رواية سند الكبير كاملة بقلم سعيد شيماء عبر مدونة دليل الروايات
رواية سند الكبير الفصل الاول 1
بكفر عتمان الكبير..
_ كله زي ما أمرت يا كبير..
قالها أحد الرجال ذوي القامة الفارعة و البشرة السمراء، بجسد ضخم و صدر عريض، تطلع إليه سيده ليخفض رأسه سريعا، بنظرات ثاقبة و أنفاس هادئة قام السيد من على مقعد الملوك الذي يرثه أبا عن جد..
مشهد يقشعر له الأبدان فقط من طلته الخاطفة للأنفاس، كبير ابن كبير إسم على مسمى سند الكبير، بطول يقترب من المتران و ضخامة جسد تسقط أمامه القلوب رعبا..
بشرة خمرية تميل إلى اللون الأسود اللذيذ، عيون بها سواد الليل برموش تظلل عليها بحماية مزين إياها بكحل صحن على يد جدته خصيصاً لسند العائلة و الكفر بالكامل..
اقترب من رجله الأمين فاخر واضعا يده على كتفه قائلا بنبرة صوته الخشن بزيادة عن الطبيعي و إبتسامة :
_ قولي عملت ايه بالتفصيل يا فاخر..
أومأ إليه الآخر متعجبا من إبتسامة سيده التي لا تظهر إلا وقت الكوارث ثم أردف بإحترام :
_ كل المستشفيات و الأماكن في إسكندرية رفضوا شغلها، نزلت تدور في المحلات حتى العطارة بس اترفضت و دلوقتي أدامها ساعة بالكتير و توصل الكفر مع سناء، عملت زي ما جنابك أمرت ظهرت لها و عرضت عليها الشغل في الكفر حكيمة لبيت الكبير و هي ما صدقت…
زادت ابتسامته اتساعا، بدأ شعور كبير بالراحة يغمره لاقتراب المراد، عاد ليسأل من جديد بذكائه :
_ في حاجة عايز تقولها و خايف قول أنا سامع…
ابتلع الآخر لعابه قائلا :
_ مش هتيجي لوحدها يا كبير معاها الراجل اللي كاتب كتابه عليها من شهر…
لم يتعجب أو يظهر عليه أي رد فعل عنيف كما تخيل فاخر، بل ابتسامته الشيطانية جعلته يتأكد أن زوجها المسكين نهايته قريبة جداً، أبتعد سند خطوة للخلف سامحا للآخر بالخروج من المكان…
أخرج تنهيدة قوية.. ها هي تعود إلى نفس المكان الذي فرت منه بليلة ممطرة و ستعود بنفس الليلة بعد عام كما أمرها، حبة الفراولة خاصته.. لعبته الأكثر من ممتعة يفصل بين اللقاء ساعات قليلة…
جلس على مقعده و عينيه على نور الصباح النابع من الشرفة مردفا بهدوء :
_ والله زمان يا وعد…
____________
على الصعيد الآخر بالإسكندرية…
في تمام الساعة العاشرة صباحا…
أغلقت باب منزلها خلفها بعدما ألقت عليه نظرة أخيرة، حملت حقيبتها و هي على يقين من اقترابها إلى الهاوية، تتطلع لباب المنزل لا تريد الذهاب إلى مكان يجمعها به، كل ما حدث و يحدث و سيحدث من تدبيره…
أخرجت أنفاسها بقلة حيلة أغلقت كل الأبواب بوجهها و لم يبقى أمامها إلا بابه، سند الكبير حلم حياة تحول بليلة واحدة إلى كابوس مرعب، انتبهت إلى تلك اليد التي تحمل عنها الحقيبة لتنظر إليه بابتسامة مردفة :
_ مكنش في داعي يا محمد تيجي معايا و تسيب شغلك و حياتك..
ضربها الأخر على مقدمة عنقها، بابتسامة مرحة تليق ببشرته البيضاء و عيونه الخضراء كأنه أحد ممثلي أوروبا، وسيم، محب، ودود، بكل شيء مميز يأخذ من اسمه الكثير، قائلا :
_ مجنونة أنتي عايزاني أسيبك أنتي مراتي يا بت يلا ادامي أنا متحمس أوي للرحلة دي…
مطت شفتيها إلى الأمام بتهكم مردفة :
_ متحمس لإيه بلا نيلة.. تعرف يا محمد من موقعي هذا بقولك أيامنا اللي جاية كلها هتكون بالشكولاته من كم السواد اللي هنكون فيه يلا شيل الشنطة و تعالى ورايا لسناء تحت…
بخطوات بطيئة تقدم ساق و تعود عشرة للخلف بدأت تقترب من السيارة الفخمة التي تنتظرها أسفل منزلها، هذه الرحلة لن تكون سوي الجحيم على الأرض…
ابتسمت تلك السيدة الأربعينة لسناء بشفقة كبيرة حاولت اخفائها قدر المستطاع، هذه الصغيرة تخطو بنفسها إلى كفر الكبير و يا عالم ماذا سيحدث هناك، أشارت الي جوارها قائلة :
_ تعالي يا وعد اقعدي جانبي هنا و أستاذ محمد يبقى يقعد جنب السواق، نفسي أشوف اللي خطف قلبك يا بنتي…
ضحكت وعد بمرح مردفة :
_ بيجيب الشنط أصلها كتير شوية، المهم دلوقتي يا ست سناء إن الكبير مش في الكفر مسافر زي ما قولتي كام شهر أدبر فيهم أموري و أمشي…
ارتبكت ملامح الأخرى إلا أنها أردفت بهدوء :
_ طبعاً يا وعد، فين بقى جوزك عايزين نمشي…
أشارت وعد إلى محمد القادم على بعد مسافة قليلة منهما قائلة :
_ أهو هو ده محمد يا ست سناء…
ها هي سناء تأخذ أكبر صدمة بحياتها بعدما وقعت عيناها على محمد، أغلقت عينيها عدة مرات تحاول استيعاب و فهم ما تراه من هذا محمد؟!…
____________
عودة مرة أخرى إلى الكفر…
الساعة الثانية إلا ربع ظهرا..
بمنزل الكبير دلفت إمرأة تخطت السبعين عاما إلا أنها مازالت تتحلى بالجمال و الصحة، السيدة حكمت جدة سند و سيدة الكفر، ضربت بعصاها الأرض لينتفض من بالمكان، وقف الجميع انتباه لتقول هي بقوتها المعتادة :
_ باقي ربع ساعة على وكل السيد سند الكبير، مش عايزة غلطة واحدة تمنها رقبة حد فيكم، يلا همي منك ليها خلينا نشوف ورانا إيه…
الساعة الثانية ظهرا بالدقيقة كان يجلس على طاولة الطعام بالمقعد الكبير و بالمقابل له جدته، يأكلان وحدهما كما اعتادا و باقي العائلة يفضلوا الغذاء بوقت متأخر…
نظر إلى جدته بهدوء قبل أن يبدأ طعامه بصمت، يقرأها مثلما اعتاد على قراءة الجميع تراقبه و تعلم بخطته و ربما تريد إيقافها، ساد الصمت لدقائق حتى قطعته السيدة حكمت مردفة :
_ رايد إيه من بنت إسكندرية تاني يا سند الكفر كله عشان تحوم حواليها و تغصبها ترجع؟!..
ترك قطعة فخذ الدجاجة من يده قبل أن ينظفها بالمنديل الموضوع بجواره قائلا ببرود :
_ كيفي كدة يا حاجة وعد لازم تبقى تحت عيني و أمري كمان، والا المراقب بتاعك مقالش ليكي أنا رجعتها غصب زي ما بتقولي ليه…
تركت الأخرى طعامها، وعد فتاة بريئة بينها و بين حفيدها فرق مثل الفرق بين السماء و الأرض، الماء و النار، تغيرت ملامحها باعتراض قائلة :
_ مين قالك إني براقبك أنا هنا الكبيرة زي ما أنت الكبير يا ولد الغالي، ابعد عنها و طلعها من دماغك أنا مش هسمح إنها تتحط وسط حريمك اللي كل ما واحدة تغلط تطلق و يبقى عقابها تعيش باقي عمرها في زنزانة تحت الأرض، كفاية ظلم بقى…
تغيرت معالم وجهه بشكل مخيف لدرجة برزت بها عروق عنقه، إلا أنه عاد إلى طبيعته باللحظة الثانية، وضع المنديل على الطاولة قبل أن يقوم من مكانه مقبلا رأس جدته بهدوء قائلا بنبرة صادقة :
_ مش سند الكبير اللي يبقى ظالم يا حاجة بالعكس أنا بجيب حق المظلوم، و لو في واحدة من الحريم دي مظلومة مكنش هيبقى مكانها تحت الأرض زي ما قولتي، عن إذنك…
تمسكت حكمت بيده تمنعه من الذهاب، عاد بعينه إليها ليجدها تبتسم إليه بحنان و ثقة مردفة :
_ انا عارفك يا غالي يا ولد الغالي بس وعد لا، دي فيها روح كل اللي بنحبهم اوعدني تبقى سند ليها زي ما أنت كدة مع الكل…
وضع كفه على رأس جدته قائلا :
_ القرار ده في ايدها هي يا حاجة حكمت…
________________
ترك جدته ذاهبا إلى قطعة من قلبه جعلتها الأيام جسد بلا روح، دق على بابها مرتين قبل أن يدلف للغرفة، نهضت من على فراشها ليظهر جمالها الخاطف للأنفاس…
بشرتها الخمرية التي يزينها أنف صغيرة و شفتين ممتلئة بشكل ملفت و ما يزيد جمالها جمال عينيها الزيتونية الساحرة..
هناك مقولة شهيرة نعرفها جيدا أن القمر لا يكتمل أبداً ، و هذا هو حالها اقتربت من شقيقها تضمه إليها بحماس طفلة صغيرة تبحث عن الحنان و الأمان و لا تجدهم إلا معه…
بدالها العناق برحابة صدر قائلا :
_ كنتي فين الصبح، كدة أمشي من غير ما اشوفك يا همت إنتي عارفة إن يومي من غيرك ولا حاجة صح؟!
أومأت إليه بابتسامة مشرقة تضيء حياته، هامسة له بعتاب :
_ همت زعلانة من سند…
اتسعت عيناه بذهول مردفا :
_ لالا همت زعلانة من سند ليه عمل ايه الوحش ده؟!..
ابتعدت عنه قليلا مشيرة إلى دميتها الصغيرة و الدموع تكاد تسقط منها قائلة بنبرة متقطعة :
_ همت الصغيرة عينيها طلعت النهاردة يا سند حاولت أعالجها معرفتش.. قعدت أعيط و استنى فيك عشان أنت تعالج عينيها بس برضو أنت مجتش…
أزال دموعها ثم قبل رأسها عدة مرات متتالية اخذا منها الدمية هامسا :
_ حقك عليا كان عندي شغل هاتي همت الصغيرة أعالج عينيها على ما همت الكبيرة تأكل و تنام شوية…
___________
عصرا… على الباب الرئيسي لمنزل الكبير كانت تقف السيارة التي تحمل وعد مع محمد و السيدة سناء التي تنظر إليهم طوال الطريق بلا كلمة واحدة فقط مذهولة، خائفة من القادم و ها هم على بعد خطوة واحدة من سند الكبير…
حملت حقيبتها إلا أن يد محمد سبقتها بحملها قائلا :
_ عيب في حقي لما أبقى شحط كدة و مراتي تشيل شنطتها، قوليلي أدخل الشنط دي فين يا ست سناء…
أنتبهت سناء على نفسها أخيرا و استجمعت قوتها مردفة :
_ أنت هتقعد في بيت الضيوف اللي في الجنينة أما وعد هتدخل البيت الكبير و لما تعملوا فرح تبقى معاك…
أوما إليها بترحاب قبل أن يأخذ حقيبته تاركا حقيبة وعد مع الحارس متجها إلى شقته الصغيرة…
عند وعد…
بعد عشرة دقائق دلفت وعد إلى غرفة الضيوف الموضوعة بالدور الأرضي، أغلقت الباب خلفها تحاول أخذ أنفاسها، خائفة إلى درجة الرعب، تشعر به قريبا منها بطريقة غريبة…
ألقت الحقيبة على الفراش مستخرجة منها ملابس بيتية ثقيلة و هي تقول بضياع :
_ فى ايه يا وعد اهدي سند مش هنا مسافر يمكن حاسة بيه لأنك في بيته بس هو في الحقيقة مش هنا، خدي نفس عميق و كوني قوية…
دلفت للمرحاض رغم برودة الجو قررت الاستحمام بماء بارد حتى تعود إلى قوتها و رشدها من جديد، بعد دقائق وضعت روب الاستحمام على جسدها الذي يكاد يطلب النجدة من الثلج ثم خرجت…
وقفت أمام المرايا تزيل المنشفة عن خصلاتها البنية المموجة مجففة إياها قائلة :
_ و بعدين بقى في اليوم ده معقول أكون خايفة منه لدرجة إني بتخيل أنه واقف ورايا…
سقط المشط من كفها مع شعورها بأنفاس ساخنة تلفح عنقها و رنين صوته الخشن يأكل أذنيها بابتسامة أقل ما يقال عنها قاتلة :
_ مش تخيل يا وعد ده حقيقة إنتي مش بس جوا بيتي أنتي كمان جوا أوضة نومي و لابسة روب الحمام بتاعي..
___________
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية سند الكبير ) اسم الرواية