Ads by Google X

رواية و التقينا الفصل السادس 6 - بقلم ندي ممدوح

الصفحة الرئيسية

  رواية و التقينا كاملة بقلم ندي ممدوح عبر مدونة دليل الروايات 


 رواية و التقينا الفصل السادس 6

هي الدنيا تفرق ساكنيها

وفي الذكرى تزيدهم اقتربا

ألا لا تعجبي لي من نحيبي

فإن أمامنا العجب العجابا

( محمود شاكر)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


تأججت نيرانُ الغيرة في قلب إسراء، نيران راحت تأكل قلبها الخافق بين ضلوعها، وتملكها خوفٌ عظيم وضيق تفاخم في نفسها حتى ملأ كل حناياها، وغابت بنظرة شاردة على راحته التي تضم كف الفتاة في حنان وعتاب، وتجمع دمعٌ غزير في عينيها.

لم تدرِ جم تلك المشاعر الغريبة التي تجتاحُها.

غريب أمرها ومحير.

هل وقعت في حبه بتلك السرعة؟!

لقد أرادت أخذه جسر تمر عليه وتتوقف قليلًا متوارية فيه عن والدها، فتتعثر في قلبه؟

لم تنتبه إليهما عندما دخلا الدار ودار بينهما حوار حاد، بل لم تفق من شرودها إلا على صوت أميرة التي قفزت إليها وامسكت بها وهي تهتف وقد طار صوابها:

_ إيه ده .. إيه ده؟ الممثلة إسراء بنفسها هنا؟! بتعمل إيه عندنا؟

فدفعت إسراء يديها عنها في عنف بيَّن وكره نما على ملامح وجهها، وهي تصيحُ فيها متراجعة للوراء:

_إوعي كده أبعدي عني.

فذهلت أميرة من ردة فعلها الحادة العدائية، وتلاشى مرحها سريعًا وتجهمت، وهُنا علا صوت بلال، هاتفًا في صرامة:

_اتكلمي مع اهل البيت اللي آوينك حلو، وإياكِ وأميرة عشان مش هسمح لك.

فتساقطت الدموع على وجنتيها و ولت مغادرة المكان، فعاتبته سهير على قوله، وتبعتها لداخل الغرفة وهي تقول:

_إسراء، متزعليش من بلال هو بس مبيحبش حد يزعل حد فينا، اللي بيزعلنا يزعله وأميرة دي أخته اللي محدش يقدر يهوب لميها بحرف وحش.

فوثبت إسراء عن الآريكة، وبعينين برقاتين، هتفتت متهللة:

_أخته.. البت اللي برة دي اختكم، غريبة محدش قلي.

فجذبتها سهير من معصمها وجلست بها على الآريكة وهي تغمغم:

_هي بنت خالتنا، وتبقى أخت بلال في الرضاعة.

فتنفست إسراء الصعداء، وأشرقت أسايرها، بالفرح.

في الخارج كان بلال يدلف إلى سيارته وما كاد يشغل محركها، إذ ارتفع رنين هاتفه برقم زوج أخته، فنفخ بضيق وهو يتذكر شجاره معه ليلة أمس عندما اخبره دون حياء إنه يود بعد الزواج من اخته أن يسكن معهم، متعللًا من أين له بشقة في هذا الغلاء، فجذبه بلال من تلابيب ملابسه ونشب بينهما شجار فكه المارة.

وحينها لم ينس صرخته له وهو يقول:

_خلاص ياخويا خلي أختك تعنس جنبك وشوف مين هيرضى بيها، بذمتك انت اخ؟! هو الأخ يكسر قلب أخته ويحرمها من اللي بتحبه!؟

وذهب بلال إلى المجسد حين ذاك بكل الهم الجاثم على قلبه، وهناك ناجا ربه وفكر طويلًا. قبل أن يتخذ قرار الموافقة.

لا يمكنه كسر قلب أخته..

لن يحدث ويكون سبب تعاستها..

سيقوم هو بإستئجار شقة لهما ويتولى دفعها لا بأس من أن يحرم نفسه مما يريد في سبيل راحتها، ولا ضير من التعب لساعاتٍ إضافية لسعادتها.

هو من الأساس لم يقبل بهذا الرجل زوجًا لأخته، لم يرآه يومًا الرجل الذي يستحقها، هو لن يكون زوجًا جيدًا يعلم هذا وربما قد تعاني أخته لكن ما باليد حيله..

فحين رفضه عندما تقدم لخطبتها ثآرت وماجت وخاصمته وقضت أيامًا لا تبرح غرفتها، والدموع لا ترقأ من عينيها، فعلى مضض تقبل الخطبة، كان يدرك أن أخته مثلها كمثل باقي الفتيات تفرح بقدوم العريس دون أن تفكر بالعواقب.

لكن أخته ليست مثلهم فقط تخطت الثلاثون ولم يتقدم لها أحد فشاء القدر أن يأتي ( عماد) ويكون هو النصيب.

ثم تذكر وهو يغتصب نفسه اغتصابًا ويتحامل عليها ويذهب إليه موافقًا بإنه هو من سيتكفل بالشقة ولن يعيشوا معهم هو لن يقبل بغريب يسكن منزله وأمه موجودة، وإنه سيشاركه مصاريف الزفاف.

انتشل بلال نفسه ليرد على عماد الذي لم ينفك من الرن دون كلل، فجآه صوته البغيض قائلًا:

_مرحب بأبو نسب، اخبارك إيه؟ واخبار مراتي؟

فرد بلال بصوت حانق ولم يقاوم إخفاء ضيقه:

_خير يا عماد، عايز إيه؟

صكت مسامعه ضحكت عماد فأبعد الهاتف عن اذنه وسمعه يقول:

_بقول بلاش تأجيل اكتر من كده ونعمل الفرح، بس آه أنا يا بلال يا خويا بقول نعمل الفرح على الضيق كده بلاش نعزم ناس كتير ونصرف الفلوس على الفاضي، ولو عايز تعمل فرح كبير وتعزم كل الحبايب يبقي كل حاجة عليك، قُلت إيه؟

فأغلق بلال الهاتف في وجهه، ولكم قبضته في عجلة القيادة، وهو يكبح غضبه ذاك عماد لا ينفك عن رأسه، رغم إنهما حددا يوم للزفاف إلا إنه يحاول أن يقدمه اكثر..

وهو لا يريد..

لا يريد لأخته من الأساس أن تتزوج.

في ذاك الوقت كانت إسراء تراقبه من النافذة بقلق حقيقي تشعب في روحها وهي ترى ضيقه وغضبه الواضحان وضوح الشمس، فلم تستطع على ذلك صبرًا، وجزعت وهي تتحرك مبتغية الحديث معه، وما أن فتحت الباب وكادت تعبره حتى رأته ينطلق بسيارته، فشيعته بقلبٍ واجف، وعينين حزينتين، ثم عادت أدراجها للجلوس برفقة سهير و.. أميرة التي لم تستطع منها فكاكًا.


🌼اللهم أغفر ليّ🌼


عندما عاد بلال في المساء، عاد بعينين غائبتين، وقلبٍ شارد مهموم، وروحٍ هائمة .. ضم أخته بضمة حنونة مشحونة بالعاطفة وهو يخبرها بصوتٍ خفيض كأنما يأتي من مكانٍ سحيق:

_حددنا الفرح أنا وعماد الأسبوع الجاي.

أيمكن للمحب أن يسفر فؤاده أمام محبوبه صفحة بيضاء فيشعر به!

يتألم لألمه..

ويبكي لبكاءه. .

ويتعذب بعذابه!

أمَّا إنه سَل عليها أشعة غشتها فلا ترى عينيها إلا هو؟

أم باتت عيناه كنافذة يطل منها وجع قلبه دون تواري!

آهٍ لو تكون جزءًا من هذه العائلة الدافئة، وتنعم بالحب والأمان.

يا ويح فؤادها أن غادرهم وعاد لغربته.

لم تشعر إسراء بدمعها الذي تساقط مع بكاء سهير التي تضم أخيها كأنها لا تود الإبتعاد عنه، وهو يطمئنها بإنه سيظل معها..

سيبقى أبد الدهر السند الذي لا يميل..

والعكاز الذي لا ينحني.

ثم غادرتهم سهير إلى والدتها لتبشرها، وخرج بلال دون أن يلقي عليها نظرة واحدة فقط قال قبل أن يغادر:

_أكيد سمعتي دلوقتي اللي قولته وبعد رحيل سهير لازم متبقيش في البيت عشان مينفعش وأنا لازم أهتم بـ أمي.

فجاءه الرد من والدته التي تخرج من غرفتها بمعاونة سهير:

_إسراء هتفضل يا بني تعوضني غياب أختك هي وأميرة لحد ما تعود على غيابها.. وتبقى تمشي لما تزهق مننا وتقول عايزة أمشي.

فنفخ بلال بثقل وأخذ أخيه عمرو وغادر ليظل في سيارته التي يقيم فيها الليل، فأسرعت إسراء إلى عايدة تبارك لها زواج سهير، ثم أخذت سهير جانبًا وسألتها بهمسٍ:

_سهير، أنتِ واثقة أنك عايزة تتجوزي الأنسان ده، دا أنا قرفت منه وأنتِ بتحكيلي عنه، صدقيني مش ده اللي راحتك هتكون معاه.

فألتمع الدمع في عينين سهير، وهي تقول:

_هو نصيبي وأنا رديت بيه.

ثم ضحكت متصنعة المرح، وغمغمت:

_أأقولك أنا عايزة عريس زي بلال كده عارفة هعمل إيه؟

هزت إسراء رأسها، وسألتها:

_هتعملي إيه؟

قالت سهير بضحكة كتومة:

_همسك فيه بإيدي واسناني..

ثم تابعت بيأس:

_بس للأسف اللي زي بلال نادرين جدًا.

فتهللت أسارير إسراء وهي تهتف:

_يا ريت الكل زي بلال كده.

رن في هذه الأثناء هاتف سهير، فأسرعت لتجيب على زوجها وهي تستأذن من إسراء، التي تحركت بتردد إلى الخارج وهي لا تدري لِمَا.. أو ما الذي ستقوله له؟!

وفي خطوات متلكئة اتجهت إلى السيارة، وقبيل وصولها رأته جالسًا على مقدمتها، ثانيًا إحدى ركبتيه وفاردًا الأخرى، وبجواره أخيه الصغير عمرو، وتسمرت قدميها، عندما تخلل صوته الرخيم إلى أذنيها، متسللًا إلى قلبها وهو يقول بصوتٍ هائم:

_بلال بن رباح؟

بِلال ..! وما يدريك من بِلال!

إنه رجلٌ إذ ذُكر وثبَ القلب من رقاده من هيبته، يسألُ من أي الجوانب أتأمل؟

ومن أي جانب ألتقط صورة لهذا الصحابي الجليل الذي نال من العذاب شتى أنواعه ولم يتزعزع ولم يتقهقر، بل ظل شامخًا، رافع الرأس يُرددُ ذكر الله.

إنه صنديد من صناديد صحابة رسول الله إذ سُمع اسمه انحنت الرؤوس مهابة تسحُ الدمع خجلًا منه.

نعم هذا الباسل من ذلك النوع الذي تحيرت إزاءهم، من أي جانب ألتقط صورة له!

أألتقط صورة معذبوه الذين ملوا وتعبوا من تعذيبه وهو المعذب الذي لم ينل الإعياء من روحه وقلبه! بل زاده إيمانٌ وإصرارٌ وتحمل.

حقًا .. نحنُ بِصدد الترحال مع صحابي ستشتاق الأذنُ إلى سماع صوته المؤذن، ولتهفو الروح إلى تطيب جراحه، وليتقوى القلب من إيمانه، ويتعلم من صبره.

هيا بنا إذن إن كنت جاهزًا..

وإن أصغى قلبكَ بكل شغفٍ ولهفةٍ..

وإذ تلألأت عيناك ببريق الإشتياق ..

هلم بنا ولا تبطأ.

إلى حيثُ مؤذن رسول الله..

إلى من سمع الحبيب خشخشت نعليه في الجنة

هيا بنا إلى بلال بن رباح..


ودق قلبها في عنف، وتلاحقت أنفاسها، وأصغت بكل حواسها، وجوارحها، فلا تدرِ ما أصابها..

امن صوته الخاشع السجي..

أم وقع اسم الصحابي الجليل على قلبها..

أم مهابة؟!

مشاعرها ماجت في داخلها وهي تترقب، حتى تناهى لها تنهيدت راحة ندَّت عنه، وهو يسترسل بصوت يقشعر الأبدان:

_هيا بنا إلى بلال بن رباح..

نحيا معه بعض من بطولاته التي ستظل إسوة لنا..

نشأ بلال في مكة، لأبٍ كان يُدعى ( رباح) وأمٌ تدعى (حمامة) وهي جارية سوداء مملوكة.

عندما هَل نور الإسلام على مكة المكرمة

كان بلال من السابقين إلى الإسلام..

كان بلال في ذاك الوقت عبدًا مملوكًا، لأناس من بني جُمَح بمكة، وكان يسمع أخبار النبي ﷺ مع أمية بن خلف وهو يتحدث مع أصدقائه ورجال قبيلته عن الرسول ﷺ وقلوبهم تمتليء غيظًا وكرهًا.

وسمع بلال ما يتفوهون به عنه، وهم لا ينكرون اخلاقه وصدقه وأمانته، فأحس بلال بأن هذا الدين هو الدين الحق..

واستجاب بلال للدين الحق ورحب قلبه بنور التوحيد ليجري في اوردته مجرى الدم..

فيذهب إلى النبي ويعلن إسلامه رضي الله عنه..

ومن هنا تبدأ أجمل بطولات بلال..

ونرَ كيف تشعب الإيمان في قلبه حتى بلغ كل مبلغ..

وعندما علم أولئك المشركين بإسلامه، حتى أذاقوه شتى انواع العذاب..

والآن تعالَ نرتحل مع بلال وهو يعذب من قِبل أمية بن خلف وقومه..

لعلك تعرفها … ولكننا سنذكرها ونظل نرددها أبد الدهر لا نمل ذلك، ونعلمها لأبناءنا لنخلدها في نفوسهم، ولتعلم البشرية جمعاء كيف تغلبت قوة الإيمان على قوى الجاهلية، كان هؤلاء الكفار يعذبون المستضعفين من العبيد الموحدين فيمعنون في تعذيبهم ويتفنون فيه، لذا قد رخص لهم النبي ﷺ لمن يلاقي العذاب في سبيل دينه أن يوافق المشركين بلسانه لا بقلبه حتى يكفوا عن تعذيبه..


أسبل بلال جفناه لبرهة، غافلًا عن تلك الباكية في صمت مرتجف وراءه، وعاد يقول في هيام يسلب لب المرأة، وبصوتٍ يبث الراحة والسكينةُ في القلب:

_أيمكن أن تتخيل تلك المأساة، وهذا العذاب

فاحمد الله على أن ولدت مسلمًا، وحافظ على تلك النعمة التي وصلت إليك على أشلاء رجال لا يتكررون مرة أخرى، ولا تهجر هذا القرآن فيهجرك، ولا تترك سُنن حبيبك فتتيه في هذه الدنيا الزائلة، ولا تدع صلاتك فإنها قرة عينيك، وراحة قلبك، ولقاءك مع الله العزيز، رزقكم الله لذة النظر إليه.. وجمعنا في فردوسه الأعلى.


سكت بلال لبرهة، اختلج فيها قلبه مما عانى بلال بن رباح، وتهدج صوته وهو يسترسل:

_هيا بِنا نرتحل معًا إلى حيثُ رمالٌ ملتهبة على مد البصر، والشمس تتوسط كبد السماء، وأنظر هناك فثمة رجال نُزعة الرحمة من قلوبهم ينزعزن ثياب العبيد ومنهم بِلالًا، ويُلبسونهم دروع الحديد، ثم يُعَرَّضونَهم لحرارة الشمس المحرقة في الصحراء لتكوي أجسادهم بما يلبسون من الحديد.

ولم يكتفوا بذلك العذاب..

وإذ بقلوبهم تذداد قساوة، فيلهبون ظهورهم بالسياط، ويأمرونهم أن يسبوا محمدًا ﷺ

وكانوا هؤلاء الموحدين إذا اشتد عليهم العذاب، وعجزوا عن تحمله، استجابوا لهؤلاء المشركين فيما يريدون من سب دين الله أو رسوله ﷺ، فيفعلون ذلك وقلوبهم تفطر بالأسى عمَّا يشعرون بهِ من ضعف وهوان.

أما بلال_رضي الله عنه_ فقد أبىٰ إلا أن يُعلم البشرية جمعاء معنى التوحيد، والصبر، وقوة التحمل والإيمان.

كانوا يلهبون ظهره بالسياط، ولسانه يلهج بـ ( أحد.. أحد)

ويطبقون على ظهره بالصخور فما يردد إلا ( أحدٌ .. أحدٌ)

لقد هانت عليه نفسه..

لقد مَلك قلبٌ من صخر..

وجسدٌ من الفولاذ..

وقوة إيمان عجيبة..

فلا غرو أن تتعجب وتتسع عيناك ذهولًا وأنت تتخيل تعذيب بلال، لقد كانوا يخرجون به في وقت الظهيرة حيثُ تصبح صحراء مكة قطعة من جهنم، فيطرحونه على الحصى الملتهب مُجردًا من ثيابه، ثم يعمدون إلى حجر يتوقد نارًا فيجتمع عليه جماعة من الرجال فيسحبونه، ثم يضعونه فوق صدر بلال فتلهفبه حرارته ويرهقه ثقله.

فيا للألم

ويا للعذاب هذا

وبلال صابرًا محتسبًا يُردد أحدٌ احدٌ

فتخيل ذلك ولو تصورته لعلمت كم مؤلم هذا وصعب ولتفكرت كيف تحمل بلالًا!

ولِمَ؟

إنها الجنة

إنه حب الله

وحب رسوله

لقد أعانه الله على أن يذيق معذبوه التعب والعذاب ولا يناله هو..

اي كلمة سحرية كان يرددها بلال بلى كلل او ملل فتذيده صبرًا؟

لقد صار تعذيب بلال تعذيبًا لمعذبيه

أنظر إليهم وهم يتوسلونه ويرجونه أن يثلج صدورهم بكلمة يذكر فيها اللات والعزة بخير، فيذكر الله ورسوله،ويقولون له:

قل كما نقول

فيقول لهم «إن لساني لا يحسنه»


صمت بلال لاهثًا من فرط الأنفعال، وظل دقيقة عالق البصر في السماء ببسمة حزينة تزين ثغره، ثم تابع بقبضة ألم وهو يتخيل تعذيب بلال، وفي عينيه ألتمعت دمعة أسى وإجلال:

_وتتواتر محاولات أعدائه ومراودتهم له مرة باللين ومرة بالعذاب فيظل راسخًا كالصخر، ولسانه لا يقو إلا على كلمة الحق.

وذات مرة يمر أبو بكر ويرَ تعذيب بلال فيرق له، فيجمع من ماله ما يفتديه به من العذاب، ويجيء لأمية بن خلف ليساومه، فأغلى أمية الثمن ليعجز ابو بكر، ولكن أبو بكر كان كريمًا لا يأبه بما ينفقه في سبيل الله.

فاشتراه منه بتسع اوراق من الذهب.

فقال له أمية:

لو أبيت أخذه إلا بأوقية لبعته.

فقال له الصديق:

لو أبيت بيعه إلا بمائة لاشتريته.

ومنذُ ذلك اليوم وأصبح بلالًا حرًا مستعليًا بدينه.

يقول جابر ( أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا) يعني بلال.

ولما أذن الله لنبيه بالهجرة إلى المدينة ... هاجر بلال رضي الله عنه مع من هاجر.

واستقر في يثرب بعيدًا عن اذى قريش، وظل مع الرسول.

يغزو معه إذا غزا

ويصلي معه إذا صلى

وكان أول مؤذن في الإسلام

وقد شهد بلال بدرًا، ورأى بعينيه مصرع عدوه أمية بن خلف.


ألتقط بلال نفسًا عميقًا ملأ به صدره، ثم أردف يقول:

_وفي فتح مكة هناك فوق الكعبة الشريفة شابٌ شديد السواد، نحيف الجسد، مفرط في الطول، صاحب الشعر الغزير في رأسه

انظروا إليه وتأملوه جيدًا.

هل تعرفون ذلك العبد الحبشي؟

نعم، إنه بلال من كان عبدًا في الأمس بات حرًا طليقًا موحدًا.

تطلعت أنظار قريش حينذاك إلى بلال وهو فوق الكعبة، يصدع فوقها بالآذان بصوتٍ شجي مترنمًا به في سعادة.

وتهامسوا القوم وهم لا يصدقون أعينهم

اهذا هو بلال؟ العبد الحبشي؟

ورأو السراج المنير محمدﷺ يتقدم جحافل المسلمين، ويؤذن بلال وتنطلق عبارات هؤلاء الحاسدين الحاقدين، فيقول خالد بن أسيد:

الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يشهد هذا اليوم.

وكان ابوه قد مات قبل الفتح بيوم واحد.

وهذا الحارث بن هشام يقول:

واثكلاه! ليتني مت قبل أن أرى بلالًا فوق الكعبة.

وهذا الحكم بن ابي العاص يقول:

هذا والله الخطب الجلل، أن يصبح عبد بني جمح ينهق على هذه البنية.

وهذا أبو سفيان يقول:

أما انا فلا اقول شيئًا.. فإني لو تكلمت بكلمة لنقلتها هذه الحصاة إلى محمد.

لقد نصر واعز الله بلال.

كيف يكون هذا العبد الحبشي هو مؤذن الرسول ﷺ وصاحب الدعوة..

إنها عظمة الإسلام

لقد نصر الله فنصره

ردد كلمة التوحيد

فكان جزاؤه هذا النشيد العظيم

أبعد ذلك تظن إن الله لن يكافئك على كل ما عانيته، من ألم وحزن، وهم، و وجع وتعب!

حاشاه.

الجزاء من جنس العمل.

هُنا وحق لك أن تتعلم إن الله يكافيء عبده على كل ما يبدر منه.

فهل تعلمت من بلال شيء؟!


سكت بلال على شهقات ندت من أخيه عمرو، فألتفت إليه وهاله دمعه الغزير فضمه إليه مشاكسًا، وهو يقول:

_بتعيط ليه طيب؟!

فهتف عمرو الصغير وهو يمسح دمعه بكف يده:

_عشان كنت عايز أشوف بلال وهو بيأذن، وفرحة المسلمين بالفتح، يا ترى كان بلال فرحته إزاي وهو واقف فوق الكعبة بيأذن بعد كل العذاب اللي عاشه، يا ريتني كنت معاهم، وقدرت اخفف من عذاب بلال.


فتبسَّم بلال من رحابة صدر أخيه، وقال:

_اللي بيحب حد يعمرو يقتدي بيه، وأنت لو بتحب نبيك محمد يبقى حافظ على سنته..


قاطعه فجأة عمرو مبتعدًا عن صدره، وسأله بتفكير عميق:

_أنت بتحب تأذن عشان بتحب بلال؟


ضحك بلال بخفة، وقال بصدق:

_بأذن عشان بحب بلال وعشان بحب الأذان وبحب ربنا وعشان الرسول ﷺ قال:

إن الله وملائكته يصلون على الصف المقدم ، والمؤذنُ يغفر له بمد صوته ، ويصدقه. راوه احمد والنسائي.


ثم استدرك يقول:

_أنت مش عاوز كمالة قصة بلال ولا إيه؟


فصاح عمرو مهللًا:

_عايز طبعًا.


فارتسمت على وجه بلال بسمة حنان، وتابع يقول:

_إليك، فهل تعلمت من بلال شيء؟!

هل تأملت قصته جيدًا واسكنتها شغاف قلبك!

بل لنذكر جانب آخر من قصة بلال أعظم شأنًا، فقد نزل فيه آيات تُتلى إلى أبد الدهر

عن سعد، قال: كنا مع رسول الله ﷺ ستة نفر، فقال المشركين: اطرد هؤلاء فلا يجترؤون علينا، وكنت انا وابن مسعود وبلال ورجل من هزيل وآخران، فأنزل الله: { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ }

[سُورَةُ الأَنْعَامِ: ٥٢]( أخرجه مسلم)

وتعال نعلم ماذا يفعل بلال ليسمع الرسول صوت نعليه في الجنة.

عن بريدة رضي الله عنه قال: دعا رسول الله ﷺ بلالًا، فقال: يا بلال بمَ سبقتني إلى الجنة؟ إني دخلت البارحة فسمعت خشخشتك أمامي.

فقال بلال: يا رسول الله ما أذنت قط إلا صليت ركعتين، وما اصابني حدث قط إلا توضأت عندها، فقال رسول الله ﷺ: بهذا.


توقف بلال وضم رأس أخيه إلى كتفه في رفق، وتمتم متابعًا بكل شوق يغمر فؤاده الهائم بصحابة نبيه:

_ظل بلال يؤذن للرسول ﷺ طوال حياته، ولما انتقل الرسول الأعظم إلى الرفيق الأعلى وحان وقت الصلاة، قام بلال يؤذن في الناس والنبي ﷺ مسجي لم يدفن بعد فلما وصل إلى قوله «أشهد أن محمدًا رسول الله»

خنقته الدموع.. واحتبس صوته في حلقه

وأغرقوا المسلمين في النحيب..

ثم أذن بعد ذلك ثلاثة أيام

فكان كلما وصل إلى قوله «أشهد أن محمدًا رسول الله» بكى وأبكى.

ثم طلب من أبي بكر خليفة رسول الله ﷺ أن يُعْفيه من الأذان بعد أن أصبح لا يحتمله.

واستأذنه في الخروج للجهاد في سبيل الله، والبقاء في بلاد الشام..

فتردد الصديق في الاستجابة لطلبه، فقال له بلال:

إن اشتريتني لنفسك فأمسكني.. وإن كنت اعتقتني لله فخلني لمن أعتقتني له.

فقال أبو بكر: والله ما اشتريتك إلا لله.. وما أعتقتك إلا في سبيله.

وظل ممسكًا عن الأذان حتى لقاه عمر بن الخطاب في بلاد الشام بعد غيابٍ طويل، وهناك جعلوا الصحابة بلال يؤذن في حضرة الفاروق، فما أن رفع صوته بالأذان بكى عمر وبكى الصحابة حتى ابتلت اللحي بالدموع، وظل بلال في دمشق حتى جاءه اليقين، فكانت امرأته بجانبه في فراش الموت وتصيح قائله: واحزناه..

وكان هو يجيبها قائلًا: وافرحاه..

ثم لفظ انفاسه الأخيرة وهو يردد:

غدًا نلقي الأحبة محمد وصحبه..


وعند انتهاء بلال إلى قول (محمد وصحبه) حتى سال دمع عينه شوقًا لرؤية أولاء الرجال العظماء وقد شُحن قلبه بعشق بلال بن رباح وتألم على ما لقاه في سبيل الله..

لقد حُرم من رؤية رسوله في الدنيا!

فويح قلبه ان حُرم منها في الجنة..

واحزناه إن لم يشرب من كوثره يوم القيامة..

ويا أسفاه لو لم يُرزق لذة رؤيته..

ويسبغ على قلبه بصحبته..

استرق نظرة إلى أخيه فوجده قد غط في النوم، كان قد عود اخاه على التكلم بالفصحى ومعرفة الصحابة، فحمله بين ذراعيه وما كاد يستدير، حتى جاءته شهقة قوية من تلك الواقفة بجسدٍ مرتعش كأنما رياحٌ هوجاء أصابة جسدها الضئيل، والدموع تغرق وجهها، وعندما وقع بصرها عليه، وتلاقت عيناهم طويلًا كان نحيبها قد خفت، وشهقاتها قد ازدادت..

وتقدم بلال خطوة نحوها في جزع حقيقي، يصيحُ في توجس:

_إسراء، مالك في أيه.. بتعيطي ليه كده؟

وقبل أن تجيبه كانت تستدير راكضة..

كنت تفر منه بعد أن حست قلبها يود الفرار إليه.

هربت منه بعدما شعرت بروحها تنسل منها إليه.

آه لو تدرِ ماذا فعلت مقلتيها الحزينتين من أفاعيل في قلبه..

لو بقت فسمعت همسه الخفيض لنفسه:

لو تدرِين ماذا تفعلُ عيناكِ الحزينتين في قلبي

لِمَا بكت عيناكِ قط، ولا ذقتا طعم الحزن..

قلبي يرفرفُ كالذبيح وهو يغرقٌ في بحرٍ ذا أمواجٍ ثائرةٌ لا يجدُ مرسىٰ إلا عينيكِ لينجو، أبعد ذلك تُسكنين الحزن فيهما وأنتِ تعلمين إنهما سكني!


وسكت، وشيع قلبه رحيلها وروحه تهمس له في ألم:

_ليتها تغادر قبل أن تسكنا أكثر، ليت الصدف لم تجمعنا، فأين أنتِ وأين أنا؟

وأغمض عيناه..

هي الدنيا تفرق الأحبة

وهو يعلم إن مآلها الفراق..

وإنه كُتب على قلبه العذاب..

وإن الزمان سيسلبها منه..

google-playkhamsatmostaqltradent