رواية وما ادراك بالعشق كاملة بقلم مريم محمد غريب عبر مدونة دليل الروايات
رواية وما ادراك بالعشق الفصل الثاني 2
_ الماضي في صور _ :
قبل ثماني و عشرون عامًا …
الربيع… تتفتّح أزهاره و يعبّق أريجه مع نسيم البحر عروس الأبيض المتوسط.. “الإسكندرية” الساحرة بموجها الفيروزي و شواطئها الذهبية
بعد يوم مزدحم بالعمل، يغادر “يحيى البحيري” مبنى شركته أخيرًا متجه نحو سيارته المخصوصة، يعتلي المقعد الخلفي و هو يلتقط أنفاسه بإرهاقٍ واضح، يغلق في إثره رادًا التحيّة على سائقه المسن :
-مساء النور يا عم جابر. معلش إن كنت خلّيتك ترجع توصلّني البيت. بس حقيقي اليوم كان طويل و متعب و خلاص مش قادر أعمل بنفسي أي حاجة تاني.
يرد المدعو “جابر” بلطفٍ ناظرًا إليه عبر المرآة الأمامية :
-أنا خدّامك يا بيه و تحت أمرك في أي وقت.
يحيى مبتسمًا : ماتقولش كده يا راجل يا طيب. انت غالي عليا يا عم جابر كفاية إنك من ريحة أبويا الله يرحمه.
-الله يحفظك يابني و يسترها معاك دنيا و آخرة. تسلم يا يحيى بيه.
لاحظ “يحيى” اهتزازًا قوي بصوت الأخير، فقطب مدققًا النظر إلى وجهه عبر المرايا، ليرى عيناه محمرّتين و كأنه يبكي فعليًا، و قسمات وجهه بدت متعبة و ذابلة عن المعتاد …
-انت كويس يا عم جابر ؟ .. قالها “يحيى” متسائلًا باهتمام
فشل “جابر” بامساك دمعته من الفرار بين جفنيه، مع ذلك حاول أن يرد بصوتٍ طبيعي :
-أنا كويس يا بيه. كويس !
لكنه لم يستطع خداعه تمامًا، و شعر “يحيى” بالفضول و القلق على تابعه الأمين، فأمره بحزمٍ متناسيًا تعب النهار كله :
-طيب اركن بينا عند “******” إللي على البحر. نفسي رايحة لفنجان قهوة في الوقت ده.
أطاع السائق المسن أمر سيده دون أن يشك لحظة بنيّته، إلا إن “يحيى” ما كان ليجعله يعترض في جميع الأحوال، و ما كان ليتركه دون أن يعرف ماذا به بالضبط
دقائق و كانا يجلسان داخل مقهى شهير يطلّ على البحر مباشرةً، بعد مقاومة من “جابر” بأن لا يصح أن يُجالس السيد في مكانٍ كهذا، و لكن كلمة “يحيى” كانت أمر نافذ بالنسبة له، فرضخ لمشيئته في الأخير و ها هو يجلس أمامه، يطالعه “يحيى” بنظراتٍ متفحصة و هو يحتسي فنجانه قهوته باستمتاعٍ، بينما “جابر” لم يمد يده إلى قدح الشاي الذي طلبه
بقي شاردًا هكذا منذ جلوسهما، علامات الكآبة تبدو عليه، و لا يدري “يحيى” أهذا إعياء الذي يهدّل محيّاه الهرِم أم ماذا !؟
-إيه يا عم جابر ! .. هتف “يحيى” بابتسامته الجذّابة مبددًا الصمت بينهما
انتفض “جابر” بخفةٍ منتبهًا من شروده، نظر إلى سيده قائلًا :
-أؤمرني يا بيه !؟
يحيى بهدوءٍ : مش هاتقولي مالك بقى. أنا جبتك و قعدنا هنا مخصوص عشان أعرف فيك إيه. شكلك مش عاجبني. قولّي مالك يا عم جابر ؟
تململ “جابر” بمكانه مجفلًا و هو يقول بتوتر :
-ماليش يا بيه. أنا كويس الحمدلله …
ابتسم “يحيى” كما لو أنها لم تنطلي عليه و قال :
-يا عم جابر. انت شايفني عيّل صغير قدامك ؟
-العفو يا بيه. ينقطع لساني لو أقول كده. ده انت على راسي يابني و ليك مكانتك في قلبي ربنا إللي يعلم.
-طيب طالما كده يبقى تفتح لي قلبك. أنا مش زي إبنك ؟
-و أكتر يابني. أنا أفديك بروحي. ده انت ابن صالح بيه البحيري الراجل إللي طول عمره خيره عليا و على بيتي حتى بعد ما مماته.
حافظ “يحيى” على ابتسامته و هو يقول :
-قولّي يا عم جابر.. فضفض !
في البداية لم يستطع “جابر” البوح بكلمةٍ، لكنه مع نظرة “يحيى” المصممة، تنهد بانهزامٍ و مضى يحكي له عن السر الذي حمله على عاتقه لأيامٍ حتى كسر ظهره بالفعل، و لم يعد بقادر على كتمانه دون أن ينهار
انهار بالفعل أمام “يحيى”.. بكى وهو يخبره عن مرضه العضال الذي اكتشفه مؤخرًا… و بكى بحرقةٍ أكثر و هو يخبره عن إبنته الصغيرة التي ليس لها سواه في الدنيا و عن مخاوفه من أن يأخذه الموت و يتركها بمفردها لقمة سائغة بفك الأقدار المجهولة
كان “يحيى” متأثرًا بالفعل، و رؤية “جابر” يبكي بهذا التداعي لم تسهم إلا في ازدياد جزعه و هو يحاول عبثًا تهدئته :
-إهدا يا عم جابر. وحد الله كده. صدقني مافيش مشكلة مالهاش حل.
يسحب “جابر” منديلًا آخر و هو يجفف عينيه التي لا تكف عن ذرف الدموع، و ير على سيده بصوتٍ ملؤه النشيج :
-إلا مشكلتي يابني. أنا راجل كبير و ماليش حد في الدنيا غير بنتي. و الدكتور قال مرضي مالوش علاج. أيامي بقت معدودة.
يحيى بنزقٍ : مين قال. مايعلمش الغيب إلا ربنا يا عم جابر. محدش يعرف هايموت إمتى و لا إزاي. انت مش مؤمن بالله و لا إيه. ربنا سبحانه و تعالى قال : “”وَما تَدْري نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَدًا وَما تَدْري نَفْسٌ بِأيِّ أرضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير”.
جابر بآسى : صدق الله العظيم. و نعم بالله. أنا مؤمن و الله. و أقسم لك مش فارق معايا الموت من الحياة. أنا بس خايف على رحمة بنتي. مالهاش غيري. لا أم و لا أخوات و أنا أصلًا مقطوع من شجرة. يعني لو ربنا خد أمانته في أي وقت هاسيبها لوحدها و هاتتبهدل من بعدي.
-أنا مش فاهم انت ليه متشائم كده. قلت لك مافيش مشكلة مالهاش حل بإذن الله. أنا من بكرة هاعرضك على أحسن دكاترة في البلد. و لو حكمت أسفرك برا هاتكفل بمصاريف علاجك من الألف للياء يا عم جابر و لا تشيل هم. و بنتك لا هاتكون لوحدها و لا حاجة. أنا هاخد بالي منها. مش بس كده هاشغلها عندي في الشركة كمان و بكده قلقك عليها مالوش داعي.
كل ما سمعه “جابر” للتو غير قابل للتصديق، فما كان منه إلا ان أنكر هذا الكرم بعزة نفسٍ :
-أنا مش عارف أشكرك إزاي يا يحيى بيه. بس سامحني مش هقدر اقبل منك كل ده. بالأخص إن زب ما قلت لك. حالتي مالهاش علاج. أنا عندي الخبيث في الدم !
وأد “يحيى” اعتراضاته بإشارة من يده قائلًا :
-أنا مش عايز اسمع الكلام ده تاني. انت أمانة أبويا. و معلش ماتزعلش مني برضاك غصب عنك هاتسمع كلامي. حتى لو زي ما بتقول أنا هاعمل إللي عليا معاك و الشفا ده من عند ربنا. مفهوم يا عم جابر ؟
نظر له “جابر” و لم يعرف بماذا يرد، فاستطرد “يحيى” بصوتٍ أجش :
-بالسنبة لبنتك بكرة تجبهالي الشركة. أنا هاحطها بنفسي في مكان كويس. و مرتبها كمان أنا إللي هاكتبه بإيدي.
هز “جابر” رأسه مدمدمًا بحرج :
-أنا و الله ما عارف أشكرك إزاي. كلك كرم زي أهلك يابني. بس أنا مش عارف إن كنت فاكر و لا لأ. أنا قلت لك قبل كده ان رحمة بنتي مش متعلمة. أنا قعدتها في البيت بعد الإعدادية. هاينفع تشتغل في الشركة. لو ينفع أنا مش هابقى عايز حاجة اكتر من كده. كفاية تكون تحت عنيك انت !
صمت “يحيى” متفكرًا، و قد وجد صعوبة بالفعل في حل تلك المعضلة، ماذا ستفعل في شركته الكفؤة فتاة مثلها بشهادة أدنى من المتوسطة !؟
من المستحيل أن تفلح بأقل وظيفة لديه.. كيف يصنع معها إذن !!!
-ماتقلقش يا عم جابر ! .. قالها “يحيى” مبتسمًا ببساطةٍ :
-ليها حل إن شاء الله.. و دلوقتي قوم معايا يلا عشان أوصلك بيتك.
و قام “يحيى” مرتديًا سترته من جديد، قام “جابر” هو الآخر قائلًا و هو يتطلّع إليه :
-لا توصلني إيه يا بيه. أنا إللي جاي عشان أوصلك !
تنهد “يحيى” بصبرٍ و قال بصرامة :
-عم جابر. هي كلمة واحدة من فضلك. أنا إللي هاوصلك.. اتفضل قدامي.
و رمى فوق الطاولة بورقتين نقديتين.. ثم لحق بالسائق بعد أن أصر ان يتقدّمه …
في غضون ثُلث ساعة، كان يصطف “يحيى” سيارته هنا، أمام بيتٍ متواضع من أربعة أدوار بمنتصف حارة ضيّقة بالكاد اتسعت للسيارة الفخمة التي وطأتها باصرار، يفتح “جابر” باب السيارة من جهته و ينزل، لكنه ينحني ليخاطب السيد قائلًا :
-أنا عارف إن بيتي مش أد المقام. بس أزعل أوي لو تيجي لحد الباب و ماتدخلش نضايفك أي حاجة.. ها. تدخل و لا ماتدخلش يا يحيى بيه ؟
تشكّلت على ثغره ابتسامته الدقيقة الحلوة مجددًا، ليقول بكياسته المعهودة :
-أدخل يا عم جابر. ادخل طبعًا.
و حقًا لم يتردد و هو يغلق السيارة و ينضم إلى سائقه، أثناء مروره ناحيته بالكاد تفادى “يحيى” و بالوقت المناسب مياه قذرة ألقت من الأعلى، لم يصدق نفسه لوهلةٍ، بينما أحس “جابر” بحرجٍ شديد و هو ينفض عن كتفيّ سيده متمتمًا باعتذار :
-أنا آسف يابني. حقك عليا أنا. أنا آ …
-مافيش حاجة يا عم جابر ! .. قاطعه “يحيى” مهدئًا إيّاه :
-أنا كويس ماحصلش حاجة.
رغم ذلك بقي الخير يتمتم بعبارات الإعتذار، و سار “يحيى” من خلفه و هو يتأمل المكان من حوله، مدخل البيت المتهالك، العفن و الرطوبة بالداخل، كان كل شيء متسخ و في حالة يُرثى لها.. حتى دفع “جابر” بمفتاح باب الشقة بالقفل و فتحه
أفسح له داعيًا إيّاه :
-اتفضل يا يحيى بيه. نوّرت و شرفت.
تقدّم “يحيى” بخطى مدروسة للداخل و هو ينظر إلى المساحة المحدودة باعجابٍ، كان غير مصدقًا، النظافة و الترتيب بالداخل يُناقض تمامًا ما رآه قبل لحظات بالخارج، صحيح أن الأثاث رث و المفروشات تنم عن رخصها، و لكن البيت كان جميلًا، دافئًا بطلاؤه الجديد، و أرضه اللامعة، و تلك الرائحة الزكية المنبعثة من مبخرة قبعت هناك فوق طاولة مقابلة للشرفة المفتوحة و المطلّة على الحارة، إن هذا البخور جيد حقًا، رائحته… جميلة !!
-رحمــة !
إلتفت “يحيى” لحظة هتاف “جابر” باسم إبنته، لم يتسنّى له منادتها مرةً أخرى، إذ ردت عليه قبيل ظهورها بلحظاتٍ :
-نعم يا بابا. انت وصلت.. أنا جاية أهـو !
و ظهرت “رحمة” …
خرجت عبر باب لغرفةٍ جانبية تمسك بفوطة تنظيف تحمل القليل من الأتربة
غير ممكن.. هل هذه هي “رحمة” !؟؟
خلال دردشة بسيطة في الطريق إلى هنا أخبره والدها بأنها بالكاد تبلغ الثامنة عشرة من عمرها.. و لكنها لا تبدو صغيرة إلى هذا الحد
اللعنة !!!
كانت امرأة شابة، ذات شعرٍ فاحم مجعّد ينثر من حولها نعومةٍ أنثوية، طويلة القامة، بشرتها حليبية ناصعة، ملامحها حادة الجاذبية، مفاتنها قد نضجت أسفل ثيابها بشكلٍ ملحوظ يثير الغرائز علانيةً
كانت بلا شك ذات مظهر فقير، و لكنها في الوقت ذاته جميلة هي التي تعطي قيمة ما ترتديه، ببلوزتها الصفراء الخفيفة، و تنورتها البنيّة التي رآها “يحيى” قصيرة جدًا بحيث أبرزت ركبتاها و جزء من فخذيها، لم يدرك إلى أيّ حد كان يلتهمها بنظراته و انها هي أيضًا كانت تحدق فيه كما لو أنها لم ترى رجال أبدًا
ليقطع صوت “جابر” جو التأملات هذا على الفور و هو يصيح بحدة :
-خشي يابت إلبسي حاجة بسرعة. عندنا ضيف !!
و لم يكمل أبيها جملته إلا و لاذت بالفرار عائدة داخل الغرفة بعيدًا عن مرمى نظرات “يحيى” …
كان الأخير مرتبكًا بشدة، يتنفس بثقلٍ و هو لا يستطيع محو صورتها من أمام عينيه، لا يعرف ماذا أصابه، إنه متزوج، لديه امرأة يعشقها و يحسده عليها القريب قبل الغريب، كيف إذن تحرّك مشاعره فتاة مثل تلك ؟
كيف تجتذب عيناه إليها بهذه الطريقة و تثيره !
بحق الجحيم !!
إنه حقًا مُثار، و منها هي، إبنة السائق !!!
_______________
أجفل “عثمان” من سؤالها غير المتوقع بالمرة، في البادئ لم يبدر إلى ذهنه إجابة، و لم يحاول أن يجاوبها على هذا أصلًا، أثارت ريبته أكثر و هو يرى خوفها يتفاقم
جسدها يرتعش بوضوح، الجزع يُحدد ملامح وجهها و هي تنظر إليه بهذه الطريقة كما لو أنه غريبصا عنها، أو.. عدوها !!!
-سمر. حبيبتي. ماتخافيش انتي بخير. الحادثة كانت بسيـ …
-إبعد عنـــي ! .. قاطعته صارخة قبل أن تمتد يده لتلمسها
و رغم آلامها الجسيمة، إلا أنها وجدت القدرة لتقفز من السرير الطبّي لتفر منه أقصى ما يمكنها بآخر نقطة بالجناح، وسط ذهوله و عدم قدرته على إستيعاب ما يحدث معها …
الهواء حولها يصير ثقيلًا، ثقيلًا جدًا لتتمكن من استنشاقه، لا زالت تلوذ بالجدار الصلد من خلفها، محاصرة في تلك الزاوية، لا تستطيع حراك، بلباس المشفى و الضمادات تُحيط برسغها و رأسها، و هناك آلام سحيقة تنهش أضلاعها، ترفض التخلّي عن المزهرية التي تشهرها بوجه ذاك الغريب كمحاولة دفاعٍ واهية
في قرارة نفسها تعلم يقينًا بأنها لن تتغلّب على كائنٍ مثله، بنظرة فاحصة سريعة تمكنت من ملاحظته جيدًا، رجل بطوله و ضخامته، و وجهه الوسيم الخطر في آنٍ، إنه يبدو نظيفًا و علائم الثراء تتجلّى عليه، لكنها لا تعرفه، إنه غريب، غريب استيقظت من نومها لتجده بوجهها !
أين هي بحق الجحيم ؟ أين والديها ؟ أين شقيقها ؟ أين أختها الرضيعة !؟؟؟
اتسعت عيناها بخوفٍ مضاعف و هي تراه يتقرّب إليها على مهلٍ …
-سمر ! .. يُكرر “عثمان” بهدوءٍ و هو يحاول أن يمسك ذراعها
لكنها تنتزعه من قبضته بالقوة صارخة بذعرٍ :
-ابعد عنـي. اوعـى تلمسني. ابعــد عنــــي …
ينظر إليها “عثمان” بتعبيرٍ مصدوم، ليأتي الطبيب في هذه اللحظة من ورائه متسائلًا :
-إيه إللي بيحصل !؟
نظر الإثنان نحوه، و خاطبه “عثمان” بصوتٍ أجش :
-تعالى شوف مالها يا دكتور. دي حالتها صعبة. مش طبيعية خالص. دي مش عرفاني !!
رفع الطبيب كفّاه و هو يقول مُهدئًا :
-طيب بالراحة بس. دي يا دوب لسا فايقة يا عثمان بيه ! .. ثم حوّل نظراته صوب “سمر” مستطردًا :
-إهدي يا آنسة !
فارت الدماء بعروق “عثمان” و هو يصيح غاضبًا :
-آنسة !!؟
و إندفع مرةً واحدة إليها، قبض على ذراعها بقوة محملقًا بشراسةٍ إلى عينيها المتسعتين بخوفٍ، ثم قال من بين أسنانه :
-الآنسة دي تبقى مراتي. أنا جايب منها عيّلين !
الدموع تلدغ عينيها و هي تصرخ به و في نفس الوقت تهوى بكفّها على صدغه صافعةً إيّاه :
-أخـرس. أنا عذراء يا حيـواااان !!!
الصفعة قد أطاحت بوجهه جانبًا، و لكن الصدمة كانت أشد وطأةً عليه، جعلت فكّه يتدلّى و عيناه تتسعان و هو يردد و لا يزال ثابتًا على وضعيته :
-عــذراء !!؟؟؟
*****
كانت السيدة “فريال” قد وصلت بصحبة الأطفال، عندما كان يهتاج “عثمان” و يستشيط غضبًا بالخارج أمام الأطباء :
-يعنـي إيـه يا دكاترة. بتطلبوا مني أستوعب إيـه ؟ يعني مراتي وقعت من ذاكرتها 13 سنة بحالهم. و يُصادف إن ده الوقت إللي ظهرت فيه في حياتها. يعني هي فاكرة كل حاجة و نسياني أنا و ولادها. إزاااي !!؟؟؟
جاوبه كبير الطباء قائلًا :
-بتحصل يا عثمان بيه. صدقني بتحصل. كلنا مقدرين صدمتك. لكن في نفس الوقت بنطلب منك تهدا لأن إنكارك مش هايسبب أي حاجة غير سوء حالة المدام.
عثمان بسخرية : و هي حالتها ممكن تسوء أكتر من كده. دي مش فكرانـي. المدااام. لسا مفكرة نفسها عذراء ! .. و استدار نحو أمه ليخبرها مجددًا و كأنها أبشع نكتة سمعها :
-سمر عذراء يا فريال هانم. عذراااء.
-يعني إيه عذراء يا بابي !؟
إلتفت “عثمان” إلى إبنته التي طرحت عليه السؤال، و لم يستطع ردًا، فاجتذبتها “فريال” لتقف أقرب منها و هي تغمغم لها :
-فريدة ده كلام كبار. مايصحش تسألي !
ثم ولّت اهتمامها صوب إبنها قائلة بلطفٍ :
-هدي نفسك يا حبيبي. الدكتور قال في علاج. سمر مش هاتفضل كده. قوله يا دكتور !!
تدخل طبيبًا آخر في هذه اللحظة :
-يا حضرات ده حادث عرضي. عادي جدًا يحصل. و مش شايف كدكتور إنه أزمة. المريضة بس محتاجة صبر و إنها تتعرّف على القريبين منها من أول و جديد. مع الوقت هاتفتكر.
رد “عثمان” من بين أسنانه :
-إحنا لسا هانتعرف على بعض. فعلًا.. ولادنا في المدرسة و لسا هانتعرف على بعض !!
اقترحت “فريال” : طيب يا دكتور مافيش أي حلول سريعة. مثلًا نخلّيها تشوف حد تعرفه قبل المدة دي. أختها مثلًا !
الطبيب : هي فين اختها دي ؟
-أهيه. تعالي يا ملك ! .. و شدت “فريال” الفتاة المراهقة من رسغها
رفع الطبيب حاجبه و هو يقول بلهجةٍ قطعية :
-أكيد ماينفعش. البنت شكلها صغيرة جدًا. يعني من 13 سنة شكلها ماكنش كده و كانت مجرد طفلة. مش هاتفتكرها طبعًا. و لا هاتفتكر حد فيكوا. ف مش هاينفع تشوفكوا في الوقت الحالي تحصلها صدمة أكبر !
يزفر “عثمان” بنفاذ صبرٍ و هو يفرك جانب وجهه بشدة، و على مضضٍ ردد من بين شفتيه المطبقتين :
-مافيش غيره… فــادي !
_________________
استعادت “شمس” وعيها ببطءٍ، كانت تعلم بأنها أُجبرت على التخلّي عنه، كانت تعلم بأنها مختطفة، مِمّا جعل الجزء السحيق داخل رأسها و الذي لم ينله الخدر يتحفّز استعدادًا لهذه اللحظة
ما إن أحسّت “شمس” بقدرتها تعود لتفرض سلطة على جسدها، قاومت الثقل الذي توّزع على أطرافها وتململت بمكانها، تشعر ببرودة و نعومة الشراشف أسفلها، و تشم رائحة نظيفة منعشة، كان عقلها يعمل بنشاطٍ مجنون الآن و هي تحلل وضعها ريثما تجد القدرة على فتح عيناها
إذن هي مخطوفة !
من الذي يمكنه فعل ذلك ؟ هي لم ترى و لا حتى ظلّه.. و لكنها شعرت به
وحش بشري، ظهر من عدمٍ قبل أن تتمكن من الصعود إلى سيارتها، كبّلها بذراعيه و سحبها بعيدًا و هي تصرخ بلا فائدة لأن كفّه أطبقت بقوة على فمها، لا تعرف ماذا حدث بعد ذلك.. و كيف فقدت وعيها !؟؟
إنفتح جفناها الآن مرةً واحدة، لتصطدم عيناها برؤية ساطعة لتلك الغرفة الكبيرة الأنيقة، إنها غرفة نوم كما توقّعت، و لكن لمن ؟
ارتعدت فرائصها و هي تهب جالسة فوق الفراش، تنظر حولها بخوفٍ، شرفة موصدة ورائها صفحة الليل لا تزال داكنة، طاولة زينة خلت إلا من أغراض رجالية تتمثل بمكينة حلاقة كهربائية و بعض من قناني العطور و فرشاة للشعر، سترة جلدية سوداء اللون ملقاة هناك فوق كرسي صغير محاذي للفراش
احتبست أنفاسها بحلقها و هي تدرك الحقيقة أكثر، و لا تريد تصديقها، و لكن الأدلة كلها تؤكدها، خاصةً و هي تستنشق ذاك العطر الذي تحفظه كأسمها، و تستمع إلى وقع خطوات تعرفها تقترب من الغرفة
بقيت في تأهب و هي تحدق بقوة إلى الباب المغلق و دقات قلبها تدوي بصخبٍ في أذنيها، إنكمشت على نفسها لحظة دفع الباب، ليظهر الشخص الذي اختطفها، آخر شخص توقعت أن تراه اليوم… هو “رامز الأمير” !
-رامز !!! .. أفلت اسمه من بين شفتيها مع أنفاسها المتلاحقة
بقدر ما أسعدتها رؤيته من جديد، و شوقها الشديد إليه، بقدر ما أرعبها ظهوره أمامها، لاسيما بتلك السِحنة الضارية، إن كانت النظرات تقتل لأردتها نظراته قتيلة في هذه اللحظة
ارتعشت “شمس” و هي تزدري ريقها بصعوبةٍ دون أن تجرؤ على إزاحة عينيها بعيدًا عنه، و غريزيًا دفعت نفسها للقيام من السرير عندما رأته يُقبل عليها كالنمر المسعور، بالتأكيد، كان عليها ان تعرف بأن اللقاء سيكون كارثة، بعد الخطأ الذي ارتكبته بحقّه، لطالما عرفت بأنه إن وجدها فهي هالكة لا محالة
أدى تراجعها المترنّح للوراء إلى اصطدام ظهرها بالجدار الصلب، ندت عنها آهة خافتة، و لا زالت مصوّبة ناظريها المذعورين تجاهه، ليتوقف “رامز” فجأة على بُعد خطوتين منها، يشملها بنظراتٍ متفرّسة، ملتذذًا برؤيتها خائفة إلى هذا الحد، كتفاها يرتجفان كأنها قطة عالقة بمصيدة، و لكنه أبدًا لم يحاول أن يخفي تعبير الغضب البارد الذي حدد معالم وجهه …
-شمس ! .. جرى اسمها على شفتيه بانسيابةٍ
سمعته كما تعوّدت أن تسمعه منه دائمًا، و كم كانت مشتاقة حقًا لسماع اسمها بصوته، للحظة تبخر كل خوفها منه و لم ترى أمامها إلا الحبيب الذي هجرته بمحض إرادتها، حبيبها الوسيم، الذي أقامت معه علاقة عشقٍ متآججة كان مآلها إلى زواجٍ لولا ما فعلته قبل ثلاثة سنوات، لم تغيّره تلك السنوات الثلاثة أبدًا، لا زال كما تذكره، جميلًا، جذّابًا، بعينيه الخضرواين مثل غاباتٍ مطيرة، و شعره الأشقر ربما قصر قليلًا عمّا كان، و بشرته البيضاء المشربة بحمرة طفيفة، لحيته الكستنائية الخفيفة، فمه الدقيق، أنفه الحاد، إنه أعتى جمالًا من الرموز الإغريقية، من ذا يُصدق إنه كان ملكًا لها يومًا ما !!!
-كنت خلاص صدقت فعلًا إني مش هالاقيكي !!
دغدغتها نظراته قبل كلماته التي غمغم بها و هو يستأنف قربه منها، و كانه القى عليها بتعويذةٍ فلم تستطيع حراك، بينما صار قريبًا جدًا، حد اللصوق، و لا يمكن إغفال طوله الفارع مقارنة بقامتها القصيرة، لكنه و بسهولةٍ تمكن من إمالة رأسه صوبها، و قد ساعدته و هي ترفع عنقها لتلاقي نظراته الجائعة إليها، كانت متوترة بشدة، تزداد ارتجافًا و هي لا تصدق بأنه يلمسها مجددًا، يحيط خصرها بيديه، تحس بأصابعه من خلال قماش ثيابها الرقيقة كأنما تترك علامات على كل جزء منها لمسه، يشدّها “رامز” قريبًا منه و هو يهمس بحرقةٍ و فمه لا يبعد أكثر من نصف بوصة عن فمها :
-انتي عارفة كام مرة حلمت باللحظة دي. كام مرة تخيّلتك بين إيديا.. زي إللي هايموت من العطش و مش لاقي الماية إللي ترويه. انتي قتلتيني ببعدك عني يا شمس. قتلتيني !
شد قبضته حول خصرها حتى ألمها بالفعل و تأوهت مقابل شفتيه، فلم يقاوم رغبته الشديدة فيها أكثر، كانت مثل الحياة و الموت بالنسبة له، حنى رأسه مقبلًا إيّاها بشغف السنوات و الأيام و الليالي التي فرّقت بينهما
تبًا ! .. إن لسانه موجود بالفعل بفمها، يداعبها بلطفٍ، كما كان يفعل دومًا من قبل، إن “رامز” لم يفعل شيء منذ تعرّفت إليه سوى إثارة جنونها، كما يفعل الآن، لقد نزع عنها إرادتها و تحكمها بنفسها بلحظاتٍ، إنها مستسلمة تمامًا بين ذراعيه، بينما يضمها إليه أكثر و هو يمشي بها إلى السرير و لا زال فمه على فمها
و تبًا مرةً أخرى.. إن فمه لا يزال متملك للغاية، متسلّط، لا يقبل إلا الطاعة و تلقّي تعليماته، أسقطها “رامز” فوق الفراش مائلًا فوقها دون أن يتوقف عن تقبيلها لحظة
رأته من خلال عينيها نصف المغمضتين و هو يحل أزرار قميصه الأبيض و يزيحه عن كتفيه ليبدو لها جزعه العضلي الرائع، كانت بلا حول و لا قوة و هو يفعل بها الأفاعيل، تلتمس له العذر، تعلم بأنه لا زال غير مصدق بأنها معه، في حركاته، لمساته المندفعة، قبلاته المتلهفة، ارتعاشة أنفاسه الساخنة على جلدها الرطب …
-لازم أضمن إنك مش هاتبعدي عني تاني !
بالكاد تسلل همسه اللاهث إلى أذنها، و لوهلةٍ لم تنجح بترجمة عبارته، إلى أن أردف و هو يقبل منحنى عنقها بفوضوية :
-انتي ليا. ليا لوحدي يا شمس.. مهما كان السبب إللي خلّاكي تسيبيني. مش هاسمح لك تستخدميه ضدي تاني. إنهاردة هاتكوني ملكي. دلوقتي حالًا !!
و لم تعي بعد ذلك إلا و هي تسمع صوت تمزّق حاد، لتدرك بأنه قد شقّ بلوزتها الضيّقة بحركةٍ واحدة، ثم يلف ساقها حوله و هو يحفر في فخذها و يضغط بطريقةٍ أثارت هلعها، فتشنج جسمها و قد أفاقت من نشوة اللحظات الحميمية صارخة :
-راااااامـز. انت بتعمل إيـه. لأ بليز. ماتعملش فيا كده يا رامز. رااامز …
زمجر “رامز” و هو يلتقط يديها أثناء محاولاتها الركيكة لدفعه عنها، رفعهما فوق رأسها و حبسهما في يد، و قبض بيد الأخرى على حفنة من شعرها و هو يقرب وجهه المسوّد من الغضب إلى وجهها المذعور قائلًا من بين أسنانه :
-كان لازم تفكري في رد فعلي بعد الفصل إللي عملتيه معايا. خلاص ماعادش يهمني أعرف ليه. و لا مهتم اسألك. زمان كنت عايزك بالجواز. دلوقتي يا يا شمس هاخدك و منغير جواز. و بعدها نتحاسب.
أغرورقت عيناها بالدموع الآن و هي تتخبّط بين ذراعيه، بينما ينهال على بقيّة ملابسها تمزيقًا غير عابئًا بصراخها الباكي :
-رااامـز, بليز. أنا مأمنتش لحد على نفسي غيرك انت.. بليز ماتعملش فيا كده.
احتمدت الدماء بعروقه و هو يهس بشراسةٍ :
-لسا بتمنعيني عنك. لسا فكراني هقع في الفخ ده و هاصدقك عشان تسبيني تاني. و لا انتي فرطتّي في نفسك و خايفة. قوليلـي في حد تاني ظهر في حيـاتك عشان كده سبتيني !؟؟؟
هزت رأسها بعنفٍ هاتفة :
-لأ. لأ محدش ظهر في حياتي. انت عارف عمري ما حبيت غيرك. عمري ما حد قرب مني كده غيرك انت يا رامز !
صاح بها بوحشيةٍ و قد برزت أوردة عنقه و جبهته :
-إيـه إللي ودّاكي لعثمان البحيري. كنتي بتعملي عنده إيـه و إيه علاقتك بيـه. أنا شوفتك بعنيا و انتي خارجة من بيته !!
ردت بهلعٍ : مافيش إللي بتفكر فيه ده. أنا و عثمان مانعرفش بعض. لسا أول مرة أقابله في حياتي إنهاردة. بليييززززز. عشان خاطري كفاية. كفاية كده يا رامز !!!
توسلاتها المستميتة أطاحت بصوابه، و لم تزيده إلا إصرارًا و هو يعود ليكبت صرختها الحادة عندما أحسّت بالضغط منه، حاولت تحرير معصميها من قبضته عبثًا، حاولت ركله بساقيها و لكن ضغطه عليها كان شديدًا بحيث شلّ حركتها و لم يسمح لها بأقل حركة
لم يكن في حياته كلها أن فاقدًا السيطرة على نفسه بهذا الشكل، هو الذي أشتهر ببروده و إباءه، الآن ينجرف وراء غرائزه الحيوانية فقط، حاجته و شوقه إليها تستوحش مع كل آنة رفض منها، مع كل نفضة اعتراض، امتدت يده لأسفل كي يرفع تنورتها بتصميمٍ جعلها تؤمن بهزيمتها أمامه، فتصمت عن البكاء أخيرًا إلا من شهقاتٍ متقطعة
يحرر شفتيها أخيرًا من بين أسنانه، فتنطق بسرعة هستيرية :
-أخويا. عثمان.. عثمان البحيري… يبقى أخويا !!!!
جمد “رامز” في لحظتها، رفع رأسه محدقًا فيها بعدم تصديق، هل تهادنه ؟
هل هذه لعبة منها لكي تتقي شرّه !؟؟
-كمان اتعلّمتي الكدب ! .. غمغم بغضبٍ مستعر
فصرخت بوجهه منهارة على الأخير :
-و الله ما بكدب. و الله بقول الحقيقة. عثمان البحيري أخويا.
عبس بشدة و هو يقول بخشونة :
-مستحيل. عثمان البحيري صاحبي من سنين. أنا عارف كل عيلته. عثمان ماعندوش غير أخت واحدة و اسمها صفية !!
انهمرت الدموع غزيرة من عينيها و هي تخبره بقهرٍ :
-عثمان نفسه ماكنش يعرف غير إنهاردة. أنا أخته من الأب.. أنا شمس. يحيى صالح البحيري. أنا بنت يحيى البحيري.. أنا اخت عثمان البحيري ! ……………………………………………………………………………………………..
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية وما ادراك بالعشق ) اسم الرواية