Ads by Google X

رواية غوي بعصيانه قلبي الفصل السابع و الاربعون 47 - بقلم نهال مصطفي

الصفحة الرئيسية

   رواية غوي بعصيانه قلبي كاملة بقلم نهال مصطفي عبر مدونة دليل الروايات

رواية غوي بعصيانه قلبي الفصل السابع و الاربعون 47

” رسائل لن تصل لـ صاحبها ”
-السلام عليك وعلى قلبك الجافي الذي لم يلن بهدير حبي ..
بتاريخ العشرون من أيار للعام الذي صفعتني بـحقيقة رحيلك الأبدي ، أما بعد السلام ، وبُعد الانتظار . وما بعد الشوق؛
أنا افتقدك كثيرًا ، وألقاك في أحلامي كثيرًا ، واتودد للأيام أن تجمعنا بصدفة لا يعقبها فراق ، صدفة تأتي بك إلى هنا ، فلا جدوى من صُدفٍ تملأني بك في ثانية أو اثنين إن طال الأمر ويعقب خلفها الغياب الطويل والحب العليل الذي لا يداويه سوى قربك ..
ولكن
دعنا من صياح القلب .. فـ العقل ضَب حقائبه ..
حان الآن موعد انسحاب قلبي من ساحة حربك التي لم تخط فيها خطوة واحدة لأجلي ، لم أعد أكتب لك مرة أخرى ، ولم اعد انتظرك ، ولم أسلك طريقي عنوة باحثة عنك .. ذلك عقاب تمردك السخيف ورحيلك المبهم! سأتوقف عن كل هذا أعدك بذلك ..
ولكن
لن اتوقف عن حبك أبدًا … ♥️
نهال مصطفى
من رواية ( الحرب لأجلك سلام)
••••••••
لم يكن يعلم أن ظلها ما يُخفف عليه ثقل الليالي ، ويؤنس روحه التي اعتادت على سنوات عمره البربرية ، لأول مرة يستشعر صقيع الوحدة ، ونيران العجز ، لا يعرف ما مصدر تلك الأحاسيس التي نشبت بداخله عند لحظة خروجه من الحمام فـ وجد المكان خاليًا من وجودها ولن يخلو بعد من رائحتها ، أحس بحِمل جبل انهار على عاتقيه حتى أثرت بالخمول على خطواته التي استسلمت لرحيلها ما دام بإرادتها ، لذا ارتمى على الفراش كي يهرب من كابوس يومه ربما يقابلها ولو صدفة في عالم الحُلم .
غرد عصفور الصباح فوق قلبها الثائر والعاجز على أخذ القرار ، أخذت تُطالع عش الطيور من خلف النافذة وتتذكر تلك اللحظة التي وقفت فيها أمام الباب لتُغادر ولم تفعل ، ولم تدرك سبب ترددها في ما سعت إليه ، بعد ما قفلت الباب بخفة ثم توجهت إلى أبعد رُكن في الصالة وقضت ليلها في صمت إن نطقت به لدوى بصرخة تُحيي القلب المـيت ..
تقوست ” عالية ” حول نفسها وهي تتذكر تلك القُبلة التي سلبها منها على سهوة والمرحلة المتدهورة التي وصلت إليه تحت يديه ، أن ترى نفسها بهذا الكم من الضعف ! واللعنة الكُبري في أنها أحبت ضعفها لأول مرة حتى أفصح قلبها صراحة ” يا هناء قلبي تحت مظلة خيمتك ” ، مسحت على رأسها متنهدة لتطرد تلك الأفكار السوداوية من رأسها مستعيذة بالله من الشيطان الرجيم وقالت لنفسها:
-لا مش هينفع كده يا عاليـة ، وبعدين أن قلبي بيدق بسرعة كده ليه ، يا رب ساعدني .
انتعلت خُفها الجلدي ولملمت شعرها وتأهبت للذهاب نحو المرحاض ، وما أن وصلت إلى مقدمة الممر الذي تؤدي نهايته إلى غُرفته تسمرت أقدامها وتفاقمت ضربات قلبها الذي لا يُريد الحب بل يُريد أن يطمئن ، تمنى ألا يعود لمغارة الخوف من جديد !
تباطأت خطواتها حتى رست على أعتاب الغُرفة لتجده نائمًا بعشوائية متحررًا من ملابسه العلوية تحت صقيع المُبرد الكهربي وكأن همومه كافية أن تحرقه لأيام عديدة ، تحرك قلبها بدماء الأمومة واقتربت منه لتشد الغطاء عليه كي لا يكن فريسة للهواء المُثلج وما أن امتلئ صدره برائحتها تفتحت عينيه كمن داعبهم شعاع الشمس ، ليهمس شدقه مذهولًا :
-عاليـة ؟!
ابتعدت عنه بشهقة مُرتفعة تُشبه النفس العميق بعد النجاة من الغرق وقالت بفزعٍ :
-كده هتاخد بـرد ، كُنت بس بغطيـك .
وثب من مكانه فـ لم يصدق عينيه وكأن الحُلم الذي هرب إليه أصبح أمامه حقيقة ، وقف أمامها مُتسائلًا :
-أنتِ ممشتيش !
ابتعدت عنه خطوة كي تجمع الكلمات بثغرها وقالت :
-الوقت كان متأخر ، قُلت الصبح بقى .
انكمشت ملامحه معترضًا :
-ومنمتيش هنا ليه ! أنا خرجت مالقتش حد قولت أكيد مشيت !
-كُنت .. كُنت برة على الكنبة .
ثم أخذت نفسًا جديدًا لتهدأ وسألته :
-هي خالتو جيهان فين !
-مشيت مع هدير ..
-هااه ! ليـه !
دنى منها خطوة وهو يعلن رغبته في وجودها ببريق عيناه و بنبرة حنونة أردف :
-مكنتش حابب حد يضايقك .
اقترب منها أكثر وهمس بلهب لم يتحكم في إخماده :
-ممكن نتكلـم ، أنا … أنا ..
انتفض قلبها لقربة وأخذ يترجاها بإلحاحٍ أن تُلبي نداء عينيه الساطعة ،أن هذه فرصتها الوحيدة للعناق كي تنقذه من نار الشوق التي ستتغمده لمدة طويلة ، عاد إليها وعيها وعنادها في اللحظة المناسبة وهبت بوجهه متحججة :
-أنا هغيـر هدومي عشان أمشي ..
استرد مُراد وعيه ، ووضع برأسه أن هذه إرادتها وهو لم يحق له إجبارها على الإقامة معه ، هز رأسه بضيق وقال :
-تمام ، اجهزي وأنا هوصلك .
-ملهوش لزوم أنا هاخد أوبر .
رد باختناق :
-عالية ، مش عايز جدال ، قلت هوصلك .
•••••••
-أنا مش فاهمة حاجة ، أخوك شخص غامض جدًا ، معرفش هو طيب ولا شريـر ، بحسه طول الوقت عايـش في حـرب ، بس حرب مع نفسه قبل ما تكون مع اللي حوليه .
تلك الكلمات التي تفوهت بها ” شمس ” وهي تعد الأدوات الطبية كي يبدأ ” تميـم ” جلسته العلاجية حتى سقط حجابها أرضًا ولم تكترث لوضعه من جديد ، ربما اعتادت وجوده فلم يعد بداخلها شعور الغُربة نحوه ، أو تناست الأمر لكثرة ما يشغلها .. انتقل من عُقد حياته لتلك العقدة التي انفلتت وراء ظهرها فـ تمنى ولو تنحل مشاكل بهذه السلاسة ، دارت إليه وأكملت :
-أنت وعاصي علاقتكم عاملة ازاي ؟
بدأت حروفه من قلبه تلك المرة وهو يردف بتيهٍ :
-عاصي غامض ، ومحدش يقدر يتوقع خطواته ، وده سبب خلافنا طول الوقت ، أنا بكون مرتب حياتي وعارف هعمل أيه بالظبط ، لكنه غير تحركاته كلها وليدة الساعة ومفاجئة .
اقتربت منه وجلست على طرف الفراش بقربه وأتبعت :
-طيب بالنسبة لحياة ، أنا حاسة وراها لغز كبير أوي ، في حاجة تلخبط ، حتى أخدت بالك لما عاصي عرف أنها مش حامل ، ميتفاجئش ولا أدى ردت فعل .
-ممكن نسيبنا من عاصي ومراته ، وتقوليلي كُنتِ عايزة تقولي أيه ؟ ومال عبلة بيكي !
تشوشت رأسها كثيرة بسبب استخدامها لجميع الحجج التي تمكنها الهرب من تلك الورطة ، أخذت نفسها بصوت مسموع و ردت :
-ممكن نكمل كلامنا بالليل !
-زي ما تحبي ، أنا جاهز اسمعك في أي وقت .
تنفست بارتياح ثم وثبت لتساعده في تمارين العلاج الطبيعي التي قصرت بها كثيرًا :
-بما إنك لغيت الخروج ، نستغل الوقت في جلسة ، طبعًا عارف هتعمل أيه !
حركت المقعد أمام الممر الحديدي الذي يبلغ امتداده مترين ، ووقفت بجواره متسائلة :
-هتقدر !
التزم الصمت الذي ترجمه عقلها لعجز ، فقالت بحماس :
-ولا يهمك ، انت بس حاول تقف بس ومش مهم تتحرك ، كله هيجي مع الوقت .. ممكن تسند عليـا اساعدك .
مدت رسغها وأشارت له بخفة وقالت بصوت خفيض :
-ممكن نحاول ..
طالع ذراعها المُمتد إليه بالمساعدة ، فتسرب بداخله شعور الأمان ، أنه اخيرًا امتدت له يد العون بعد أعوام من أيادي العداء ، أحس أنه في حاجة للاتكاء عليها كي يُصلح خراب ما افسدته المِحن به ، طمئنته بعيونها كي يأخذ هذه الخطوة وبالفعل مد كفه واستند عليها شاردًا بعيونها العسلية ولأول مرة يتمنى أن يكون عاجزًا بالفعل .
كانت تلك أقوى لحظة بينهم ، لحظة تخاطب الأجساد والأرواح التي لا تميز ألوان الكذب ، أعمق لحظه تأكد فيها تميم أنه مع الشخص الصائب ، الذي سيقف كحصنًا منيعًا إن تحطم عكاز صبره .
•••••••••
‏يحتم على بعض البشر الادراك الجيد أن الحياة كلها رحلة، ليتخلصوا من حُمولات المشاعر ، وحمل أسلحة العداوة ، وضجيج التنازع والمؤامرات و”كراكيب” المساحة، ومواريث الحُزن..‏وتلطَّفوا !
-أنتِ ساكتة ليه يا خالتو ! عاجبك عمايل ابنك ؟ أنتِ لازم تتصرفي !
وضعت عبلة فنجان القهوة على الطاولة الخشبية ثم قالت بقلة حيلة:
-أنا مش عارفة أحلها منين ولا منين ! كل شوية بتتعقد أكتر.
هدير بسخط :
-نعم ! أنا مش هنزل ابني مهما حصل ! وانتِ لازم تشوفي حل مع ابنك ..
عبلة بتفكيـر :
-ولا ينفع تسيبيه للحرباية اللي فوق ! الحرباية اللي دخلها وسطنا في يوم وليلة .
انتقلت هدير من مقعدها للأريكة التي تجلس عبلة فوقها وقالت بصوت خفيض :
-يبقى نخلص منها ونستريح ، وكده عاصي مش هيبقى له غيري أنا وابنه .
رمقتها عبلة بشكٍ :
-هدير أنتِ بجد حامل !
-أيه يا خالتو أنتِ كمان هتشككي زي ابنك ! لا مش معقولة !
بررت عبلة موقفها :
-مش ده السبب اللي اطلقتي عشانه ! هو إنك مش بتخلفي !!
-أنا اطلقت عشان كنت باخد موانع للحمل من وراه وفهمته إني مابخلفش ، وأنت عارفة أنا اتجوزت ليه ، اتجوزت عِند في ابنك لما اتجوز مها ، بس أهو القدر مد لي أيده ، وربنا أراد ابقى أم ابنه .
هزت عبلة رأسها بإقتناع ثم قالت بخبث وهي تخرج لفافة التبغ من العُلبة وتشعلها :
-هنخلص ، هنخلص من كل حد هيفكر بس يقف قدامنا ، أنتِ بس اصبري وحافظي على ابنك ، هو الكلبش الوحيد اللي بينك وبين عاصي .
” في الطابق الأعلى ”
يبدو كمن يحتسي في صمته غضبه المُحير للحد الذي يجعلك تتسائل هل يعاني مصائبه أم يشتكي عناءه ! هدوئه الذي يحمل عواصف من نار .. دخل غُرفته بصمت غامض بدون ما ينوه عن فرحه أم تعاسته للأمر ، تعامل كالمعتاد كأن لم يحدث شيء يزعجه ، أما عنها كانت عبارة عن كرة نار ملتهبة من شدة الحيرة والغضب والتشتت ، تمزقت رأسها لأشلاء كل شلو منه يناطح الأخر حتى فجرت ضجرها صارخة
-ممكن افهم كُنت تُقصد أيه بكلامك ؟
قالت ” حياة ” جُملتها وهي تتبع خُطاه نحو الخزانة التي يُخرج منها ملابسه ويُجيبها ببرودٍ :
-أي كلام بالظبط !
صاحت بوجهه مُعترضة :
-أنت بجد هتموت ابنك ! و يعني أيه حياة تربيه دي ! وأنتَ أزاي عايز تحرم أم من ابنها ! واشمعنا أنا ، أنت ناوي تقعدني هنا كتير !! لو سمحت بص لي هنا وكلمني زي ما بكلمك !
رمى المنشفة على كتفه بفتور ثم دار ناظرًا إليها وسألها بجدية :
-ده يعني بس اللي وقفتي عنده في كل كلامي !
-مش فاهمة ، هو في كلام أهم من كده !
غمز بطرف عينه مُتسائلًا :
-وأنك هتبقى حامل قُريب ده عادي !
كرصاصة طائشة أصابت صميمها ، ارتجف داخلها حتى لمح الذعر بعيونها ، أرخى حِباله ولانت نبرته قائلًا :
-متخافيش أوي كده ، أنا خدت وعد على نفسي ، إني مش هقرب منك مهما حصل ، اطمني .
-أومال قُلت كده ليه ؟!
عاصي موضحًا :
-قصدي أقول لك أنه كله كلام في الهوا .
لا زالت تحت صدمة جُملته التي أصابت نيشانها وقالت بهذيان :
-ياما تقـٰتل يا أما تخـٰٰطف ! أنا حقيقي مش قادرة استوعب .. أنت بجد هتعمل كده في ابنك طيب؟
تنهد بنفاذ صبر :
-يا ستي أنا مش عايز حاجة تربطني بيها ؟ ومش حتة ولد اللي يخلي عاصي دويدار يذل نفسه عشانه !
-واتجوزتها ليه من الأول !
-وطلقتها الصبح ! ارتحتي ؟
كاد أن يخطو خطوة ولكنها وقفت أمامه مُعاندة :
-والله ! أنتَ كده طبيعي يعني ؟ بجد نفسي افهمك ، حياتك كلها غموض في غموض ، بس لعلمك أنا مش هسمح لك تعمل كده .
-أوف .. حياة ، أنتِ عايزة أيه دلوقتِ .
فكرت للحظة ثم قالت بعدم اقتناع :
-ترد مامته ، والطفل يتربي بينكم في استقرار .
-هتوافقي تبقي زوجة تانية ؟
شل تفكيرها من غرابة السؤال ، وزاغت عيونها بدهشة :
-هااه .. وانا مالي !!
اقترب منها وتعمد إرجاع شعرها للوراء ووضع كفه على عنقها بخفة ودندن هامسًا في آذانها بنبرة أرعبتها :
-مالك أزاي ! أنتِ نسيتي أنك مراة عاصي دويدار ، تحبي اخليكي فاكرة ده بطريقة متنسيهاش طول عُمرك !
ابتعدت عنه كالملدوغة بوجهها الشاحب وهي تعاتبه بعيونها المنتفضة قبل شدقها :
-أنتَ مش لسه قايل عمرك ما هتقرب مني !
رفع حاجبه مؤيدًا ثم قال بثبات يُحافظ على بقايا هيبته :
-أنتِ فكرتي ايه ! أنا كُنت هلبسك أسورة عليها اسمي بس ، عشان كل ما تبصي لها تفتكريني …
رمقته بتكذيب وعدم اقتناع ثم قالت بشكٍ :
-ااه أسورة!!
بتخابث سألها :
-أومال كُنتِ فاكرة أيه !
-هااه !
هنا انقذها صوت طرق الباب الذي دلفت منه ” سيدة ” وهي تُخبره :
-عاصي بيه ، الست عالية وجوزها تحت عايز يقابلك ضروري .
••••••••
-أنت عايز عاصي ليه !
أردفت ” عالية ” سؤالها الأخير بعد جولة الحيرة والصمت التي خيمت فوقهم حتى وصل الثنائي إلي قصر دويدار ، تململ قليلًا في جلسته و رد بصوت خفيض :
-مش أنا اخدتك منه ! لازم ارجع الأمانة لصاحبها بنفسي .
تدخلت عبلة في حوارهم المُتهامس وتسألت :
-أخبار الـ Honeymoon أيه يا لولي ؟
انكمش وجه ” عالية ” بسبب استقبال أمها الجافي الخالي من أي سيل بالدفء والحنان ، وقالت بحسرة :
-حضرتك لو سألتي عليا ، كُنت هتعرفي حاجات كتيـر أوي أولهم أني مخرجتش بره شقتي .
ترنحت ” عبلة ” في جلستها ووجهت أسهم اللوم نحو مُراد :
-ازاي الكلام ده يا مراد ، أنت ازاي متقضيش شهر العسل مع عروستك !
تبادل الثنائي النظرات والحيرة بينهم حتى أنقذهم قدوم عاصي وقدماه تلمس أخر درجة من السُلم ، تحمحم بخفوت ثم قال مُرحبًا :
-نورتي بيتك يا عالية .
وقفت عالية لتستقبل أخيها بامتنان وما أن عانقته بضعف وابتعدت عنه متسائلة بحنو :
-طمني عليك ،و البنات أخبارهم أيه !
ثم خفضت صوتها وأكملت بشكٍ :
-ومراتك !
ربت على كتفها بخفة ثم قال بهدوء :
-كُلنا كويسين يا عاليـة .
ثم امتدت أنظاره إلى مراد الجالس على الأريكة يتفقد ساعته باستمرار ، رمق عالية بنظرة لم تفهم مغزاها ولكنه حافظ على اعتبار أخته واقترب منه ومد يده كي يبدأ بالسلام ، لم يصدق مُراد ما حدث بل سددت أعين الجميع نحو يد عاصي المُمتدة لألد أعدائه ومنافسيه ، أرسلت له عالية نظرة ترجي بألا يسبب حرجًا لأخيها وسرعان ما لبى طلبها واقفًا وهو يصافحه بقوة ، تبادلت الأنظار بينهم حتى قطعها عاصي مُتسائلًا :
-خير ، طلبت تشوفني !
قال جملتها وهو يجلس بالقرب منه بعد ما فتح زر سترته ، مال مراد مستندًا بمرفقيه على ركبتيه برزانة وقال :
-هدخل في الموضوع على طول ، مش هعطلك .
-سامعك …
انقبض قلب عالية وهى تجلس بجواره بجسد منتفض ، بدأ مراد حديثه متسائلًا :
-أنتَ جوزتني عاليـه ليه يا عاصي !
سرت الحيرة مجرى الدم بعروق الجميع ، كما أن النظرات تنقلت هنا وهناك لم تجد مبررًا لتقوله ، تفهم مراد الوضع الحرج الذي به الجميع وأكمل :
-أنا عارف كل حاجة ، وعارف أنت جوزتني لأختك كنوع من أنواع العقاب لما شوفت لها كام صورة على كام فيديو لابن واحد من المنافسين بتوعك ، فكان لازم تخرس الكُل وتقول أنها متجوزة ، حتى ولو كان الشخص اللي هتتجوزه ده هو أنا …
فوجئ بكف عالية المُرتعش يلامس معصمه بترجي أن يصمت ولا يفتح تلك المواضيع التي علقت في قلبها غصة لم تنساها عمرًا ، تجاهل مراد طلبها بإصرار وأكمل :
-اللي أعرفه عنك مش بتخطي خطوة من غير ما تدرسها كويس أوي ، وكان لازم تتأكد من أختك قبل ما تعاقبها كده ..
تدخلت عبلة بحرجٍ :
-عالية هي اللي حكت لك ..
-الصور والفيديوهات وصلتني يوم كتب الكتاب ، وأنا كغريب عنها عرفت ان الصور دي متفبركة وبعتها لمتخصص في نفس اليوم وأثبت كلامي ..
نست بين حروف كلماته رحلة الأيام القاسية ، ذرفت الدموع من عينيها متسائلة :
-أنتَ كنت عارف قبل ما احكي لك ..
هز رأسه مؤكدًا ، أيوة يا عالية كنت عارف ومتأكد أن الصور دي كيدية ، وكان لازم يتاخد عشانها إجراء قانوني ، ولو سمحتِ لي أنا هعمل كده ، لازم اللي عمل عملته دي يتعاقب ..
ثم حملق إلى عاصي وكأن يوبخه :
-مش أنتِ اللي تتعاقبي وتدفعي تمن حاجة ملكيش فيها ذنب لمجرد أنك أخت عاصي دويدار .
أحمر وجه عاصي بغضب عارم وقال :
-ومين قال لك أنا معملتش كده .. أنا فعلا خليت حد من رجالتي يتأكد من الموضوع ..
هز مراد رأسه بسخرية وبادلها بنظرة شفقة :
-لما الموضوع يتعلق بأختك وشرفك يا عاصي بيه يبقى لازم تسعى ورا الموضوع بنفسك مش تثق في شوية رجالة أنت مشغلهم !
ما ألقى قذيفته في صدر عاصي ، فنصب قامته مُتأهبًا للذهاب وهو يكمل :
-أنا عملت اللي يريح ضميري ، عشان أي إهانة لعالية بعد كده أنا اللي هقف لها .
وثبت عالية خلفه كالملدوغة وهى تغلغل أصابعها بين فراغات يديه ، لم تمنحه عالية الفرصة للاندهاش بل تدخلت بصدمة :
-أنا مش مصدقة ، ومين له مصلحة في كده يا عاصي ، لازم تشوف مين ورا المهزلة دي يا عاصي وترجع حق اختك ..
أخرج عاصي هاتفه وحدث يسري بحدة :
-يسري اسبقني على المكتب حالًا .
حاول أن يسحب مُراد يده قائلًا :
-طيب استأذن أنا ..
اندفعت عبلة بحماس :
-يعني أنت جيت عشان كده ! لازم تتغدى معانا ونفكر هنعمل أيه سوا !
تبدلت نبرته من الجمود إلى الحزن :
-أنا جاي عشان ..
قاطعته عاليـة بسرعة :
-عشان نسلم عليكم ، قصدي قبل ما نسافر .. أصل مراد كان عنده شغل وأجل سفرنا لحد ما يخلصوا .
شعر مراد بجبل الكبرياء العناد الأنثوي قد تهاوى فوقه ، أطبقت عالية جفونها محاولة استجماع شتات فوضتها ‏لـ تُقارن مدى تفاهة كل تلك الأشياء التي عانتها بهذا القصر والأيام التي عاشتها بقربه ، هذا الأسى لا يمكن شرحه
لكنه من النوع الذي يجعلها صامتة للأبد ، أطلقت زفيرًا قويًا وهي تضغط علي كفه :
-ممكن نمشي …
لا زال مراد تحت تأثير صدمته من قرارها المفاجئ ، اكتفى بهز رأسه قائلًا :
-اللي تشوفيه ..
وثب عاصي بجميع الشحنات المُتكتلة في رأسه مُناديًا على سائقه بقوة :
-خليهم بره يجهزوا هنروح مقر الشركة …
أطرق مراد باستغراب :
-بعد اذنك يا خالتو ..
ثم سحب عالية تلك التي ضبت حقائب قرارها وأصرت على الانفصال ، فمـا الشيء الذي قَلب رأسها وألغى قرارها فجاة ، أما عن ” عبلة ” جلست على الأريكة تضرب كف على كف حتى تمتمت بنبرة عدوانية :
-نخلص بس من تميـم ، والباقي سهل .
ثم أجرت مكالمة هاتفية :
-سوزي أزيك ، محتاجة اقابلك في أسرع وقت .
••••••
تسلل” كريم ” بخفة وهو يمسح المكان بأعينه كي يتأكد من خلوه تمامًا حتى وصلت أقدامه إلى أعتاب هدفه ، أطرق بخفوت وهو يتلفت حوله كاللصوص حتى فتحت له ” نوران” ، بمجرد ما رأته زفرت بضيق وقالت بنفاذ صبر :
-مش ناقصاك خالص بصراحة ..
عقد كريم حاجبيه بغرابة :
-ليه بس ! ده أنا أول ما عرفت باللي خالتي عملته قلت لازم اعتذر لك .. أحنا بيت يمتاز بقلة الذوق .
كانت مرتعدة في حضرته لتراهم شمس ، تأففت باختناق ثم قالت :
-تصدق من أول ما جيت البيت ده وأنا مقابلتش حد طبيعي ! حتى خالتك دي مكانها العباسية وأنت السرير اللي جمبها بالظبط .
ما أن نفخت دخان حنقها بوجهه شرعت لتقفل الباب ولكنه أوقفها قائلًا :
-استني بس …
-أف ! نعم ..
-أنا لما أروح هناك يعني ، قصدي العباسية هتيجي تزوريني !
نوران بجزعٍ :
-أنت بس اتوكل على الله ، وماتشلش هم !
ختمت كلماتها بقفل الباب بوجهه وهي تسب في نفسها سرًا وعلنًا حتى هتفت بغلٍ :
-أي الوقعة المنيلة دي بس يا ربي !
غمغم كريم بصخب :
-متغمضالهاش عين لو مقفلتش الباب في وشي !
تحمحم بهدوء وما أن تأهب ليعود لغُرفته ألقى بـ ” حياة ” تتجه نحو غرفة الفتيات ، وقف أمامها ليعيق طريقها قائلًا بغزلٍ:
-القصر اليومين دول بقى فيه حاجات حلوة أوي ! كان ناشف أوي زمان ..
بث الرعب في قلب حياة لطريقته العفوية ، حدجته بنظرة ساخطة ثم خطت خطوة لتتجنبه ، وقف أمامها معاندًا :
-يصح بردو نكون في بيت واحد ومنتعرفش !
زفرت بوجهه بنفاذ صبر :
-اه يصح عادي ..
هز كتفيه بثقة :
-هو ده نفس رأيي ، أنا كريم ، أبقى ابن خالة عاصي ، وأخو هدير الصغير .
بادلته بابتسامة جافة :
-تشرفنا .. ممكن اعدي بقا .
قفز أمامها كالبهلوان ليمنع خُطاها وقال بثرثرة :
-ينفع أقول لك على سر …!
حياة بحدة :
-مش عايزة اسمع حاجة ..
-ليه !
تعصبت بوجهه بجزعٍ وهي تجز على فكيها :
-أنت تعرفني عشان تتكلم معايا ، وتقولي أسرار !!
تبسم كريم ثم أتبع :
-بصراحة اللي يقف قدام عينيكي مستعد يحكي لك تاريخ الهكسوس من أوله ..
-لا أنتَ فاضي بقى !
ما كادت أن تخطو خطوة فوقف بوجهها قائلًا :
-تعرفي أنك أحلى واحدة عاصي دخلها القصر !
-والله !!
-ااه أصل عاصي ابن خالتي ده لعيب ! كُل يوم كل بينزل منتج جديد القصر ، بس بصراحة أنت غير …أنت ماكينة الإنتاج نفسها .
عصف بها الضيق فـ صاحت قائلة :
-لما يجي ابن خالتك ابقى نشوف رأيه في الكلام ده .
فزع من مطرحه مبررًا :
-يعرف أيه ، أنا بهزر والله ، اعتبريني أخوكي الصغير ، كله الا عاصي يا رب تحلوي كمان وكمان ، بس بلاش عاصي .
كتمت الضحك بداخلها على حالته العبثية والطريقة التي يتوسل بها إليها ولكنها تعمدت أن تظهر ملامح الجفاء ، اكتفت بنظرة ثاقبة ارعبته وذهبت من أمامه بخطوات ثابتة ، طالعها كريم بإعجاب :
-يابن المحظوظة يا ابن خالتي !
•••••••••
(مساءًا)
-أنا مبسوطة أوي بالنتيجة اللي وصلنا لها ، تمـيم .. ممكن نروح بكرة لدكتور شاطر أوي ، يفحصك ويطمنا عليك .
تلك الجملة التي اقترحتها شمس وهي تضع مائدة العشاء أمامه ، ثم تحررت من حجابها لشعورها بالحر الشديد ، ووضعت شالها على كتفها قائلة :
-بصراحة في حاجة في التقارير مش مظبوطة .
تعمد إخفاء معارضته وقال بهدوء وهو يتناول رغيف الخبز :
-اللي عايزاه أنا هعمله يا شمس .. المهم نوران عاملة أيه دلوقتِ ؟
فركت كفوفها بقلق :
-مخنوقة وملهاش نفس تذاكر بعد اللي حصل ، اللي عايزه افهمه بجد ، هي فعلًا عالية أدتك المجوهرات عشان تبيعها !
قضم لقمة صغيرة من رغيف الخبز المحشو وقال :
-هي قالت كده عشان أنا عايز كده ، خلينا متفقين أن محضر عبلة كيدي ، عايزة تنتقم منك وترد لك القلم بتاع الحبس .
بلعت غصة أحزانها وقالت :
-مش كفاية اللي عملته ..
-احكي لي اللي عملته بالظبط متخبيش عليـا حاجة .
شرعت شمس في رواية قصتها المحزنة منذ اللحظة التي قابلت فيها عاصي دويدار للحظة التي أعلنت فيها الموافقة بالزواج منه ، كانت كلماتها حزينة ، متقطعة ، مُبللة بالعبرات الحارة ، والعديد من الشهقات ، حتى ختمت حكايتها الطويلة بـ :
-لو أنت مكاني كُنت هتتصرف أزاي !
أحس تميم بالغضب مما قالت ولكن دموعها لانت الصخر الذي يسكنه ، ارتشف رشفة من الماء وقال باختناق :
-عشان كده وافقتي تتجوزيني ! عشان تنتقمي من عبلة !
جاءت تنكر اتهامه الصحيح ولكنها تراجعت عندما ألتقت أعينهم للحظات طويلة ، أحست شمس بالحرج مما قاله فلم تملك فصاحة الاعتذار ولا شجاعة الاعتراف .. بللت حلقها وقالت :
-أنا حكيت وخلصت ضميري ، والقرار ليك .. بعد أذنك .
-استني يا شمس …!
تراجعت عن فكرة هروبها من أمامه ، بل عادت تطالعه بجفونها المرتعدة :
-نعم !
-أيه علاقتك بعاصي ..!
انعقد جبينها بدهشة :
-ولا أي حاجة ، مفتكرش إني اتكلمت معاه مرتين تلاتة وكلهم كانوا خناق وشد ..
بعدم تصديق :
-وبس ! خناق وشد وبس !!
لمست في حديثه لغة إهانة بالغة لا يمكن تقبلها من واحدة مثلها ، صخب وجهها بضجر :
-تميم لو سمحت لحد هنا وخط أحمر ! أنت بتلمح لأيه .. أنا غلطانة إني وثقت فيك .
رجة العتاب اختلجت صدره ، ما أن حاول أن ينادي عليها لكنها لم تسمح وفارقت الغرفة بعد لغة الاتهام الصريحة التي وجهها لها ، زفر تميم بضيق وهو يوبخ نفسه :
-غبي !
•••••••
-هديتي شوية !
تلك الجملة التي نطق بها مراد بعد ساعات طويلة من الصمت تعمد ألا يحملها المزيد من الآهات المكبوتة بصدرها والنيران الحارقة ، جلس بجوارها على الفراش في الغرفة التي لم تخرج منها طوال النهار حتى حلت ظلمة الليل التي تناغمت مع حالة الحزن التي تعيشها ، أطرق بخفوت :
-قلت اسيبك تاخدي وقتك وتفكري .
جففت عالية دموعها وأطرقت بوهن :
-أنتَ مستغرب أنا ليه عملت كده !
فكر في سؤالها لمدة معقولة كي يجد ردًا مناسبًا ثم أردف :
-المهم أنك مرتاحة ، ده أهم حاجة عندي .
ساد الصمت بينهم لدقائق معدودة حتى نطقت من دوامة شرودها :
“كأنه كابوس ، كل يوم مر عليـا في البيت ده كان جحيم ، دايمًا كله بيجري ورا حاجة مش عارف إيه هي ، عمري ما عشت شعور العيلة والعزوة ، حتى مامي كل همها الشياكة ومظهرها قصاد صُحابها وألبس ماركة كذا ، مفيش حد حاول يقرب مني ويعرف أنا بحب إيه ولا بكره أيه ”
تلك الكلمات التي أفصحت عالية عما تحمله بقلبها لسنوات طويلة ، ثم طالعته بعيونها المتهالكة وأكملت :
-لما دخلت بوابة القصر حسيت بضيقة ، لا .. أنا مش عايزة أرجع للمكان ده تاني ، ده سجن ، المكان ده مفيهوش ذكرى واحدة حلوة تستاهل أرجع له عشان ، كنت عايزة أهرب منه تاني ، أقولك على سر … !
دنى منها مُراد بشفقة واحتوى كفها بطيب خاطر :
-ممكن تهدي ، بلاش تفتشي في الماضي ما دام مفيهوش حاجة تفرحك .
كفكفت دموعها بكلتا كفوفها وأكملت :
-لما كُنت أشوف كابوس وحش ، مكنتش عارفة أروح لمين يطمني ، كنت أفضل اترعش وأعيط لوحدي وانا ببص للسما مستنية الشمس تطلع بسرعة عشان اطمن ، دورت في جميع الاتجاهات ملقتش غير طريق ربنا هو الوحيد اللي هيطبطب على قلبي ، ويحميني من كل المتاهة دي .
-عالية فوقي !
تبسمت من صميم أوجاعها وقالت بهزل :
-أنا كويسة متقلقش ، بس أنت ليه مقولتليش على حوار الصور ، وأنك عملت كل ده ؟
-عشان الماضي ميهمنيش ، والموضوع كان لازم يتقفل عشان أنتِ تنسيه .
رمقته باستغراب :
-وفتحته تاني ليه ! عشان هدفك مخططك مش كده ، ده اللي يهمك ، طيب ليه ما طمنتش قلبي !
-كان لازم يتفتح وكان لازم عاصي يعرف أنه ظلمك ، أنتِ طلبتي ترجعي وأنا احترمت رغبتك ، وكمان مش هسمح لحد يضايقك .
احتلتها نظرات التيه وانفجرت باكية :
-أنت بتعمل كل ده ليه ! أقصد أنت عايز مني أيه يا مراد .. عايز فلوس ! عايز تكسر عاصي ، أنت عايز أيه مني ، سيبوني في حالي حرام عليكم دخلتوني في حرب مش بتاعتي ولا ليا ذنب فيها .
أخذ يمسح على رأسها مرات عديدة حتى يأس فـ لم يجد وسيلة أمامه إلا احتضانها ، جذبها لـ صدره بغتتة في لحظة فقدت بها عقلها وتعطشت ليد تربت عليها بحنو تنسيها مرارة الأيام حتى غفت بين يديه :
-عالية .. فوقي لنفسك متعمليش كده .. ممكن تهدي .. اهدي وهعمل لك كل اللي عايزاه .
••••••••
عاد عاصي إلى غُرفته بعد ما انتعل على الباب خُف يومه المؤسف ، وتحرر من كل مفاجئات اليوم المباغتة ، وما أن دخل وجدها تتكور حول نفسها على الأريكة ، قفلت دفترها بسرعة ودلت أقدامها العارية لما ترتديه من فستانٍ قطني يصل لأسفل ركبتيها ، ظلت تُراقبه بصمت حتي جلس بقربها وأخذ يُحرر رابطة عنقه ، سألها متحيرًا :
-سهرانة ليه !
أخذت تأكل في شفتيها بتوتر تلك الحركة التي أشغلت نيران أخرى بجوفه ولكنه سيطر عليها بقبضة يده التي ضمها حتى برزت عروقه ، بررت حياة سبب استيقاظها :
-عشان أقول اسفة ، اسفة لو شديت معاك شوية الصبح ، بس الموقف كان غريب وغامض ، كنت بفكر معاك بصوت عالي مش أكتر ..
اكتفى بهز رأسه على تلك العريضة التي سردتها ، رفعت حاجبها باستغراب منتظرة رده ، تعجبت من صمته وهي تصفه “رجل تحتله الغرابة ،لم يستطع أحد أن يقترب من هيكل أحزانه ، وما يتجول في خاطره لا يظهره ” ، تحرش الفضول برأسها وسألته :
-شكلك مضايق !
-العادي يعني ..متاخديش في بالك !قريب هتسمعي أخبار حلوة .
هزت رأسها بعدم حماس تلك المرة :
-أنا بطلت اسألك عن حاجة لاني واثقة فيك .. وأنتَ وعدتني .
خيم الصمت عليهما مرة آخرى في تلك اللحظة أصابتها لعنة الثرثرة كي تفش بدواخله أكثر ربما تعثر على سبب واضح لعبوس وجهه :
-قضيت يوم جميل أوي مع البنات النهاردة ، ولعبنا كوتشينا وللاسف خسرت واتحكم عليـا إني اقنعك نروح ملاهي بكرة ، وانا مش عارفة إذا كُنت هقدر أقوم بالمهمة المستحيلة دي ولا لا !
أخذت تراقب تعابير وجهه الغامضة التي لا تتحرك بالاعتراض أو بالقبول ، لم تستطع صبرًا على صمته حتى تفوهت بحماسٍ كي تصلح ما افسدته منذ قليل :
-حاسة إني جعانة ! وأنتَ ..
تلك الجملة التي تفوهت بها حياة لتغير مجرى الحديث المشحون بينهما ، ثم رفعت حاجبها وسألته :
-تاكل معايـا؟ أي رأيك !
نظر نظرة سريعة في ساعة يده ثم قال مندهشًا :
– دلوقتي ؟!
-فين المشكلة .. لو مش جعان خلاص مش هجبرك ..
تمدد شدقه بابتسامة خفيفة ثم قال :
-شكلك لسه متعرفتيش على تعليمات عبلة هانم واللي هي ممنوع منعًا باتًا حد يدخل المطبخ من بعد 12.. ممنوع !
اتسع بؤبؤ عينيها باعتراض :
-نعم ! طيب والـ يجوع بعد الساعة دي يعمل ايه !
-يكمل نوم يا حياة ..
فركت كفيها بحيرة ثم سألته في توجس :
-يعني لو نزلت بشويش ومامتك قفشتني أنت مش هتدافع عني !
كان تارة ما يتحدث وطورًا ما يصغى لثرثرتها اللذيذة ، أسبل عيناه بتخابث وما زال محافظًا على ابتسامته الساحرة :
-والله على حسب هتعشينا ايه !
فزعت من مكانها بحماس لتجلس بجواره وتخبره :
-شوف أنت عايز ايه وأنا هعمله حالًا ..
-لا دي هسيبهالك أنتِ بقا ، أكون اخدت شاور خلصت كام حاجة تبع الشغل .
نهضت من مكانها متحمسة بعد ما ضمنت حمايته لها .. سارت راكضة نحو الباب حتى أوقفها مناديًا :
-حياة .. بشويش هااه .. متنسيش .
ابتلعت ضحكتها و أومأت بالايجاب وهي تفتح الباب بهدوء وتوجهت نحو المطبخ كاللصة تتسلل بحذر شديد:
-فاهمة فاهمة .
ضحك وجهه لحركاتها الطفولية وخفة روحها التي طيرت ثقل همومه التي كانت تلاحقه طيلة اليوم .. لملم شتات فكره الذي بعثرته فتاة الربع قرن وتوجه نحو المرحاض كي لا يترك تفكيره ضحية لجمال حضورها الطاغي على كيانه .
أخذت تفتش بالثلاجة عن وجبة سريعة يمكن اعدادها .. وجدت طبقًا مغلفًا من الجمبري لا ينقصه سوى القلي
لم تتردد في اختياره .. ثم ظلت تبحث عن المكرونة .. جثت على ركبتيها وفتحت أحد الضُلف فوجدت العديد من أنواع المكرونة المفضلة ، اختارت النوع الي تبحث عنه ثم اتجهت نحو الموقد بحماس بعد ما حددت هدفها بأنها ستقوم بصنع “مكرونة بالوايت صوص”
لم يستغرق إعداد الطعام أكثر من نصف ساعة .. شرعت في تنظيف المكان بعدها وإخفاء آثار جريمتها وما أن جاءت لتتنفس بارتياح وتسكب الطعام بالأطباق .. إذًا بصوت سقفة من الخلف وما أن دارت فوجئت بهدير أمامها تهتف بمكر :
-لا برافــو .. حلو الشغل ده !
انكمشت ملامح “حياة” بتوجس :
– أنتِ !
-ااه أنا .. هدير المحلاوي ، وأم ولي العهد لعاصي دويدار .. أما أنت بقى حتة بنت مجرد يومين بيتسلى بيكي وبعدين يرميكي في أقرب مقلب زبـالة .
افتعلت حياة كيد النساء لـ ترد على أسلوبها السخيف وتسترد كرامتها التي تتعدى عليها تلك الحية وقالت ببرود :
– مادام أنتِ متأكدة أوي إني مجرد يومين وراجع لك ، خلاص بقا سيبيني أعيشهم معاه من غير ما تحرقي في دمك .
دنت منها هدير وهي تخفي غيظها الحارق :
-حبيت بس افكرك ، عشان متتغريش في حنية عاصي وتصدقيه وتطلعي أنت الخسرانة في الاخر يا حرام .
وضعت حياة الأطباق على المائدة الخشبية وقالت بثقة ولن يخلو ثغرها من رسم الابتسامة :
-حبيبتي أنا مدخلتش حرب مع حد عشان اطلع منها خسرانة أو كسبانة ، أنت اللي عايزة تاخدي حاجة مش بتاعتك ومش عايزاكي بالعافية ، شايفة أنك تراجعي عقلك وهو هيقول لك كده مش صح .
تلون وجه هدير بجمر الغضب وقالت :
-متأمنيش لعاصي ، هو ذكي جدًا وبيعرف دخلة كل واحدة فينا .. وبيحسسها أنها ملكت الدنيا وبعدين بيقولها باي باي ياحلوة .
-أنتِ ليه مش مستوعبة أني غيرك ، مش أنا الست اللي تطلق من أول يوم ، أنا مش مغفلة زيك .
ثم حملت مائدة الطعام وتدللت قائلة :
-الاكل هيبرد ، ومينفعش اتأخر على جوزي أكتر من كده .. نكمل كلامنا بعدين يا هدير ، ده لو كان عندك كلام ، ومرسيي اوي على النصيحة .
لم تعرف ” حياة ” سبب الطريقة الملاوعة للحوار التي تحدثت بها مع هدير إلا أنها تعمدت الضغط على أوتار كيدها الأنثوي ، فقبلت الحرب بوضوحٍ ، ونزلت مقابلها في ساحة المعركة متأهبة للقتال الذي لا تدرك عما تُحارب لتناله !
أمسكت هدير بالسكـين وفشت غضبها متمتمة :
-أنتِ اللي اخترتي يا ست حياة ! يا أنا يا أنتِ فـ القصر ده .
••••••••
( صباحًا )
نهضت ” عبلة ” من نومها قبل الخدم ونزلت على المطبخ بعد ما أعدت قهوتها وارتشفتها خلالها بدأت تجهز في خطتها الشريرة ، ضبت أحزمة حقدها وعزمت على البدء وقالت لنفسها :
“-مش هسمح لك تهد كل اللي عملته طول السنين دي يا تميـم ، لازم واحد فينـا يموٰت عشان التاني يعيش ، وآكيد الشخص ده مش هيكون أنا ..”
فتحت الثلاجة وأخذت تعد له مائدة الإفطار وأشهى المأكولات وما أن رصت الأطباق فوق الصنية ووضعت قطرات السُم في العسل الأبيض ، الوجبة المفضلة لتميم ، جاءت سيدة وهي تعقد أشرب رأسها بخمول ، ففوجئت :
-ست عبلة ! صاحية بدري يعني ؟!
انتفضت عبلة وهي تخفي زجاجة السُم وراء ظهرها وقالت :
-ااه ، عملت فطار العرسان بقا ، بصي يا ستي دي صنية تميم ودي صنية عاصي .. ركزي يا سيدة .
-يادي العيبة يا هانم ، بنفسك ! لا مالكيش حق .
تبسمت بمكر الأفاعي المخفي وراء وجهها الملائكي :
-وأنا عندي أغلى منهم ، ودي أنتِ دي لتميـم ، وبعدها تعالي خدي التانية لعاصي ، فهمتي يا سيدة ولا أقول تاني ؟
-ارتاحي بس وأنا هنفذ كل حاجة وهدلع عرساننا أخر دلع … أوامرك يا ست عبلة .. وأحنا عندنا أغلى من عاصي وتميم بيه ، بالحق يا ست عبلة ، مراة سي عاصي الجديدة دي باين عليها بنت حلال وحتة قشطة كده ، ربنا يسعدها مع البيه .
انتفخت ملامح عبلة بالغضب :
-ينفع تخليكِ في حالك ياسيدة !
-اه وماله يا هانم ..
ثم تهامست إليها بفضول :
-بس ست الدكتورة دي باين عليها ناصحة وتميم بيه طيب وعلى نياته ، بس من جوها بنت حلال بردو قلبي ارتاح لها وحبها .
-كلمة كمان يا سيدة وهخرسك العمر كله .. اتفضلي يلا نفذي اللي قولت لك عليه …
قالت عبلة جملتها بغيظ من ثرثرة تلك العجوز التي لم تمر عليها مرور النملة بهذا القصر ، وقفت سيدة حائرة أمام الطعام وأخذت تتساءل:
-هي قالت دي لتميم بيه ولا دي لعاصي بيه ! ولا العكس !

 
    google-playkhamsatmostaqltradent