رواية فطنة القلب الفصل الحادي والعشرون 21
اللهم إني أستودعك بيت المقدس وأهل القدس وكل فلسطين. اللهم ارزق أهل فلسطين الثبات والنصر والتمكين، وبارك في إيمانهم وصبرهم. اللهم إنا نسألك باسمك القّهار أنْ تقهر من قهر إخواننا في فلسطين، ونسألك أن تنصرهم على القوم المجرمين.
اللهم اشف جريحهم، وتقبّل شهيدهم، وأطعم جائعهم، وانصرهم على عدوهم. اللهم أنزل السكينة عليهم، واربط على قلوبهم، وكن لهم مؤيدا ونصيرا وقائدا وظهيرا. سبحانك إنك على كل شيء قدير؛ فاكتب الفرج من عندك والطف بعبادك المؤمنين.
__________________
منتظرة توقعتكم.. دمتم بحفظ الله.
فِطْنَة اَلْقَلْبِ
«قطوف الياسمين»
بقلم سلمى خالد " سماسيموو"
سبحانك اللهم بحمدك سبحان الله العظيم
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد
الفصل الواحد والعشرون
(وَمَالِيّ أَرَى فُؤَادِي يَنْكَسِرُ دُونَ أَنْ أُعَالِجَهُ)
لعل هذا الألم الذي تخلل جسدها الآن، ليسوى قطرة من بحار ما يشعر به قلبها، لم تبك أمام أحد، ولكن الآن بكت أمام الجميع، نظرت له بأعينٍ حمراء، شفتاها اللتان ترتعش من قسوة ما سمعت، تردف وهي تحاول النظر لعينيه اللتان تهربان منها:
_ أنت قولت إيه! أنت طلقتني بجد!
نظرت لعمها مهران سريعًا، تتمتم بنبرة مرتجفة:
_ هو طلقني يا عمو!
أغمض مهران عينيه، فلم يتخيل بيومٍ أنه سيرى مشهد يهلك قلبه من الحزن، عادت بنظرها إلى مازن تكمل بدموعٍ لا تزال تغرق وجهها:
_ أنت مش بتبصلي ليه؟ بصلي وقولي إنك قتلتني بأكتر وقت أنت مهم فيه في حياتي! قولي أنك كسرت بوعدك ليا.. فاكر قولتلي إيه قولت اوعدك إني مش هسيبك.. وأنت دلوقتي سبتني..
حاولت مسح دموعها ولكن لم تتوقف، تزداد كلما رنت كلماته بأذنها، عادت تردف بألمٍ غائر أبكى والدها:
_ أنت كسرت قلبي كسرة عمري في حياتي ما هنساها.. أنا عمري في حياتي ما عيط قدام حد.. خلتني النهاردة بعيط قدام الكل.. أنت اللي المفروض تخفي دموعي.. بس دلوقتي عملت العكس ووجعتني قدام الكل.. وخلتني مش عارفة دموعي دي هيبقى ليها نهاية ولا لاء!!
نظر لها بأعينٍ راجية ألا تفكر بهذه الطريقة، ليردف بنبرة مهزوزة:
_ قطوف أنا ا...
قاطعته بصراخٍ حاد أفزع الفتيات اللواتي يبكين مما فيه قطوف:
_ أســــكــت مش عايزة أسمع منك حاجة.. كفاية اللي سمعته.. أنا قولتلك أني نسيت وحدتي بونسك.. بس ونسك قتلني.. ونسك بقى شوك بينغرز فيا كل لما افتكره.. أنت قتلت كل حاجة حلوة جوايا..
حاولت اخذ انفاسها التي ضاعت بين متاهة آلامها، تتمتم بنبرةٍ اهتزت من الألم:
_ أنا كان جوايا حلو صغير زمان بس مسحت كل الحلو دا بحلوك ليا.. ودلوقتي قتلت كل اللحظات الحلوة... بتاع زمان... وبتاعتك.
أغمض مازن عينيه، يشعر بعذابٍ قاسٍ من حديثها، ولكن لن يستطيع أن يتفوه بكلمة، هذه هي الفتاة القوية التي تزوجها، الآن هي منهزمة.. ضعيفة.. أو بذروة ضعفها، شعرت بألمٍ عنيف يضرب رأسها، ولكن لا لن تسقط أمامه يكفي ما بها، ابتسمت بألمٍ ولا تزال دموعها تنسدل على وجنتيها الحمرتان، تستمع لصوت شهقات زينة.. ملك.. ياسمين، تنظر للألم الموجود بعيني مهران.. وزين.. وياسين.. جمال، ثم تمتمت دون أن تشعر بتلك الدماء التي تسيل من انفها:
_ عارف كان بيتقلي إني مش بحس.. بس النهاردة رجعتلي احساسي تاني يا مازن.. حقيقي شكرًا أنك هتخليني كل دقيقة بتنفس.. بس بتنفس وجع.. وجع وبس.
ادمعت عين ياسين مما يراه، لم يرغب أبدًا برؤيتها هكذا، يريدها تلك الفتاة القوية التي رأها بأول مرة، آه من حواءٍ فإن بكت أضعفت آدم، فزعت ياسمين وهي ترى تلك الدماء تسيل منها، حاولت الاقتراب ولكن تراجعت قطوف وهي تصرخ بهم جميعًا محاولين الاقتراب منها:
_ ابعدوا عني أنا مش عايزة اشوف حد.. أنا بقيت بكره نفسي وبكرهكم ومش عايزة اشوف حد.. ابعدوا عنـ...
لم تكمل حديثها المنكسر، بضع كلماتٌ أخرجتها جعلت الجميع بحالة من الألم لا يتمنون أن يراوها، كاد مازن أن يركض لها بعدما سقطت أمامه مغشيًا عليها، ولكن هدر مهران بصوتٍ حاد:
_ مــازن توقف.
نظر له مازن بغضبٍ، لن يفكر بشيءٍ الآن يرى من سكنت فؤاده مغشيًا عليها، فكيف لقلبه أن يبقى ساكنًا وقد غاب عنه نور عينيها، رد بعصبيةٍ، يتقدم نحوها دون أن يعير لحديثه اهتمام:
_ محدش يدخل بيني وبين مراتي!
علق بسخرية وهو يتقدم نحو قطوف يتجاوز مازن الذي تجمد جسده ما أن نطق بكلماته:
_ بل تقصد طليقتك.. لقد تفوهت باليمين الآن.
عجز جسده عن التحرك، هل سيقف مكتوف الأيدي هكذا! نظر لعمه الذي صعد بقطوف إلى غرفتها، ومعه بقيت أفراد العائلة، ولم يبق بالردهة سوى ميرڤت التي تبتسم بسعادة، ومحمد الذي تشنج جسده بشدة يريد أن يطمئن على ابنته ولكن عجزه عن الحركة منعه، نظر لها مازن ثم قال بصوتٍ غاضب:
_ صدقيني هيجي يوم وهتقفي فيه عاجزة ومش عارفة حتى تنادي عشان حد يلحقك.
تعالت ضحكت ميرڤت بشدة وهي ترى عينيه اللتان تلتمعان بالغضب، تردف ببسمةٍ باردة:
_ مستنية التوكيل بتاعي عشان أنقل الفلوس من حسابك لحسابي.
رفعت كفها تلوح بيدها، ثم غادرت في حين تقدم مازن نحو محمد الذي يحاول التحرك دون فائدة، هبط لمستواه ينظر لعينيه اللتان تشعان حزنًا، ثم امسك بكفه قائلًا بألمٍ:
_ صدقني هرجعلك حقك وقطوف هترجع أقوى من الأول..
صمت قليلًا قبل أن تهوى دمعة من عذابٍ يقسو على فؤاده، يسترسل باختناقٍ:
_ بس صدقني عمري ما فكرت أكسرها.. أحيانًا الظروف بتجبرنا أننا نوجع اللي بنحبهم عشان ننقذ حياة اللي بيحبوهم.
نهض من مكانه يمسك بمقعده يسير بهِ إلى نهاية الردهة، ثم قال ببسمةٍ حزينة:
_ مضطر أمشي يا خالي.. لأن الوضع حاليًا مش هيسمحلي أفضل في البيت.
قبل جبين محمد الذي شعر بمدى معاناته، ثم سار إلى الخارج، ولكن يسير حاملًا أشواك زرعتها والدته، وحصدها هو.. ينشق قلبه كلما تذكر ملامح حبيبته المنكسرة، تضربه برودة قاسية بعدما اختفى دفء بسمتها، والآن تكسره دموعها المنسدلة.
*****
غادر الطبيب من منزل مهران وأخبرهم أن هذا النزيف نتيجة لضغط نفسي كبير، جلس مهران جوار قطوف يتطلع لها بحزنٍ، ثم قال بنبرةٍ حازمة للواقفين:
_ أخرجوا جميعكم.. اتركوها وحدها فهي بوقتٍ ستحتاج الانفراد بنفسها كي تتفهم ما حدث.
أنصت الجميع له وغادروا الغرفة، في حين مد يده يمسح على خصلات شعرها بحنوٍ، يتألم قلبه من تلك الغصة العالقة به، تجمدت يديه وهو يستمع لصوتها هامسًا:
_ مازن.
نظر لوجهها جيدًا ليجد تلك الدمعة تهبط من حدقتها، مد يده يزيلها، ولكنه هتف بحزنٍ دافين:
_ سامحيني يا صغيرتي لم استطع منع هذه العاصفة.. ولكني أثق بأن كل هذا سيمر.. لابد من أن يفطن عقلك ما يحدث.. وأن يفطن قلبك أيضًا مشاعرك ومشاعر مازن.
نهض من جوارها بأحمالٍ ثقُلت على قلبه، يتكأ على عصاه بتعبٍ، القى نظرة أخيرة عليها ثم غادر، في حين بقيت قطوف على وضعتها، دموعها تنسدل دون أن تشعر، ما أقسى المشاعر المتهيجة بداخلك، فإن هربت منها إلى النوم، ازدادت قسوتها حتى بمنامك!
******
نظر للزهور التي زرعها لها، تذكر بسمتها عندما رأتها، اناملها التي لامستها بحبٍ، أغمض عينيه بألمٍ، الآن يعترف بفشله الكبير في تغير مسار حياتهما، فشل بتحقيق حُلم تمناه منذ الطفولة ولكنه تدمر.
دمعةٌ ساخنة هبطت من إحدى حدقتيه، ذاق العديد من الآلام فارق الأب.. فارق الأم.. فارق أقرب الناس له.. ولكن أشدهم ألمًا فارق الحبيبة، فتح عينيه ينظر إلى زهرة الأوركيدا، رمز حبهما، ليجد احدى اوراقها تتساقط دون عودة، تأمل سقوطها بصمتٍ.. حتى الزهور تنهار معه، سقط إلى الأرض بركبتيه يرفع رأسه إلى السماء ثم صرخ بصوتٍ عالي، لعل كلمة ( آآآه) هي السبيل الوحيد لإنهاء تلك الحالة.
استند بيديه على الأرض بعدما أفرغ طاقته، يهمس بأنينٍ:
_ خلتني أدمر أحسن حاجة بحياتي.. ومش قادر أأذيكي لأنك أمي.. أنا تعبان أوي يارب أوي..
عاد بنظره إلى السماء، يردف بألمٍ يتخلل كلماته:
_ أقرب الناس ليا هي أكتر واحدة أذتني.. أنا بحاول أكون بار بيها بس حياتي بتدمر قدام عيني ومش قادر اعمل حاجة.. أنا واقف قدامك يارب عاجز ساعدني.
ظل دقائق يتأمل السماء، ثم نهض من مكانه، أخرج هاتفه من سرواله ليتصل على أحدهم، وما أن اجاب حتى قال بصوتٍ متعب:
_ لو سمحت يا مريم روحي لقطوف.. هي دلوقتي محتاجاكِ.
قطبت مريم جبينها بدهشة من طريقته، لتردف بتعجبٍ:
_ مش المفروض أنك أنت اللي تبقى جنبها!
نصل آخر ينغرس به دون أن يعلم صاحبه بأنه يقسو عليه، اجابها ببسمة ذاقت معاني الألم:
_ لما تروحي هتعرفي ليه أنا بذات مينفعش.. سلام.
أغلق هاتفه نهائيًا ولكن تذكر رغبته بالاطمئنان على قطوف فعاد يفتح الهاتف من جديد ثم انطلق من مكانه كي يغادر البلدة بأكملها.
****
:_ أنتِ طالق!!
انتفضت من فراشها ما أن ترددت تلك الكلمة بأذنها، تنظر حولها في محاولة استيعاب ما حدث، بقت عدة دقائق تتأكد أن ما حدث صحيح، فهول الصدمة أصعب من أن يصدقها عقلًا بريئة لم يذق المرار بعد، اغرورقت عينيها بالدموع فجأة، تنظر جوارها هذا هو مكانه ولكنه فارغ لأول مرة ستنهار بمفردها دون أن يبقى جوارها.
هبطت دموعها دون توقف تضم ركبتيها لصدرها بألمٍ، ربما لحظة التي أعلن فيها عن وفاة أبيها كان معاها يساندها.. ولكن الآن بتلك اللحظة الذي أعلن طلاقه بها لا يوجد أحد جوارها.. فقط تنهار وتبكي بمفردها!
جفت الدموع.. تتردد هاتان الكلمتين بعقلها، حتى استمعت لصوت خطوات قريبة منها، ليُفتح الباب وتدلف صديقتها، نظرت لها وعلى ثغرها ابتسامة، تنهض لها سريعًا قائلة:
_ مريم وحشتني أوي.
تعجبت مريم من شكل قطوف، ملامحها المتألمة بشدة، بسمتها الأغرب، احتضنتها مريم تردف بدهشةٍ:
_ مالك يا قطوف؟!
تراجعت قطوف إلى الخلف تجيبها ببسمة لا تزال على ثغرها، تعيد خصلات شعرها للخلف:
_ مفيش.. أنا كويسة أهوه.. مش أنا شكلي كويس.. صح مش أنا عادية!
شعرت مريم بالقلق عليها، وضعت حقيبتها جانبًا تردف بخوفٍ:
_ قطوف انطقي في ايه! حصل إيه مخليكي كده! وليه البيت كله شكله زعلان!
ضحكت قطوف بشدة جعلت مريم تخشى ما ستقوله، تعلم ماذا حدث ولكن لم تتخيل تلك الحالة من الانهيار، اجابتها قطوف وهي لا تزال تضحك بشدة حتى أصبحت الدموع تسيل من عينيها:
_ مازن طلقني بعد ما حبيته!
لأول مرة تشعر مريم بالخوف، هي أخصائية نفسية ولكن نست خبرتها أمام انهيار صديقتها المقربة، ازدادت ضحك قطوف ودموعها بطريقة مخيفة، في حين نظرت لها مريم بقلقٍ فصديقتها لا تحب البكاء أمام أحد ولكن أن لم تبكي سوف تدلف بانهيارٍ حاد نتائجه وخيمة، أمسكت كتفيها بيديه تردف بصوتٍ عالي:
_ فوقي.. خلاص بقى.
أمسكت مريم بوجهها تتطلع لعينيها بقوةٍ، قائلة بجدية:
_ عيطي.. عيطي يا قطوف ومتكتميش تاني يلا.. عيطي.
توقف ضحكها وظلت تنظر لصديقتها، ثم قالت بصوتٍ مبحوح:
_ هو أنا وحشة!
حركت مريم رأسها بنفيٍ، تحاول أن تحبس دموعها، في حين هبطت دموع قطوف واحدة تلو الأخرى سريعًا، ثم تمتمت بألمٍ ظاهر يتخلل صوتها شهقات دليلًا على دخولها نوبة بكاء:
_ طب ليه طلقني.. ليه أنا حبيته بجد.. كل حتة مني حبيته... ليه يوجعني كده!
تسربت دموع مريم، فلم تعد تستطيع التحمل، في حين انهارت قوة قطوف لتسقط أرضًا تبكي بصوتٍ عالي، ضمتها مريم لصدرها وهي تجلس جوارها على الأرض، فخبأت قطوف وجهها بأحضان صديقتها تتمتم بانهيارٍ:
_ روحي بتوجعني لما بفتكر كلامه.. كل نفس بيخرج ويرجع بيزيد وجعي معه.. أنا موجوعة أوي يا مريم اوي.
حاولت مريم تهدئت صديقتها تردف بصوتٍ متماسك:
_ أهدي يا حبيبتي.. هي فترة وهتعدي.
لم تجيب قطوف عليها، فليست كلمة هي من تطفئ نيرن أحرقت روحها، بل ظلت تبكي بداخل احضانها، تتشبث بها وكأنها والدتها، حتى مضى وقت غفت فيه مجددًا، نهضت مريم تسند قطوف على الفراش ثم غادرت الغرفة تنظر لمهران الذي يقف بالخارج، لتردف بألمٍ:
_ ممكن حضرتك تشلها.. نامت على الأرض.
حرك مهران رأسه ثم دلف دثرها جيدًا بالفراش، واغلق الباب، ليجد مريم أمامه تذرف الدموع دون توقف، سألها بحزنٍ جالي:
_ هل ارتاحت قليلًا؟!
حركت مريم رأسه بنفيٍ، تجيبه بصوتٍ مختنق من دموعها:
_ قطوف صعب عليها تنكسر وتعيط كده.. أنا أول مرة بحياتي اشوف صحبتي بتعيط قدامي وبالشكل دا.. فمعني كده انها محتاجة وقت لحد ما تستوعب فيه اللي عملوا فيها مازن.. وممكن تنهار تاني ولزمًا يبقى في حد يحتويها..
مسحت دموعها بمنديلٍ، ثم قالت بحزنٍ:
_ اللي زي شخصية قطوف وقت ما بينهار ويكون قدام الكل بيبقى رجوعه صعب وبياخد وقت.
سارت مريم مغادرة المكان مع عمها الذي أتى بها كي ترى صديقتها بحُجة الاشتياق لها وأنها لم تراها منذ وقت، في حين ذهب مهران إلى شقيقه محمد كي يجلس معه ليهون عليه حدة ما حدث أمامه.
*****
دلفت مريم إلى غرفتها ثم قامت بمحاولة الاتصال على مازن وما أن اجاب حتى قالت بصوتٍ منفعل:
_ أنت إزاي تعمل في قطوف كده.. أنت مش بني آدم عشان تجرحها بالشكل دا.. يا أخي دي حبيتك من قلبها تسببلها الانهيار بشكل يخلي اللي قلبه حجر يحس.. ليه!
صوت انفاسه المتسارعة جعلتها تصمت تنتظر الاجابة، أغمض مازن عينيه محاولًا استعادت ثباته ليردف بصوتٍ هادئ:
_ هي عاملة إيه!
اشتعلت عين مريم بغضبٍ، تردف بعصبيةٍ مفرطة:
_ ايه البرود دا.. اتصدق إنك خسارة قطوف تبقى مراتك حتى.. هي انضف من إنها تحب واحد زيك.. مش بيعمل حاجة غير أنه بيأذي اللي حوليه.
لم يجادلها بكلمة، الصمت يسوده، يستمع لصوت إنهاء المكالمة بينهما، وضع الهاتف جانبًا، ثم نظر بنقطةٍ من فرغ، أصبحت حياته كزهرةً سامة يملأها الشوك، من يحاول قطفها يُقتل.. وها هي قطوف حاولت الاقتراب، ولكنها وقعت ضحية أمام هذا السم الموجود حوله!
في حين بقيت مريم تشعر بالحزن على صديقتها تردف بقلبٍ يحمل الأنين:
_ يارب ساعدها وخرجها من الفترة دي على خير.
ما أن انهت كلماتها حتى وجدت جدها يطرق الباب، نهضت لتفتح الباب لتبتسم سريعًا احترامًا له، تردف بحبٍ :
_ اتفضل يا جدو.
ابتسم برضا لها، ثم دلف يجلس على الفراش يردف بنبرة ودودة:
_ عاملة ايه يا بنتي؟!
جلست جواره تردف بقليلٍ من الريبة:
_ الحمدلله يا جدو.
حرك رأسه بإيجابية، ثم قال بسعادةٍ:
- الحج مهران عايز يشرب الشاي معانا.. جاي هو وابنه عشان يطلبوا ايدك.
تلون وجه مريم بخجلٍ تنظر إلى الأسفل، ولكن تذكرت صديقتها فكيف سيأتون إلى هنا، في حين استرسل العزيزي حديثه متمتمًا:
_ شايف في قبول يا حبيبتي؟!
ابتسمت بخجلٍ تتمتم بنبرة يكسوها الحياء:
_ خلاص يا جدو بقى.
ضحك جدها ثم ضمها لصدره متمتمًا:
- ربنا يفرحك يا حبيبتي.
ابتسمت مريم داخل أحضان جدها، ولكن عقلها يكاد يجن كيف سيأتي وحدث ما حدث بمنزلهم!
*****
:_ كيف حالك يا شقيقي؟
قالها مهران جالسًا جوار شقيقه، في حين نظر محمد له بعينيه ولكن عينان يتملأهما الحزن، ربت مهران على كتفه يردف بنبرةٍ مشجعة:
_ لا تقلق يا شقيقي سوف أعمل بكل جهدي كي تستعيد فتياتك حياتهما من جديد..
ثم أضاف بتوجسٍ:
_ وسأجعل مازن يندم على ما فعله بابنتك.
تشنج جسد محمد بقوةٍ، يحاول الرفض ما يقوله، في حين فطن مهران أن مازن يخفي شيئًا يعلمه محمد وهو، ربت مهران على كتفه محاولًا تهدئت تشنجاته قائلًا:
_ لا تقلق لن أفعل شيء.. فهمت أن مازن قال الطلاق دون رغبة منه صحيح!
صوت همهمته الضعيفة ولكن بها لهفةً لحديثه، ابتسم مهران لفهمه أخيه، ثم قال برزانة:
_ لا أعلم ما حدث ولكن الآن استطيع علم أن هناك شيء حدث جعل مازن يفعل هذا.. لا تقلق سأفهم كل شيء وأحل الأمر.. فقط عليك أن تفكر بعلاجك كي تعود لصحتك وتساند بناتك من جديد.
أدمعت عين محمد وهو يتذكر علته، في حين مد مهران يده يزيل دمعة أخيه، يبتسم له بحبٍ قائلًا بدفء:
_ أتعلم كنت أبحث عنك من أعوام كثيرة، تمنيت لحظة لأراك بها، ارادت أن أشعر بدفء الأخوة كما أرى.. أوصني والدي أن أبحث عنك كثيرًا.. والحمدلله أنك لاتزال على قيد الحياة كي أتم وصية والدي.
اهتز رأس محمد ببعض الصعوبة، عينيه تنطقان فرحة، في حين أسترسل مهران حدثه بتشجيعٍ:
_ سأحضر لك طبيبًا كي يساعدك على العلاج بتوفيق الله أولًا.. ثم تعود من جديد محمد القوي.. ولا تقلق أبدًا من شيء.. أنا بجانبك يا أخي.
ازدادت سعادة محمد لتزداد اهتزاز جسده، قاطع تلك اللحظة صوت ياسين مرددًا بصوتٍ عالي:
_ بــــابــــــا!
انتفض مهران من مكانه، في حين فزع محمد أيضًا من صوته، نظر له مهران بحدةٍ مرددًا:
_ ألن تتوقف عما تفعله! ستعاقب بشدة.
عبست ملامح ياسين يردد أسفل ذهول محمد:
_ يابا عايز اقولك معلومة مهمة جدًا عني.. أنا عديت سن 21 سنة يعني مش قاصر عشان تهددني بالعقاب.
تهجمت ملامح مهران بشدة، في حين استرسل ياسين بفزعٍ:
_ اوعى تقول إني مش هتجوز.. لا اوعى احنا هنروح بكرة نقرأ فاتحة.. ما أنا هتجوز البومة دي.
نهض مهران من جوار شقيقه بعصبيةٍ، يردف بصوتٍ غاضب:
_ هل ابدلوا دمائك بالماء.. أين احساسك أيها العقيم!
:_ احساسي حطيته في الفريرز يا حاج.. وبكرة نروح ياما هخطفها واغتصبها واجبلكم العار.
قالها ياسين وهو يحتمي خلف كرسي، في حين استدار مهران كي يمسكه ولكن هرب ياسين خلف عمه محمد، نظر له مهران وكاد أن يزمجره ولكنه رأى شفتي محمد تظهر شبه ابتسامة عليه ليست بكاملة ولكنها تظهر، تعجب ياسين من ابتسامة والده، ثم تقدم بجزعة للأمام يرى ما الذي يركز عليه ليجد محمد يحاول الضحك ولكن لا يستطيع، ابتسم ياسين بسعادةٍ ثم قال:
_ طب عشان خاطر الراجل السكرة اللي قاعد دا تعالى نروح.. أبوس رجلك صابع صابع وافق.
حرك مهران رأسه بيأسٍ، يردف بصوتٍ مقتضب فقد هدأ ما أن رأى بسمة محمد:
_ لا ألا ترى ما نمر به.
عاد عبوس محمد مجددًا، يحاول تحرك جسده إلى مهران، في حين انتبه له ياسين ليردف بعدم فهم:
_ عايز إيه! عايز تاكل.. في ورك فرخة لسه سارقة اجيبه ليك.
ازداد عبوس محمد في حين حك ياسين رأسه يستطرد بحماقة:
_ طب عايز عصير.. معايا عصير فروالة ومانجا برضو سارقهم من الواد زين اجبهملك!
:_ هل سرقت المنزل بأكلمه!!
قالها مهران بذهولٍ، في حين ازداد عبوس محمد أكثر ينظر لمهران كي يفهمه، وبالفعل استجاب مهران له يردف بهدوءٍ:
_ هل تقصد أن نذهب إلى منزل الفتاة التي يريد الزواج بها بالغد!
عادت ملامحه تهدأ من جديد، في حين اتسعت بسمة ياسين، يردف بسعادة وهو يقبل جبين عمه ووجنتيه:
_ يا حبيبي يا عمي تعال خد بوسة.
اهتز جسد محمد قليلًا، في حين نظر له ياسين ليرى ملامحه ليجده هادئة، نظر ياسين إلى والده متمتمًا:
_ ها يا بابا موافق.. عمي اهو موافق وفرحان وكان فاضل تاكة ويقوم يرقص بالكرسي!
تنهد مهران بحنقٍ، ثم قال:
_ حسنًا سأتحدث لجدها في صباح الغد.
:_ روح ربنا يحفظك للغلابة.. لو بعرف ازغرط كنت رقعت زغروط في البيت بس مش مشكلة هتعلم وابقى ازغرط.
قالها ياسين بسعادةٍ بالغة، ثم غادر قبل أن يفقد أباه ما تبقى منه من صبر، في حين عادت تلك البسمة الصغير للغاية والتي لا يلاحظها أحد سوى متعلم لغة الجسد إلى محمد مجددًا.
******
مرت تلك الليلة بصعوبةٍ على الجميع، حتى حل مساء اليوم التالي تجلس قطوف بمفردها بالغرفة لا ترغب برؤية أحد، في حين بقت ورد مع ياسمين.. ويستعد كلًا من ياسين وزين ومهران للذهاب إلى منزل العزيزي كي يتقدم إلى مريم..
:_ إياك أن تفعل شيء هناك.. سوف أنهى زواجك بها في أي لحظة!
قالها مهران بتحذيرٍ، في حين حرك ياسين رأسه بإيجابية ثم همس بداخله:
_ بكرة اكتب كتابي عليه وابقوا قابلوني بقى هتذلوني إزاي.
وصل ثلاثتهم إلى المنزل هناك، وبدأ مهران بالحديث معه قائلًا بجدية:
_ نحن أتينا اليوم لطلب يد ابنتكم مريم إلى ابننا ياسين.
ابتسم العزيزي برضا، يردف بسعادة:
_ ده شرف لينا يا شيخ مهران أننا نناسب ناس كُبرة كده زيكم.
بادله مهران الابتسامة، ليردف بصوتٍ هادئ:
_ بارك الله فيك... ما هي طلباتكم؟!
اجابه العزيزي بهدوءٍ:
_ مسألة الفلوس مش هنهتم بيها هنعمل الأصول اللي بتتعمل.. بس وفي النهاية رأي العروسة اللي هيمشي.
حرك مهران رأسه بموافقةٍ، في حين انطلق عم مريم كي يحضرها وبالفعل احضرها فمشت باستحياء شديد، كاد ياسين أن يرفع بصره ولكن تذكر حديث زين فجاهد نفسه كي لا يراه، سأل العزيزي مريم قائلًا:
_ موافقة يا بنتي على ياسين ابن الشيخ مهران؟!
لم تستطع الإجابة، ولكن كان العزيزي يعلم اجابتها من قبل وفقد اخبرها ووجد لديها القبول بقولٍ منها، ضحك العزيزي يردف بسعادة:
_ العروسة موافقة اهوه.
نظر عم مريم نحو ياسين ليردف بتعجبٍ:
_ هو أنت ليه يا ياسين باصص في الأرض!
حمحم ياسين بحرجٍ يجيبه وهو لا يزال ينظر بالأسفل:
_ مفيش بس سمعت أن اللي بيحب حد بيحميه من نظراته.
نظر له العزيزي بترقب له، في حين صحح له زين حديثه قائلًا:
_ قصده يعني أي شاب بيختار البنت اللي هيكمل معاه بيحافظ عليها حتى من أقل حاجة وهي النظرة لحد ما تبقى حلاله.
حرك العزيزي رأسه بتفهم، في حين ردد عم مريم بدهشةٍ:
_ بس دي رؤية شرعية يعني من حقه يشوفها!
رفع ياسين بصره، ثم قال ببلاهة:
_ قول والله.. طب ينفع احَضـ..
قاطعه زين يردف وهو يرمق ياسين بنظرةٍ حادة:
_ أصبر يا ياسين اصبر يا حبيبي... قصده ينفع يعني يروح معاها عادي فرح واحد زميله.
نظر له العزيزي قليلًا، ثم قال بهدوءٍ:
_ لما تعملوا كتب الكتاب ابقى اعمل اللي أنت عايزه.
حرك ياسين رأسه ثم ألقى نظرة خاطفة على مريم ليجدها بأبهى صورها، تمنى لو انها تحِل له لأخذها بحضنٍ طويل، تمتم العزيزي بصوتٍ هادئ:
_ العروسة عايزة خطوبتها في القاهرة في البيت.. فنجهزوا كل حاجة بإذن الله كمان أسبوعين فإيه رأيكم تبقى بعد أسبوعين؟!
أجاب مهران سريعًا كي ينهض قبل أن يقوم ياسين بكارثة:
_ حسنًا.. كما تشاء العروس سنفعل.. فهي ستصبح زهرة جديدة تضاف لمنزلنا.
ابتسم العزيزي لحديث مهران، وبقى يتحدثان سويًا ثم غادروا إلى المنزل.
****
:_ آآآه يا بابا بتوجع!
صرخ بها ياسين يحاول الفرار من ابيه وهذا الحزام الجلدي، تمتم مهران بعصبيةٍ وهو يتقدم منه يحاول أن يصيبه:
_ لقد سئمت منك.. كنت أخبر نفسي أنه عيب ضربك كبيرًا هكذا ولكنك تستحق السحق وليس الضرب فقط.
ردد ياسين بعبوسٍ:
_ في إيه يا حاج.. كل دا عشان بسأل على حضن؟!
هدر مهران بصوتٍ عالي:
_ سأجــــــن منك.. هل أنت معاق ذهنيًا... تذهب لبيت الفتاة لتسأل جدها وعمها هل يمكنك أن تضم فتاتهم.. أين عقلك! اشك أنك أخذت عقل البقر ووضعته برأسك.
زحف ياسين أسفل الطاولة يردف بصوتٍ متذمر:
_ لاحظ يا حاج إنك بتغلط فيا وأنا لحد دلوقتي ساكت.
اتى زين في محاولة تهدئت والده، في حين زمجر مهران بعصبيةٍ مفرطة:
_ لا تصمت.. هيا أريدك أن تخرج من هذا الجحر وتُريني ما الذي ستفعله!
:_ ولما تخرج تضربني! عيب يا بابا الحركات دي كبرنا عليها.
قالها ياسين بدهاءٍ، في حين أمسك مهران رأسه بألمٍ يردف بصوتٍ مجهد:
_ زين.. تعامل مع هذا الشبه بني آدم وأنا سأذهب إلى مكتبي لا أريد رؤيته مجددًا.
غادر مهران من الردهة ودلف سريعًا إلى مكتبه، في حين أخرج ياسين رأسه مثل الفئران يردد:
_ مشي؟!
اجابه زين ساخرًا:
_ آه.. أخرج.. اخرج وأنت شبه الفيران كده.
خرج ياسين من أسفل الطاولة يردد بفخرٍ:
_ لا يالا دي استراتيجية اسمها الجري نص الجدعنة.. جربها أنت وهتلاقيها بتنفع.
اشاح زين بيده له ثم تركه وصعد إلى غرفته، في حين ابتسم ياسين بسعادة يردد وهو يصعد لغرفته:
_ وأخيرًا هتجوزك يا بومتي.
******
انهت هذا الاتصال واضعة الهاتف بجانبها، تبتسم بخبثٍ شديد وهي تفكر بخطةٍ جديدة كي تنتقم من ياسـين مهران العطار، لتردف بسعادةٍ تفوح منها رائحة الشر:
_ جه دورك يا ياسين.. عشان حياتك اللي كلها سعادة تبقى سودا زي قطوف بظبط!
يتبع!
•تابع الفصل التالي "رواية فطنة القلب" اضغط على اسم الرواية