إلى صفحة السماء التي غطت بالنجوم الساهرة كأنها تخبرها همسًا "ألا بأس نحنُ معكِ، لا ضير من البكاء، ففي الدموع راحة"
ودارت ببصرها إلى القمر المنير، المكتمل، فبدا جميلُ الطلة، مريحٌ للنفس، يرمقها في حنان، قائلًا خلسة "هأنذا أنير طريقك، فلما البكاء؟"
كان بداخلها اشتياق غريب طفى في فؤادها دون سابق إنذار إلى حبيبها المصطفى، فجرى الدمع منهمرًا من مآقيها، وانتحبت وهي تنقل بصرها إلى القمر، والنجوم، وقالت بنبرة متحشرجة كأنما تخاطب رفقاءها، منصتون إليها، مهتمون :
_ هو أنا خلاص هموت هنا؟ ولا هخرج؟ أنا مش خايفة من الموت أبدًا، عشان لما اموت هشوف حبيبي محمد وحشني أوي واشتقت ليه جدًا.
صمتت لهنيهة، مسحت خلالها أدمعها، وشردت كأن روحها، وقلبها، رفرفا محلقين، وتألقتا مقلتيها بلمعة تضوي، ورددت بصوت يقطر شوقًا، وحنانًا، و وجدًا :
_ لقد كان رسول الله ﷺ متوسط القامة، لا طويلٌ ولا قصير، ذا وجهٌ مستدير إذا تبسم استنار وجهه كالقمر، أكحل العينين، كث اللحية، شديد سواد الشعر، كان طيبُ الرائحة، عريضُ الصدر.
بِحُبك يا رسول الله رق قلبي وطاب، بحُبك يا رسولي اطمئن، وبذكرك استنار دربي، حُبك ملأ الحنايا شوقًا، وفاض القلب حنينًا لمرآك يا سراجُ نفسي، فاسقني يا رب من راحتيه الشرفتين فهذا كل ما أرجوه.

لا مرية في أن خديجة لم تدرك كم مر عليها، وهي في تلك الحالة من الوعي واللا وعي، فمن غير الممكن أن يكون المرء وحيدًا في مكان نائي عن البشر ..
عن العالم ..
ويظل بهذا الثبات، بهذا اليقين، بهذا الهدوء.
لكننا لا نتحدث عن أي أحد، إننا نتحدث عن خديجة.
خديجة ذات الإيمان القوي، والعزيمة الشديدة.
فقوتها تكمن في حسن ظنها بالله.
وإرادتها تنبعث من إن ( لا إله إلا الله)
حين ضاق بها المقام، نهضت، وتلفتت حولها مرة أخيرة، قبل أن تتحرك دون هدف محدد، أو سبيل معين، لقد تركت لقدميها دفة المسير وتوكل قلبها على الحي القيوم، سيعينها عما هي فيه، وإن شاء لها النجاة فستنجو ولا قوة ستقدر على ردع ما هو مكتوب.
وبينما هي تسير، وفي غمرة حيرتها، وتخبطها، انزلقت قدميها في بحيرة عميقة سحبتها في سرعة إلى أعماقها، ومع صراخها الذي انكتم إثر اندفاع جسدها للأسفل، تحركت ذراعيها، وقدميها، ليضربا الماء وتسبح لأعلى وهي تختنق ..
وتختنق ..
وتختنق ..
حنى ظنت إنها النهاية، وفجأة شهقت .. شهقت الحياة وهي تلهث ما إن وصلت إلى سطح البحيرة، واستنشقت الهواء لتملأ به رئتيها.
يا الله هل في الهواء حياة؟
فقد أحست إنها عادت للحياة ما أن تسلل الهواء إلى رئتيها.
كم نعمك لا تحصى يا رحمن؟ فسبحانك.
كان نقابها مبتل، بل يغرق في الماء ويُصب منه صبًا وأحست بالاختناق.
في نفس اللحظة التي سقطت فيها، كانت هناك على مقربه منها عينان شرستين، متوحشتين، تتألقان في جذل ظافر، وهما يشاهدانها وردد الصوت مهللًا :
_ ستموتين يا خديجة الآن، أنا لم أفعل كل هذا، وآتيت بكل تلك الوحوش حتى أخسر؟ حتمًا لن تخرجوا جميعكم أحياء.
لكن ما أن طفت خديجة على سطح البحيرة، ورآها كيف عامت وها هي ذا أمامه تلتقط أنفاسها، حتى جز على أسنانه، مغمغمًا في مقت :
_ مما مصنعون أحفاد لمار هؤلاء؟
لكن سرعان ما تلاشى مقته، وحل محله بسمة تشف عن أن خديجة هالكة لا محالة، وردد :
_ لن تنجي يا خديجة، فأنا لم ادفع كل ما دفعت لتنجي، ستكونين وجبة دسمة يا فتاة.
وانطلقت ضحكته، خافتة، شامتة.
وعند خديجة أحست فجأة بشيءٍ ما، شيء يتحرك في سرعة رهيبة نحوها، وفي بطء كانت تستدير وما كادت تفعل إذ ترآى لها تمساح يقبل نحوها وما كاد يقترب ..
ويقترب ..
ويقترب ..
والمسافة تنزوي أكثر، وأكثر، وأكثر إذ فتح التمساح فكيه على آخرهما، واتسعت عينا خديجة في هلع، وزعر، و هزت رأسها، وراودها خاطر أن تعوم مبتعدة لكن ..
آهٍ من لكن تلك!
آهٍ وألف آه!
هل ستضاهي سرعتها سرعة تمساح؟ لا وألف لا.
خفق قلبها في جنون، وانتفض جسدها، وراقبت فكي التمساح أمامها مباشرة، مخيف، رهيب، وسيبتلعها حتمًا، فصرخت من كل أعماقها وهي تغطي وجهها بذراعها وتنظر بعيدًا عن فك التمساح الرهيب …

🌵 استغفر الله 🌵

شعور هائل بالعجز ذاك الذي ملأ قلب خالد، شعورًا لم يشعر به يومًا، ولم يزر حياته قط، بعد أن تفرق مع أراس وأركان في أماكن قريبة جدًا حتى إذ حدث شيئًا ما يتوجب وجودهم ثلاثتهم، وبينما هو يسير إذ على غرة إرتطم فيه جسد ضئيل، جعله يتراجع خطوة، وصوت أنثى مألوفًا يهمس في ألم :
_ فيم أنصدمتِ يا هنا الآن؟ يا إلهي، جبيني تحطم.
ثُم رفعت عينيها إلى خالد الذاهل، وصاحت في انفعال :
_ كالد، أهذا أنت؟ لا أصدق .. أخيرًا وجدت أحد …
قاطع خالد حديثها، قائلًا في استنكار :
_ كالد!! اسمي خالد يا حبيبتي .. وليس كالد هذا.
شوحت هنا بكفها في لا مبالاة، وغمغمت :
_ ماذا تفعل هنا؟
رفع خالد حاجبيه مندهشًا من سؤالها لدقيقة، سرعان ما اخفضهما وهو يجيبها في حنق :
_ أروح عن نفسي يا عزيزتي، ألا ترين؟ هنا مكان ولا في الأحلام ..
واستطرد في عصبية منفعلها، جعلتها تنتفض :
_ ما هذا السؤال أيتها الغبية! في رأيك ماذا أفعل بالتأكيد لم آتِ لأتنزه هنا.
زمت هنا شفتيها في حنق، وغمغمت :
_ ألا تعرف أن تتحدث دون سخرية؟
مرر خالد كفه في شعره، وقال في هدوء :
_ ألم تري أي أحد من البنات؟
هزت هنا رأسها في قلق، وأجابته :
_ لا، ولكن هما ه…
لم تكمل عبارتها، فقد تناهى لهما صدى صوت أخيها أركان بإسم خديجة، وخالد راح يعدو كالمجنون أمامها متتبعًا الصوت، فتلفتت حولها وهي تقول في خوف :
_ لماذا تركني هذا المجنون بمفردي؟
وتحركت تمشي في المكان الذي ركض فيه.

🪴 استغفر الله وأتوب إليه 🪴

خفق قلبها في جنون، وانتفض جسدها، وراقبت فكي التمساح أمامها مباشرة، مخيف، رهيب، وسيبتلعها حتمًا، فصرخت من كل أعماقها وهي تغطي وجهها بذراعها وتنظر بعيدًا عن فك التمساح الرهيب …
لم تدر خديجة ما حدث، فبينما هي تعصر جفنيها، في انتظار أن يبتلعها هذا التمساح، لم تشعر بأي ألم ولكنها سمعت صوت يصرخ بإسمها ثُم الماء يتناثر عليها بشدة، فما إن فتحت عينيها، حتى جحظتا في هلع فـ أمامها كان آراس يصارع التمساح وقد غرس في فكة الخنجر، وذراعه مصاب بشدة و الدم يتنفجر منه تفجيرًا، وشخصًا آخر يعتلي التمساح الذي راح يزمجر في ألم ويضرب بزيله الماء هائجًا، ثائرًا، ولمحت عدت تماسيح تقترب منهم، فصرخت بإسم آراس الذي إلتفت إليها وضم وسطها بذراعه وسبح بها بعيدًا، والتماسيح تلاحقه .. تلاحق رائحة الدماء التي جذبتها لكنه كان سريعًا بحق فقد حمل خديجة وأخرجها من البحيرة وخرج بدوره، وسائلها وهو يلهث في إنهاك :
_ أأنتِ بخير؟ هل أصابك أي أذى؟
آتاه ردها بأن ألقت نفسها في حضنه وهي تبكي بحرقة أدمت قلبه، وقبل أن تنطق بحرف، كان خالد يسأل لاهثًا :
_ خديجة.
أبتعدت خديجة على الفور عن آراس وألتفتت إليه بجانب عينيها، فسأل بغيرة واضحة :
_ أنتِ كويسة صح باين إنك كويسة!
كان آراس يحتويها بكل حنان الدنيا، كأنما يطمئن قلبه إنه وصل في الوقت المناسب، وأنقذها وها هي بين ذراعيه بجانب فؤاده.
صاح خالد فجأة حين لمح آركان في البحيرة يقاتل في استماتة :
_ يا إلهي آركان!
و وثب فورًا في البحيرة ليآزره، أبعد آراس خديجة التي تشبثت به، فهمس في خفوت :
_ سأعود إليكِ يجب أن أساعدهما!
هم بالنهوض حين تعلقت خديجة في ذراعه السليم، وأطل الجزع في عينيها، وتمتمت بنفي :
_ ذراعك مُصاب لا تذهب .
وأخفضت صوتها وهي تهمس في خوف غمر فؤادها :
_ لا تتركني بمفردي .
كان الأمر عسيرًا عليه ، من جهةٌ أخيه ، وأخرى حبيبته التي لم يهوى القلب غيرها ، ومع ذلك أثر على أن يساند أخيه ، فتحاشى النظر إليها كلا يرجع عما نوى وأفلت ذراعه وقفز داخل البحيرة ، ومع قفزته أشهر خنجره ليعتلي ظهر إحدى التماسيح الذي هاج وهو يضرب بزيله من خصمه الذي راح يطعنه دون هوادة في جنبه، وظهره فغاص أسفل الماء وراح يتقاتل معهم في جسارة وآركان وخالد يواجهوا المثل، لكنهما لم يفلحا، فها خالد كاد إحدى التماسيح أن يقضم قدمه ، وآركان يحاول بأستماته النجاة ، لكن آراس كان يصيبهم حتى يتفجر من جروحهم الدماء فيتكابل عليه اخواته ، وخرج من البحيرة لاهثًا وهو يستند بكفيه على الأرضية في أعياء ، والماء يتصبب من جسده صبًا ، وقبل حتى أن يلتقط أنفاسه ، سمع صوت خالد يسأل في تهالك قلق ، وبصوت خافت يقطر بالإجهاد :
_ أين خديجة ، ألم تتركها هنا يا آراس ؟ أم ماذا ؟
أعتدل آراس في الحال رافعًا رأسه إليه في حركة حادة، ولم يلبث إن راح يدير عينيه في المكان .. لكن بالفعل لم يكن هناك أثر لخديجة نهائيًا، فهب واقفًا وراح يدور في المكان وهو يهتف :
_ خديجة، خديجة أين أنتِ؟
تكرر ندائة عدة مرات، قُبال بالهدوء التام وصدى صوته في المكان فقط، فزاغت عينيه كأن بريق الحياة قد خبى فجأة، وروحه قد فارقته، وتلاحقت أنفاسه، وخفق قلبه
لقد فقدها ..
فقدها مجددًا ..
ولن يسامح نفسه أبدًا ..
لقد ترجته ألا يتركها بمفردها وقد فعل ..
فعل دون أن يدرك إنه لم يكن عليه تركها ..
إنه يستحق ذلك ..
لكن السؤال الوحيد الذي يدمي قلبه، أين ذهبت؟
لثاني مرة تنساب من بين يديه ..
لثاني مرة ترحل عنه ..
لكن هذه المرة هل يجدها ..؟
أطلق صرخة مجلجلة بإسمها، صرخة نبعت من فؤاد يبكي.
ربما لم تبك عيناه، وظلت جامدتين، لكن قلبه بكى، والدموع راحت تهوى بداخله كأنها خطاطيفٌ من النار تلهب جسده.

🌴 أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم واتوب إليه 🌴

سقطتت لمياء على وجهها في عنف، كانت تلهث بانفعال، وفؤادها يخفق في خوف كاد يوقف قلبها، وما همت أن تعتدل لتستمر في فرارها لم تجد مناص من الهرب فسرعان ما سقطتت مرة اخرى جالسة، وعيناها تحدقان في عينان الأفعى التي وقفت تتطلع عليها بفحيح دب الرعب في أوصالها، فزحفت للخلف ومع تحركها فتحت الأفعى فمها وسال لعابها ليسقط على قدماي لمياء، فأطلقت لمياء صرخة انشق لها فؤادها، وتزلزلت الأرض من تحتها، ونهضت وهي تنتحب من شدة الخوف، ودموعها تنصب صبًا من مقلتيها، وتسمرت محلها حينما دارت الأفعى في سرعة فائقة ولُفت على جسد لمياء، مرة وراء مراء.
وراء أخرى ..
وأرتفع جسد لمياء عن الأرض، و وجه الأفعى في وجهها تمامًا بينما باقي جسدها ملتف حول جسد لمياء التي شحب وجهها، وجحظت عينيها، وراحت الأفعى تعصر جسدها، ولمياء تختنق وتختنق بلا هوادة ..
وبلا امل في النجاة ..
وفجأة أنقض آجار على الأفعى، غارسًا الخنجر في عنقها فزمجرت في ألم وأفلتت لمياء التي هوى جسدها متخشبًا كأنما أصبح تمثال من الصلب وتلقفه إسلام بين ذراعيه في هلع ..
ورفع وجهها الشاحب، ولطم على وجنتها في جزع وهو يردف في ارتياع :
_ لمياء، حبيبتي، رجاءً أفتحي عينيكِ، أنتِ بخير أليس كذلك؟
أمسك كفيها بين راحتيه وأخذ يفركهما في رفق وهو يردد اسمها في قلق، وفجأة!
شهقت في قوة لتنظر له للحظة في فزع قبل ان تتلفت حولها في هلع وتنفجر باكية، فتنفس إسلام الصعداء، وهو يهمس :
_ أنتِ بخير، أليس كذلك؟ لم تصابي بأذى؟
وانبعث صوت من جانبها الآخر يسألها في قلق :
_ أأنتِ بخير، لا بأس لقد مضى .. لا بأس أنتِ على ما يرام.
سكت عنها البكاء، ومسحت دموعها وهي تنظر إلى إسلام، ثُم دارت رأسها ببطء إلى آجار، وازدردت لعابها في خوف، بقت لدقيقة تنقل بصرها بينهما، وجسدها يرتعش برعدة قوية، وبغتة بكت في حرقة وهي تصرخ ظنًا منها إنهما من الجن، او عفاريت.
فراح لسانها يستعوذ ويبسمل، وقلبها كاد ان يتوقف من فرط الرعب، ونهضت فجأة مبتعدة، فتبادلا الشابان النظر في توتر، و وقفا، واقترب إسلام منها هامسًا في تريث :
_ لمياء، اهدئي يا عزيزتي هذا أنا إسلام.
توقف حينما تقهقرت للخلف عن التقدم نحوها، وراقب رأسها الذي اهتز في جنون رفضًا لكلامه، فغمغم بضيق وهو ينظر إلى آجار :
_ يا إلهي، الفتاة ستموت من فرط الرعب، أفعل شيء يا رجل! لماذا جئت معي بالأساس لم يكن جيدًا أن يدعونا معًا.
لم يعره آجار اهتمامًا، وقال في خفوت للمياء التي ترتجف كمن أصيبت بصاعق كهربائي :
_ هلا توقفتي عن البكاء قليلًا .. رجاءً اهدئي أنا آج
هم أن ينطق باسمه الذي دعاه به ماهر، لكنه في اللحظة الأخيرة، همس في اضطراب :
_ أنا وليد .. أنا وليد .. وليد.
كان يردد اسمه كأنما يخبر قلبه أن اسمه هو هذا ( وليد) ولد من جديد، ليس قاتل، ولم يفعل ما يُشين .
ومع ترديده سكتت لمياء وهي تحدق فيه بعينين متسعتين.

🌳 اللهم اغفر ليّ خطيئتي يوم الدين 🌳

هوى جسد ملك من أعلى المرتفع، لكن تلقائيًا تعلقت بنتوء بارز بكفيها، فكان المنظر، رهيب، مخيف فجسدها يتطاير في الهواء، ولولا إنها تعلقت بذاك النتوء لكانت في خبر كان الآن.
سالت دموعها من شدة العجز وهي تنظر للأسفل فأجتاح رأسها دوار شديد وانتفض قلبها من عمق الأرتفاع الشاهق، وتلك الصخور الصلدة التي ان سقط جسدها عليها فستحطم بدنها تحطيمًا، أصابعها بدأت تنزلق من على النتوء من ثقل جسدها، فشهقت وهي تعصر جفنيها محاولة منها على أن تتماسك وتواجه الموت ببسالة، وأحست بأناملها تنفلت شيئًا فشيئًا وجسدها يهتز.
وأنفلتت أصابعها وهوى جسدها سرعان ما ثبت في الهواء وارتطم بالجدار الصخري، وأصابع قوية، خشنة، من فولاذ كانت تقبض على رسغها، وصوت معاذ خائف، مرتجف، مرتاب، يهمس :
_ مسكت أيدك متخافيش هطلعك، اثبتي.
تلقائيًا ضمت كفها الآخرى على كفيه الممسكين بيمناها، فكان جسدها متعلقًا في الهواء مثير للشفقة.
سحبها معاذ لكن نتوء حاد انغرس في بطنه فجز على أسنانه وكاد يفلت كفها بسبب كفيه اللذان تراخا للحظة، وسمع بكاء ملك الخائف يقطع نياط قلبه، كان جذعه الأول بأكمله مائلًا في الفراغ، وتلاقت عيناها بنظرة متألمة، ورأت الدماء تغرق صدره فدارت بصرها إليه مرة أخرى لترى عيناه ثابتان، ممتلأتين حبًا، وخوفًا من الفراق، وهم بسحبها مرة أخرى وهو يهتف :
_ ساعديني يا ملك، امسكِ ايدي كويس متسبهاش، هتطلعي.
كانت تشعر إنها لن تنجو قط، يستحيل أن لا تهوى، فهزت له رأسها بدموعًا نزلت على قلبه كحمم بركانية وهو يقبض بقوة أكبر على أصابعها التي كانت تنزلق من ثقل جسدها الذي يتدلى، وفي جنون صرخ :
_ هتطلعي قولت، مش هسيبك.
أحست بكف آخر يقبض على اصابعها وصوت مالك يقول :
_ مسكتك، متخافيش.
سحبها الأثنيين لأعلى ومع سحبها تدفق الدم من جرح معاذ أكثر من إثر الضغط، وما إن ارتفع جسد ملك واستقر على الأرضية، حتى احتواها مالك في حضنه بحنان جارف، وهو يحمد الله، بينما بكت هي وهي تستكين في حضنه.
بكل مرار الدنيا، دون أن يشعر حتى بجرحه النازف، كان معاذ يدفن رأسه بين كفيه، ودموع ملك كالجمر تكوي قلبه، ليت له الحق بأن يمسح دموعها.
يضمها إلى صدره ..
ليطمئن قلبه الخافق بين جنبيه على الأقل ..
لقد كان يفقدها، يفقد الوحيدة التي خفق لها الفؤاد.
الحبيبة التي تجعل لحياته معنى ..
ملاكه ذات البسمة التي تشرق قلبه وتمحو كرب الحياة منه.
تنبه لشروده على صوت أروى تقول :
_ معاذ أنت بتنزف.
أحس معاذ بألم في بطنه ورأى الدم الذي ينزف منه، فرمق ملك وهو يجيب في خفوت :
_ مش مهم .. المهم إن ملك بخير .
خلب قلبها الذي ألتفت إليه مع عيناها، فتلاقت نظراتهم، فلم تلبث ان خفضت بصرها في حياء.
تلفتت أروى حولها في اهتمام وهي تسأل :
_ لمياء فين ؟
وهبت واقفة، وهي تصيح في انفعال :
_ لمياء يا ربي.
ركضت وتلاشت في لمح البصر من امامهم فلحق بها معاذ على الفور، فين حين قال مالك مندهشًا :
_ في إيه؟ هي لمياء كانت معاكم؟
لم يتلق ردًا فملك وثبت واقفة لتلحق بـ اروى في خوف على لمياء، فغمغم مالك :
_ في إيه؟ إيه اليوم ده يا ربي؟ لا إله إلا الله.
توقفت أروى في حركة مباغتة، فتوقف معاذ بجوارها وظهر من خلفهما ملك ومالك، وأمامهم رأوا لمياء ترتجف و آجار يقنعها إنه وليد، فما إن رأتهم لم تكد تصدق عينيها، وركضت لتستقبلها اروى في حضنها.
غمغم معاذ في تهالك :
_ هو إيه بيحصل هنا؟
قبل ان يجيبه احد، ابتعدت لمياء وقالت وهي تشير بسبابتها هلى آجار وإسلام :
_ عفاريت يا معاذ، عفاريت كانوا هيكلوني.
صاح معاذ في تعجب :
_ يكلوكي؟ وعفاريت؟ هي العفاريت بتاكل الناس؟
انفجر مالك ضاحكًا وهو يضرب كفيه ببعضهما، بينما رفع آجار حاجبه في دهشة، ولم ينبس إسلام لعدم فهمه لحرف مما قالت.
دبت لمياء الأرض بقدميها وهي تصرخ باكية وتواجه أروى :
_ يا أروى دول عفاريت صدقيني! طب أنتِ شيفاهم.
في غمرة شرود أروى هزت رأسها نفيًا دون أن تدرك إنها ترسخ الفكرة في عقل لمياء، التي صرخت في خوف قائلة وهي تتحرك دون هدف :
_ هتلبس، هيلبسوني هيلبسوني، او هيقتلوني وهكون عفريته، يا رب لا يا رب مش عاوزة اموت على أيد عفريت ..
هزها معاذ فجأة من كتفيها، وغمغم في صرامة ألجمتها :
_ يا بت أهدي بقا عفريت أما يركبك يا شيخه.
ولف وجهها نحو آجار قائلًا :
_ ده وليد وعايش مماتش .. وده إسلام
قالها، وهو يدير رأسها جهة إسلام، ثم ضرب رأسها قائلًا في تهكم :
_ ربنا يكون في عون الطلاب اللي هيطلعوا تحت أيدك.
تفاجئ بعد كل ما قاله بها تقول في تساؤل :
_ إيه ده؟ أنت بتتكلم جد؟!
قلب معاذ كفيه في حنق، وقال في ضيق :
_ صبرني يا رب.
لوح آجار بكفيه مغمغمًا :
_ إنها مجنونة ..
وإلتفت إلى إسلام ضاربًا كتفه قائلًا :
_ كان الله في عونك يا أخي، ولكن نصيحتي لك ما زلت على البر (لم قلبك وجري ومتفكرش ترتبط بيها دي مجنونة)
لم يفهم إسلام عبارته الأخيرة فعقد حاجبيه في سخط، بينما صاحت لمياء تنهره :
_ مين اللي مجنونة يا اض أنت؟ بقا انا مجنونة أنت اهبل.
تجاهلها آجار تمامًا وقال وهو يتحرك :
_ أظن إننا لن نظل في مكاننا هذا، هيا تحركوا يجب أن نبحث عن الباقيين!
كان يتحرك وفجأة أنتابه دوار مفاجئ وكاد يسقط لولا أن أسندته أروى وهي تقول :
_ خلي بالك!
فنظر لها قائلًا بامتنان :
_ أشكرك يا عزيزتي.

تحركوا جميعًا خلفه وجمعهم الدرب بحمزة برفقة دارين الذي ألتقى بها اثناء بحثه، فما إن لمح أروى، حتى احتواها بين ذراعيه وهو يلقي نظرة على لمياء وملك ليطمئن إنهن بخير قبل أن يضمها بقوة مسبلًا جفنيه، وهمس في أذنها برفق، وعاطفة :
_ لقد كاد قلبي أن يتوقف وعاد للحياة حين رآكِ يا رفيقة القلب.
أنهمرت الدموع من عيناي أروى، دموعًا حبيسة أبت أن تتحرر إلا في حضن يحتويها.
مسح حمزة دموعها بسبابته، وهو يهمس بصوت يقطر حنانًا :
_ أنا معاكِ وجنبك وأفديكِ بروحي يا روحي وآه لما نطلع من هنا اول حاجة هنعملها هي الفرح ولا أأقولك بلاش فرح اصلًا أنا بقيت اتشآم.
ضحكت أروى ضحكة كثيرة خافتة، وهمست له خفوت :
_ حمزة أنا تعبت من المشي ومش قادرة أكمل.
لم تستطع قول هذا للشباب، نعم إنهم إخوانها وأحبائها وتربوا معًا لكنها لم تستطع، لم تبين حتى خوفها، ورعبها مما هم فيه لأجل البنات، لكن الآن وحمزة معها، حبيبها، ورفيقها، وزوجها، وشطر قلبها مما قد تخاف؟ أو تستحي؟
فربت حمزة بحنان على ظهر كفها، ونظر للبنات التي بدا عليهم الأرهاق، وقال :
_ خلينا نقعد في اي مكان شوية الفجر قرب بالأساس الشروق يطلع ونكمل.
فوافقه الجميع وجلسن البنات معًا ودارين تقول في شوق :
_ جعفر وحشني أوى يا ترى عامل إيه دلوقتي؟
أغروقتا عينيها بدموع الحنين، فطوقتها اروى بذراعها وهي تقول :
_ جعفر أكيد بخير وبعدين دا مع مامتك عائشة يعني هو في امان متقلقيش.
أسندت دارين رأسها على كتف اروى، وهي تسأل:
_ مين اللي بيعمل فينا كدا؟ وهيكسب إيه؟
لم تحر جوابًا من إي احد ولاذ الجميع بالصمت، حتى أنبلج الشروق، وبينما هم جميعًا بدأوا في التحرك لاح لهم رجال مدججين بالسلاح يتقدمن على بعض منهم، فتقدموا الشباب للأمام وغمغم حمزة :
_ مالك معاذ خدوا البنات وتحركوا.
فنفى مالك بحزم :
_ مستحيل.
ألتفت إليه آجار وقال فجأة:
_قال خدوا البنات وأبعدوا يلا انتوا اصلا مش هتعرفوا تتعاملوا مع الأشكال دي هو ظابط وأنا ..
لم يتمم جملته، لأنه لم يدرك ماذا يقول، لكن فجأة غامت الدنيا أمامه وتقهقر للخلف وهو يمسك رأسها في قوة، ويجز على اسنانه في ألم، ورغوة بيضاء انبثقت من فمه مصحوبة بانتفاضة قوية كصعقة كهربائية أصابته دون سابق إنذار وسقط أرضًا جثه هامدة وقد تخشب جسده، فهرعوا جميعًا إليه حتى الرجال المدججين بالسلاح اقتربوا منه، وسمع صرخة بإسمه لم تكن من الشباب حوله، بل كانت من خالد، الذي وجده بغته جاثيًا بجانبه وهو يصرخ في مالك :
_ ماله حصل إيه؟
صمت مالك كأنما لا يدري ما يقول، او كيف يقول وغمغم في توهان :
_ وليد، وليد متسمم .. وتصاب بشلل، لازم يروح المستشفى.
رفع خالد رأس آجار وهو يحتوي جسده بين ذراعيه مغمغمًا :
_ سم؟! سم إيه ده؟ إزاي مستحيل لا مش هسمح لحاجة تحصل له.
كان آجار يسمع ما يقولون لكنه عاجز عن الرد
عاجز عن الحركة ..
جاحظ العينين ..
وبداخله كان يتسال ( هل هذا هو خالد ذاته الذي لم تمر عليهما إي مواجهة إلا وتجادلا، وتخانقا وضربا بعضهما)
وزاغت عيناه فجأة على وجه اخته دارين، وأراد لو يمد أصابعه ويمسح دمعها ويطمئنها إنه بخير، ثم نقل بصره على أخيه وأروى أخته في الرضاعة، وعلى الجميع وأسبل جفنيه مستسلمًا تمامًا للظلام الذي ابتلعه.
 

google-playkhamsatmostaqltradent