رواية وما ادراك بالعشق كاملة بقلم مريم محمد غريب عبر مدونة دليل الروايات
رواية وما ادراك بالعشق الفصل السادس عشر 16
لا أنساكِ _ :
قبل ستة و عشرون عامًا …
على مدار عام كامل، يُعاشر زوجة أخيه معاشرة الأزواج دون أن تعي، و قد استولى على مجموعة من الأغراض التذكارية التي تخصها، كلّما تسلّل إليها ليلًا بأوقات غياب “يحيى” عن البيت، لم يشعر بالذنب إلا بالمرة الأولى فقط، ثم بعدها صار مدمنًا على الأمر، و لولا أن ضبطته زوجته ذات ليلة !!!
أجل.. زوجته “هالة الألفي” ضبطته عندما كان بالغرفة مع “فريال” و قد فرغ للتو من اغتصابها، لم تجسر على اقتحام الغرفة و إلا لعلمت بأن “فريال” بريئة، و لما ظنّت فيها السوء لحظة خروج “رفعت”.. رؤيته لها كانت بمثابة كارثة.. و كأنه لقى حتفه بالفعل
لم تنطق معه بكلمة و ولّت هاربة باكية إلى جناحهما، ليلتها تركها “رفعت” تظن به و بـ”فريال” ما تريده، لكنه لم يسمح لها بالبقاء بالبيت، أخذها صباحًا باكرًا إلى منزل عائلتها، و أخبرها بأنهم و ولديّهما راحلين، سيأخذهم و يهاجر بهم خارج البلاد تمامًا.. و إلا فلن يبرح ارتكاب هذا الإثم العظيم …
-انت متأكد من قرارك المفاجئ ده يا رفعت ؟
أدار “رفعت” رأسه عن نافذة السيارة لينظر صوب أخيه، ظل “يحيى” مركزًا على القيادة و هو يتحدث بهدوء في نفس الوقت :
-أنا مع إنك تحسّن علاقتك برضوى و تأمن لولادك إتزان و استقرار. لكن موضوع الهجرة ده.. انت درسته كويس ؟
عمل “رفعت” على مداراة نظرة الحقد التي لا ينفك يبذل مجهودًا خرافيًا حتى لا يلاحظها أخيه، اتسم تعبير وجهه بمسحةٍ ساخرة و هو يقول :
-مافيش خطوة باخدها في حياتي إلا و بكون متاكد منها مية في المية يا يحيى.. ثم انت مش هاتبطل بقى دور المسؤول ده ؟ لحد إمتى هاتعيش شخصية الكبير ؟ و لا انت ناسي إن أنا الكبير أساسًا !؟؟
ندت عن “يحيى” تنهيدة يائسة و هو يهز رأسه محدقًا بالطريق أمامه، لكنه رد عليه بذات اللهجة الهادئة :
-مش ناسي إنك الكبير يا رفعت.. بس الكلام ده تقوله للغريب.. أنا أخوك.. أنا أكتر شخص يهمه مصلحتك حتى لو كنت في نظرك الأخ الصغير. إيه يعني عيب لما أقلق عليك ؟
أشاح “رفعت” عنه بوجه ملتوٍ و غمغم على مضضٍ :
-لأ مش عيب.. عمومًا ماتقلقش. انت عارفني إستحالة أعرّض عيلتي لأي مخاطر. لو شايف إن السفر هايضرهم ماكنتش مشيت خطوة واحدة فيه.. أطمن أنا مأمن كل حاجة.
حانت من “يحيى” نظرة صوب أخيه و هو يقول مبتسمًا :
-أنا أتمنى لك كل الخير يا رفعت.. و أي وقت تحب ترجع بيتك مفتوح و الشركة كمان.. مش معنى إنك خرجت منها يبقى مالكش مكان. أنوي بس تشتغل فيها بجد و أنا هامدلك إيدي و كياني كله.. مأمنش لحد غير أخويا. غيرك انت !
وصلا أخيرًا إلى الوجهة المنشودة، منزل “يحيى” الثاني، حيث تسكن فيه زوجته و صغيرته البالغة من العمر تسعة أشهر فقط
كانت “رحمة” تنتظر قدومهما بالفعل، حضّرت نفسها و الصغيرة جيدًا للقاء فرد العائلة الأبرز لأول مرة، و بالفعل استقبلت “رفعت” بحفاوةٍ جمّة، و بدوره أبدى إنبهارًا بجمالها و لباقتها في الكلام و التعامل، بالإضافة إلى تنسيقها لمائدة الغداء، أثنى كثيرًا على الأصناف التي طبختها و لم يقاوم إغراء الطعام أبدًا …
-بجد تسلم إيديكي يا رحمة ! .. قالها “رفعت” من خلال مضغه لقطعة اللحم المفضلة لديه على المائدة، و تابع :
-أنا عمري ما دوقت صنف زي ده.. اسمها إيه الوصفة ؟
تبسّمت “رحمة” التي لم تشارك بتناول الطعام مكتفية بالجلوس رفقتهم و الاعتناء بصغيرتها فقط، ثم قالت :
-مالهاش اسم. دي وصفة من اختراعي. أصلي بحب المطبخ اوي من صغري ف اتعودت أخترع طبخات كتير.. مبسوطة أوي إن الأكل عجبك يا رفعت بيه !
صوّب “رفعت” ناظريه نحوها، و ازدرد ما تبقّى ما تبقّى بفمه من طعام بجرعة ماء ليقول بجديةٍ :
-مبدئيًا اسمي رفعت بس منغير بيه. انتي بقيتي فرد من العيلة و أم لبنت أخويا يعني زي أختي بالظبط. تاني حاجة بقى الأكل مش بس عاجبني أنا هاواجه صعوبة كبيرة عشان أتقبّل أي صنف يخرج من إيد حد تاني غيرك …
و نقل بصره إلى أخيه مكملًا بدعابةٍ :
-يا بختك يا سي يحيى.. طول عمرك محظوظ في كل حاجة.
وافقه “يحيى” بإيماءة قبل أن يميل نحو زوجته الشابة ليطبع قبلة سطحية على خدّها، ثم يغطي يدها التي فوق المائدة بيده قائلًا :
-أنا بعتبر نفسي محظوظ أكتر برحمة.. إني قابلتها و اتجوزتها.. مابقتش أقدر أستغنى عنها أبدًا !
ابتسمت له برقةٍ مجاملة و لم ترد، و واصلت القيام بواجب الضيافة بعد الغداء إذ صنعت القهوة و قدّمت الحلى الذي سهرت ليلة كاملة تتفنن بتنفذيه، قضى “رفعت” وقت لطيف بالكاد شعر بمرور بضعة ساعاتٍ ما بين التعرّف على زوجة أخيه و تلقّي الترحاب و المرح مع الصغيرة “شمس”.. فجأة نظر بساعة يده و نهض قائلًا :
-ياااه ده انا يدوب أمشي دلوقتي حالًا.
تطلّع “يحيى” إليه معلّقًا بتعجبٍ :
-إيه يا رفعت انت في آخر الدنيا ؟ هي نص ساعة بالكتير و تكون في البيت. أقعد شوية كمان و هاننزل سوا عشان أوصلك انت ناسي احنا جايين بعربيتي !
-لأ خليك انت مش مستاهلة تنزل و حد يشوفك معايا المفروض إنك مسافر يومين ! .. و غمز له
ضحك “يحيى” على التلميح المبطن، بينما يستطر “رفعت” ساحبًا سترته من فوق الآريكة :
-أنا هاخد تاكسي لحد البيت. و مرة تانية متشكر اوي يا رحمة على العزومة و من دلوقتي بطالب بعزومة زيها في أقرب فرصة.
قامت “رحمة” لتصافحه و هي تحمل على ذراعه الأخرى صغيرتها :
-العفو يا رفعت انت نوّرتنا إنهاردة. و طبعًا دي مش آخر مرة نعزمك ده بيتك أخوك يعني بيتك أصلًا تيجي في أي وقت.
انحنى “رفعت” ليقبّل رأس “شمس” الغافية و يداعب وجنتها المكتنزة بإبهامه، ودّعهم مرةً أخرى، ثم رافقه أخيه حتى باب الشقة و أقفل من ورائه
تنفس “يحيى” الصعداء أخيرًا، لقد انتهى اليوم بنتيجة أكثر من ممتازة، و قد علت “رحمة” من شأنه أمام أخيه، حقًا تصرّفت كزوجة تليق بـ”يحيى البحيري” لدرجة أنها أجبرت “رفعت” على إبداء الاحترام التام لها، هو يعرف أخيه جيدًا، و بإمكانه و بسهولة استشفاف ما إن أعجبه شيء أم لم يعجبه، و “رحمة” حازت على إعجابه، بل و ثناؤه و تقديره أيضًا …
-خضتني !! .. صاحت “رحمة” ملتاعة عندما أحست بذراعيه تحيطان بخصرها فجأةً
ما لبثت أن هدأت بل بردت أعصابها من جديد
كانت تقف بالمطبخ الآن، بعد أن وضعت صغيرتها بالمهد في غرفة النوم، استغلّت وقت غفوتها لتجلي الصحون، تنهدت بفتورٍ ردًا على مداعبات زوجها الجريئة، حتى همسه الحميمي بجوار أذنها لم يعد يؤثر فيها مؤخرًا كما كان خلال الأشهر الأولى من زواجهما …
-انتي كنتي هايلة إنهاردة.. رفعتي راسي !
بانت ابتسامتها الساخرة في لهجتها و هي ترد عليه :
-أنا ماعملتش حاجة أبدًا. المستوى إللي انت معيّشني فيه هو إللي نطق بالنيابة عني.. و بعدين ده أخوك.. مش حد غريب.
شعرت بتوتر يديه فوق جسمها للحظة، قبل أن يعاود الحديث مجددًا بهدوء :
-انتي بتعملي إيه ؟
هزت كتفيها ببساطةٍ :
-بغسل الأطباق. بنضف مكان الغدا.
-سيبي كل ده من إيدك ! .. أمرها مناولًا إيّاها منشفة لتجفف يديها :
-أنا هاكلم البواب الصبح يطلع مراته تشوف طلباتك.
أخذت المنشفة منه تحت إصراره و هي تقول :
-دي حاجات بسيطة تخلص في نص ساعة.. مش مستاهلة حد يعملهالي !
أدارها إليه من خصرها و أسندها أمامه إلى السور الرخامي للمطبخ متمتمًا :
-الإيدين دي اتخلقت عشان تتزيّن بدهب و ألماظ. مش تشقى في غسيل و تنضيف.
و ارتفع حاجبيها في ذهولٍ عندما استلّ من جيب سترته علبة صغيرة من المخمل الأسود، فتحها أمام عينيها، ليشع بريق خاتم رفيع من الذهب الأبيض المزيّن بفصّ من الياقوت الأزرق محاطًا بعشرة من فصوص الألماس الحرّ …
-كل سنة و انتي طيبة ! .. قالها “يحيى” مبتسمًا بجاذبيته المعهودة
رفعت عينيها عن الخاتم لتنظر إليه مستغربة، فأردف و هو يمسك بيدها :
-إنهاردة عيد ميلادك العشرين.. و عيد جوازنا التاني. كل سنة و انتي معايا ..
لم تدّعي حقًا جهلًا زائفًا، فهي بالفعل لم تتذكر كلا التاريخين !!
ابتسمت “رحمة” بتكلفٍ قائلة :
-انت افتكرت إزاي.. ده انا كنت ناسية !
يحيى بلطفٍ : أنا عمري ما أنسى اليوم ده. يوم ما بقيتي مراتي و ملكي في نفس الوقت.. فاكرة ؟
فهمت ما يرمي إليه جيدًا، و مبادرتها بأول ليلة لهما في تقديم دعوة صريحةً له ليجعل منها زوجة حقيقية، لو علمت ما تخبئ لها الأيام قبل أن تفعل ذلك لما فعلته مطلقًا.. و لكنه القدر …
نزع الخاتم من العلبة و رفع يدها الآن ليلبسها إيّاها ببنصرها، كان المقاس مضبوطًا، تمامًا كما نبؤه إحساسه، راقبها و هي ترمق يدها المزدانة بقطع ثمينة من المجوهرات و قال :
-عجبك ؟ أنا اخترته على ذوقي. لو مش حباه ممكن ننزل نغيّره بكرة أو تنقي أي حاجة نفسك فيها.
هزت “رحمة” رأسها و هي تقول دون أن تحيد بناظريها عن الخاتم :
-لأ طبعًا مش هاغيّره. ده يجنن.. شكرًا !
ابتسم برضا و أخبرها :
-دي خطوة اتأخرت كتير و أنا آسف طبعًا. كان لازم أقدم لك الخاتم ده يوم ما اتجوزنا. بس حقيقي نسيت خالص.. من كتر ما كنتي مستحوذة على تفكيري. و مش عارف أشوف حد غيرك !!
انشغلت الآن بتفحص الخاتم عن كثب لدرجة إنها لم تسمعه جيدًا، فباغتها بمفاجأة أخرى مظهرًا لها مغلّفًا ورقيًا :
-الخاتم ده هدية عيد ميلادك.. أما العقد ده هدية عيد جوازنا.. انتي دلوقتي مش بس مراتي. انتي أم بنتي كمان. مافيش حاجة ممكن تغلى عليكي. و مهما عملت عشانك مش كفاية.
نظرت “رحمة” بتساؤلٍ إلى اليده الممسكة بالمغلّف، فشرح لها بايجازٍ :
-ده عقد الشقة دي.. أنا كتبتها باسمك يوم ما ولدتي شمس. يعني دلوقتي انتي صاحبة الشقة و أنا إللي ضيف عندك. تخيّلي ؟
فغرت فاها من وقع المفاجآت عليها، و ضحكت و هي تأخذ العقد من يده غير مصدقة، ليقول مسرورًا بسعادتها :
-و الله كان نفسي أقدم لك الهدايا دي في مكان أشيك من المطبخ. في أوضتنا على الأقل. بس مانقدرش نزعج شمس هانم خصوصًا و هي نايمة !
وضعت “رحمة” المغلّف جانبًا عندما فهمت المعنى المراد من وراء كلامه، أبقت على الخاتم باصبعها و هي تفك سحاب فستانها الجانبي و تحيط عنقه بيدها الأخرى متمتمة :
-في الأوضة.. في المطبخ.. في أي مكان.. انت تستاهل أقولك شكرًا على الهدايا دي.. و أنا هاشكرك بطريقتي !!
و هذا بالضبط ما يهفو إليه من البداية …
يتوق بشدة لوصالها و هو يلتمس منها الرضا، خلال الفترة السابقة كلها كان عليه أن يتظاهر بأنه لا يلاحظ نفورها منه، و إنها تجبر نفسها لتمنحه حقوقه بأقل الطرق التي ترضيه
و لكنه لا يرغب بشيء في هذه اللحظة أكثر من رغبته في تقبيلها، يشتاق كثيرًا لمذاق شفتيها، و لكن كما توقّع، ما إن حاول تعرض عن هذا على الفور مشيحة بوجهها بعيدًا، لا تسمح له بنيل قبلة واحدة منها، تمارس الحب معه، و لكن قبلات.. لا
و هو تعهّد لها مسبقًا بألا تفعل له أيّ شيء بالإكراه.. لن يجبرها على شيء مطلقًا …
___________________________________
الوقت الحاضر …
استيقظت “سمر” في الصباح و هي تشعر براحة غامرة عكس ما توقعت، آخر عهدها بالليلة الماضية هو إصرارها على المبيت فوق الأريكة منفصلة عنه ما دام صمم ألا يترك فراشه، لا يمكن أن تنسى هذا
و لكن ما هذا !؟
فرش ناعم.. وسادة طريّة.. مساحة واسعة حيث تمكنت من مدّ ساقيها و يديها بأريحية !!
و هذه الذراع التي تحيط بخصرها.. اللعنة ذراعه هو !!!
-آاااعععععااااااااااه …
انتفض “عثمان”من نومه على إثر صرختها الملتاعة، لكنه لم يزحزح ذراعه الملتفة حول خاصرتها رغم محاولتها بالابتعاد عنه، غمغم بصوته الناعس و هو بالكاد يفيق :
-إيـه. في إيه يا سمر حرام عليكي. أنا لسا صغير على قطع الخلف عايزين نجيب عيال تاني يا بيبي.. إهدي صباحك فل !
سمر بعدائية مفرطة :
-صباحك زفت.. انت إزاي يا حضرة انت تنقلني من مكاني و أنا نايمة و تنيّمني جنبك هنا ؟ لأ و كمان بتستغل غيابي عن وعيي و بتتحرّش بيا.. شيـل إيـدك دي !!!!
و حاولت مرةً أخرى نزع ذراعه عنها و لكن عبثًا …
تنهد “عثمان” بصبر و هو يفرك وجهه بالوسادة أسفل رأسه مغمغمًا شيئًا لم تسمعه، ثم نظر لها من جديد قائلًا بفتور :
-لو كنتي مفكرة إني كنت ممكن أسيبك تنامي بعيد عني و انتي معايا في نفس الأوضة تبقي أكيد غلطانة يا بيبي.. و بعدين إيه بتحرّش بيكي دي ؟ هو انتي ليه مش عايزة تستوعبي إنك مراتي.. مرااااتي !!
اتسعت عيناها بصدمة حين انزلق الغطاء فوق جسمه قليلًا و رأت إلى أيّ حد هو عاريًا بجوارها في الفراش، فرددت بتلعثمٍ و دموع الخوف ملء عينيها :
-انت عملت فيا إيه و أنا نايمة !؟؟
ابتسم “عثمان” و هو يقول بسخرية :
-اللهم طوّلك يا روح.. انتي لو شفتي نفسك من أسبوع واحد بس في السرير ده كنتي عاملة إزاي.. و كنتي بتقوليلي إيه !
و عض على شفته و هو يترك نظراته تنحدر ليحدق بشقّ صدرها عبر فتحة المنامة …
انسحبت الدماء من بشرتها و هي تكرر منكمشة على نفسها :
-انت عملت فيا إيــه !!؟؟؟
زفر بقوة و صاح بنفاذ صبر :
-ماعملتش حاجة. ما انتي لابسة هدومك أهو. لو عملت كنتي صحيتي في حضني منغير هدوم خالص !!
و شهقت حين اعتلاها فجأةً مثبتًا معصميها فوق رأسها بيد، و بيده الطليقة يمسك بذقنها متمتمًا بحزمٍ :
-اسمعيني كويس يا سمر. افهمي كلامي عشان حياتك الوردية في بيتي ماتقلبش جحيم بسببك.. بكررهالك عاشر. انتي مراتي. مش بس من حقي تنامي جنبي. لو حبيت أخاوي يحيى و فريدة بأخ أو أخت دلوقتي حالًا هاعملها. و مافيش حاجة هاتمنعني …
اهتاجت أنفاسها و هي ترد عليه بخوف :
-هاصرّخ و ألم البيت كله !!!
إلتوى ثغره بابتسامةٍ تهكمية و تمتم :
-مش هاخلّيكي تصرّخي.. و انتي عارفة !
هزّت رأسها بقوة هاتفة بعصبيةٍ :
-لأ مش عارفة. و لو مابعدتش عني هـ آ …
-طيب ما نجرّب أحسن ! .. قاطعها متحسسًا تضاريس جسدها بجرأة
نظر إلى عينيها بتحدٍ بينما تتلوى لتتحرر منه بلا هوادة.. و لكن دون جدوى …
و لوهلةٍ نسيت “سمر” كل شيء، أسرها بين ذراعيه، تحرّشه بها بكلماته و يديه، حبست أنفاسها فجأةً، و جمد بصرها فوق صدره العاري، على شقّه الأيسر، مائلًا للمنتصف، تمامًا فوق موضع القلب… رسمة عينين !!!
لم تستطع الإشاحة بناظريها عن الوشم الملوّن، حاجبين أسودان و بؤبؤين خضروان محاطان بجفون و رموش بارزة تكاد لا تفرّقها عن الحقيقة.. كأنها تنظر إلى المرآة فترى.. ترى من !؟
نظرت إلى عينيه في هذه اللحظة، لتجده يبتسم لها بوداعةٍ و قد تلاشى تعبير السخرية عن محيّاه، رقت نظرته و هو يخفض إحدى يديها من فوق رأسها ليجعلها تتوسّد صدره، و تحس بنبضه المنتظم أسفل لمستها …
-دي عينيكي ! .. قالها “عثمان” بهدوءٍ ولّد هالة من الحميمية بينهما
ارتعش فمها و لم تزل نظراتها معلّقةً بعينيه، اختلجت في صدرها الكثير من المشاعر و خشيت أن تبدأ الغرفة بالدروان من حولها إذا لم تفيق من سحر اللحظة و تثوب إلى رشدها، و لكن قبل أن تتخذ أيّ ردة فعل مال نحوها قليلًا و هو يهمس بحنانٍ مسّ النقطة صعبة المنال بداخلها :
-لو بإيدي أشيلك جوا قلبي و أخبيكي و تكوني لنفسي. ليا لوحدي.. عينيكي حفرتها على جسمي.. عينيكي إللي مالهاش زي.. بحبك لدرجة حطيت خِتم ملكيتك على جسمي.. بحبك و مش شايف و لا عايز غيرك يا سمر !
هكذا أخضعها و جعلها تلين و تصبح طوع بنانه باسلوبه الخاص و الذي لطالما أفلح معها مسبقًا، الآن أيضًا استجابت له، هدأت للغاية بين ذراعيه و كانت لتسمح له عندما دنى ببطء ليقبّلها، في الواقع، لقد أرادت بشدة أن يفعل، رغم شعورها بالغرابة و عدم الراحة معه، لا تدري كيف سحب البساط من تحت قدميها و أقعها في حبائله بلحظةٍ …
-بابا !
قاطع نداء “يحيى” الصغير سحر اللحظة، و أفاقت “سمر” من السكرة المؤقتة محاولة دفعه بعيدًا من جديد، بينما يُبقي “عثمان” عليها بسهولةٍ و هو يهتف من مكانه محدقًا بوجهها :
-يحيى.. عايز إيه ؟
-صافي عايزاك. قالت لي أقولك إنها تروحلها على أوضتها قبل ما تنزل في أي حتة.
-أوكي. شوية و رايحلها.
-ممكن أدخل يا بابا ؟ عايز أقول حاجة لماما !
تنهد “عثمان” قالبًا عيناه، تدحرج من فوق زوجته و نهض من السرير صائحًا :
-ادخل يا يحيى !!
ألقى نظرة ضجرة على زوجته، ثم مضى نحو الحمام في نفس اللحظة التي يلج ابنه إلى الغرفة، أطلّ على أمه مبتسمًا بإشراق و انضم لها بالفراش خلال لحظات، أجفلت “سمر” عندما استلقى قربها محتضنًا إيّاها و هو يقول :
-أنا سيبتك تنامي معاه إمبارح.. بس إنهاردة هاتنامي معايا أنا.. و اوعي تضحكي عليا زي كل مرة و تستني لما أنام و بعدين ترجعي له. المرة دي هاتولع يا مورا انتي حرّة هاتتسببي في خناقة !
كانت عالقة مع كلمات ابنها غير مصدقة ما تسمعه، إنه يؤكد لها عمق متانة الرباط بينها و بين زوجها المزعوم، كل شيء يقرّ لها الحقيقة حتى الآن، و هي لا تتخلّى عن مشاعر الإنكار !!!
يرفع “يحيى” رأسه عندما لم ترد عليه، نظر لها عابسًا و قال :
-انتي مش بتردي عليا يا ماما ؟ انتي زعلتي مني و لا إيه !؟
حدقت فيه الآن منصتة إليه و قالت :
-لأ يا حبيبي مازعلتش.. و لا يهمك هاعملك إللي انت عاوزه.
ابتسم لها.. تلك الإبتسامة الموروثة من أبيه و التي رأتها على محيّاه قبل قليل.. إنها عمليًا تحدق في نسخةٍ منه الآن …
-اختك و ملك صحيوا ؟ .. تساءلت “سمر” و هي تمسح على شعره الحريري برفقٍ
-فريدة صحيت و بتجهز عشان درس البيانو. أما ملك الغيبوبة دي لسا طبعًا ماصحيتش و لا هاتصحى دلوقتي عشان عارفة إنهاردة إجازة !
ضحكت “سمر” رغمًا عنها على سلوك صغيرها الفكاهي، يُذكرها هذا الجانب منه بخاله “فادي”.. على الأقل كما عهدته سابقًا قبل أن ترى منه نسخة سوداوية لم تفهم كيف وصل لها …
-طيب تعالى نشوفهم يلا !
و قامت ساحبة إيّاه في يدها …
_________________________________
الأرملة السوداء
نوع من إيناث العنكبوت، تمتاز بلون فريد من الأسود و الأحمر، سُميت بهذا الاسم لأنها عادةً تأكل شريكها بعد الإنجاب.. و لا يستطع فهم لماذا ورد له هذا الخاطر عندما رآها !!
إبنة شريكه، الآنسة الثلاثينية صاحبة المزاج الحاد.. “مايا عزام” …
بناءًا على رغبةً منها، فهي ترافقه هذا الصباح إلى المخفر لإستلام و استقبال شقيقها، و رغم إنها تتقن زينة وجهها الخفيفة بمسحةٍ من البهجة، إلا إن تعابيرها تلائم نمط ثيابها، قدّها الممتلئ بتناسقٍ يلفه ثوب أسود غير محتشم البتّة، قصير و لولا السترة الالسميكة التي تعلوه لظهر منها الجزء الأكثر إثارة بجسدها، ربما لأنه فصل الشتاء هي مقيّدة، فماذا لو حلّ الربيع !!؟
-مايا انتي هاتستني هنا و أنا هانزل أقابل المحامي جوا. شوية و هانطلع بمالك إن شاء الله !
أدارت “مايا” رأسها نحوه لتحدق به لأول مرة منذ إلتقيا من بكرة الصباح، ردت باستنكارٍ واضح :
-انت عايزني أقعد هنا و أنا عارفة إن أخويا الوحيد إللي ماشفتوش من عشر سنين على بُعد كام خطوة مني ؟ بتهزر صح !؟
تفرّس “نبيل” بوجهها الآخذ طابع لبؤةٍ بريّة الآن، و قال بجدية دون أن يضيّع فرصته بالتحديق إلى عينيها الحادتان :
-لأ خالص.. مش بهزر. و أنا مقدّر إللي بتقوليه جدًا. بس آسف يعني احنا مش رايحين نجيبه من المدرسة ده قسم شرطة. و قسم الشرطة هو هو في كل مكان فيه عساكر و مجرمين. و انتي مش مسموح لك تدخلي المكان ده و انتي عاملة في نفسك كده.
قطبت حاجبيها مرددة :
-عاملة في نفسي إيه مش فاهمة !!
أشار بعينيه إلى مفاتن جسمها الواضحة للعيّان قائلًا باقتضابٍ :
-لبسك مش مناسب.
اندهشت أكثر و جاوبته :
-و أظن دي حاجة ماتخصكش. إزاي أصلًا تعلّق على لبسي ؟؟
نبيل بحدة : انتي ماشية معايا. خرجتي معايا من بيت أبوكي قصاد عينه. من الآخر أمانة في رقبتي. يبقى تمشي على مزاجي. و إللي أقوله يتنفذ منغير نقاش لحد ما أرجعك لأبوكي زي ما أخدتك ..
نظرت له مرفرفة بأجفانها و لم تعقّب من شدة ذهولها، بينما يشيح بوجهه عنها منتزعًا حزام الأمان من حوله، ترجل من السيارة و أغلق الباب، ثم رأته يقفل عليها الأبواب و النوافذ بضغطة زر
رفعت حاجبها و هي ترمقه بعدم تصديق ما لبث أن إستحال غضبًا، خاصةً و هي ترى شدقه يلتوي بابتسامةٍ خبيثة قبل أن يستدير ماضيًا صوب بوابة المخفر !!
غلت الدماء بعروقها، لأول مرة منذ مدة طويلة جدًا يتمكن أيّ شخص من إثارة حنقها، لقد ظنّت بأنها صارت بليدة الإحساس، لكن ها هو رجل لم تحسب له أدنى حساب أخرجها عن طورها المتزن
لا بد أن تنأى عنه في القابل من الأيام، و لا مزيد من التعاملات بينهما، هو حتى لن يحظى بتحيتها أو نظرةً منها، الرجال !
جميعهم سواء.. جميعهم سفلة و أنذال !!!
زفرت “مايا” بقوة و هي تعمل على تهدئة نفسها بصعوبةٍ، فتحت حقيبتها الصغيرة و أستلّت علبة السجائر خاصتها، لكنها انتبهت لنظام السيارة محكم الغلق، لن تتمكن من إشعال سيجارة هنا دون أن تختنق …
أغلقت الحقيبة ثانيةً و هي تلعن و تسبّ، و تضحك فجأةً، حين تذكرت متى آخر مرة تلفّظت بالشتائم.. لقد مرّت سنوات.. ربما كانت لا تزال طالبة جامعية في فترة الطيش و الانطلاق
راقت نفسيتها قليلًا و هي تسترجع الذكريات الحسنة فقط، قبل أن يفسد كل شيء بحياتها، أخيها الكبير قبل وفاته، أمها قبل أن يتمكن الشر منها على الأخير، و توأم روحها.. “مالك” قبل أن تسوء أخلاقه و ينحرف عن المسار القويم
و هي نفسها
هي قبل أن تشهد دمار حياتها، انفصالها عن الرجل الوحيد الذي أحبّته من عمق قلبها بأكثر الطرق إهانة و مذلّة، خزيها في مقر عملها و اضطرارها لمواجهة كل ذلك بعزيمة فولاذية، لم تسمح لنفسها بالإنهيار أبدًا، لقد قطعت وعدًا لنفسها، و ها هي توفي به …
ارتعدت “مايا” فجأةً عندما سمعت قفل السيارة ينفتح مرةً أخرى، تطلّعت عبر النافذة أمامها بعد أن سمعت نقرًا عليها، لترى “نبيل” و قد عاد، جسده الضخم يواري خلفه جسد آخر استطاعت رؤيته بسهولةٍ
مدت يدها على الفور و فتحت باب السيارة لتخرج، تشرأب بعنقها و هي تنظر بتهلفٍ، و أخيرًا، رأته
أخيها الصغير.. “مالك”.. و كأنها البارحة فقط منذ ألتقته.. لم تغيّر فيه السنين شيء.. لا زال كما هو.. هادئًا.. وسيمًا.. و.. أين ذهبت ابتسامته ؟
أين لمعة المرح بعينه ؟
هل بدا أكثر نحولًا.. و ماذا عن تلك الندبة الغائرة أسفل عينه اليسرى !؟؟
كيف أصيب بها ؟
كيف ؟؟؟
-مالك ! .. نطقت “مايا” اسمه من تحت وطأة غصّات عديدة بحنجرتها
سالت دموعها و هي تستدير حول السيارة بخطواتٍ متعثّرة، و.. هل وعدت نفسها بألا تنهار !؟؟
إنها تنهار فعليًا الآن، و هي ترتمي بين ذراعيه و تحضتنه باكية بحرقةٍ، تضمه و تجهش في البكاء أكثر و هي لا تنفك تردد من بين دموعها :
-أخويا.. مالك.. مالك.. حبيبي.. أخويا.. مالك ! ………………………
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية وما ادراك بالعشق ) اسم الرواية