Ads by Google X

رواية وما ادراك بالعشق الفصل الحادي عشر 11 - بقلم مريم محمد غريب

الصفحة الرئيسية

   رواية وما ادراك بالعشق كاملة بقلم مريم محمد غريب عبر مدونة دليل الروايات 


 رواية وما ادراك بالعشق الفصل الحادي عشر 11

هذا حب _ :
قبل ثماني و عشرون عامًا …
تلك الليلة العصيبة ليس لديه أدنى فكرة كيف مرّت عليها، بعد أن أذاقها ويلات القهر و الإذلال و قد نجح في هذا بجدارةٍ مدفوعًا بحمائيته و بغضبه من جرأتها بالخروج من المنزل دون علمه، و من ثم المجيئ إلى مكانٍ تتواجد به زوجته أم ولديّه، لقد خاطرت بكشف كل شيء بالفعل و لوهلةٍ شعر بأنه أسرته و زواجه صار على المحكّ
لم يرى أمامه إنها مجرد فتاة صغيرة و بلا خبرة و هو رجلٌ ناضج، لم يسمع صوت ضميره الذي ظل كامنًا بنقطةٍ ما بداخله يحثه على التراجع عن جرمه بحقّها، كان مثل بركانٍ انفجر ليدمر بحممه كل ما يعترض طريقه، و لقد دمرها بالفعل
لا يستطيع نسيان حالتها أثناء مغادرتهما للفندق بنهاية الليلة، تعبيرها الواجم، سيرها الآلي بجواره و هو يخرج بها خلسةً من بوابة بعيدة عن الأنظار، لم يتبادلا كلمةً واحدة خلال الطريق إلى البيت، بقيت صامتة و هادئة جدًا و هي تجلس في سيارته حيث أرادها بالقرب منه، حتى وصلا و لاحظ تقدّمها عليه فور أن صطف السيارة أمام البناية الراقية، حيث فتحت لنفسها الباب قبل أن يترجل هو من كرسي القيادة، و رآها و هو يغلق السيارة قد سبقته بالفعل نحو المصعد، عندما وصل عندها كانت مطرقة الرأس تتحاشى النظر إليه، فتخطّى ذلك و فتح لها الباب لتتقدمه داخل المصعد و هو ما فعلته فورًا قبل أن تمتد يده ليلمسها، أوصلها أخيرًا عند الشقة، و ما إن صارت بالداخل و أطمئن لهذا حتى أوصد عليها الباب من الخارج مرةً أخرى، لم يجرؤ على الدخول معها.. ليس الليلة على الأقل
و خلال نزوله عرج على الحارس، أيقظه غير مباليًا بتأخر الوقت …
-انت منين يا حامد ؟
-أني من طنطا يا بيه.
-يعني مش من هنا و لا ليك سكن غير الأوضة دي صح ؟
جاوبه الحارس مرتابًا :
-إيوة يا بيه.. كان حدانا قيراط في البلد بيعته عشان أجي هنا بمراتي و عيالي ندوروا على لقمة عيش.
أومأ “يحيى” قائلًا بهدوء لا يخفي الغضب بعمق نظراته :
-عارف القصة دي. و ماعنديش مشكلة معاك من يوم ما سكنت هنا يا حامد. لكن شكلك انت إللي لسا ماتعرفنيش لدرجة إنك خالفت توصياتي و اتصرفت من دماغك إنهاردة مع مدام رحمة !!
اتسعت عينا الحارس و هو يقول :
-جنابك تقصد عشان طفّشت قفل الباب بتاع شقة حضرتك ؟ أني ماعملتش كده إلا لما الهانم كلّمتني و طلبت بنفسها. افتكرت سعاتك إللي آ ا …
أخرسه “يحيى” بإشارة من يده، ثم أنذره بكلماتٍ شديدة اللهجة :
-وفر كلامك. مافيش كلام بعد كلامي يا حامد و أوامري كانت واضحة. أي حاجة تحصل مع مدام رحمة تبلّغني بيها فورًا. إللي حصل إنهاردة لو اتكرر تاني مش بس هاكتفي بقطع عيشك من العمارة. انت مش هاتلاقي شغل في الإسكندرية كلها. إن كنت بواب أو غيره.. فاهمني ؟
هز الأخير رأسه طائعًا و هو يقول باضطرابٍ واضح :
-فاهم يا بيه فاهم.. أني خدامك و تحت أمرك.
غادر “يحيى” هذه الليلة و هو يشعر بالضغط على أعصابه يتفاقم أكثر، لحسن حظه كانت “فريال” تغطّ في النوم فعلًا، فلم يتكبّد عناء اختلاق المزيد من الأكاذيب عليها، بالكاد تمكن من النوم بجوارها سويعاتٍ يتخللها القلق و الأرق …
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
نفذ صبره كله في الصباح، و قد تخلّف عن الذهاب إلى عمله متذرعًا بضرورة سفره لمتابعة بعض الأعمال الطارئة عن كثب، جهزت له زوجته حقيبة صغيرة تكفيه لعدة أيامٍ كما أوضح لها، و انطلق عائدًا إليها فور حلول المغيب
كانت السماء ملبّدة بالغيوم الكثيفة، و البرودة تزحف على الأجواء الرطبة منذرة بنوّة وشيكة، ولج “يحيى” إلى الشقة متجولًا بناظريه يبحث عنها بتلهفٍ، لا أثر لها في الصالة و الجوار من حوله، فأيقن بأنها في غرفة النوم بالتأكيد
وجدها هناك فعلًا، ممدة فوق الفراش في ثوبها القطني الشفاف، اقترب صوبها و عيناه تمسحانها من رأسها لأخمص قدميها، أنيقة و جميلة حتى و هي مستنزفة و مرهقة كما يراها الآن، جلس على بجوارها على طرف السرير، لم يستطع تحجيم لوعته بها خاصةً و هو يرى وجهها الشاحب كالموتى و انفراجة فمها التي تنم عن تعبٍ حقيقي
مد يديه ممسكًا برسغيها أولًا، أحدهما ملقى بجوار رأسها، تحسس جبينها بكفّه تاليًا، حرارتها طبيعية، تنفس الصعداء عندما إلتمس دفئها، و مسح على شعرها برفقٍ، أيقظتها ملاطفته لها و احساسها بلمسة يده التي تحفظها عن ظهر قلب، لكنها ظنّته حلمًا أو كابوسًا آخر ضمن سلسلة الكوابيس التي تقض مضجعها منذ ليلة الأمس، رغم إن هذا أكثر حسيّة، باعدت بين أجفانها المتثاقلين لتتأكد …
ارتعدت فرائصها حين فتحت عينيها و رأته بالفعل، وجهه مقابل وجهها مباشرةً و تكاد تشعر بأنفاسه، على الفور شدت يدها من قبضته و حاولت بقوتها الضئيلة جدًا إبعاده عنها، فلم يستبقيها رغمًا عنها، ارتدت بجسمه للوراء متمتمًا :
-إهدي ماتخافيش.. ده أنا !
و الكارثة إنها تعرف بأنه هو !!!
رؤيته في الصحو الآن لم تسبب لها إلا مزيدًا من الهلع، و كما فعلت البارحة عانقت نفسها أمامه بقصد مداراة عريها عن عينيه، ألمه أن يرى كل هذا الخوف بنظراتها، و بالأكثر النفور منه هو بعد أن كانت لا تنظر إليه إلا بكل اعجابٍ و توق …
-رحمة !
و كأن صوته هو ما كانت بحاجة إليه لتأذن لدموعها بالظهور، انفلتت منها الشهقات عوض البكاء الذي كانت تكتمه و هي تنظر إليه و كأنه وحشًا مفترسًا يتربّص بها، خوفها منه لم يجعلها تلاحظ اصفرار وجهه و الهالات الداكنة المحيطة بعينيه، لم ترى بأنه كان يُعاني مثلها تمامًا …
-رحمة أرجوكي احنا لازم نتكلم ! .. ردد “يحيى” بوهنٍ واضح
أخذت ترتعش و هي تحدق فيه بكراهيةٍ خالصة و غمغمت :
-ابعد عني.. اوعى تلمسني.. امشي.. امشي أنا مش عايزة أشوفك تاني.. امشي !
تجاهل كلماتها و كذا صراخها المكتوم و هو يمد يده مجتذبًا إيّاها بالقوة لتستقر بأحضانه، ما زالت تقاومه بكل ما أوتيت من قوة، لكنه يرفض إفلاتها و يشدد ذراعيه من حولها أكثر و هو يقول بلهجةٍ معذبة :
-أرجوكي.. إهدي.. أقسم لك إللي حصل ليلة إمبارح عمره ما هايتكرر تاني. أنا آسف. أنا آسف جدًا مش عارف إزاي عملت فيكي كده.. أنا مانمتش طول الليل يا رحمة. من أول ما سيبتك و صورتك مش بتفارقني !!
ابتلعت الورم في حلقها و هي تستمع إليه عاجزة عن إيقاف مدامعها، بينما تشعر بنعومة قميصه أسفل خدّها و تشم رائحته المألوفة، بالأمس كانت مغرمة به حتى أذنيها، فماذا عن اليوم ؟ كيف تشعر تجاهه الآن ؟
لا تستطيع أن تحدد !!!
-ممكن نقعد و نتكلم شوية ؟ .. خاطبها بلطفٍ
أبعدها قليلًا دون أن يتركها، حاول النظر بعينيها، لكنها أشاحت عنه بتصميمٍ فأردف بلهجةٍ مقررة :
-قومي إلبسي.. هانخرج.
نظرت له الآن، و لوهلةٍ ظنّت أنها سمعت ذلك بالخطأ، لكنه أكد لها و قد عادت نظرته الملائكية لعينيه بمسحة حزينة :
-أنا هاطلع برا أعمل تليفون و هاستناكي عشر دقايق تكوني جهزتي.. سامعاني ؟ عشر دقايق. و إلا هاتضطريني أدخل أجهزك بنفسي !
كان تحذيره جادًا و واضحًا بما فيه الكفاية، لم تجرؤ على تجاوزه هذه المرة و قد اختبرت منه أمور لم تتخيّل بأنها ممكنة حتى بأبشع كوابيسها، ما إن تركها حتى تحاملت على نفسها و قامت لتتجهز كما أمرها، كانت تعلم بأن الطقس بارد اليوم لم يخدعها دفء المنزل، فاختارت من الخزانة التي اشتراها لأجلها ثوب من الجلد الأسود الثمين، فوقه معطفٌ قصير من درجات الأزرق الداكن، بالكاد مشطت شعرها كيفما اتفق و انتعلت حذاء لامع برقبةٍ عالية، و ها هي صارت جاهزة
خرجت أمامه الآن، كان يقف بمنتصف الصالة موليًا لها ظهره، حتى شعر بوجودها، إلتفت ناحيتها و شملها بنظرةٍ متفحصة، ثم استقرت عيناه على وجهها، ليعبس متسائلًا :
-انتي مأكلتيش حاجة إنهاردة ؟ وشك بهتان !!
لم ترد عليه، فتنهد بعمقٍ و قال :
-عمومًا أنا عامل حسابي.. هانتعشى برا. و المكان إللي هانروحله هايعجبك أوي.. يلا تعالي !
و مد لها يده في دعوةٍ صريحة …
لكنها أعرضت عن عرضه و مضت متجاوزة إيّاه صوب باب الشقة، سكن “يحيى” بمكانه للحظاتٍ يهز رأسه بيأسٍ، و قد عرف أن عودة الأمور إلى نصابها بينهما سوف تستغرق وقت و مجهود أكبر مِمّا يظن !
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
لم تتخيّل أن يكون الطقس باردًا إلى هذا الحد، إلا حين صدمتها النسائم القارسة فور بلوغها بوابة البناية معه، يفترض أن تشعرها الملابس الثقيلة بالدفء الكافِ، لكن قلّة الغذاء أضعفتها كثيرًا و هي تعلم ذلك، كم مر عليها بدون أن تضع لقمة بفمها ؟
في الواقع أكثر من أربع و عشرين ساعة !!
استغرق الطريق و هي تجلس هذه المرة بجواره في السيارة كأنه سنواتٍ، قضت الوقت كله مسندة رأسها إلى النافذة المغلقة، تتأمل في المارة و الأحياء الراقية التي ربما تراها للمرة الأولى بسبب تحديد أبيها الراحل لإقامتها منذ نعومة أظافرها، ربما كانت لتبتهج بالجولة العابرة، لكن في وضعها هذا لم يبدو عليها سوى اللا مبالاة الآن، و هي تمضي معه و ليس لديها أيّ فكرة إلى أين هما ذاهبان
بعد بضعة دقائق، أوقف السيارة بمرفأ كبير، و تمكنت “رحمة” من رؤية البحر قريبًا جدًا منها …
-وصلنا !
تسلل صوته الهادئ إلى مسامعها، ثم سمعته ينزل من السيارة أولًا، رأته خلال لحظاتٍ أمامها من جهة الأخرى، فتح لها باب السيارة و مد يده لها مرةً ثانية، و كما فعلت تمامًا أول مرة تجاهلت دعوته و ترجلت وحدها بحذرٍ من أن يتماسّا و لو عرضيًا
سمعته يتنهد ثم يقول بينما رأسها لا يزال مطرق :
-بقالي فترة كنت عايز أجيبك هنا. بس الظروف مكانتش بتسمح لأسباب مختلفة.. بصي كده.. أنا متأكد إنك ماطلعتيش على يخت قبل كده !
كانت لتقول له إنها لم تركب البحر مطلقًا، لكنها أبقت على صمتها، فقط رفعت رأسها لتنظر إلى أسطولٌ من القوارب ذات الأشرعة، و لكن هناك قارب يصطف بمقدمة المرسى هو أكثر ما لفت نظرها من كبر حجمه و تميّزه عن غيره بالحداثة و الفخامة الواضحة للعيّان …
-تعالي يلا.. بيقولوا أول مرة في أي حاجة مش بتتنسي.. و أنا عايز أكون مرتبط بالذكرى دي في عقلك للأبد.
و فوجئت بيده تقبض على رسغها، كان حازمًا و لطيفًا في آنٍ و هو يسحبها معه نحو رصيف المرسى، ساعدها على العدو حتى اعتلت ظهر القارب، قام بحل عقدة الحبل الضخم الواصلة بين الرصيف و اليخت الراسي، ثم قفز برشاقةٍ متبعًا زوجته …
أجلسها بمقصورة الإستقبال، بينما يتجه نحو قمرة القيادة بالأعلى، شعرت بالهلع عندما هدر المحرّك و تماوج القارب مقلعًا من الميناء، أخذت تحدق متسعة العينين في الرصيف الذي يبتعد عن مرمى بصرها شيئًا فشيء، حتى اختفى تمامًا، فلم يبقى حولها سوى البحر و الظلام الدامس، ظلام لا يضيئه إلا ضوء القمر الشحيح و كشّفات اليخت الموّزعة باتقانٍ
توقف اليخت فجأةً، و عاد “يحيى” بعد ثوانٍ ماثلًا أمامها و هو يقول بهدوء :
-قومي معايا يلا.. الجو برد عليكي هنا.
لم ينتظر أن تستجيب لكلمته، أمسك بيدها و شدّها برفقٍ لتقف، صدمته برودة بشرتها و تمتم :
-انتي إيدك متلّجة.. يبقى أنا كنت صح. مأكلتيش حاجة خالص إنهاردة !
هز رأسه متأسفًا عليها و على الحالة التي وصلت لها بفضله، أخذها على مهلٍ إلى الطابق العلوي لليخت، حيث جناح كامل مجهّز بقاعة صغيرة للجلوس و غرفة نوم و دورة مياه، بمجرد أن أزاح “يحيى” الباب المزدوج و تنحى داعيًا زوجته للدخول حتى لفحها دفء مغرٍ دفعها لتنزلق أكثر بالداخل، سمعته يغلق الباب من خلفه، بينما تتأمل بعينين ذابلتين النمط المترف لشيءٍ آخر من ممتلكات “يحيى البحيري”.. مثلها هي أيضًا.. هي إحدى ممتلكاته …
-أنا وصيت على عشا قبل ما نتحرك على هنا !
استدارت سامحة لناظريها أن يستقرا على وجهه أخيرًا، ضايقها أن تراه وسيمًا كعهدها به، و كم أرادت أن تفقأ عينيها لكي لا يتسنّى لها النظر إليه من جديد، لكنها لا تقدر، رغم كل ما فعله بها لا تزال متعلّقةً به، و لعل هذا التعلّق المرضي ليس له إلا علاجٌ واحد …
سقطت عيناه الجميلتان على فمها و هو يقول :
-بصي يا رحمة.. أنا لغاية دلوقتي بحترم سكوتك.. مقدر حالتك. لكن لو ماطاوعتنيش بالذات على الأكل و الشرب هاضطر استخدم معاكي أساليب خاصة.. ماظنش إنها هاتعجبك.. من فضلك أقعدي عشان نتعشا سوا !
و أشار لها بذقنه تجاه طاولة العشاء، لا يمكنها إنكار خوفها من تهديده الصريح، خاصةً عندما ذكرها بأساليبه الخاصة التي اختبرتها للمرة الأولى أمس، مجرّد تصوّر أن تعيش تلك اللحظات مجددًا دفعها للإذعان له فقط إتقاءًا لشرّه الخبيث
زوجها و رجلها الأول، الأمير الوسيم في حكايتها الورديّة، إنه خبيث بقدر ما هو لطيف، و قاسٍ جدًا إلى حد لم تألفه من قبل …
جلست “رحمة” أمامه ناظرة للطعام المنمّق بدون شهيّة، كان العشاء هو طبقه المفضل، سرطان البحر و حساء المحار، لقد جعلها تدمن ذوقه بالفعل، و ليس في الطعام فقط، في كل شيء آخر يقوم به !!
-باين لا آكلك بإيدي ! .. قالها “يحيى” بفتورٍ و هو يدفع بالملعقة إلى فمها
عبست مشيحة بوجهها عن يده و ألتقطت ملعقتها مسرعة قبل أن تتلقّى ردة فعله التالية، بدأت تأكل على مضضٍ و لم يبدو عليها الاستمتاع بالصنف اللذيذ أو حتى استحسانه، بينما اكتفى “يحيى” بمراقبتها في البادئ، و الواقع إنه لم يمد إلى الطعام، بل قام متجهًا نحو البار الصغير و اختار شرابًا بريئًا، لا يمكنه أن يثمل الليلة على أيّ حال و لو قليلًا، عاد إليها حاملًا كأس آخر من أجلها، عرضه عليها بتصميمٍ، فأخذته و تجرّعته كله رغمًا عنها فقط لترى مآل هذه التمثيلية الهزلية …
و الآن فرغت من الطعام أيضًا، تطلعت إليه بشجاعةٍ، و قد سئمت الهدوء و تعبت من الإنتظار، فكان أول ما قالته منذ غادرا البيت هو :
-ممكن أعرف انت جايبني هنا ليه !؟
بدا الأمر كما لو أن صوتها عزّز الدفء من حولهما تمامًا، لأنه زفر مرتاحًا لسماعها و قال مسترخيًا في مقعده و لا يزال يحتسي الشراب :
-قلت لك.. حبيت أفاجئك و أخليكي تقضي وقت حلو.. تعرفي اليخت ده كان آخر هدية ليا من أبويا الله يرحمه.. مافيش واحدة ست دخلته قبلك… و لا حتى فريال مراتي.. انتي أول واحدة !
أجفلت مرددة بعصبيةٍ :
-أنا مش عايزة أسمع حكاياتك.. مابقتش تخصني.. انت عارف أنا عايزة إيه. مش هاتنازل عن قراري.
حبست أنفاسها لحظةٍ حين مد جسمه نحوها و أمسك ذقنها بيدها مجبرًا إيّاها على النظر إلى عينيه الحادتين :
-و أنا مش هاتنازل عنك يا رحمة.. رضيتي أو لأ. مهما حصل مش هاسيبك.
هبّت واقفة فجأةً و هي تصرخ بوجهه بنفاذ صبرٍ :
-مش من حقك تتحكم فيا بالشكل ده.. انت بهدلتني.. كرامتي بقت في الأرض بسببك.. أنا اضربت علق كتير من أبويا و كنت بقبل منه أي حاجة. لكن انت لأ. لما مديت إيدك عليا كانت دي أبشع حاجة حسيتها في حياتي كلها. و إللي عملته فيا بعد كده.. انت خلتني أتمنى الموت إمبارح في الثانية ألف مرة !!
كلماتها و إنفعالاتها جعلت أحداث الليلة الماضية تتراءى له و أصوات صراخها الذي كتمه بيده يتردد بأذنيه، كان أمرًلا بشع كما وصفته، حتى هو لم يحتمله أكثر و وثب واقفًا قبالتها و هو يقول بخضوعٍ واضح :
-أنا اعتذرت لك. و مستعد اعتذر لك لغاية ما تسامحيني.. احنا الاتينين غلطنا يا رحمة.
ردت بدموعٍ : بس غلطتك انت نهت كل حاجة بالنسبة لي.. انا حتى ماصعبتش عليك و ماعملتش حساب لأي حاجة و لا حتى لأبويا إللي وصّاك عليا.. طلّقني انت أصلًا ماحبتنيش و لا هاتحبني. ماتظلمنيش معاك أكتر من كده أرجوك !
شد فكّه بقوةٍ و هو يقول بغضب :
-قلت لك تشيلي الطلاق ده من راسك.. أنا مش هاطلقك يا رحمة. لسا مافهمتيش ؟ أنا مش هارخج من حياتك إلا بموتي !
جاش اليأس من أعماقها و هي تحدق فيه مغمغمة بكلماتٍ فاجأتها هي نفسها :
-أو بموتي أنا !!
و قبل أن يُعالج عقله ما قالته، باغتته و هي تقلب طاولة الطعام بينهما، لتنجح بإشغاله للحظة مكنتها من الفرار من أمامه تجاه باب المقصورة، كانت بلا معطفها الآن فصدمتها البرودة السحيقة بالخارج حيث الهواء الطلق، و من بعيد رأت عاصفة تلوح بالأفق و السماء على استعدادٍ لقصفٍ رعدي وشيك
بالرغم عن هذا لم يمنعها الخوف من المضي إلى فكرتها الانتحارية المجنونة، فإندفعت و قد أعمتها الرغبة بالهرب منه، خاصةً عندما صدح صوته الهادر مناديًا إيّاها من الوراء، أسرعت بالركض نحو السور المعدني، و لم تفكر مرتين، حتى لم تنظر خلفها، اعتلت السياج و ألقت بنفسها في مياه البحر الثائر …
و فجأة وجدت نفسها بلحظةٍ واحدة أسفل سطح الماء، يكاد قلبها يتوقف من شدة البرودة و قد بدأت تشعر بالغرف فعلًا، المياه تملأ رئتيها و وعيها يتسرّب منها أسرع من خفقات قلبها بينما تلتقط أذنيها عبر مسافةٍ عميقة صوته الملتاع :
-رحـمـــــــــــــــة.. رحـمــــــــــــــــــة.. رحـمــــــــــــــــــــة …
ثم و كأنه كابوسًا و نجت منه، عندما فتحت عينيها مرةً أخرى رأت وجهه الوسيم يطلّ عليها و الذعر يجلله، بينما يضع قوته في كلتا قبضتيه و هو يضغط على صدرها مطبقًا ما تعلّمه بإنعاش القلب الرئوي في الحالات الطارئة و قد أفاده، حقًا أفاده
سعلت “رحمة” بشدة و هي تشهق و تبصق عبر فمها كميّة كبيرة من المياه، بينما يرتجف “يحيى” بقوة و قد تبيّنت بأنه خلع سترته و قميصه و البلل يغمره كليًا، إذن فقد ألقى بنفسه خلفها، أنقذها !!!
-إنتي مجنونة ! .. هتف “يحيى” من بين أنفاسه و هو يساعدها لتطرد ما تبقى من الماء بجوفها
و استطرد و هو يكاد يفقد صوابه مِمّا جعلته يعيشه قبل قليل :
-انتي قلبك وقف بجد.. سامعة ؟ انتي موتّي و رجعتي تاني !!
قام و حملها على الفور عائدًا بها إلى الداخل و هو يقول بصوتٍ مختلج :
-انا عمري ما هاسامحك على إللي عملتيه فيا أبدًا …
وضعها بالفراش مدثرًا إيّاها بالأغطية، بينما أسنانها تصطك بقوة، كانت مغمضة العينين، تشعر برغبة لحوحة بفقدان الوعي و قد بدأت تستسلم لها فعلًا، لكنها شعرت به أولًا، ينضم إليها بالفراش، ذراعيه تحيطان بها، ثم سمعت صوته المرتعش يهمس لها بخشونةٍ :
-أنا بحبك.. بحبك !
و ظنّت بالفعل أن ما سمعته مجرد هلاوس، أو لعلها أمنيتها تتهيأ لها تحت تأثير الحمى، هو بالتأكيد لم يقول لها ذلك.. لا لم يقول.. إنها تتمنى أن يقول !!!
_______________________________
الأحداث الجارية منذ وصولها بيت الزوجية المزعوم أعجزتها بادئ الأمر عن تبيّن كم هو ثري حقًا زوجها، إنه بالفعل قصر مهيب، كل حجر و قطعة أثاث فيه تنطق بالفخامة و الارستقراطية، لا تصدق إنها قضت على حد قول الجميع ما يربو عن ثلاثة عشر عامًا هنا …
هل يُعقل ؟
أين صغارها إذن ؟ و شقيقتها “ملك”.. إنها أكثر من تشتاق لرؤيتها.. تلك الرضيعة الصغيرة و التي كان آخر عهدها بها مرضها الشديد.. تذكر بأنها كادت تموت من الخوف عليها.. حتى والديها لم يخافا على الطفلة حديثة الولادة بنفس قدر خوف “سمر”.. أين هي “ملك” !؟؟
لم ترى أحد هنا غير سيدة القصر “فريال” هانم كما يدعوها الجميع، زوجها و طاقم الخدم، و الآن وصلت الوافدة الجديدة، ألقت عليها تحيّة مقتضبة و سارعت للأطمئنان على والدتها …
-مامي مالها يا عثمان إيه إللي حصل ؟؟ .. هتفت “صفيّة” و هي تجلس بجوار أمها الغافية على الفراش الواسع
كانت عبارة عن نسخة مصغّرة من أمها، جميلة بقدرها، و حتمًا أكثر جمالًا من أخيها الذي ورث ملامح العائلة حادة الوسامة …
كان يقف عند مقدمة السرير، ينظر بصمتٍ إلى أمه، حتى شعر بنظرات شقيقته تحملق فيه بانتظار اجابته، نظر لها الآن و قال واجمًا :
-ماما حاولت تنتحر يا صفيّة.. كانت هاترمي نفسها من هنا و لحقتها في آخر لحظة !
و أشار برأسه نحو الشرفة الموصدة بأقفالٍ الآن، بينما تكتم “صفيّة” شهقة مرتعبة بكفّها، و لم تستوعب بعد ما قاله، سألته بصدمةٍ حقيقية :
-مامي حاولت تنتحر ؟ ليـه ؟ ليــه يا عثمـان !؟؟؟
زفر “عثمان” مطوّلًا و هو يفرك بين عينيه بتعبٍ بيّن، ثم قال بصوتٍ مكتوم :
-ليه دي عايزة نقعد و أشرح لك الموضوع كويس.. المهم دلوقتي أنا مش عايزك تتحرّكي من جنبها. الدكتور لسا ماشي من شوية و إداها مهدئ هايخلّيها تنام.. ضروري لما تصحى تكوني معاها يا صفيّة.. فريال هانم ماتبقاش لوحدها من اللحظة دي.. لحد ما تفوق و أقدر أقيّم حالتها بنفسي.. مفهوم ؟
أومأت له طائعة، فلم يطيل الوقوف و مضى خارجًا من الغرفة، الآن سمح لنفسه بالتداعي، بعد أن استنزفت أمه كل قوته و أذاقته خوف لم يتصوّره طيلة حياته، رمى بنفسه فوق أحد مقاعد صالون الردهة المجاورة لرواق الغرف، وضع رأسه بين يديه و كتفيه لا يكفّان عن الارتعاش من حينٍ لآخر
شعر فجأة بلمستها، تلك اللمسة التي يميّزها جيدًا، أحطّت بيدها فوق كتفه، رفع رأسه متطلّعًا لأعلى، وجدها حقًا، هي بنفسها.. حبيبته.. زوجته …
-سمر ! .. نطق اسمها بطريقةٍ كما لو إنه ترياق لكل أحزانه
كانت تقف أمامه و التردد يبدو عليها، لا تعلم إتباعها له صحيحٌ أم خطأ، لكن ما دفعها للتواجد معه هنا في هذه اللحظة مبهمًا، كان شيء في أعماقها يحثّها على ذلك، و لم تستطع معارضته …
جحظت عيناها باللحظة التالية، عندما أحاط خصرها بذراعيه و شدّها لتجلس على حضنه، ألقى برأسه على صدرها و ضغطه بشدة ليستشعر دفئها، ليستنشق عبيرها الذي يعمل على تهدئته اكثر من أيّ دواءٍ أو وصفة طبيّة
لم تستطع “سمر” فعل أيّ شيء في المقابل، بقيت هادئة فقط، تسمح له بأن يأخذ منها فسحة صغيرة للتنفيس عن مشاعره السلبية التي رأته يُعاني منها خلال الساعات القليلة الماضية، رغم إن ضغطه عليها كان موجعًا، لكنها لم تحاول صدّه أبدًا
لتسمع صوته الآن منبعثًا من أعماقه بهمسٍ مغرٍ رغم نبرة التوسل فيه :
-سمر.. خلّيكي معايا إنهاردة.. عشان خاطري ماتمشيش… أنا محتاج لك أوي !!
رفرفت أجفانها بتوترٍ و قد بدأت تندم على تلك الخطوة التي مشيتها تجاهه بقصد التهوين عليه، إنه الآن يبدو متطلبًا، هذا ما خشيت منه.. كيف تخرج نفسها من هذا المازق ؟
-مامـا !
النداء الجذل جعلها تنتفض بقوة بين ذراعيّ زوجها، لم يتركها “عثمان” فورًا، بينما أدارت رأسها لترى عصبة من الصغار كان إبنها الذي تعرّفت إليه بالأمس بينهم، أنارت الابتسامة المتسعة وجهه البهيّ و هو يركض تجاه والديه هاتفًا :
-كنت خايف أجي و تكوني مشيتي.. و بعدين انتي إزاي بتحضني بابا كده.. أنا بس إللي احضنك !
و بالفعل أمسك بيديّ أبيه ليفك عناقهما، طاوعه “عثمان” بتباطؤٍ، لتقف “سمر” على قدميها ثانيةً و يحلّ الصبي محل أبيه معانقًا خصر أمه، بينما لم تكن “سمر” تنظر لشيء الآن إلا لذات الشعر العسلي أمامها، فور أن رأتها عرفت بأنها هي.. هي شقيقتها “ملك” و كأنها معجزة
أخذت تطالعها بنظراتٍ ذاهلة، و بادلتها الأخيرة النظر بابتسامةٍ رقيقة و هي ترحب بها :
-سمر.. حمدلله على السلامة.. انتي وحشتينا أوي يا سمر !
-ملك ! .. رددت “سمر” اسمها دامعة العينين
كانت المشاعر على اختلافها تتكالب عليها الآن، و تشعر برغبةٍ شديدة في البكاء، لولا إندفاع أصغر أفراد العائلة من المواجهة، انتبهت “سمر” لتلك الصغيرة التي ركضت من أمامها متوجهة نحو رواقٍ جانبي و سرعان ما تلاشت تمامًا عن الأنظار
عرفت فورًا بأنها “فريدة”.. ابنتها الصغيرة.. لكنها لم تعرف لماذا تصرذفت هكذا.. لماذا فرّت منسحبة بهذه السرعة و دون أن يتعرّفا أو حتى تكلّمها !!!
أحسّت “سمر” باقتراب زوجها منها، كان يقف خلفها مباشرةً الآن، و سمعته يتمتم قرب أذنها :
-فريدة متعلّقة بيكي أكتر واحدة بعد يحيى.. و لو انتي سمر إللي كنتيها من أسبوع واحد كنتي هاتعرفي إني غيرانة.. ياريت ماتنسيش الكلام إللي قلتهولك.. انتي عارفة هاتتعاملي مع الولاد كلهم إزاي !
 

google-playkhamsatmostaqltradent