رواية وما ادراك بالعشق كاملة بقلم مريم محمد غريب عبر مدونة دليل الروايات
رواية وما ادراك بالعشق الفصل الرابع 4
_ سأعطيك قلبي _ :
قبل ثماني و عشرون عامًا …
لقد كان من السهل حقًا خِداع زوجته، و تزييف الحقائق، من أجل الابتعاد عن المنزل عدة أيامٍ، بحجة السفر خارج البلاد لأجل التمهيد لافتتاح فرعًا جديدًا من شركته الأم، و إن كان يمقت نفسه على أفعاله المستجدّة، بل و يكاد يحتقر ذاته
و لكن مجرد التفكير بتلك الفتاة، و حقيقة إنها زوجته الآن، هي إثارة لا يقدر على مقاومتها أو صدّها، لأول مرة بحياته يتوق لشيء كما هو الآن، لقد فعلت “رحمة جابر” إبنة السائق البسيطة، ما لم تستطع امرأة فعله منذ سنوات، و حتى زوجته أم ولديّه.. حث الرجل البدائي الكامن بداخله و إيقاظه من سباته !
فمنذ زواجه بـ”فريال المهدي” إبنة الحسب و النسب في عمر يافع جدًا، لم يستمر هذا الشعور معه إلا لأيام قليلة فقط، قبل أن تبدي زوجته إنزاعاجًا من معاملة أنوثتها بوضاعة لا تليق بها، ثم تفرض عليه شروط، و هو ما لم يعارضه لأنه ظن بأنه يحبها و هذا يكفي
لكن لا، مع مرور الوقت اكتشف بأنه أبدًا لا يكفي، لا أحد يعرف ما قضى حياته الزوجية السابقة مصرًا على كتمانه حتى لا يُفسد استقرار أسرته، و كان راضيًا لو أكمل البقيّة من عمره هكذا لنفس الهدف
و لكن ظهور “رحمة” غيّر كل حساباته، و أغراه وضعها بعد وفاة والدها، إنها صيد لن يجد أسهل منه مطلقًا، علاوةً على إنها تعجبه كثيرًا، و إنه واثقًا من خضوعها الحتمي إليه، من نظرة عينها تمكن من رؤية الرغبة به و المماثلة لرغبته بها، بقليل من الضغط ستسلمه نفسها و هي راضية كل الرضا
إلا أنه قد وعدها، لن يقترب منها او يمسّها حتى يلتمس منها دعوةً صريحة، أو على الأقل تلميحًا واضح …
يعود “يحيى البحيري” إلى شقته السريّة و التي أمتلكها في زمنٍ خلى ليلوذ بها هربًا من ضغوطات الحياة، و لكن بمفرده، لم تعرف امرأة أخرى غير “رحمة” طريق هذه الشقة و لم يزرها أحد على الإطلاق قبلها هي، حتى “فريال” لا تملك فكرة عنها
أشارت ساعة الحائط المذهبة بالصالة المركزية إلى العاشرة و النصف مساءً، عندما ولج “يحيى” إلى داخل الشقة جارًا خلفه حقيبة الملابس المتوسطة، كانت الإضاءة الخافتة تمهد له طريقه و هو يتحرّك بحثًا عنها بأرجاء المكان، لكنه لم يجدها بأيّ من الصالون أو غرفة المعيشة أو حتى بالمطبخ
لم يتبقّ سوى غرفة النوم إذن !
سحب “يحيى” نفسًا عميقًا و حسم قراره بالذهاب إليها، وضعًا بالاعتبار بأنه في جميع الأحوال سيعرج بالقرب من مخدعها لكي يصل إلى مضجعه هو، إلا إن الفضول ينتابه بشدة ليرى ماذا تصنع في هذه اللحظة !؟
و عرف !
بمجرد أن دفع باب الغرفة الموارب، لم يدخل على الفور، بل جمد تمامًا كتمثالٍ، عندما رآها ممدة بمنتصف الفراش، لم تكن مفاجأة كبيرة أن يراها نائمة، و صحيح أنه لم يتبيّن منها شيء واضح، لكن التفكير فقط أنها تنام في بيته و على مبعدة ذراعين منه جعل أعصابه تتوّقد …
ازدرد ريقه متوترًا، و رغم إنه يخاف من مواجهة هذا، لكنه مضى مدفوعًا بذات الفضول، و يا ليته لم يفعل، إذ كانت كارثة هزّت كيانه حرفيًا
تلك الشيطانة الصغيرة.. ما الذي تحاول فعله بالضبط !؟؟
و هي ترقد بذلك الثوب الذي يعرفه جيدًا، إذ إنه قد اختاره بنفسه، لم يتوقّع أبدًا أن يراه عليها مبكرًا هكذا، ليس حتى أن يتم الوصال بينهما عدة مراتٍ لتتخطّى حاجز الرهبة منه
اللعنة !!
كان الغطاء الخفيف قد انحسر عنها فعليًا، و سقط بعضه إلى الأرض، فبدت في الثوب الأسود الشفاف عليها أكثر إثارة مِمّا رآها للمرة الأولى في بيت والدها، كانت أعضاؤها الأنثوية متوّثبة في الثوب الضيّق صارخة بالأنوثة التي تستجدي أن يمتلكها من هو له الحق
أليس هو له كل الحق !؟
يطرد “يحيى” زفيرًا مطولًا بشكل مفاجئ، يبعد ناظريه عنها بسرعة غير قادرًا على العبث بأعصابه أكثر من ذلك، يستدير ممسكًا بمقبض حقيبته، ثم يولّى فورًا نحو الباب الجانبي بزاوية الغرفة، و الذي لم يكن سوى معبر لغرفة أخرى مشتركة و لكنها أصغر حجمًا و أكثر تواضعًا من حيث الفرش و الأثاث
كان مرهق ذهنيًا لدرجة لم يأبه بفتح الحقيبة ليخرج شيء ينام فيه بدلًا من بذلته الثمينة، خلع حذائه فقط و ألقى بسترته بإهمالٍ، ثم رمى بنفسه فوق الفراش آملًا أن يتمكن النعاس منه، و لكنه يعي تمامًا صعوبة حدوث ذلك، بعد ما رآه و إدراكه بأن الجسد الذي لطالما أشتهاه ليس ببعيد عليه، و أنه يمتلك شرعية حصوله عليه في أيّ وقت شاء، لم يكن أبدًا بهذا الضعف من قبل
سحقًا !!!
إنفتح جفناه مرةً واحدة، لا يدري هل نام حقًا أم إنه أغمض عينيه فقط، و لكن الصرخة التي دوت عبر المسافة الفاصلة بين الغرفتين كانت كفيلة بنزعه من الفراش، ليكون عندها خلال ثوانٍ …
-رحمـة !
إلى جانب صراخها المرعب، أيقظها أيضًا صياحه الخشن المذعور من سلسلة كوابيس مفزعة جعلتها تتخبّط في الفراش كالممسوسة متعرّقة و محمومة بشدةٍ، فتحت عينيها بلحظةٍ شاخصة بقوة، لترى ضوء الغرفة قد أضاء فجأة، و ذلك الشبح المتجول أمامها يقترب لتكتشف بأنه لم يكن سوى زوجها المزعوم !!!
-رحمة. إيه إللي حصل مالك ؟ .. قالها “يحيى” و هو يطلّ فوقها الآن بوجهٍ يعصف بالقلق
ارتعشت “رحمة” من لمسة يده على جبينها المندى، كانت في أقصى حالات وهنها، و لم تساعدها إطلاقًا رؤيته على هذا الشكل، حيث عينيه الرماديتين تومضان بالعاطفة، و صدره القوي بارزٌ وراء قميصه المفتوح، كل شيء فيه يربكها و يدفعها للفرار منه و الركض إلى أحضانه في آنٍ …
-شفت كابوس ! .. نطقت “رحمة” بصعوبةٍ و هي تحدق فيه ملء عينيها
رفع “يحيى” يديه عنها للحظاتٍ، ليصب لها كأس من الماء و يضيء مصباح السرير بجوارها، لاحظ بوضوح انتفاضة جسمها عندما دس ذراعه حولها ليساعدها على الجلوس، إنه فعليًا كان يعانقها !!!
لم يستمر هذا إلا ثوانٍ كانت كفيلة بتخدير حواسها، ليسقظ ظهرها فوق الوسادة خلفها، بقيت ترنو إليه فقط بإرادة معدومة، بعد أن لاحظت عينيه الجميلتان تتأملان وجهها و كتفيها العاريتين بشغفٍ لم ينجح في مداراته …
-اشربي مايّة ! .. تمتم “يحيى” بهدوء و هو يمد لها كأس الماء
رفعت يدها بثقلٍ و تناولت منه الكأس، قرّبته من فمها وشربت القليل، ثم أعادته إليه هامسة :
-شكرًا.
سألها بجمودٍ و هو يعيد الكأس إلى الطاولة :
-الكوابيس دي علطول بتجيلك ؟
هزت رأسها ببطءٍ و هي ترد عليه بنبرةٍ مهزوزة :
-لأ. دي أول مرة يحصل لي كده !!
طمأنها بوداعته المعهودة :
-عادي يحصل لك كده في الأول. المكان جديد عليكي. و ظروف وفاة والدك.. كل حاجة جديدة. بس هاتتعودي بسرعة. ماتقلقيش.
راقبت عيناه يدها المرتعشة و هي ترتفع لتعيد خصلة حجبت عينها وراء أذنها، ثم سمعها تقول بارتباكٍ واضح و هي تبذل جهدًا لتنظر إليه مباشرةً دون أن يغلبها الخجل :
-انت جيت إمتى ؟ أنا ماحستش بيك خالص !
جاوبها و لا يزال مركزًا نظراته عليها باهتمامٍ :
-أنا لما رجعت كنتي انتي نايمة. دخلت الأوضة شفتك كده ف ماحبتش أزعجك …
لم تكن غبية إلى حد إغفال إيحائه بأنه رآها هكذا، يعني بأنها كانت عرضة لناظريه و هي تنام في هذا الثوب المثير، ما كان عليها أن ترتديه، و لكنها حقًا تحب هذه النواع من الألبسة النسائية، تناسبها و تشعر بالراحة و الحرية فيها، هذه الألبسة التي لطالما خاضت جدالاتٍ حادة مع أبيها لأنها كانت تصول و تجول بها بمنزلها القديم، لم تكن تتحمل توبيخه لها ففضلت أن تضعها على جسمها حين تخلد إلى الفراش فقط
إنها حقًا غبية، ما كان عليها أن ترتدي هذا و هي تعلم بأنه ربما يعود في أيّ وقت و يراها فيه، يا لحظها !!
تابع “يحيى” و هو ينظر إلى عينيها الآن :
-و أصلًا مافيش سبب عشان أزعجك. أنا سايب لك الأوضة الرئيسية دي. و ناقل كل حاجتي في الأوضة إللي جنبك. صحيح باب بيفصل بينّا. لكن أنا أكيد هاحترم خصوصيتك …
و سكت للحظة، ثم أضاف بلهجةٍ موحية :
-لحد ما تقرري إن مافيش خصوصيات بينّا !
كلماته ملأت قلبها حرجًا مفاجئًا، و استطاع هو أن يدرك تأثير ما قاله عليها، فتنهد مشيحًا بوجهه عنها، بدا عليه عدم الإرتياح، و أطرق برأسه بينما يخرج صوته واهنًا كالهمس :
-أنا آسف !
هذا كثير.. بصدق ؛ إنها المرة الثانية في يومٍ واحد التي يعتذر منها و لا تعرف السبب …
استطرد دون أن يغيّر من وضعيته شيئًا :
-وعدتك إني مش هاضغط عليكي.. لكن حتى لو مش بالأفعال. كلامي بيثبت إني مش بوفي بوعدي …
أدار وجهه إليها ثانيةً، ثبّت عينيه على وجهها دون أن يطرفهما للحظة، أطال التحديق فيها، فتسارعت نبضات قلبها بينما يضيف بصوتٍ أجش :
-أنا مش عايزك تحسّي أبدًا إني بستغلّك بسبب ظروفك. عشان كده بس أنا بحاول على أد ما أقدر إني أحافظ على مسافة بيني و بينك.. رحمة. أنا من أول ما شوفتك مش بتروحي من بالي.. غصب عني بفكر فيكي طول الوقت. مش ممكن تتخيّلي الراحة إللي حسيت بيها لحظة ما بقيتي مراتي. انتي أول واحدة أحس ناحيتها بالمشاعر دي.. أنا عارف إني بلعب بالنار. و إنها ممكن تحرقني. بس أنا.. عايزك.. رغم كل حاجة !
الآن اعترف !!
و هذا كل ما تمنت أن تسمعه منه، لقد أغرمت به منذ الوهلة الأولى، و مثله تمامًا لم تتوقف عن التفكير فيه، و لم يمر على بالها دون أن يحدث اضطرابًا كلّي لمشاعرها، تحلم به كل ليلة، هي أيضًا تريده، لعله يراها هدف يود الوصول إليه، لكنها تراه أمان و احتواء.. إن لم تكن قد وقعت بحبّه فعلًا !!!
ندت عنه نهدة عميقة الآن و هو يمسح على وجهه مغمغمًا بخشونة :
-آسف إنك بتسمعي مني الكلام ده. حاسس إني بتصرف بأنانية.. جايز فكرت قصادك بصوت عالي. ماتقلقيش. أنا هحافظ على وعدي ليكي.. حتى لو استنيتك كتير. حتى لو ماكنش في أي مقابل للإنتظار. أنا عمري ما هاجبرك على حاجة. و هاتفضلي أمانة عم جابر إللي هصونها لحد أخر يوم في عمري …
نظر إليها مجددًا و قال مبتسمًا بصعوبة :
-هاسيبك تنامي دلوقتي.. و اطمني أنا جنبك هنا. انتي مش لوحدك.. تصبحي على خير !
و همّ بالقيام من أمامها، لتمتد يدها في لمح البصر لتقبض على ذراعه، جمد “يحيى” بمكانه، و نظر إلى يدها التي تمسك به، ثم نظر إليها، إلتماع عينيها، رجفتها الواضحة مثل عصفورٍ يرفرف، و ماذا بعد !؟؟
-ماتسبنيش لوحدي.. خلّيك معايا لو سمحت !
أهي رغبة خالصة التي يراها تطلّ من عينيها الآن ؟ .. حقًا هي تريده أن يبقى معها ؟ .. و لكن هل تعرف هي ما يترتب عليه بقائه لو وافق ؟
لن يكون بإمكانها أن تتراجع بمجرد أن يمضي إلى هذا …
سرت الحرارة في جسده عندما صدمته و زحفت ناحيته لتصير قربه، لا تفصلهما سوى عدة بوصات، فأقشعرّت و هي تحس بحرارة أنفاسه تغمر وجهها، رفرفت بأهدابها الطويلة و هي ترفع يدها الأخرى لتحط بها فوق كتفه الدافئ مغمغمة من بين أنفاسها :
-أنا كمان.. أنا كمان عايزاك !
بعد أن أتمّت جملتها، فجأة، انفجرت مشاعره بشكلٍ أرعبها، عندما أعطته الضوء الأخضر إنتفى عقله و أيّ مظهر من مظاهر التفكير و المنطق
شهقت عندما قبضت أصابعه الغليظة حول معصمها، و قبل أن تدرك شيئًا آخر كان قد سحبها تجاهه بقوةٍ أخافتها في البادئ، ثم لصق فمه بفمها و هو يدس ذراعه من حولها ليحتويها بأحضانه الواسعة
حضنه مريح، لكنها لم تلين بسهولة، فجأة صارت أعصابها مشدودة من هجومه غير المتوقع، إلا أن قبلته المتعمّقة جعلت الحرارة تتصاعد من معدتها، و بالتالي تخور و تتلاشى كل مخاوفها، لتصبح أداة طيّة بيده الخبيرة، كان يعرف كيف يخضعها و هو ما حدث أسرع مِمّا خطط له، إنها حقًا بريئة كما وصفها والدها …
تسقط “رحمة” من جديد فوق الوسادة مدفوعة بضغطه عليها، بينما تعمل يده بمهارة لتزيل قميصه و استكشاف الجسد الذي اشتهاه كما لم يشتهي أيّ شيء في آنٍ، كانت تنتفض مع كل لمسة من يده، الجرئية منها خاصةً، تدمع عيناها، تفلت أنفاسها على شكل شهقات لتخبره بفقر خبرتها بل إنعدامها في هذا الميدان، كانت ضائعة و في نفس الوقت مشوّشة، خائفة من التجربة الجديدة الوشيكة
ثم فجأة لفحها البرد حين دفعها “يحيى” بعيدًا و هو يقول من بين أنفاسه :
-لحظة.. راجع لك تاني !
بالكاد استطاعت فتح عينيها قليلًا لترى ظلّه يحوم فوقها، قبل أن يختفي في الغرفة المجاورة، عاد بعد لحظاتٍ لينضم إليها في السرير مرةً أخرى …
-اشربي ده !
بدا متسلّطًا في طلبه، و ساعدها لتجلس و هو يقدّم لها حبّة دواء، و لكن أهي مريضة !؟
-إيه ده ؟ .. تساءلت “رحمة” ببلاهةٍ
رد “يحيى” و هو يدس الحبّة بفمها فعليًا :
-بس اشربيه. ماتخافيش.. بعدين أقولك ده إيه. وعد.
و لأنها بالطبع تثق به، لا تعرف كيف واتتها تلك الثقة العمياء بهذه السرعة، لكنها انصاعت لطلبه و ابتلعت الحبّة بجرعة من الماء …
نظرت إليه و هي تعبئ نفسًا عميقًا إلى رئتيها، رأت عيناه تبتسمان بتلك الملائكية التي تجعل وسامته لا تقاوم أبدًا، يأخذ وجهها بين كفّيه من جديد، و يقبّلها بشغفٍ أذابها بين يديه للمرة الثانية، قطع القبلة ليدفعها فوق الوسادة مجددًا، رفع ذراعيها و خلل أصابعه بأصابعها، ضغط يديها على الوسادة بشدة، نظر بعينيها.. ثم حطّم وعده لها بأن يمنحها كل الوقت لتستعد
حطّمه تمامًا …
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
لم تجد “رحمة” زوجها بجانبها عندما تقلّبت في السرير باحثةً عنه …
نوعًا ما تشعر بالراحة، و تنظر إلى ساعة التنبيه المجاورة لتصدمها العقارب التي تشير للواحدة بعد الظهر، لقد تأخرت في النوم كثيرًا لأول مرة بحياتها، و لكن لماذا تستغرب !؟
إن الحدث كان جلل بالفعل.. لقد باتت حقًا زوجة حقيقية لـ”يحيى البحيري”… و هي التي ظنّت بأن هذا لن يحدث في المدى المنظور.. لكنه حدث بهذه البساطة !!
ابتسمت “رحمة” و هي تتمطّى بكسلٍ و تستعيد في نفس الوقت ذكريات الليلة الماضية، كسا الخجل ملامحها الجميلة و التي زادت جمالًا بفعل الحب و ممارسته، لقد سمعت عنه كثيرًا من صديقاتها المتزوجات في سنٍ مبكرة، و حتى بعض جاراتها، و لكن ما سمعته كله لا يُقارن بالمرة بما عاشته، لقد كان شيئًا عجيب، لا يمكن وصفه
رغم إنها لم تكن سهلة على الإطلاق، ربما قدّمت نفسها له في البداية، و لكن مع تخطّي الحدود، مع شعورها بأن الأمر يزداد جديّة و تعمقًا، ثار جسمها غريزيًا في دفاعية، و صارت تحمي أعزّ ما تملك بضراوةٍ شرسة معتقدة بأنه سوف يسأم و يتركها.. لكنه لم يفعل !
كان متفهمًا، صبورًا و هو يتعامل برفقٍ مع عذريتها، حتى استسلمت له شيئًا فشيء، توجب عليه أن يأخذها على حين غرّة لكي لا يعطيها فرصة أخرى للتمرد، و كما توقّع عادت تقاومه من جديد، لكنه ثبتها باحكامٍ، و في نفس الوقت أشعرتها الطريقة التي يمسكها بها بنوعٍ من الحماية، في خضم محنتها و شعورها بالهزيمة و أيضًا بكائها الصامت، كان يزيدها من القبلات الرقيقة و الشغوفة على شفتها و فكّها، كان رائعًا و غير متوقعًا.. فتارة يكون متحمسًا و ساخنًا.. و تارة يكون لطيفًا و رفيقًا
تلك اللحظات التي عاشتها، لم تكن مخيفة كما كان يروّج لها البعض أمامها من قبل، لم تكن أيضًا مجرد وقت مثير، بل كانت أروع شيء خاضته في حياتها، و خاصةً معه هو، الرجل الذي سرق قلبها، لا لم يسرقه.. لقد أعطته إيّاه عن طيب خاطرٍ.. و هي أبدًا لن تقايض حياتها معه مقابل أيّ شيء آخر في الحياة… إنها تريده هو.. هو فقط !
تنهدت “رحمة” بسعادة و هي تقفز من فراشها بخفة الفراشة، غطت جسدها بروب خفيف، ثم فتحت النافذة العريضة على مصراعيها لتستنشق هواء البحر المنعش المقابل لها تمامًا، كان المنظر خلّاب و الشمس لطيفة بالسماء و كأنها تباركها و تسعد لأجلها
من ذا يُصدق بأنها قبل يوم واحد فقط كانت منهارة لخسارة أبيها ؟
أبيها الذي رغم قسوته عليها منذ صارت يتيمة الأم في عمر الخامسة، لكنها كانت تحبه، و تألمت لفقدانه.. كيف عوّضها القدر بسرعة مذهلة ليبعث لها بزوج مثل “يحيى البحيري” !؟
إنه يفوق كل أحلامها و طموحاتها.. إنه هبة غالية !!!
-أخيرًا صحيتي !
انتفضت “رحمة” لدى سماع صوته، استدارت بسرعة لتراه واقفًا عند مدخل غرفة النوم، توقّعت أن يكون بالغرفة التي خصصها لنفسه، أو أنه قد غادر لمكانٍ ما، لكنه كان هنا.. لم يذهب لأيّ مكان …
-صباح الخير ! .. تمتمت “رحمة” بأشد الاضطراب
قهقه “يحيى” بإشراقٍ أسرها و هو يمضي إلى داخل الغرفة قائلًا :
صباح الخير إيه بقى. ده انتي لسا قايمة الضهر.. إوعي تقولي إنك كسلانة علطول كده !!
كانت تزدري ريقها مراقبة إيّاه و هو يخطو ناحيتها، لأول مرة تراه بدون ملابسه الرسمية، فهو الآن يرتدي سروال بيجامة من نسيج الحرير، فوقه روب قصير مفتوح يكشف عن صدره العضلي و بطنه المسطّح، كان أكثر جاذبية و حيوية، مثلها …
-أنا متعودة أصحى بدري كل يوم ! .. قالتها “رحمة” بصوتٍ خفيض و هي تتململ بمكانها
تشعر بأنها محاصرة، و لكنها تحب ذلك، تابعت عندما وصل أمامها و صار قريبًا جدًا منها :
-بس. يمكن طوّلت في النوم عشان.. إمبارح …
و صمتت غير قادرة على إكمال جملتها، فابتسم “يحيى” و رد عنها :
-إمبارح سهرتنا طوّلت شوية.. بس أنا قمت قبلك. أنا كمان متعود أصحى بدري و مابحبش أنام كتير.
كان مزاجه رائقًا حقًا و قد أربكتها نظراته التي لا تفوّت رصد أقل حركة تصدر عنها، أطلقت نفسًا مرتجفًا من صدرها و فجأة حانت منها إلتفاتة عابرة إلى الغرفة، فوجدت أنه أحضر باقات عديدة من مختلف أنواع الورود و الزهور، لتقول و هي تلوّح بيدها ناحيتهم :
-شكرًا على الورد !
رفع “يحيى” حاجبيه و قال بصوته العميق دون أن يزيح بصره عنها :
-لسا ملاحظاهم ؟ أنا طلبتهم بالتليفون أول ما صحيت. كنت عايزك تشوفيهم أول ما تفتحي عينك.
أومأت له و هي تقول برقةٍ :
-حلوين أوي.
-مش أحلى منك طبعًا !
و قبض على يدها ليرفع إلى فمه.. ثم يطبع قبلة ناعمة بباطن كفّها و هو يتواصل معها بالعين
دوّختها تصرفاته، ما دفعه أن يبتسم مجددًا و هو يراقب تعبيراتها كيف تتغيّر تأثرًا به …
-أنا عايزك تجمعي لي أوراقك الشخصية كلها ! .. قالها “يحيى” دون أن يفلت يدها من قبضته
قطبت “رحمة” متسائلة بريبةٍ :
-ليه ؟
-أنا بلّغت الكل إني مسافر للشغل. و انتي عارفة طبعًا إني ماسفرتش و إني معاكي دلوقتي.. بس بعد إللي حصل إمبارح غيّرت خططي كلها و قررت أسافر فعلًا. و انتي هاتكوني معايا.
فغرت فاها و هي تردد غير مصدقة :
-أنا هسافر معاك !؟؟
أومأ لها مؤكدًا :
-أيوة هاتسافري معايا. أقل هدية ممكن أقدمها لك بعد ما هادتيني نفسك شهر عسل يليق بيكي.
تضرجت وجنتاها بالدماء على إثر كلماته، و لا زالت لا تصدق ما يخبرها به، هل حقًا ستسافر ؟ .. ستقضي شهر عسل خارج البلاد ؟ .. و معه هو !؟؟
-و ده مش كفاية عليكي ! .. تمتم قبضته تنتقل من يدها إلى أسفل ظهرها
يقرّبها إليه أكثر، جفناه ثقيلان و صوته تحول إلى الهمس و هو يدنو بفمه نحو فمها بحركاتٍ مدروسة :
-أنا مش هاسيب أي فرصة تعدي منغير ما أقدم لك كل إللي تستاهليه.. و أكتر !
بالطريقة التي يتفاعل بها جسدها معه، لم تمانع أبدًا هذه المرة عندما قبّلها و هو يسحبها مجددًا نحو السرير، كان أكثر من مرحبًا به …
____________________
يجلس “عثمان البحيري” في سيارته الآن، و قد أغلق النوافذ عليه، لا تنقصه ضوضاء فوق التي تنهال على رأسه، في قبضته اليمنى مظروف يكاد يتمزّق من إطباقه عليه
لا يزال عقله يحاول تقبّل الحقائق، بما أنه اتسم طوال حياته بصفة حميدة من صفاته الحسنة، و هو إنه لا يسمح للصدمات بأن تشوّش على أفكار، لا يعترف بالخضوع للمشكلات، و هو بارعٌ حقًا في حل مشاكله و مشاكل من يهمه أمره.. لكن مع ذلك فقد أخذ وقته ليصدق حقيقة خيانة والده !!!!
أجل.. “يحيى البحيري” لم يخون زوجته “فريال” فقط، بل خان أولاده، خان عائلته بأكملها بتلك العلاقة السريّة التي نجح بإخفائها كل هذه السنوات و حتى بعد مماته، كيف استطاع أن يفعل ذلك ؟
بزوجته التي أحبّته.. به هو.. إبنه و وريثه… ماذا لو كانت قد أنجبت له تلك المرأة صبيًا !؟؟؟
هل حقًا خاطر بهذا ؟ .. هل أراد أن يجلب له أخًا نصف شقيق يشاركه بميراثه و كل ما أعدّ نفسه لتسلّمه في قابل الأيام ؟؟؟
كيف سيجد أجوبة على كل تساؤلاته ؟ .. من أين يأتي بأبيه و قد مات ؟ .. كيف يواجهه بحقارته و نذالته ؟ .. بل كيف سيخبر أمه بالنبأ الكارثي !!؟؟؟
يقول لها ببساطة بأن فتاة شابة ظهرت فجأةً و اتضح بأنها تحمل دماء آل”البحيري”.. و الأدهى أنها تحمل أيضًا اسم أبيه.. لم تكن مجرد إبنة غير شرعية حتى.. لا فقد منحها أسمه مثبتًا شرعيتها …
شتم “عثمان” و أطلق السباب من بين أنفاسه المهتاجة، كلّما يتردد في أذنيه تأكيد المحامي على صحة إدعاء أخته المزعومة، أصغى إليه بصمتٍ مصدوم، حتى أعطاه ما أؤتمن عليه ما إذا جاء اليوم و انكشف كل شيء
تنفس “عثمان” بعمقٍ مهدئًا أعصابه، ثم حسم قراره و فتح المظروف المسكين، سحب الورقة المنكمشة منه و فردها أمام ناظريه المشتعلين، ليقرأ خط والده الذي يعرفه كما يعرف أسمه :
“عثمان.. لو الورقة دي وصلت لك يبقى معناها إني مابقتش موجود. و إنك أكيد عرفت إن ليك أخت مني. أنا مقدر الحالة إللي انت أكيد فيها دلوقتي. و عارف انت شايفني إزاي. عارف كل حاجة. بس خلاص. لا انا و لا انت نقدر نرجع الزمن و نمنع إللي جرى. أنا مش طالب منك تسامحني و لا بكتب لك الكلام ده عشان أبرر لك أي حاجة. أنا بكتب لك عشان أوصّيك على أختك.. على شمس يا عثمان. أنا قلت لها ماتحاولش تظهر قدامك و لا تعرّفك بوجودها. و هي وعدتني. بس أنا عارف إنها مش هاتوفي بالوعد ده. حتى لو حاولت هايجي يوم تعمل عكسه.. لو شمس جت لك إوعى تتخلّى عنها. مش هاتكون عايزة منك أي حاجة. أنا أمنت لها حياتها كلها. لو جت لك ف هي جت عشان أخوها. مش عشان ورث و لا أي حاجة من إللي بتفكر فيها.. شمس أختك يا عثمان. زي صفية بالظبط. شمس بنتي.. اوعى تسيبها.. اوعى تسيب أختك.”
انتهى “عثمان” من قراءة الوصيّة و الغضب يؤجج مشاعره أكثر، لم تشفي كلمات والده هذه صدره، لم يقدم له أيّ إجابة على أسئلته، إنه يوصيه بابنته فقط، يبتز حمائيته و طبعه المتملّك بتذكيره بأن تلك هي أخته، من دماؤه، و كأنه واثق بأنه سيفعل …
و لكن هل هو مخطئ !؟
لا ليس مخطئًا.. إن “عثمان” لم يكن ليتخلّى عن تلك الفتاة لو ثبت له إنها حقًا إبنة أبيه، قطعًا لم يكن ليحاربها أو يقصيها بعيدًا في الظل كما فعل أبيه، سيتحمل هو كل العواقب في سبيل إظهارها و الإعتراف به فردًا من عائلة “البحيري”… و الجزء السيئ من الأمر أنه سيقف أمام والدته ليخبرها بنفسه
لا يعرف كيف.. لكنه سيفعلها… مهما كلف الأمر سيفعلها !!!
أطلق “عثمان” زفيرًا حانقًا و هو يعيد طيّ الوصية بالمظروف، ثم يضعه بدرج جانبي لسيارته، بينما كان عقله يعمل متفكرًا، أين ذهبت “شمس” يا ترى ؟ .. و لماذا اختفت بعد أن أطلعته عن حقيقتها ؟
في جميع الأحوال هو سيجدها، تلك ليست المشكلة الآن، الواقع إن لديه ما يكفي من المشاكل في الوقت الراهن، ليتعامل مع أبرزها أولًا، ثم يتفرّغ لأمر أخته …
يستلّ “عثمان” هاتفه من جيب سترته، يعثر بسرعة على رقم شقيق زوجته، يجري الإتصال به على الفور، ثم يضه الهاتف فوق أذنه عابسًا بشدة.. لحظاتٍ و إنفتح الخط ليطلّ صوت “فادي” المتحذلق بتلك اللهجة الجافة التي يخص بها زوج أخته :
-أهلًا يا باشا. ده إيه الصباح الأبيض ده. عثمان البحيري بنفسه بيكلمني.. خير ؟
لم يكن “عثمان” في وارد الخوض معه في ملاسنة ساخرة، تحدث إليه مباشرةً في لبّ الأمر قائلًا بصوته الصلب :
-أختك عملت حادثة إمبارح.. لازم ترجع فورًا !
____________________
لا تصدق أنه أجبرها حتى الآن على المكوث القسري هنا، في هذه الشقة المترفة المستأجرة، منذ الليلة الماضية و هي تحاول إقناعه أن يطلق سراحها و وعدته بألا تهرب منه مجددًا
لكنه لا يصدقها طبعًا، و أبقى عليها بالقوة واعدًا بأن يخرجها معه صبيحة اليوم التالي، و ها قد أتى الصباح و خرجت “شمس” من الغرفة التي أقفلتها عليها بالمفتاح طوال الليل خشية أن يجن من جديد و يقتحمها مدمرًا إيّاها
خرجت تبحث عنه، لكنها لم تجده في أيّ مكان، في البادئ أشرق وجهها و هي تركض متشبثة بسترته التي تستر بها عريها، أمسكت بمقبض باب الشقة، تحالو فتحه، لكنه يعلق في كل مرة، لتكتشف بأنه يحبسها.. حقًا ؟
لقد إنعدمت الثقة بينهما إلى هذا الحد إذن …
تأففت “شمس” بنفاذ صبرٍ و هي تضرب الأرض بقدمها كالأطفال، تلفتت حولها بيأسٍ و هي تعي أنها لن تخرج من هنا ما لم يسمح لها، و لكن متى يعود ؟ متى يحررها من ذلك الأسر ؟ لا يمكن أن يجبرها على البقاء معه دائمًا بهذه الطريقة.. حبيبها المجنون… تخشى أن يرتكب في حقها أيّ حماقة تدفعها لكرهه.. هي لا تريد أن تكرهه.. هي تحبه و تعشقه حتى النخاع.. لولا سلطة أمها عليها ما كانت لتتركه و تذهب أبدًا
و لكنها عادت الآن.. و كانت تنوي الذهاب إليه، لكنه وجدها أولًا بطريقةٍ ما
إنبلجت إبتسامة على محياها لم تستطع كبحها لإدراكها بأنه حقًا يعشقها، و إلا ما فقد عقله إلى هذه الدرجة، ليته يدرك هو أيضًا أنها تبادله نفس المشاعر، و إنها صادقة هذه المرة، لن تتركه و تذهب إلى أيّ مكان، لن تفعل أبدًا …
تنهدت “شمس” باستسلامٍ و مضت تجاه المطبخ المفتوح، أرادت أن تعد كوب من القهوة سريعة التحضير، خيارها الأول في كل صباح، و من حسن حظها كانت الثلّاجة مزوّدة بغذاءٍ كافي و طازج، و كانت القهوة متوافرة أيضًا، بدأت تحضر لنفسها الفطور و هي تدندن غنوة غربية بصوتها الضبابي المميز و الذي كان أحد أكبر المميزات التي ساهمت بإغراق “رامز المير” بحبّها
لم تشعر بعودته، إذ كانت منهمكة بتفريخ المقلاة من سندويش الـ”الفرينش توست”.. بينما جاء هو من ورائها راسمًا على ثغره ابتسامة رائقة
كان معجبًا بالمنظر الذي يراه أمامه، تمامًا كما تخيّلها مئات المرات، حبيبته صارت معه أخيرًا …
-يا ترى عاملة حسابي في الفطار ده.. و لا لسا واخدة مني موقف ؟
ربما توقّع أن تجفل لإقتحامه المفاجئ لخلوتها، لكن على العكس، تلقّت كلماته بأعصابٍ هادئة، تركت ما بيدها، ثم استدارت نحوه بتؤدة و هي تشد سترته حولها بإحكامٍ
تطلّعت إليه بنظراتٍ عابسة و هي تقول بجمود :
-لحد إمتى هاتفضل حابسني هنا يا رامز.. إللي بتعمله ده غلط في حقي !
تلاشت إبتسامته الآن و هو يرد عليها بغضبٍ بارد :
-أحسن لك بلاش ندور على مين غلط في حق مين عشان ده مش هايكون في مصلحتك يا شمس.. أنا بحذرك. ماتحاوليش تستفزيني أنا على شعرة !!
وتّرها تهديده المبطن، و الذي تعي عواقبه فعليًا، ليرتجف فمها بشدة و هي تقول بعصبيةٍ :
-طيب على الأقل فهمني انت ناوي على إيه. مش معقول هاتفضل مخلّيني هنا محدش يعرف عني حاجة !!!
تنهد و قال بفتورٍ و هو يحك طرف ذقنه بظاهر يده :
-ماتخافيش. مش هانطول هنا. أنا وعدتك إني هاخرجك إنهاردة.. بس مش قبل ما نقعد و نتكلم. لازم تعرّفيني كل حاجة. لأني اكتشفت إني ماكنتش أعرف عنك أي حاجة.
-عايز تعرف إيه ؟ .. صاحت بنفاذ صبر
رماها بنظرةٍ باردة، ثم رفع يده لتتبيّن بأنه يحمل حقائب ورقية تحمل أشهر العلامات التجارية للملابس النسائية، قال و هو يمد يده صوبها :
-أنا نزلت اشترت لك شوية هدوم بدل إللي اتقطعوا منك. و اخترت المقاسات باحساسي و أنا واثق إن احساسي بيكي مايخبش أبدًا. ادخلي غيّري و تعالي عشان تفطري. بعدين هانقعد مع بعض نتكلم.. و أوعدك بعدها هانخرج من هنا.
نظرت له بسأم شديد، تمقت أسلوبه المتحكم هذا، لكنها لم تجد بدًا من الإذعان له، تقدّمت صوبه آخذة من يده الحقائب، ثم إندفعت تجاه غرفة النوم التي قضت بها ليلتها، غابت هناك لدقائق، ثم عادت إليه حيث جلس مسترخيًا إلى طاولة المطبخ الصغيرة
كان يحتسي من كوب القهوة خاصتها مستمتعًا بالمذاق الفريد الذي صنعته، عندما أتت، شملها بنظرةٍ فاحصة، و هي ترتدي الآن الثوب الذب اختاره من أجلها، ثوب أكثر إحتشامًا من ملابسها الفاضحة نوعًا ما، مؤلفًا من كنزة زرقاء بحمّالاتٍ عريضة، و تنورة بيضاء من القماش الناعم طويلة لها فتحة تصل للركبة، كما توقّع بالضبط، المقاس ملائم لها تمامًا
و شعرها الأسود الحريري قد رفعته في ذيل حصان محررة منه بعض الخصيلات حول وجهها، كانت مثالية، شديدة الجاذبية كعهده بها …
-تعالي كملي فطارك ! .. أمرها “رامز” مشيرًا إلى كرسي أمامه
ابتسم لرؤية الضيق يجلل وجهها و قد عرف لا تطيق تسلّطه عليها، لكن في النهاية هي مجبرة على تحمله، ألا إنها لم تخرج أسوأ ما فيه، و هو صارحها بأنه بالكاد يتحكم بنفسه لكي لا يطالها غضبه
جلست “شمس” أمامه مطلقة نهدة نزقة، ثم مدت يدها لتأخذ السندويش من الطبق، لأنها بالفعل كانت جائعة بدأت تأكله على الفور بنهمٍ و بلا أدنى تحفظ أمام “رامز” الذي بقى يراقبها بشغفٍ و استمتاع، حتى رآها تنظر إليه، و لاحظ نظرتها لكوب القهوة في يده
رفع حاجبه و هو يدفعه إليها قائلًا :
-آسف مقدرتش أقاوم لما شربت بؤ منه.. القهوة إللي بتعمليها حلوة أوي.
أومأت له برأسها قائلة من فمها المحشو بالطعام :
-عادي كمله. أنا ممكن أعمل غيره.
أصر “رامز” على أن تكمله هي قائلًا :
-لأ أنا هاعمل لنفسي فنجان قهوة سادة.. كملي انتي فطارك.
و قام ليصنع فنجان قهوته، بمجرد أن عاد كانت قد انتهت و بدأت تحتسي كوب القهوة خاصتها مستمتعة بكل رشفة، جلس “رامز” أمامها ثانيةً، و أستهلّ حديثه بهدوءٍ بعد لحظاتٍ من الصمت المتأمل لها :
-قوليلي بقى يا شمس.. فمهيني تاني إيه علاقتك بعثمان البحيري ؟
ركّزت نظراتها عليه و هي تخبره بضيقٍ واضح :
-قلت لك.. عثمان أخويا.
-إزاي !؟ .. سألها مطالبًا إيّاها بالتفاصيل
تنفست “شمس” بعمقٍ و هي تمد جسمها للأمام و تعبث بكوب القهوة، ثم تمضي مفضية إليه بملخصٍ لقصة حياتها :
-عثمان أخويا من الأب. يحيى البحيري يبقى أبويا. كان متجوز أمي في السر و عمره ما حاول يظهرنا للمجتمع بتاعه. إللي فهمته من ماما إنه كان حريص على مشاعر مراته الأولى فريال هانم المهدي و طول عمره كان قلقان إنها تكتشف جوازه منها و إنه مخلّفني. عشان كده لما تمّيت سبع سنين أخدني أنا و ماما و سفرنا لندن. عيّشنا هناك و فتح لماما مشروع المطعم إللي انت عارفه. فضل يساعدها لحد ما كبرته. و ماكنش بيغيب عننا كتير. كان بيزرنا باستمرار و بيقضي معانا أسبوع كل شهر و أحيانًا شهور لما بنوحشه أوي. كبرت و أنا ماعرفش إن ليا أخوات غير لما هو قالّي في مرة. أفتكر كان عندي 12 سنة وقتها. عرّفني على أخواتي من الصور. بس خلّاني أوعده إن عمري ما هحاول أقرب منهم. فهمني إن مامتهم مهمة بالنسبة له. و إن ظهوري ممكن يئذيها أوي. أنا مازعلتش منه. فهمت قصده و احترمت وجهة نظره. بس من ساعتها فضلت جوايا رغبة قوية ناحية أخواتي. بقى نفسي أقابلهم. أشوفهم. نفسي يعرفوني. انا قلت قبل كده إن طول عمري بتمنى يكون ليا أخ أو أخت.. و الحقيقة إن عندي الإتنين و مش عارفة أتواصل معاهم أبدًا. عشان وعدت بابا.. لحد ما ضعفت في يوم. كان بعد موت بابا بحوالي 8 سنين. نزلت مصر من غير ما أقول لماما. روحت إسكندرية و عرفت طريق عثمان. تصدق إني راقبته.. بقيت أمشي وراه في كل حتة. ماكنش عندي جرأة أقرب منه. لحد ما شوفتك معاه في مرة. فاكر أول مرة اتقابلنا.. في حفلة عيد جواز عثمان و مراته إللي كانت على اليخت. عملت نفسي من صحباتها. و محدش كان مهتم يدور ورايا. محدش لاحظني أصلًا.. غيرك انت. قربت مني و اتكلمنا. نستني كل حاجة ساعتها و بقيت مركزة معاك بس. أعتقد إني اتشيت لك من أول نظرة. و انت ماسبتنيش غير و معاك رقمي. و من وقتها بقينا نتقابل. و شوية شوية اتعودنا على بعض.. و حبيتك يا رامز !
كان مستغرقًا في التفاصيل التي تسردها عليه، مأخوذًا بالحقائق التي يعرفها لأول مرة، إلى أن جاءت على الجزء الخاص بهما، و اعترفت له بحبها.. صمتت و هي ترى تعبير وجهه الخاوي يستحيل إلى الغضب و هو يقاطع كلامها معلّقًا من بين أسنانه المطبقة :
-لو فعلًا حبتيني.. إزاي قدرتي تمشي و تسبيني ؟ 3 سنين يا شمس. 3 سنين ضاعوا مننا شوفي كان ممكن نعمل إيه فيهم. كان ممكن نتجوز و نخلف طفل أو اتنين. ليه ضيّعتي من عمري و عمرك الوقت ده كله ؟ على حساب مين !؟؟؟
أطرقت برأسها غير قادرة على مواجهة نظراته الإتهامية، و قالت بصوتٍ خفيض :
-ماما كانت محتاجة ليا. بعد موت بابا كانت منهارة. و فضلت فانية حياتها عليا. مارضيتش ترتبط من بعده رغم إنها كانت صغيرة و لسا لحد دلوقتي صغيرة.. أنا بالنسبة لماما كل حياتها. إزاي متخيّل إني ممكن أخذلها. مش كفاية عليها بابا خذلها و مش مرة واحدة. طول حياته معاها كان أناني. و عشان حبّته قبلت تعيش في الضل و بعيد و تتغرّب بيا.. كنت عايزني أعصيها و تكون دي مكافئتي ليها بعد كل التضحيات إللي عملتها عشاني !!؟
-تقومي تضحي بيا أنا ؟؟؟ .. صاح بعنفٍ
فأغمضت عينيها بشدة متحاشية أكثر النظر إليه، شعرت به يقوم محدثًا جلبة و هو يدفع بالكرسي الذي يجلس فوقه، ثم أحّت بقبضته على معصمها تنتزعها من مجلسها لتقوم واقفة، كتمت صيحة ألم بإصرارٍ و هي تفتح عينيها الآن محدقة بوجهه الغضوب، بينما يقول بخشونةٍ :
-السبب إللي خلّاكي تفضلي ورا عثمان لحد ما تعرفيه عليكي. و تكسري وعدك لأبوكي.. معقول حبنا ماكنش بالأهمية دي في نظرك عشان تلاقي له سبب تتحدي بيه أمك و تقنعيها إنك ماينفعش تكوني لغيري ؟ ماينفعش تبعدي عني. إنك فعلًا بتحبيني و مش ممكن تسبيني !!؟؟؟
هزت رأسها و هي ترنو إليه و الدموع ملء عينيها، ثم قالت بغصّةٍ مريرة :
-أنا ماكنتش فاكرة إني بحبك أوي كده. غير بعد ما سيبتك. صدقني مش انت لوحدك إللي عانيت من الفراق ده. انت ماكنتش بتروح من بالي.. كنت هاتجنن و أرجع لك.
-مارجعتيش ليه ؟ .. قالها من بين أنفاسه و هو يحدق بتفرسٍ في وجهها المتوّرد و فمها المكتنز المغري
كلماته تطرب أذنيه و تزيده رغبةً بها، بينما تجاوبه بضعفٍ محبب :
-رجعت. أنا المرة دي مارجعتش عشان عثمان بس. لو ماكنتش لاقتني الأول كنت هاتلاقيني جايالك لحد عندك.. أنا وقفت قصاد ماما المرة دي. قلت لها إني بحبك. إني مقدرش أعيش منغيرك و مش ممكن أكمل حياتي مع حد تاني. سيبتها و كنت راجعة لك …
قاطعها بضمة قوية بذراعه الذي أحاط كتفيها لحظةٍ :
و دنى بفمه ليقبّلها بتملّكٍ عجزت عن مقاومته.. فكيف تقاوم من يمتلك عليها أكبر سلطة ؟
سلطة أشد قوة و بطشًا من سلطة أبيها الراحل و أمها المتحكمة !
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية وما ادراك بالعشق ) اسم الرواية