رواية تراتيل الهوى الفصل الخامس والعشرون 25
البارت 25
انتفض جسد سروة بالكامل واتسعت عيناها من الصدمة كما جف حلقها بشدة محاولًا استيعاب ما يقوله، خفق قلبها بقوة وبدت عاجزة عن التصديق.
نظرت للضابط ثم أمامها وتزداد وتيرة سرعة تنفسها حتى بات صدرها يعلو ويهبط بشدة، وضعت يدها على قلبها لأنها شعرت بنفسها تختنق.
نهض الضابط من مكانه وهو منعقد الحاجبين بتعجب: حضرتك كويسة يا مدام؟
تسارعت أنفاس سروة بشكل غير طبيعي وقد شعرت بشيء يسد حلقها يمنعها من الرد، نادى الطبيب بصرامة على العسكري وطلب منه إحضار كوب ماء حين رأى حالتها.
جلس أمامها وهو يقول باهتمام: يا مدام أهدي لو سمحتِ.
سقطت الدموع من عيني سروة التي تحدق أمامها دون أن تنتبه لأي شيء حولها فقط تفكر في موت عصام الذي سيزيد من موقف تاج سوءًا.
همست بصوت مبحوح تتحكم بها الهستيريا: تاج! تاج كدة هيضيع وكله بسببي! تاج هيضيع بسببي!
لم يستطع الضابط سماع حديثها فانحنى للأمام وهو يقول بتساؤل: بتقولي إيه؟
رفعت بصرها له ولكنها لم تكن تراه من الأساس بل تابعت بنبرة حسرة ممزوجة بالندم: تاج هيضيع بسببي! كل ده بسببي! كل حاجة حصلت بسببي أنا!
ازدادت حيرة الضابط وقد انعقد حاجبيه باستغراب بسبب كلماتها، راوده بعض الشك فسألها بنبرة تغلب عليها الجدية الممزوجة بالحذر: ليه بسببك؟
توقفت سروة عن هذيانها واتسعت عيناها قليلا وهي تحدق للضابط وكأنها استوعبت وجوده أمامها، لم تدري هل تبُح بالحقيقة حتى تنقذ تاج أم أن هذا سيزيد الوضع سوءًا مما هو عليه ثم تذكرت وعد تاج الذي طالبها بها قبل أن تأتي الشرطة وكيف سيرتب الأمر بشكل لن يُعاقب عليه فإذا هى اعترفت الآن تكون قد قامت بهدم كل شيء.
رفعت بصرها للضابط ومسحت دموعها وهي تقول بتوتر حاولت إخفائه: قصدي.. أنه يعني هو قتله علشاني واتسجن، فلو مكنش قتله بسببي مكنش بقى ده موقفه دلوقتي.
تابعت بحزن: هو دلوقتي هيحصل إيه يا حضرة الضابط؟ جوزي هيحكموا عليه؟
تراجع الضابط وقد بدأ يفكر بشكل أعمق في القضية التي أمامه، وضع ساق في الأخرى وأراح يده على المكتب الذي بجانبه وهو يجيبها بهدوء: لا الموضوع مش بالشكل ده يا مدام سروة، مبدئيًا إحنا حققنا مع جوزك ودلوقتي ده دورك في الشهادة بعدين لازم نفرغ كاميرات المراقبة اللي لقيناها في العمارة عندكم وبعد كل التحقيقات دي لو ثبت صحة كلامكم أنه دي جريمة شرف وهو قتله دفاع عنك هياخد براءة أو حُكم مخفف مع إيقاف التنفيذ إنما لو مثبتش كدة بقى....
ترك بقية حديثه مُعلقًا عن قصد فسألته سروة والخوف يغزو قلبها: هيبقى إيه؟
تابع وهو يحدق إليها بتركيز يحاول أن يستشفي منها أي تعبير: التحقيقات هتطول وممكن يتحكم عليه زي أي جريمة قتل عادية ودي حكمها المؤبد أو الإعدام.
شحب وجه سروة حتى أصبح أبيض كالأشباح وارتعشت شفتيها فنهض الضابط مجددًا: حضرتك بخير؟ أطلب لك دكتور؟
هزت رأسها بالنفي وفي تلك اللحظة دخل العسكري مع كوب الماء فأصر الضابط على سروة أن تشرب منه قليلًا فشربت بعد إصرار تحاول تهدئة ضربات قلبها.
شعر الضابط بالشفقة حين رأى حالتها فحاول طمئنتها: متخافيش يا مدام مش حضرتك متأكدة من براءة جوزك؟ وأنها جريمة شرف مش مدبرة؟
اندفعت سروة تقول بيأس: والله برئ هو عمل كدة علشاني، عمل كدة لأنه كان بيحاول يعمل..ي....
ثم انقطع حديثها وأجهشت بالبكاء وهى تضع يدها على فمها، أشفق الضابط على حالتها فقد كان يظهر عليها الصدق ولكن مازال أمامه التحقيقات حتى يصدق فتنهد ثم بعد أن هدأت سروة وأدلت بإفادتها حسب ما أوصاها تاج فقالت أنها كانت تحضر الغداء وزوجها خارج المنزل حين تسلل عصام للمنزل وحاول التهجم عليها وفي أثناء ذلك عاد تاج وقد ثارت ثائرته حين رأى ذلك المشهد فأسرع وطعنه، لم يكن ذلك الكلام كذبًا كليا على الأقل الجزء الأول منه.
خرجت بعدها وهى تسير بتعب خارج الغرفة بعد أن أخبرها الضابط أنهم سيحتجزون تاج لحين فحص كاميرات المراقبة واكتمال التحقيقات.
أسرع إليها والدها وعمتها حين رأوها تخرج، قالت عمتها بقلق: ها الظابط قالك إيه؟ تاج هيخرج امتى؟
شعرت سروة أن قدميها لا تحملانها فرفعت يدها تريد أن تستند على أي شيء فأسندها والدها إليه.
رفعت عيون متعبة لعمتها وردت بصوت خافت: هيفضل لحد ما يكملوا تحقيقات ويشوفوا كاميرات المراقبة.
ردت عمتها بحزن ممتزج باللوعة: يعني تاج هيفضل هنا؟ في المكان ده؟
تحولت نظراتها للعتاب الممزوج بالقهر فأخفضت سروة عيناها للأرض، استدارت عمتها وغادرت دون كلمة فضمها والدها له يقول بحنان: متزعليش يا حبيبتي باذن الله كل حاجة هتكون بخير.
أومأت برأسها دون أن تكون لها القدرة على الرد وخرجا سويًا فكانت سميحة واقفة في الخارج تنتظرهما ولكنها ترفض النظر لسروة.
عادوا إلى المنزل جميعًا فدلفت سروة لغرفتها على الفور وأغلقت الباب ورائها، جالت ببصرها لغرفتها القديمة ثم رمت حقيبتها من على كتفها على الأرض وتقدمت نحو السرير وتمددت عليه.
كانت تحدق للحائط بشرود، قلبها يهتف حزنًا على تاج الذي ربما يُقضى على حياته كلها من أجلها، تاج ذلك الشاب الناجح، الواثق من نفسه، والمتعلم الذي له مستقبل باهر في مجال عمله ودراسته أو كان له فبسبب تلك الحادثة ربما يتم القضاء كليًا على أحلامه، لطالما كان تاج طوال حياتهما على قدر غموضه ولكن لا يخفى حبه للحياة على من حوله وتطلعاته للمستقبل وطموحه حتى أن سروة كانت معجبة بقوة شخصيته وتفكيره والآن أين هو بسببها هى؟
لم تدر متى غفت ولكنها كانت فجأة تركض في مكان غريب ومخيف مليئ بالضباب، كانت تائهة وخائفة حتى توقفت تلهث لتلتقط أنفاسها وهى تنتحي قليلا وتستند بيديها على ركبتيها
حين وقع ظل عليها رفعت بصرها لتجد عصام أمامها، كان يقف ويبتسم ابتسامة دبت الرعب في قلبها وملابسه مليئة بالدماء، جف حلقها وهى تتراجع للوراء وهو يتقدم نحوها، حاولت أن تُخرج أي صوت أو تستنجد بأحد دون فائدة حتى نجحت في القول بصوت مبحوح: ت...تاج!
ارتفع صوتها أكثر وهى تنادي بذعر عيناها تراقب تقدم عصام نحوها وابتسامته الشريرة تزداد اتساعًا كما أن عيناه متسعتان بشكل مُخيف.
كان قلبها يخفق بقوة فنادت تاج بصوت أعلى حتى سمعت صوتًا فاستدارت خلفها لتجد تاج يقف بعيدًا عنها.
نظرت لعصام قبل أن تلتفت وتركض ناحية تاج وهى تمد يدها ولكن كلما اقتربت لتاج زادت المسافة بينهما فزادت سرعتها وهى تناديه، كان ابتعاده يزيد عنها حتى اختفى فوقعت على الأرض تبكي بعد أن بح صوتها.
رأت الظل يُلقي بآثاره عليها مرة أخرى فأدارت رأسها بحذر، كان عصام يقف ورائها مباشرة وقد ابتسم حتى ظهرت جميع أسنانه ينظر لها بجنون، في لحظة رفع يده لأعلى ليظهر بها سكين فشهقت بسروة قبل أن يهبط بيده بسرعة لتصرخ سروة بأعلى صوتها.
استقامت فجأة وهى تصرخ لتجد أنها مازالت في غرفتها في بيت والدها وقد كانت تحلم، زفرت بشدة وهى تمسح على وجهها، فُتح الباب وولج والدها بسرعة للغرفة وهو يقول بقلق: مالك يا حبيبتي؟ سمعناكِ بتصرخي من برة.
جلس بجانبها على السرير، يلاحظ ارتجاف جسدها لف ذراعيه حولها يضمها لصدره.
كانت عمتها تقف على الباب تحدق بسروة بخليط من القلق والاستياء المخفي.
قالت بهدوء:هروح أعملها حاجة تشربها.
كانت مغمضة العينين في احضان والدها، هدأت بعض الشيء ولكنها مازالت تتذكر الكابوس المرعب بكل تفاصيله إلا أن أحضان والدها الدافئة كانت كالبلسم لقلبها، رفعت يدها تحتضن والدها بدورها وهى تقول باشتياق: وحشني حضنك أوي يا بابا.
ضمها والدها أكثر وهو يقبل رأسها بحنان ممزوج بالندم: ومش هتبعدي عنه أبدا يا حبيبتي طول ما ربنا كاتب لي عمر.
شددت من ذراعيها حوله بخوف: بعيد الشر عليك، ربنا يحفظك ليا يارب.
ولجت عمتها للغرفة تحمل كوبُا من العصير فتناولته سروة ثم عادت إلى أحضان والدها الذي قرأ عليها بعض آيات من القرآن حتى هدأت ونامت مرة أخرى فانسحبوا بهدوء من الغرفة.
في تلك الأثناء وبعد التحقيقات الرسمية وفحص كاميرات المراقبة رأى الضابط تاج يهبط من المنزل ثم بعدها بعشرة دقائق عصام يتسلل إلى المنزل عن طريق فتح الباب بشيء حجمه في مُنتهى الصِغر مكان المفتاح ، بعدها بمدة زمنية عاد تاج وقد ظهر أثناء فتحه للباب أنه توقف للحظة قبل أن يدخل بسرعة بطريقة توحي بشيء غير طبيعي في الداخل، بعدها وصول الشرطة.
أوقف الضابط تسجيل الفيديو وهو يفكر، فالتسجيل الذي أمامه يثبت صدق حديث تاج وسروة كما أنه بعد بحثه الدقيق في خلفية تاج قد وجد أنه ليس من نوعية الأشخاص الذين يرتكبون جريمة بهذا الشكل، فخلفية تاج الذي يأتي من عائلة محترمة للغاية ذات سمعة طيبة وتعليمه العالي الذي أكمله في الخارج وطبيعة شخصيته الراقية توحي بمدى صعوبة إرتكاب جريمة كهذه إلا إذا كان له دافع قوي لها، كما أن بعد التدقيق في خلفية عصام أيضًا اكتشف سهولة تصديق ادعاء كهذا في حقه، كان ملف عصام لدى الشرطة يوضح أنه مجرم مُسجل لديه العديد من السوابق والاتهامات كالسرقة ومحاولات الاعتداء وغيرها الكثير، وهو ما يثبت صحة الكلام عن ماحدث ذلك اليوم وباكتمال رؤيته للموقف تنهد الضابط وهو يجمع كل الأدلة التي بين يديه.
في اليوم التالي استيقظت سروة تشعر بجميع جسدها يؤلمها ولكنها تحاملت على نفسها وهي تنهض لأجل أن تذهب لتاج، ارتدت ملابسها وخرجت ووجدت عمتها ووالدها يجلسون معًا.
قال والدها بدهشة: لابسة على فين كدة يا بنتي من الصبح؟
ردت سروة بهدوء: رايحة القسم لتاج يا بابا.
لم تتكلم عمتها بينما قال والدها باستغراب: بدري كدة؟ طب اقعدي وهنقوم كلنا نروح مع بعض كمان شوية.
هزت رأسها بالنفي وهي تقول بإصرار: لا معلش أنا هروح وأنتوا تعالوا براحتكم.
قبل أن تتحرك رن هاتفها برقم غريب فحدقت إليه بعبوس ثم ردت ببرود: أيوا مين معايا؟
تغيرت قسمات وجهها وقالت باهتمام ممزوج باللهفة: أيوا أنا سروة في إيه؟
نهض والدها وعمتها يراقبونها باهتمام وفضول.
أضاءت عيون سروة وظهرت الدهشة الممزوجة بالفرح على وجهها وهي تتابع بلهفة: حضرتك بتتكلم بجد؟ يعني ده هيحصل؟ هيخرج النهاردة!
نظروا لها بذهول ثم حدقا ببعضهما بفرح حتى أغلقت سروة الهاتف وهى تضحك بعدم تصديق.
قالت عمتها بلهفة: مين اللي كلمك يا سروة؟ الكلام عن تاج؟
أومأت سروة برأسها تحدق إلى عمتها وقد دمعت عيناها تأثرًا: أيوا هيخرج النهاردة براءة لأنها جريمة شرف والأدلة أثبتت كدة علشان كدة مش هيتحاكم فيها.
تنهد الجميع براحة وسعادة وقد سارعت سروة لاحتضان والدها بفرح ثم حين ابتعدت عنه والتفتت لعمتها وقفت فجأة وتقلصت حجم ابتسامتها.
ابتسمت عمتها بجفاء: أنا هدخل ألبس علشان نروح نجيبه.
ثم دخلت لغرفتها فربت والد سروة على كتفها يواسيها فابتسمت له وهى تربت على يده.
وصلوا لقسم الشرطة وانتظروا في الخارج إنتهاء الإجراءات لحين خروج تاج، حين أخيرا ظهر تاج يخرج من قسم الشرطة اتسعت ابتسامة سروة ولمعت عيونها وهي تشاهده يتقدم نحوه، رغم التعب والارهاق الظاهر عليه إلا أنه كان مبتسم وهو يتقدم نحوهم.
كان أول من تقدم لتاج هى سميحة وقد عانقته بقوة وهي تبكي، ضمها تاج وهدأها حتى هدأت وابتعدت تضع يديها على وجهه تنظر فيه وتتفحصه بشوق وحنان أمومي، ثم سلم تاج على خاله بحرارة ويتحدثان بود يؤجل والد سروة الحديث المهم حين يصبحان في المنزل، ثم التفت تاج لسروة التي مازالت تنظر له وتبتسم فقط.
شيء غريب أو خفقة قلب بشكل جديد، هذا ما كانت تشعر به داخلها، تتسابق دقات قلبها في الإعلان عن فرحتها، رؤيته أمامها سالمًا ملأتها سعادة، كان تاج ينظر لها بابتسامة مستغربة لأنها مازالت تقف ولم تتقدم لتسُلم عليه حين تحركت نحوه سروة بلاوعي مدفوعة بشيء داخلها يحثها ويحركها ، وقفت أمامه، رفعت قدميها من على الأرض ثم لفت ذارعيها حول رقبته ودفنت رأسها في عنقه وهي تغمض عينيها بقوة يسيطر على كامل حواسها إحساس غير مألوف ينتابها لأول مرة.
•تابع الفصل التالي "رواية تراتيل الهوى" اضغط على اسم الرواية