رواية غوي بعصيانه قلبي كاملة بقلم نهال مصطفي عبر مدونة دليل الروايات
رواية غوي بعصيانه قلبي الفصل الخامس و الاربعون 45
(25)
” رسائل لن تصل لـ صاحبها ”
لِماذا انت وَحدك مِن بَين جَميع الرجال ، تُغَير إِيقاع حَياتي وأَيامي وضحكاتي ؟!
•••••••
“رسيل ، أنتِ سمعاني !”
تلك هي العبارة الأخيرة التي اختتم بها “فريد” جُملة روايته الزائفة التي سردها على آذان تلك التي غاصت في حيرتها أكثر وأكثر ، لم تحتج عليه بالدليل كي لا تكشف حقيقة فُقدانها للذاكرة ، سارت على نهجه مصدقة كل أكاذيبه بدون نقاش ، فجأة دار بها الزمن وحقق سجية شرودها ، وآتى بشخص يُدعى إنه قريبها وخطيبها ، ويؤلف رواية من مخيلته كي يحقق بها مغانمـه ، هزت رأسها بتيهٍ ثم قالت :
-المطلوب مني ؟!
وقف أمامها كالبهلوان ثم شرع في رسم خطته :
-متقلقيش ، أنا هخلصك منه ، أنا عارف إنك هنا مش بإرادتك ، الشخص ده أنا عارفهُ كويس يا رسيل ، آكيد هددك واتجوزك بالغصب .. صح يا رسيل صح !
تكرار اسم ” رسيل ” على مسامعها كان صداه يزعجها كثيرًا ، يُحيي ما بداخلها من مظالم و عيشـة تنفرها ، هزت رأسها كي تنفض غُبار ذكريات مؤلمة تتعلق بهذا الاسم وقالت له بنبرة متعمدة كشف ظواهر ما يخفيه عنها :
-أنتَ جاي ليه ! عشان تقول الكلمتين دول دلوقتي !
حدجها بتعجبٍ :
-يعني كلامي صح ! هو هددك .
رمى لها طُعم إنقاذها الذي استغلته على أتم وجه ، وقالت بنفور :
-بالظبط ، زي ما قُولت ، هو رجل مش سهل وللأسف عرف يقيد حركتي وتفكيري !
مد يده كي يمشط خصلاتها بأنامله ولكنها تراجعت للوراء رافضة ونافرة من قُربه وقالت بحنق :
-المُهم ، هتخلصني من هنا إزاي !
-لا يا رسيل ، افهميني وفتحي دماغك معايـا ، اسمها هتخلصني من هنا بإيه ! أنتِ تحت أيدك كنز ! مال قارون ، تغرفي منه وتهربي .
ألتوى ثغرها بخيبة أمل :
-يعني أنتَ جاي هنا عشان المصلحة ! مش عشاني زي ما بتقول؟
تبدلت نبرة فريد الخبيثة إلى آخرى مُخادعة وهو يرقق في صوته حتى بات كفحيح الأفعى وقال :
-لا طبعـا ، جاي عشانك وهو أنا حبيت غيرك ! بس مادام البحر وقعك على كنز زي ده ! يبقى نستغله وناخد منه اللي يأمن مستقبلنا أحنا وولادنا ..
احتبست الدموع بمقلتيها وعاتبت نفسها بحسرة ودندنت :
“-هو ده الماضي اللي زعلتي إنك مش فاكراه ! ده طلع النسيان نعمة فعلًا ! ”
ثم عقدت ذراعيها مُتسائلة برتابة :
-وفين أهلى ! اشمعنا أنتَ اللي بتدور عليـا ! زي ما بتقول يعني .
-عشان أنا الوحيد اللي متأكد أنك لسه عايشة يا رسيل ، كلهم سلموكي للموت بس أنا قلبي كذب كل ده ! لسه معشناش الحُب اللي رسمناه سوا عشان الموت ياخدك مني كده !بس أنا رجعت أهو وواقف قدامك .
شمت رائحة الكذب بكلماته المنمقة الغامضة ، قارنت روايته برواية قاسم ، شتان بين الاثنين ولكن التشابه الوحيد بينهم أن هناك ثمة رواية صادقة بقلبها بعيدًا عن أحاديثهم المُخادعة ، اختنق قلبها من دُخان أكاذيبه وقالت بجزعٍ :
-والمطلوب مني !
-مُفاتيح عاصي دويدار الشخصية ، وسيبي الباقي عليـا .
” في أحد الملاهي الليلية بالفندق ”
كانت نظراته للساعة أكثر من كلماته إليها ، أحست ” سارة ” بـ إجباره للاستماع لها ، لم تيأس من التحاور معه رغم يقينها بـ ملله من وجودها الغير مرغوب به ، ختمت سارة حديثها :
-عاصي مفيش غيرك ممكن أثق فيه ، وأثق أني أدي له فلوسي يشغلهم ، هيرجعولي الضعف !
هز رأسه بعدم اهتمام وهو يرتشف أخر رشفة من كأس النبيذ أمامه وسحب مفاتيحه الشخصية وقال :
-تمام يا سارة ، اتواصلي مع يسري وهو هيعمل لك اللازم .
تشبثت بيده كي تعوق خطة رحيله :
-أنا جاية اتكلم مع عاصي دويدار ، تقولي يسري ! بطل طريقتك الرسمية دي ، مش بحبها .
ثم افتعلت الدلال عليه محاولة إحاطة كتفه المنتفخ بعضلات القوة :
-وبعدين أنا سارة يا عاصي ، أنتَ مابقتش تحبني زي الأول ولا أيه !
شد ذراعه عنوة كي يبتعد عنها وقال بحزمٍ :
-أي خدمات تانية !
-أيه مش هنسهر مع بعض النهاردة !
مط شفته باعتراض و لملم أغراضه قائلًا بثقة:
-مراتي مستنياني ، سلام .
تركها قبل ما يستمع لردها ، أو منحها فرصة لتعطيله أكثر من ذلك ، ضربت الأرض بقدمها بغل وقالت بتوعد :
-طيب يا أنا يا هي يا عاصي !
ثم اخرجت هاتفها وأرسلت رسالة نصية لـ فريد :
“-عاصي راجع أوضته ، أمشي من عندك . ”
قرأ فريد رسالتها في التو وسرعان ما ختم مخططه الدنيء قائلًا :
-همشي دلوقتِ ، بس راجع لك تاني !
ثم دنى منها محاولًا لمسها ومواساتها بحركاته الزائفة التي تلقتها مُتراجعة رافعة كفيها كـ حد فاصل بينهم مُعلنة عدم قبوله ورفضه ، ورفض محاولاته الداهنة قالت باشمئزاز مغمضة جفونها :
-لو سمحت متقربش مني ….
هز رأسه وطالعها بعيون لامعة بالمكر وانسحب بعدها بهدوء تام دون إبداء أي اعتراض يفسد مخططه .. ارتمت ” حياة ” على الأريكة خلفها لثِقل أحمال الهم التي تلاحقها من كل صوب وحدب ، ضمت ركبتيها إلى صدرها كالقرفصاء ، والغريب من الأمر أنها فقدت دموع عينيها من كثرة توالي الصدمات ، لم تذرف جفونها ولا ينبح صوتها بأنين الوجع ، اكتفت بالصمت ، الصمت الذي أن تخلت عنه لجف البحر إسهابًا لما امتصه من همومٍ .
“كيف يُمكنها طي صفحات الماضي وما زالت دروسه تُلاحقها وتفسد عليها لحظات حاضرها المُغلفة بالنسيان !”
••••••
يقول جلال الدين الرومي:
“الرُّوح التي فيها شيءٌ من روحك، تعرفُ كيفَ تخاطبكَ بلا كلمات.”
كانت نظرات مُراد ثاقبة ثابتة تدرك هدفها المحدد ، أما عنها فكانت نظراتها المُغلفة بالحياء ، والخجل ، تتحاشى النظر إليه بصعوبة ، عاصفة مُربكة نزلت على قلبها فأطاحت بها ، لم يتوه عن مخيلتها ذلك القُرب الساحر المُباغت الذي اغتنمه بدون مُقدمات ، ما أن مر طيف التلاقي القصير بينهم ارتعد فؤادها بضربات غير مفهومة ولكنها ذات مذاق خاص .
تركت ” عالية ” الشوكة من يدها بالطبق الذي لم تأكل منه إلا قليـل ، ووثبت لـ تغادر طاولة الطعام التي تضم مراد الشارد بملامحها الخجولة وأمه التي تراقبهم بعيون صقرية ، طالعها بنظرة استفهامية أدركت مغزها فورًا وقالت برتابة كي تهرب من أسره :
-الحمد لله شبعت .
فرت هاربة ناحية المطبخ وتركت طبقها وعادت بسرعة إلى غرفتها وهى تتنفس الصعداء ، قفلت الباب خلفها ممسكة في قلبها الذي أوشك على الانخلاع من كثرة تضاربه وأخذت تهدأ من روعها :
-عالية فوقي يا عالية .. فوقي كده ، هو لازم يعرف أن اللي عمله ده مش صح ، وإنه كان لازم يأخد أذنك الأول !
اعترض صوت قلبها المُتيـم :
-أذن أيه اللي ياخده كمان ! ده جوزك يا هانم واللي بتقوليه ده حرام أصلًا !
زفرت بتمردٍ وصدح صوت عقلها :
-بس بردو ملهوش حق يعمل كده ، أنا مستحيل أقعد معاه في نفس الأوضة ده مجنون وملهوش أمان !
تحركت ببطء لتقف أمام المرآة ومررت إبهامها على شفتيها التي غُلفت بسُكر قُربه ، لم تكبح ابتسامتها المبدئية ولكن تفجرت قُبلته تلك إلى قُنبلة موقوتة برأسها وهي تختم حيرتها بالسؤال الأكثر رُعبـا :
-معقولة يكون بيعمل كل ده عشان يوصل لنصيبي ! أصل التغيير المُفاجئ ده يخض !
مسحت على رأسها بتنهيدة ذعرٍ وقالت بصوت مسموع :
-سيبك من جِنان المُراهقات ده يا عالية وفوقي لنفسك ، مراد اتجوزك مصلحة ، وهيعمل أي حاجة عشان يحقق مصلحته ، حرصي أنتِ لسه متعرفهوش !
”إن أشد ما يُمر على الإنسان في هذه الحياة هو إجباره على دفن القلب حيًا واعتيادهُ على ظُلمة القبر وهو بربيع زهوته ، عندما يتعطّل عنده ميزان الخير والشر، الحُب والكراهية ، فلا يُميّز الأول فـ يفعله ولا الآخر فيتوقّاه، بل يسير الطرقات خائفًا مُرغمًا بقية عُمره ”
بالخارج ؛ مالت ” جيهان ” على مسامع ابنها متهامسة :
-حالك مش عاجبني يا ابن بطني !
تحمحم مرتسم الجدية على ملامحه ثم قال :
-منا زي الفل أهو ، مالك بس !
-عدى شهر يعني على جوازتك من الهانم ، ولا شوفنا من وشها خير ولا خيرة ! وكأنها زي الهم على القلب .
لكت اللقُمة بفمه حتى ابتلعها برشفة ماء وقال بتردد :
-قصدك أيه !
-على الأساس أنك هتمضي البنت دي وتقف لعاصي زي الشوكة فـ الزور في شركته، ولا أنت نسيت !
هز رأسه بعدم اقتناع وأردف مُنجزًا للحوار :
-نبقى نشوف ، أحنا هنستعجل ليه ، بعد اذنك هنام عشان عندي شُغل الصُبح بدري .
رحل من أمام أمه بعد ما قفز فأر الشك برأسها ، رمقته بأسهم اليقين من شكوكها وقالت سرًا :
-أنت لازم لك وقفة يا ابن المحلاوي .
اكتفى مُراد بطرقة خفيفة على الباب جعلتها تسمح له بالدخول مفزعة دون إعداد ما تقوله ، دخل مُراد وقفل الباب خلفه بهدوء ، وجدتها تتوسط غُرفته ويبدو عليها معالم الرهبة ، عقد حاجبيه مُتسائلًا بعيونه قبل لسانه :
-مالك ، حاسس فيكي حاجة ..
رد بإرتعابٍ :
-هيكون مالي ! أنا .. ما أنا زي الفل أهو .
ارتسم بسمة خفيفة على ثغره موضحًا بها عدم تصديقه وسألها بشكٍ :
-مُتأكدة !
-اه متأكدة ..
-تمام ، هنـام أنا بقى لوو
قاطعته بوقوفها أمامه كالطفلة العنيدة وقالت بتوجسٍ:
-استنى هنا ..
عصفت رياح عقلها الحائر وأكملت بارتياعٍ حد البُكاء المكتوم :
-لو سمحت ممكن يكون تعاملك معايا بحساب بعد كده ، وما تعملش كده تاني .
افتعل التجاهل متراقصًا على أوتار ارتباكها العذب الذي راق له ، وقال بتسائلٍ :
-عملت أيه !
-أنت عارف عملت أيه كويس.!
حاول أمامها تذكر ما حدث بينهم رغم إنه لم يفارق ذهنه للحظة وقال بكبرياء :
-عشان أخدت منك اللوليتا ! على فكرة أنا خايف عـ صحتك ، وماينفعش تكتري منها .
-لا أنا مش قصدي على دي !
دنى منها خطوة وما زال محتفظًا بابتسامته الخبيثة وسألها :
-ااه ، قصدك عشان عاكستك وقلت لك إنك جميلة أوي ! بس دي حقيقة فعلًا مش مُجاملة ولا مُعاكسة .
انتفض قلبها إثر مداعبته اللطيفة وتحشرجت نبرة صوتها ما بين الترجي والحيرة :
-ممكن متقربش مني تاني ، بعد إذنك !
-ليـه !
-هو إيه الـ ليه ! هو كده وخلاص ، ممكن .
عادت ملامحه القاطبة مرة أخرى وقال محاولًا احتماء شموخه ورجولته أمامها :
-بس أنتِ .. أممم متهيألي يعني مش ممانعة !
فاض صبرها من بروده وتحمله الزائد على أعصابها المرتبكة :
-وهو أنتَ سألتني عشان تعرف !
-ماهي الحاجات دي بتتحس بردو يا لولو !
انتفض إثر تدليله لها وسخريته من حديثها ، تراجعت خطوة للخلف وقالت بنيرة محذرة :
-على فكرة أنا بتكلم بجد ، مش بهزر .
هز كتفيه برزانة و رد :
-وأنا كمان بتكلم بجد مش بهزر .
ثم دنى منها بعد ما رأي تيه المشاعر ببريق عيونها ، وبات وجهها هو اللافتة الوحيدة التي ترشده وتدله على الطريق لقلبه بدون سيطرة منه .. ألفت ذراعه حول خصرها وطبع على وجنتها قُبلة خفيفة اذابت جسدها وروت قلبه ثم مال على آذانها قائلًا بهمس وهو يداعب خصرها بأنامله التي تدرك عاقبة ما تفعله جيدًا :
-تصبحي على خير يا عاليـة .
بعد ما طار بعقلها المُعارض له بشدة لأفق الخيال ، عاد إلى واقعه وهو يتسلح بالجمود والثبات وغير نبرة صوته الرقيقة إلى آخرى حادة :
-يعني مثلا لما أحب أعمل كده ، أجي استأذنك وأقول ممكن يا عالية أقول لك تصبحي على خير بطريقتي !! دي دماغي هنجت لمُجرد الفكرة !
تتأمله بعيون اليقظ للتو من غيبوبته تحت مظلة العاطفة والعاصفة التي حولت داخله الحرير إلى خارجهُ الشرس هذا ، لم تدرك ما ستقوله وما سيكون ردها على رجل مراوغ مثله يتلاعب بمشاعرها ” كالأستك” الذي يرتد عليها ولم يؤلم غيرها ..
عادت نبرته الناعمة مرة أخرى وقال بعنجهية مفرطة :
-الحاجات دي بتتخطف خطف ، في لحظتها كده ! وانا رجل استغلالي بالذات في اللحظات دي .
ما أن رمى جُملته الأخيرة ذهب نحو مخدعه مستعدًا للنوم بعد ما لعب جولة قوية بمشاعرها المُتخبطة ، وضاعت بخيالها معه كمن يُضيع ليله بـ قمر الشتاء الذي لا يسهر معه أحدٌ لبرودة الجو .. موجود ويراوغ ولن يداوي عواقب عبثيته وقُربه المُربك بفتاة رقيقة مثلها ، هائفًا لجُملة المشاعر التي تُحسسها بكيانها ووجودها .
••••••••
أعتقد أني في يومٍ ما تمنيت شراء النسيان هروبًا من ذلك الواقع المرير الذي يُطارد مُخيلتي يومًا بعد يوم ، وبعد ما قدمه إلىّ البحر كـ لقمة سائغة ، علمت أنه لم يكن حلًا ، والحل الوحيد الذي يمكنه إنقاذي من قسوة الماضي ، وجبروت الحاضر هو بيع الذاكرة بما تحمله من مآسٍ ، أريد تغيير جلدي الذي إتسخ بغبار الأيام السابقة ، والسؤال هنا ؛ ماذا يحوي صندوق النسيان الذي أهداه لي البحر !
مضت رياح الجزع بكُل شيء يسكنها ، فارقت دفترها وقلمها وطاولة أحزانها ، وثبت قائمة وهي تلُف الوشاح فوق ذراعيها وتطالع البحر من وراء الزجاج ، لمع طيف الرسائل بقلبها ، وكبرت ظُلمة الماضي والحاضر بذاكرتها ، وأصبح البحر بريد شكواها ، أخذت نفس وراء الأخر وهي تسترجع حديث فريد المُضل أو المرشد على حسب ! ولكن حدسها يُنفيه دون دليل بينّ ، لم يصدقه ولم يكترث له أي أهمية ، ولم يزيدها ظهوره إلا شكرٌ لمرآيا النسيان التي تعكس لها مرارة واقعها وماضيها .
رمقت البحر بأعين شاكرة على وسام النسيان ، و مرسى إنقاذها الذي لم تصل لبره حتى الآن ، قطع شرودها صوت فتح الباب ، ودخوله ، دارت نحوه وهو يقفل الباب ويتقدم نحوها ببطء ويبدو عليه معالم الصخب ، تعمدت ألا تُطيل الفحص في ملامحه كي لا يترجم حيرتها ويضعها في مأزق الاستجواب لأسئلة لم تمتلك لها ردًا ، عادت مرة أخرى تبث حُزنها للبحر ..
وقف بجوارها وهو يضع كفه بجيب بنطاله وينصب قامته بشموخ وقال بأسفٍ :
-متقلقيش اللي اسمه قاسم ده ، هنلاقيه ، وحقك هيرجع تالت ومتلت !
ثم تحمحم بخفوت وأعقب :
-حبيت اطمنك بس ، أنا مش ناسي .
عقدت ذراعيها بأسى وعقبت على جملته ساخرة بنبرتها المبحوحة :
-تطمني ! من يوم ما قابلتك وأنا مش عايشة غير كل مشاعر الخوف والرعب .
لم يتحرك به ساكن غير رأسه التي دارت باستقامة ليستمع إلى حديثها المُهين لشموخه ومجده ، توقفت عند عقدة الفزع التي ربطتها الحياة بداخلها وأكملت هذيان :
-عايشة في صراع بين الماضي الحاضر ، أهرب من أيه فيهم ؟! وأروح فين ؟
دنت خطوة منه حتى داعبت أنفاسه رائحة عطرها وعطنها المحُزن ، ورفعت عيونها الذابلة إليه وأكملت سرد مخاوفها ومعاناتها :
-عارف لما تقعد على سُفرة عليها ديك رومي كبير وشكله جميل ، واقفه حوله ناس كتيرة وغريبة ، وكل واحد منهم مهتم أزاي ينهش منه على أد ما يقدر ! أهو ده بالظبط نفس أحساسي ..
قبضت على معصمه بقوة كي يستدير أمامها ، وصرخت صرخة استغاثة بوجهه وهي على مشارف الانهيار:
-بقيت مقسومة نصين ! نص بينبش ورا رسيل وحدوتها المُخيفة اللي أنا شخصية بقيت خايفة أعرفها ، والنص التاني أنت زرعتني فيه ! زرعتني في أرض واحدة اسمها ” حياة ” وفجأة بقى الكُل بيهاجمها ! قول لي أنا مين فيهم ! أنا مابقتش عايزة لا رسيل ولا حياة !
فجاة تحولت أحلامها الوردية ، وعناقيد ضفائرها العنبية إلى كومة رماد وهي تسح بدموعٍ لا تعلم من أي جهة تسربت ، هل من جهة البحر الشاهد على ظُلمة ماضيها ! أم منبع الكربة المجهولة النابضة بـ صدرها !
طوق كتفيها الذي تدلى الوشاح عن أحدهما وقال بسيل من الكلمات المُطمئنة وهو يجلسها على أقرب مقعد كي لا تنهار بين يديه:
-ممكن تهدي وبلاش توصلي نفسك للحالة دي ! أهدي واللي عايزاه أنا هعمله ! لو وجودي مضايقك همشي .
رفعت جفونها المُحمضة من كثرة البكاء وقالت بنبرة كلها عتب ورعشة ذعر :
-حتى أنت فشلت تطمني ! وكنت طمعان فيا زيهم ! أنا مبقتش لاقية مَرسى .. مبقتش أعرف طريق واحد يدلني !
جثا على رُكبتيه أمامها مما يدل على الأثر الذي حفره عتابها بقلبه وأخذ يمسح على رأسها بحنو يخالف قسوة شخصيته وقال بنبرة لم تسمعها منه من قبل ولكنها لامست نقطة عميقة بروحها :
-ممكن تثقي فيا المرة دي ، ووعد مش هخذلك ، مش هقول لك آسف ولا أقدم اعتذارات ملهاش لازمة ، بس أديني فرصة اخلي أفعالي هي اللي تعتذر لك ؛ ممكن !
أطالت النظرة به كمن يبحث عن الثقة بين وريقات وردتها الحمراء التى تنزف بدماء الحياة والحرب وقالت بخزى :
-يا ريتك ستبتني للبحر وحيتانه وغضبه ، كان هيبقى أحن عليا من كل ده .
وثب قائمًا فجأة ، فلم يتحمل ذبول وحمرة عينيها ، وجمر حزنها المُتقد وقال :
-لا حالتك دي ما تنفعش ، أنا هنادي الدكتور فورًا .
ما تأهب أن يخطو خطوة واحدة فتوقف إثر تغلغل أصابعها الصغيرة بين يديه ، تسمر بمكانه وهو يطالع ببطء ذلك الحدث الغامض الذي رج قلبه وأحيا ما به من صبا ، اندمج صقيع خوفها بدفء وجوده ، حتى رسى على جفون عينيها المصبوغة بحُمرة التوت التي لطخت قميص قلبه الأبيض بجُملتها الأخيرة وهي تترجاهُ :
-خليك هنا بعد إذنك ، متروحش لمكان ، أنا خايفة أوي .
••••••••
“صبـاحًا”
“-شمس ، قومي الساعة بقيت 9 .. عشان أدوية تميم .”
أردفت ” نوران ” جُملتها الأخيرة وهى تزيح الستار ليسطع النور بالغرفة ، تحركت جفون شمس التي لم تنم إلا بعد الفجر وقالت بتكاسلٍ :
-هقـوم أهو ، حد يصحي حد كده ؟!
قفزت نوران بجوارها وهي تراوغها بمكـرٍ :
-في عروسة تسيب عريسها وتيجي تنام جمبي ! بت يا شمس أنا مش مرتاحة لك ؟! فيكِ أيه !
زفرت شمس بنفاذ صبرٍ ووثبت بكسلٍ :
-يووه ! أنتِ جايبة الطاقة دي على الصبح منين ! ده جزاتي يعني عشان جيت اذاكر لك !
حدجتها بعدم تصديق :
-وهو حنان الأخت ده ما شتغلش غير في أول أسبوع جواز !
هرب شمس من حصار اسئلة أختها الشديد وقالت مُغيرة مجرى الحديث :
-ذاكري يا نوران وانا هجيب لك فطار لحد هنا .
ركضت نوران لتقف أمامها وسألتها بفضولٍ :
-شمس أنتِ بتحبي تميـم ! قصدي يعني أيه مشاعرك ناحيته .
صمتت شمس من صاعقة السؤال التي حلت فوق رأسها ، فكم من اسئلة يقتلنا جهل الرد عليهـا ، أو حقيقة الجواب التي نهرب منها خشية من مواجهتها ، أتبعت نوران سرد ما يجول بخاطرها وقالت :
-أنا وأنت عارفين سبب موافقتك على تميم ، بس لما تعاملت معاه وعرفت أد أيه هو طيب وفعلًا شخص يستاهل كل خير ، ضميري وجعني يا شمس ، مش أحنا اللي نستغل معروف حد لينا عشان مصلحتنا .. فكري بقلبك المرة دي هتعرفي أنك غلط ، وظُلم لتميم ولينا ، طريق الشر والانتقام قصير .
شردت شمس في تلك المتاهة التي فتحتها أختها برأسها وقالت بعجزٍ :
-فكرك أنا مرتاحة كده ؟! أنا جوايا كل حاجة بتحارب بعضها ..
-حاسة بيكي ، بس طلعي تميم من الحسبة دي خالص يا شمس ، هو ملهوش ذنب .
اكتفت بإصدار إيماءة خافتة ثم قال هاربة :
-سيبيها على ربنا .. هروح اشوفه .
تمسكت بمعصم أختها بتردد لتوقفها وقالت بحياء:
-شمس استني ، أنا عارفة أنه مش من حقي ، بس أنا عايزة مصلحتك ومصلحتنا والله ، وأنا عارفة كويس أن تميم لحد دلوقتِ ماشافش حتى شعرك ، وأن جوازكم على ورق وبس ، حاولي شوفيه بعيون قلبك ولو لمرة ، سيبي قلبك المرة دي يختار نيابة عن عقلك الـ دايما قراراته قاسية عليكي .
لم يكن لديها ردًا واحدًا عن تلك الكلمات التي عبثت برأسها ، أحست بدوران قلبها ، وحيرتها المتضاعفة ، اكتفت بالتربيت على كتفي أختها وقالت بهربٍ :
-ركزي في مذاكرتك ممكن ، عشان تيتا كان نفسها تفرح بيكي .
-وكان نفسها تفرح بولادك أنتِ كمان يا شمس .
انغرست الكلمة كالخنجر بـ صدرها ، أدبرت عن حديث أختها المؤلم ورحلت دون الرد وقول أي شيء يمكنه نفي صدق الأحاسيس التي تولدت برحمها ناحيته ، غادرت شمس الغرفة ، فتفوهت نوران بتنهيدة طويلة :
-ربنا يصلح حالك يا شمس يابنت حواء وآدم .
مرت عدة دقائق وهي ترتب كتبها استعدادًا للمذاكرة حتى سمعت صوت دق الباب ، تركت ما بيدها ظنًا منها بأنها أحدى الخادمات ، فتحت الباب ففوجئت بـ ” كريم ” أمامها ، شهقت بذُعر :
-يخربيتك ! أنت بتعمل أيه هنا !
اتكئ على جدار الباب عاقدًا ذراعيه أمام صدره وقال :
-عايز أقول للقمر سوري ! ومايزعلش مني !
مدت نوران أنظارها للخارج تفحص المكان كي لا يراهم أحد وقالت بتحذيرٍ:
-أمشي من هنا حالًا شمس لو شافتك هتخلي يومك أسود .
-واضح أنها قُطة بتخربش زي أختها .
فاض صبر نوران حتى خبطت الباب بوجهه بدون سابق إنذار كي لا يراهم أحد وهمست لنفسها :
-ما هي ناقصاك أنت كمان !
نصب كريم قامته بحرج وهو يتلفت حوله بغيظٍ :
-بنت المجانين ….!
” في غرفة تميـم ”
-قصدك دول ؟
قالت شمس جملتها وهي تحضر ملابس تميـم كي يستعد للخروج ، هز رأسه مؤيدًا كلامها ، هنا توقفت شمس على شفا حيرتها بين نصائح نوران التي انصبت بقلبها ، وبين اعتراضها على الألوان التي سيرتديها ، رفع حاجبه متعجبًا :
-واقفة عندك ليه !
-أبدًا بس ممكن أقول رأيي ؟ حاسة أن اللونين دول على بعض مش أحلى حاجة .
تبسم تميم بإعجاب وقال مُرحبًا بالفكرة :
-طيب ما تختاري اللي يعجبك ! وأنا مش هعترض .
اتسعت ابتسابتها للُطفه ثم تفقدت خزانته سريعًا وأخرجت الألوان المُحببة لقلبها ، عادت إليه حاملة ملابسه على معصمها وقالت بحماس :
-يا رب ذوقي يعجبك ..
أشاد بإعجابه الشديد بما اختارته ، فرحت شمس لأن ذوقها راق إليه ، وضعت ما بيدها جنبًا ثم عادت إليه بعيون معتذرة :
-أسفة لأني نمت مع نوران ، بس …
وضع أصابعه على شدقها وقال مُتفهمًا :
-مش مضطرة تقولي مبررات ، وكمان مفيش حاجة ممكن تخليكي تنامي بره الأوضة علشان يا دكتورة شمس أنا رجل وبفهم في الأوصول كويس أوي ، وعند وعدي وكلمتي ليكِ ، آكيد فاهمة ولا تحبي أوضح أكتر !
-هاااه ..!
-قصدي أقول لك أن خوفك ده كله على الفاضي ، وملهوش أساس من الصحة ، تمام كده ؟!
اطمئن قلبها لهدوئه ونبرته الحنونة ، ثم وثبت قائمة :
-أسيبك عشان تلبس وتلحق معادك ..
-استني هنا ..
-نعم !
-يعني بقولك الدار أمان ، واطمنك ، ومعرفش أيه وفي الأخر يجي عثمان يلبسني ! مفيش رد جميل خالص !
جحظت عينيها ببلاهة :
-نعم !
-بهزر يا شمس ، بهزر ، روحي شوفي هتعملي أيه شكلك هتغلبيني ، ولو نازلة الجامعة هوصلك في سكتي .
-لا النهاردة مفيش محاضرات ، أجازة .
هز رأسه مُرغمًا :
-أحسن بردو .
ما كادت أن تحطو خطوة فتراجعت نادمة ، فحدجها بنظرات الامل :
-غيرتي رأيك صح !
-تميم ، أنا عايزة اعترف لك بحاجة واتمنى تسامحني …
••••••••••
تبدو كفراشة رقيقة وحزينة اختارت ساقه غصنًا لها حتى قضت ليلها في سُبات أمان من ضجر لياليها الماضي ، مرت ليلته جلسًا على الأريكة دون أن يتحرك خاصة بعد ما أمنت له وغفت على فخذه ، ظل يتأمل خريطة وجهها وكأنها الحياة وهو جميع المُتأملين ، متعجبًا من الحالة التي وصل إليها بجوارها ، مُتسائلًا :
“كيف سيطرتي على قلبي الذي ظننته صلبًا واختنقت الحياة بعنقه منذ زمان .. كيف يكون معك بكل هذا الليّن ؟”
قضى ليلة ساحرة بقُربها وعِطرها ، ليلة أجمل ما يُقال لوصفها أنها صفحة مقطوعة من كتاب ألف ليلة وليلة ، ظل يتأملها ويدقق بجمالها ورقتها التي لم يراها نُقشت على وجه إمراة من قبل كأنها كتاب أسطوري عريق ، كل تفصيلة بها مُغرية لقلبه حتى نوى التسلل إلى روحها كقارئ فضولي ..
تململت بخفة فتوقفت أنامله عن العبث بشعرها الذي أسره طوال الليل ، استيقظت بعد ما نامت بعمق بمحاذاته ، أول شيء فتحت عيونها عليه كان حذائه اللامع ، اعتدلت من نومتها وجرت ذيول شعرها الحريري معها وقال بخجل :
-يا خبر ! أنت أزاي نمت هنا ! هو أيه اللي حصل أنا مش فاكرة حاجة .
هز رأسه بثبات :
-طيب كويس ، حاسة إنك أحسن دلوقتِ !
-ااه ، صداع خفيف بس ..
لكت بقية الكلمات بشدقها وقالت بتيـهٍ
-بس أنا ازاي نمت محستش بحاجة كده !
نزع ساعته الفخمه من معصمه وقال برزانة :
-كُنت مُجبر ادوب لك حباية مهدئة في العصير حسب تعليمات الدكتور ، لأنك كنتي مرهقة حبتين .
أطرقت بحياء من تلك الحالة الفوضوية التي كانت عليها ليلة أمس وثرثرتها المُبالغة ، وهدوئه في الاستماع إليها وصبره عليها ، تأهب أن ينهض فـ تشبثت بكفه مُتسائلة :
-رايح فين !
تدلت أنظاره إلى كفها المرتعش الذي يحوي كفه وقال بتحيرٍ :
-هغير عشان عندي اجتماع مهم ، وكمان في كذا حاجة عايز أخلصها قبل ما نرجع القاهرة ..
-استنى .
هرب اللفظ من شدقها بدون رقابة منها ، لقد فقدت السيطرة على حالتها وباتت جميع تصرفاتها طفولية ، رفع حاجبه مندهشًا من تصرفاتها الغامضة وسألها
-في حاجـة !
أومأت بالإيجاب ثم قالت بضعف حطم حصون قلبه القوية :
-مش عايزة أبقى لوحدي .. خليك هنا وأنا مش هتكلم خالص .
-أنتِ مالك من امبارح ! احكي لي .
ترجته بعيونها الذابلة :
-لو سمحت خليك معايا ، أنا خايفة أوي .
-خايفة من أيه طيب ، قوليلي ! مفيش حاجة هتحصل أنا بوعدك .
ضغطت على يده بقوة مما ثارت نيران الجنون بقلبه وهي تذرف بالدموع وتتوسل إليه إثر حالة الذعر التي خيمت عليها :
-لو سمحت خليك ..
لم يمنحها أي رد على طلبها الغريب والغامض بل اكتفى بإخراج هاتفه وكلم يسري قائلًا بحزم :
-يسري ألغي كل حاجة النهاردة !
ثم احتدت نبرته :
-من غير كلام كتير ، اسمع اللي بقول لك عليـه .
قفل هاتفه ثم نظر إليها ليرى بسمة الاطمئنان مرسومة على وجهها ثم نظر الشكر التي أرسلها بعيونها إليه ، رفع حاجبيه قائلًا :
-تمام كده! .. تحبي نطلع رحلة البحر تغيري جو !
ردت بصوت مبحوح :
-تمـام مفيش مشكلة .
سحب كفه برفق بعد ما ربت على كفها بحنو وقال :
-هاخد شاور وأغير هدومي تكوني جهزتي .
توجه عاصي إلى المرحاض وتوجهت ذاكرتها نحو ذلك اليوم الذي سافرت معه عندما فوجئت بوقوفه أمام أحد مكاتب الزواج بالغردقة ..
#فلاش_باك .
وهو يخرج بها من المكتب ويجرها خلفه بتجبر ضاغطًا بكُل قوته على معصمها ، صرخت بوجهه معترضة :
-أنت مصدق نفسك ! بشوية شهود ووكيل مزيف وكمان اسم مزيف .. فاكر إنك كده جوزي .
قـتٰلها بابتسامته الباردة وهو يقول :
-أهم رُكنين في الجواز القبول والإشهار .. ولقد كان .
أطلقت ضحكة ساخرة :
-هااه ! قبول ! لا ده أنت مصدق نفسك على الأخر !
حاول شدها ليُكمل خُطاه نحو سيارته ولكنها وقفتها مُعاندة أمامه وقالت بغضبٍ :
-طيب افرض طلعت متجوزة ، هتعمل أيه يا عاصي بيه ! ها حلني بقا !
جز على أسنانه بنفاذ صبر وقال :
-ساعتها هطلقك منه واتجوزك من تاني بردو .
رمقته بنظرة ساخرة كمن يجمع الحطب من غابة لا خشب بها وقالت باستهزاء وهي تشير على رأسه :
-دي طارت منك خالص .
نفذ صبره من ثرثرتها العبثية وقال بشدة :
-افهميني عشان مش هكرر كلامي تاني ، بالورقة دي أنا بحميكي من نفسي قبل أي حد .. ومش عشان حد يجي يقول لك أنتِ قريبتي ولا اختي اسلمك له ، أنا عايز اوصلك لبر الأمان ويكون ليـا الحق في ده ، مش مجرد حياتي معاكي فندق تلمي منه شُنطك وتطيري ، لانك مش حِمل بهدلة والعالم بره غابة ما بيرحمش ! فهمتي ؟
تبادلت النظرات الحائرة بينهم ، هو يحاول إقناعها بحديث لم يقنعه وهي تحاول العثور على حقيقة حججه وتمسكه بها .
زفر عاصي بجزع وقطع حبل النظرات بينهم وهو يشدها من مُعصمها :
-ولا متفهميش ! مش مهم ! أنا أصلاً بتكلم معاكِ ليه !
#بالك
تهيج القلب برفقة الذاكرة المُتشتتة والتي تُراجع تصرفاتها الجنونية معه ، وحبل الوصال الخفي الكامن خلف عنادهم ، أحست بلدغة قُبلته في قلبها وسرعان ما تناولت دفترها ودونت ما يتجول بداخلها :
-” لم يعد التيه يُرعبني بقدر تلك المشاعر التي لم أقع بها عنوة بل سرت إليها بخُطى ثابتة وعينين لامعتين !”
••••••••
“-طيب قولي صباح الخير ”
كانت جُملة مُراد خبيثة مُراوغة وهو يرش عطره قبل الخروج ، ظل الصمت سائدًا بينهم حتى قطعه بجملته الاخيرة ، انكمشت ملامح عالية مُتعمدة وقالت بحدة :
-الساعة ١٢ هنزل الجامعة .. قلت أعرفك بس .
-خدي هنا ! أيه الطريقة دي !
-هي دي طريقتي .. عايزة أعدى ممكن توسع !
تأفف بحنقٍ:
-عاليـة ..
وضعت حدًا للنقاش بينهم وقالت بحزم :
-من فضلك مش حابة اتكلم ..
ثم فارقت الغرفة بعد ما قفلت الباب خلفها بقوة ، ضرب مراد كف على الأخر مزفرًا :
-أهو كده وبالبوز ده تبقى عالية دويدار بجد .
اصطدمت عالية بهدير التي فتحت باب شقتها ودخلت كأنها صاحبة بيت ، لم تكترث للأمر بل اقتطبت بوجهها وتركتها بدون ترحيب ، ثار الموقف غضب هدير التي جهرت معترضة :
-ماهي قلة الذوق مش جديدة عليكِ ، طيب حتى ارمي السلام .
تجاهلتها ” عالية ” لان الثورة الناشبة بصدرها أضخم من الالتفات لمشاجرات هدير ، خرج مراد على صوت أخته العالي التي استغلت الأمر وطاحت بوجهه :
-والله لو الست مراتك مش حابة وجودنا قول ، بدل الإهانة دي !
-اقصري الشـر يا هدير وقولي يا صبح !
صاحت هدير وهي تلوح بذراعيها :
-طبعًا ! ما أنت لازم تعوم على عومها .. وأيه كمان ! تعالي يا ماما شوفي ابنك اللي بيطردنا بالذوق هو وبنت أختك !
خرجت جيهان راكضة على صياح ابنتها التي تنادي على الشر باسمه ، اقتربت منها وربتت على كتفها :
-مين مزعلك يا حبيبة أمك بس !
-الهانم بنت اختك ضاربة بوز وكأنها مش طايقانا !
فاض الأمر بعالية التي لأول مرة يسمع لها صوتًا عاليًا :
-هو مش اخوكي قال لك تقصري الشـر يا هدير ! ولا هتبقي مبسوطة لما ادخل أنا وأكسر دماغك !
شهقت هدير وأمها في نفسٍ واحد أما عن مراد وقف مُعجبًا بتلك النسخة الجديدة التي تسلحت بها ، وبختها جيهان بحدة :
-هي حصلت تكلمي بنتي بالطريقة دي يا بنت دويدار !
-وأعلمها الأدب كمان لو مطلعتنيش من دماغها .
ثم قربت منها وأشارت بسبابتها محذرة :
-ولأخر مرة بقولهالك يا هدير طلعيني من دماغك !
ردت هدير بخبث :
-للاسف ، أنتِ بقيتي قدري وأنا بقيت قدرك ، لإنك هتكون عمة اللي في بطني ، وعشان اطمنك سايبة لك الشقة كلها بس هطلع على قصر دويدار .. بيتي وبيت اللي في بطني ، أما أنت خليكِ هتعيشي مطرودة من بيت أبوكي ، وحتى جوزك متجوزك مصلحة ، يعني يومين وهو كمان هيرميكي في الشارع .
تدخل مُراد مُزمجرًا :
-اسكتي يا هدير
انفجرت نيران الغل بشدقها :
-اسكت ! أيه هي الحقيقة بتوجع ! أيوه يا عالية مُراد أخويا متجوزك مصلحة .. عشان بس متعشيش في الدور أوي وأنا و
لم تكمل جُملتها ففوجئت بلطمة قوية نزلت على وجنتها شلت لسانها من أخيها وهو ينهرها :
-قلت لك اخرسي .. للاسف هتفضلي طول عمرك سودة من جواكي مش شايفة غير سواد ، وبتحاولي تبوظي حياتي كل ما اصلحها .. كل ما أحاول اصفى لك تيجي تعكيها أكتر ، أنا بقيت بقرف منك ومن ألاعيبك .
-مُراد ..
نطق اسمه بنبرة مرتعشة وعيون نازفة بدماء الحزن وما أن دار نحوها قائلًا :
-عالية ، هفهمك !
-مش عايزة أفهم حاجة ،
طلقني ……
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية غوي بعصيانه قلبي ) اسم الرواية