رواية مملكة سفيد الفصل الرابع و العشرون 24 - بقلم رحمة نبيل
ءصدمة لحظية مرت على عيون إيفان، صدمة يدرك سالار جيدًا أنه لا يعني منها سوى سخرية فقط، فهو يدرك يقينًا أن إيفان يعلم حقيقة كهرمان، يعلم أنها هي نفسها أميرة مشكى، فمن أمامه الآن ليس غرًا، رجل تربى على يد رجال سفيد الكبار، كانوا يسحبونه معهم في كل اجتماع ونقاش، يدرس ردات الفعل وطريقة التحاور مع الغير، يعلم دواخلك دون الحاجة للحديث بكلمة واحدة، فما بالك بأنه تحدث مع كهرمان مئات المرات ودرس تصرفاتها .
” يااه هل هي أميرة ؟! أي مملكة يا ترى ؟!”
ابتسم سالار له بسمة ساخرة :
” أي مملكة تعتقد أنت إيفان ؟!”
” لا أعلم حقًا سالار، فكيف لي أن أدرك أن عاملة في قصري هي في الأساس أميرة ؟! فتاة تتصرف بكل رقي ترفض استعمال مراحيض العامة، تتحدث بلباقة وثقافة وألفاظ هادئة محسوبة، تجيد امتطاء الخيل، كيف لي بالله عليك أن أدرك أنها أميرة ؟!”
صمت ثم أضاف أسفل نظرات سالار الساخر :
” حتى إن علمت أنها أميرة، كيف أدرك أنها أميرة مشكى الهاربة ؟! ربما كانت ابنة آزار التي لم تبلغ بعد الخامسة عشر، أو ربما هي ابنة الملك بارق التي تزوجت وانجبت له احفاد مراهقين ؟؟ كيف لي أن أدرك أنها أميرة مشكى وشقيقة أرسلان ؟؟ وأنت لم تخبرني بشيء كهذا يا …صديقي ”
ختم حديثه بنبرة استشعر بها سالار غضب ولوم خفي، إيفان يلومه الآن أنه لم يخبره حقيقة، ربما اكتشفها هو قبله من الأساس .
لكن سالار لم يسايره في الغضب واللوم إذ قال ببسمة ممازحة :
” ربما أردت اختبار ذكائك إيفان”
” وهل نجحت يا ترى ؟؟”
” بامتياز يا مولاي ”
نفخ إيفان بغيظ شديد ينهض عن مقعده يتخلل خصلاته بأصابعه وهو يقول بصوت قوي حانق غاضب بعض الشيء :
” هذه الفتاة هي حتمًا اغبى من أن تكون شقيقة أرسلان، بالله كيف تحيا أسفل قصري دون أن تطلب مساعدتي ؟؟ أن تطلب مني معاملة تليق بأميرة مثلها، تعيش كعاملة وتتذمر على حياتها كعاملة ”
ابتسم له سالار بحنق يستند بمرفقيه على الطاولة أمامه وصوته خرج هادئًا :
” ربما لأنها كما قلت شقيقة أرسلان ؟! تمتلك نفس العناد ونفس الإباء ونفس الكبرياء، وهي ليست بالمغفلة لتهمل عداوتك الأخيرة مع شقيقها والتي كادت تنتهي بحرب ”
استدار له إيفان بسرعة مخيفة يضرب الطاولة بكفيه :
” ما كنت يومًا لاعلن حربًا على أرسلان ولو عني ذلك دماري سالار، منذ متى أقف في معركة مقابل شقيق وصديق لي بالله عليك؟؟ ”
” وهي لا تدرك عمق مشاعرك تلك إيفان، هي ربما لا تعلم مقدار قربك من أرسلان فهي كانت صغيرة ذلك الوقت كما أتذكر ”
صمت ثم نهض يقف في وجه إيفان للمرة الأولى ربما، يقول بسخرية لاذعة :
” لا تدرك أن شقيقها يمتلك غباءً وحمقًا ينافس غبائك وحمقك، كلاكما مجرد احمقين غبيين، ولولا أن قتل نفسٍ سيلقي بي في قعر الجحيم لقتلتكما بيديّ هاتين أيها الغبيين الحقيرين و…”
توقف سالار عن السب يستغفر ربه بحنق :
” انظر إلى ما اضطررتني لفعله، لقد جعلتني اسبك وأسب رجل ميت، يالله أنتما تخرجانني عن طور هدوئي ”
كان إيفان يحدق في وجه سالار بصدمة كبيرة لما نطق به، فسالار لم يكن ذلك الشخص صاحب اللسان اللاذع، لم يكن من محبي إطلاق السبات وغيرها من الكلمات المسيئة، والآن تفنن في سبه هو وارسلان رحمة الله عليه، رغم أنه لم يقل سوى سبتين فقط وظل يعيدهما طوال حديثه، إلا أنه اعترض وبقوة :
” سالار ألزم حدودك أنت تتحدث مع ملكك و…”
فجأة انفجر سالار في وجهه بشكل جعل إيفان يتراجع للخلف ليس خوفًا، بل صدمة من حديثه وبعد كل تلك السنوات من الصمت :
” أي حدود تلك وأي ملك هذا ؟! دمرتما صداقة استمرت لسنوات لأجل تعنت وكبرياء أجوف منكما، بالله ما رأيت من هم بمثل غبائكما، يا رجل كانت الفتنة تتراقص بينكما تزغرد وتصفق فرحًا وانتما كالضريرين لا تبصرون، حاولت مئات المرات للإصلاح بينكما، وأنت ماذا فعلت ؟! رفضت، وهو ماذا فعل ؟! تكبر عن الاعتذار مرة ثانية بعدما رفضته ”
تنفس بصوت مرتفع وإيفان يراقبه بحزن شديد يقول بصوت منخفض مقهور :
” هل …هل تعتقد أنه غفر لي قبل رحيله؟؟ سامحني ؟؟”
تنفس سالار بقوة وهو يرى الحزن قد استقر على ملامح الملك ليقترب منه يضمه له بحنان اخوي يقول بصوت منخفض :
” لقد سامحك أرسلان من أول يوم، بل وحاول الاعتذار لك مرتين فقط ومن بعدها عاد لقصره يصرخ ويحطمه وهو يتوعد ويقسم أنه لن يفكر في حقير مثلك، لكنه كان يسألني عنك طوال الوقت، كما كنت تفعل أنت بشكل متواري ”
هز إيفان رأسه يهمس بصوت متحشرج يرفض البكاء ورثاء رفيقه حتى أمام سالار، يرفض أن يظهر ضعفه تجاه شخصٍ كان بمثابة شقيق لأحد، حتى لو كان ذلك الأحد هو سالار .
” رحمة الله عليه، سأحيي ذكراه بعودة بلاده، وسأعمل على تقليد شقيقته حكمها ”
صمت يبتعد ببطء عن سالار الذي ربت على كتفه ببسمة صغير، وهو اكمل بجدية :
” لا أدري إن كانت كهرمان تصلح لحكم مشكى، لكنها الوحيدة المتبقية لحكم البلاد ”
هز سالار كتفه يقول ببساطة شديدة :
” ربما في المستقبل حين تتزوج يساعدها زوجها في …”
توقف بصدمة بسبب انتفاضة جسد إيفان بشكل مرعب وهو يحدق في وجه سالار بطريقة أثارت ريبة الاخير، بينما إيفان شعر فجأة بأن ما انتفض لم يكن جسده، بل قلبه الذي شعر وكأن شحنة كهربائية أمسكت به، ابتلع ريقه يردد بصوت خافت :
” تتزوج ؟؟”
” نعم، هي لن تظل طوال حياتها عزباء مولاي، فقط لندعو الله أن يكون الشخص الذي تختاره حكيمًا بالقدر الكافي، لا جشعًا يطمع بالعرش، الأمر صعب، لكن ليقدم الله الخير ”
كان إيفان شاردًا بشكل غريب يهمس دون وعي لسالار الذي استأذن منه لينتهي من بعض الأمور وخرج ليظل هو وحده في قاعة العرش :
” نعم، ليقدم الله الخير ”
وقلبه في تلك اللحظة كان كمن نهض من سبات عميق حاملًا معه مشاعر وحقائق مرعبة دفنها هو في اعماق اعماق عقله يتذكر عيونها مبتسمًا دون وعي :
” منذ اليوم الأول أدركت أنني اعلم عيونها، أخبرتها أنني أعرف هذه الأعين…تحمل نفس عيون أرسلان، نفس النظرات ”
تنهد يجلس على المقعد بتعب شديد يعود برأسه للخلف :
” أميرة مشكى …العاملة كهرمان …الملثمة الغبية، ترى بكم دور تستطيع تلك المرأة الظهور ؟؟”
_____________________
” مولاتي …”
كلمة ليست بالغربية من فم سالار، لطالما ألقاها في وجهها وكأنها سبة، كان يستخدمها في السخرية والغضب والحنق والسخط، لكن في هذه اللحظة داخل أحلامها وحين نطقها كانت تقطر احترامًا، وتقديرًا و….حبًا ؟؟
انتفض جسد تبارك برعب عن الفراش تشعر أن الغرفة تدور بها، جسدها بأكمله قد امتلئ عرقًا وكأنها كانت في مارثون، تتنفس بصوت مرتفع، تضع يدها أعلى صدرها .
” سالار …سالار …سالار ”
تهذي باسمه وكأنها لا تعي ما يحدث حولها :
” طلع سالار، هو …هو اللي …لا لا لا اكيد .. اكيد عشان بفكر فيه كتير و…”
وهذه الحقيقة لم تساهم في تحسين موقفها، لتهتف وهي تنظر أمامها بأعين متسعة :
” ليه ؟؟ ليه بفكر فيه ؟؟ ليه أساسا بفكر فيه ”
انتفضت عن الفراش بسرعة تتحرك صوب النافذة الخاصة بها تفتحها بقوة تسمح للهواء بالدخول وتبريد حمى جسدها الذي كان يتصبب عرقًا، الحلم كان كما لو أنه واقع، فارس أحلامها الذي لم تضح نبرته يومًا ولا حتى ملامحه، كان اليوم في احلامها كما لو أنه واقعٌ، الأمر مفزع .
في البداية تلك النبرة الاجشة التي لازمتها في أحلامها لم تكن واضحة لتعلم صاحبها، لكن …تلك المرة أثناء رحلتها للقصر وحين مال عليها سالار في الغابة يهددها بالدفن بصوت هامس، تلك المرة، ذلك اليوم تتذكر أن قلبها توقف لثواني، وكأنها تعلم ذلك الصوت وتلك النبرة .
ضحكت دون وعي وبنظرة جنونية تمسح وجهها :
” كان بيهددني، قلبي بيدق وهو بيهددني، أنا اكيد مريضة نفسية ”
وما لم تعلمه تبارك أن دقات قلبها ذلك الوقت لأنه تعرف على تلك النبرة التي تشبه نبرة فارس احلامها، ومنذ تلك اللحظة وكلما تحدث لها سالار بنبرة خافتة هامسة هادئة، سقطت في منطقة بين الوعي واللاوعي ..
الآن جاء ذلك حلمها ليقطع الشك باليقين ويخبرها صراحة أن…سالار هو فارس أحلامها .
حقيقة كانت كافية لجعل تبارك تتحرك حاملة حجابها تركض خارج جدران غرفتها وكأنها تهرب من تلك الأفكار التي أصبحت تحاصرها، وكأن أفكارها خرجت من رأسها لتحاصرها هنا، لذا هي ستهرب منها لـ ….
أحضان سالار .
كانت تركض بسرعة خارج الغرفة وهي تنظر خلفها برعب شديد وكأن أفكارها تركض خلفها، لكن فجأة اصطدمت في جدار تراجع للخلف بسرعة رافعًا يده في الهواء هاتفًا بصدمة :
” يا الله يا مغيث، ما بكِ انظري امامك ”
كنتِ تهربين من التفكير بسالار ؟! الآن جاءك سالار بشحمه ولحمه ..
انتفضت بشكل مخيف للخلف جعله هو الآخر ينتفض بدوره وهو ينظر حوله :
” ماذا حدث ؟؟”
هي فقط ترمقه بأعين متسعة مفزوعة كأنها رأت شبحًا، نظر خلفه بسرعة، ثم عاد لها بنظراته يقول بريبة :
” أنتِ توقفي عن هذه النظرات، ما الذي يحدث معكِ”
تراجعت تبارك بسرعة تتأكد من حجابها، ثم أخذت تنفض ثيابها وكأنها تبعد عنها لمسته التي لم تستمر لثواني، وهو حدق بها بعدم فهم، يرفع حاجبه من أفعالها المريبة تلك :
” إلى أين ؟؟”
رفعت عيونها له تقول بصوت مهتز وكأن تلك الحقيقة تلعب على أوتار ثباتها بمهارة شديدة :
” أنا …كنت ..هخرج ”
اقترب منها سالار يقول بعيون ضيقة وكأنه يخضعها لتحقيق :
” إلى أين ؟! ولماذا ؟؟”
” عشان ..عشان كنت مخنوقة و..”
فجأة توقفت ترفع عيونها له بعناد ترفض أن يتحكم في واقعها كما يفعل بكل تبجح في أحلامها، يا الله كان يعانقها بحب في أحلامها، انتفضت من تلك الفكرة وقد أدركت في هذه اللحظة أن هذا شيطان فقط يدفعها بعيدًا عن طريق الصلاح، هذه مجرد احلام سيئة فقط تراودها عن نفسها وتوبتها .
” وما شأنك أنت بي ؟؟”
لم يفهم سالار اندفاعها ذلك يقول :
” أليس من المفترض أنك ترتاحين في هذه اللحظة لأجل ما كابدتيه اليوم ؟؟ لا اعتقد أن خروجك في هذا الوقت بهذه الهيئة المزرية شيء جيد ”
نظرت له بعدم فهم تهتف خلفه :
” هيئة مزرية ؟؟ ماذا تقصد أنت ؟!”
أشار لها سالار بتردد وخجل بعض الشيء يود لو يرحل، لكنه يأبى تركها تسير بين ممرات القصر الهيئة المرفوضة له .
” عيونك المنتفخة كما لو أنكِ تلقيتِ ضربات متتالية بهم، وجهك الذابل وكأنك امرأة في الخمسين من عمرها، و…دون غطاء وجه كذلك ”
شهقت تبارك من كلماته تتحسس وجهها بصدمة وقد أصابتها حقيقة أحلامها بمشاعر غريبة جعلتها تتناسى حتى غسل وجهها، وبالطبع حين تكون في حالة لا تسمح لها برؤية بشري لن تجد أمامها سواه هو….الرجل الوحيد الذي شهد معها اسوء اسوء حالتها.
” أنا…أنا كنت هروح …كنت هروح اجيب العلاج بتاعي من المستشفى عشان نسيته هناك ”
وبهذه الكلمات جذبت انتباه سالار الذي اعتاد يقول باهتمام جلي :
” ادويتك ؟؟ أنتِ لم تأخذي ادويتك حتى الآن ؟!”
هزت رأسها دون شعور بنبرته :
” لا اخدتها مرة بس مهيار قالي اروح ليه بعدين أخد الباقي وانشغلنا في الحرب بقى أنت عارف مشاغل الحرب و….”
” هل أنتِ بلهاء ؟!”
رفعت عيونها بصدمة له وهو قال بحنق شديد يتحدث من بين أسنانه:
” ما الذي تنتظرينه للاهتمام بصحتك ؟! أن تغادرك روحك ؟؟”
شعرت تبارك بالغضب يملئ صدرها لتصرخ في وجهه بغيظ شديد :
” وأنت مالك ؟؟”
رفع إصبعه محذرًا إياها:
” التزمي حدودك يا امرأة، أنتِ هنا لستِ سوى الملكة ”
نظرت له بعدم فهم تتساءل :
” وهو ده مش سبب كافي عشان تحترمني ؟؟ المفروض اكون ايه عشان تكلمني زي البشر ؟؟ فيه ايه أعلى من الملكة عندكم ؟؟”
” فقط توقفي عن أفعالك الغير مسؤولة والغبية تلك وربما حينها احترمك ”
نظرت له بسخرية :
” ربما ؟؟ يعني مش اكيد ؟! طب أتوقف ليه بقى طالما النتيجة مش حتمية ؟! بقولك ايه مش هموت لو عاملتني معاملة زبالة، ما أنا من يوم ما لمحت وشك في استقبال المستشفى وانت بتعاملني معاملة المرمطون”
هزت رأسها تقول مقتنعة بما توصلت له :
” انا عرفت ليه دلوقتي قالوا خيرًا تعمل شرًا تلقى، اكيد لو مكانتش ساعدت صاحبتي ووقفت مكانها يومها مكنتش لمحت وشك ”
ابتسم لها بسمة جانبية جامدة بعض الشيء يقول بجدية :
” حتى وإن دفنتي جسدك أسفل الأرض السابعة فكنت سأجدك، ثم من أخبرك أن رؤيتي لكِ تلك المرة كانت الأولى ؟؟ أنا رأيتك قبلها ”
اتسعت أعين تبارك بقوة لتهمس دون وعي بصدمة :
” في الحلم ؟؟”
ضيق حاجبيه يقول بعدم فهم :
” الحلم ؟؟”
تراجعت تبارك للخلف تدرك مقدار غبائها في هذه اللحظة، لا يعقل أنه يحلم بها، لا هي فقط من قدر لها سوء الحظ لتراه طوال الوقت في أحلامها .
ابتلعت ريقها تقول :
” فين ؟! شوفتني فين قبل الوقت ده ؟؟ ”
نظر لها ثواني قبل أن يبتسم بسمة لم تطمئنها يهمس لها بصوت أعاد لها ذكريات أحلامها ليرتجف جسدها دون شعور :
” حين كنتِ تبكين كالأطفال على درجات المشفى ”
نظرت له تبارك بعدم فهم قبل أن تشهق تستوعب الآن ما يقصد، ابتلعت ريقها وهي تنظر له بصدمة :
” شوفتني وقتها وانا بعيط ؟!”
” نعم كعادتك باكية ”
” أنت لو كنت جيت بدري نص ساعة كنت شوفتي وانا في اوضة العمليات وبعمل عملية مع الدكاترة وببدع، لكن لا أبدًا هيحصل حاجة لو عديت يومك من غير ما تشوفني في موقف زي الزفت ”
نظر لها بعدم فهم، وهي لم تهتم أن تشرح له، ورحلت من أمامه بهدوء تتحدث مع نفسها كالمجنونة يراقبها بعدم فهم، وهي خرجت من الممر بأكمله تحت عيونه .
كاد يتبعها بسرعة كي يرى ما تحتاجه، لكنه توقف يمنع نفسه من التمادي في التعامل معها خارج حدود مهنته يرحل بعيدًا صوب حجرته بغضب شديد من كل ما يحدث معه :
” تلك الباكية تستغل شعوري بالمسؤولية لاركض خلفها واساعدها، لكن لا لقد انتهيت هنا، لتحترق و…”
توقف في سيره ليصرخ ضاربًا الجدار بغضب شديد مستديرًا في سيره يتحرك بسرعة خلفها وهو يهمس بصوت مرتفع وقد قرر أن يعيدها لحجرتها ويرسل من يحضر لها العلاج ويوصله لها، هذا فقط ما سيفعله :
” لا أحب هذا، لا أحب هذا ..”
سار خلفها يبحث بعيونه عنها حتى أبصرها تقترب من المشفى ليحث الخطى صوبها، وهي التي كانت تسير بشرود قبل أن تنتفض صارخة حين سمعت صوته جوارها :
” عودي لحجرتك وأنا سأحضر لكِ الأدوية ”
كانت تنظر له بأعين متسعة قبل أن تنظر أمامها بصدمة وقد شعرت في هذه اللحظة أنه يقرأ أفكارها، فهي بمجرد أن استدعته في عقلها قفز أمامها.
ابتلعت ريقها تنظر له وهو يتعجب نظراتها :
” ماذا ؟؟”
فجأة صُدم حين وجدها تهرول بعيدًا عنه بخطوات سريعة وهو لا يفقه ما يحدث يتابعها بأعين مذهولة ..
قبل أن يزيد هو الآخر من ركضه خلفها يقول بغضب :
” أنتِ أيتها المجنونة توقفي هنا، يالله ألن تنتهي هذه الليلة أبدًا ؟؟؟؟؟”
____________________
لم تنم ليلتها، فقط كذبت على كهرمان تخبرها أنها بخير، وأنها ستتخطى الأمر، فوجع حب لا أمل فيه هو أهون الاوجاع التي واجهتها في حياتها، ابتلعت ريقها تنظر حولها صوب الجميع وقد غطوا في نومٍ عميق لتنهض عن سجادة الصلاة الخاصة بها والتي لم تبرحها منذ فرغت من صلاة الفجر وأخبرت الفتيات أنها فقط ستجلس لتقرأ بعض الآيات، فهي منذ ايام طويلة لم تحمل مصحفها، ربما لهذا تشعر بالضيق .
ضمت زمرد مصحفها لصدرها، تتذكر كلمات والدتها التي ترن في أذنها كلما راودتها نفسها عن شيء :
” تتلاشى أحزاننا حين ندرك أن الله اعلم ومطلع، تطمئن القلوب بذكره وتذكر أن الله جل وعلا لا يكلف نفسًا إلا وسعها، فإن ألقت لكِ الحياة بأحمال ثقال، تأكدي أن ذلك ما حدث إلا لانك بالقوى المناسبة لمجابهة ذلك الحمل ”
مسحت زمرد دموعها تهتف بكلمات خافتة :
” لكن يا أمي هذا الحمل أثقل من أن اتحمله، أثقل بكثير، كنت بخير طالما لم يكن قلبي المعنيّ بالوجع ”
تنهدت تنهض واضعة المصحف على الفراش تنظر للشروق من نافذتها تحاول استنشاق هواء بارد علّه يساعدها في إزاحة بعض تعبها .
قررت الخروج وحملت سيف والدتها، ستخرج تحارب الهواء واشباح الماضي علّ ذلك يريحها بعض الشيء .
وبالفعل نفذت زمرد ما فكرت به، وتسحبت للخارج ببطء شديد كي لا يشعر بها أحدهم، تسير على أطراف أصابعها تخفي سيفها داخل ثيابها، وتضع لثامها الخاص، وحين وصل لأحد الممرات سارت بظهرها تراقب الطريق، لكن فجأة اصطدمت بجسدٍ جعلها تستدير بسرعة، لتجد أن ذلك الجسد كان يتسحب كذلك وكأنه على وشك الهرب .
همست بصوت منخفض :
” الملكة ؟؟”
ابتسمت تبارك براحة شديد تزيح اللثام عن وجهها تهمس :
” مرحبًا …كهرمان ؟! ”
” بل زمرد ”
” نعم، مرحبًا زمرد، كيف حالك، تبدين مشرقة هذا الصباح”
رفعت زمرد حاجبها تتشنج ساخرة من خلف اللثام :
” كان يمكنني تصديقك لو أنكِ نطقتي هذه الجملة في أي صباح عدا هذا الصباح، والآن أخبريني لِمَ كنتِ تتسحبين، وممن تهربين ؟؟”
” احلامي ”
” احلامك ؟؟”
” أعني أنا أرى بعض الكوابيس، لذا نهضت كي اشتم بعض الهواء، وأنتِ ؟؟”
نظرت لها زمرد بشك، لكنها لم تهتم كثيرًا تقول وهي تحرك كتفها بلا اهتمام :
” كنت خارجة لـ ”
فجأة توقفت وكأن فكرة ما طرأت لعقلها، وابتسمت بسمة خبيثة وهي تضيق عيونها بشكل جعل تبارك تتراجع للخلف مرتابة :
” ماذا ؟! لِمَ تنظرين لي بهذا الشكل ؟!”
اقتربت منها زمرد خطوات معدودة لتتراجع تبارك ذات الخطوات ترفع اصبعها مهددة إياها بجملتها التي تثير رعب الجميع في القصر عدا الجميع في القصر :
” توقفي، لا تجرأي على فعل شيء معي، أنا الملكة ”
ابتسمت لها زمرد بسخرية تقول :
” إذن مولاتي العزيزة، ألم تطلبي مني سابقًا أن ادربك على القتال ؟؟”
نظرت لها تبارك بشك لتمنحها زمرد بسمة حمل وديع يخفي خلف جلده ذئب ماكر، تضع يدها أعلى كتف تبارك بلطف تربت عليه بشكل جعل أعين تبارك تتحرك صوب كتفها وزمرد سعيدة لوجود منافس يساعدها على إخراج غضبها، حتى وإن أصابت ذلك المنافس بضربات قاتلة قليلة أثناء رحلة تفريغ غضبها :
” هيا مولاتي سأعلمك كيف تنجين في حربٍ غير عادلة مع بعض الاوغاد ”
” اوغاد ؟؟”
هزت لها رأسها تقول :
” نعم، مثلي ”
وختمت حديثها أن جذبت يد تبارك بسرعة خارج المكان وتبارك تهرول دون شعور خلفها تبتلع ريقها وهي تهمس بصوت مرتاب خائف، فتلك الفتاة غير مضمونة البتة :
” تبدو فكرة التدرب على يد سالار الآن مريحة أكثر…”
________________________
في وقتٍ لاحق من الصباح، حين استيقظ الجميع متوجهين لأعمالهم، كانت هي كذلك قد استيقظت، لكن ليس لتأدية عملها، بل للبحث عن ركنٍ هادئ لحين تنتهي الأعمال .
رمت برلنت بنظرة أخيرة وهي تنزل غطاء وجهها هامسة بحنق :
” نعم نائمة براحة بعدما حصلتي على امتيازات في القصر لكونك زوجة صانع الأسلحة ”
تقلبت برلنت في نومتها تهمس بصوت ناعس حانق :
” وأنا من بتُ ليلتلي أتساءل عن سبب هروب النوم من عيني وقلقي الدائم ؟! الآن أدركت أنها عين ضيقة قد وضعت في حياتي، يا الله عليّ قراءة المعوذتين ”
زفرت كهرمان بغضب وهي تحمل الوسادة تلقي بها على وجه برلنت تقول بغيظ شديد :
” عين من أيتها الـ … آهٍ من هذا الزمان الذي جعل برلنت الصغيرة تطيل لسانها على أميرة مشكى المدللة ”
أطلقت برلنت ضحكة عالية تفتح عيونها بنعاس شديد :
” أميرة مشكى ها ؟؟ زمن وولّى يا صغيرة، الآن اصبحتي خادمة في قصر سفيد، وبما أنني الآن وفي هذه اللحظة من أعيان سفيد؛ إذن أنتِ خادمة لي كذلك ”
كانت كلماتها مستفزة وبشدة لكهرمان التي نست كل شيء تلقي جسدها تنقض على برلنت بقوة تصرخ بجنون :
” أيتها الغبية حين أعود لمشكى سأقيم حروب على سفيد مطالبة بكِ أسيرة لدي”
ختمت حديثها بضربة على كتف برلنت التي صرخت بغيظ تبعد خصلاتها عن عيونها تهمس بغيظ شديد :
” يالله سأدعو لكِ في كل صلاة أن يوفقك الله في العودة لبلادك فقط للتخلص منكِ ”
ابتسمت كهرمان بتكبر :
” بل ستبكين رحيلي بيرلي الصغيرة، انتظري وستري، إن لم تتعلقي بذيل فستاني كالصغيرة بوالدتها تطالبين بقائي، فلا استحق لقب أميرة ”
نظرت لها برلنت بتشنج تهتف بأعين شبه مغلقة :
” أي أميرة تلك أيتها الخادمة ؟!”
وفورًا تلقت ضربة في وجهها بإحدى الوسائد قبل أن تخرج كهرمان من المكان بأكمله تتنفس بعنف وغضب شديد، بينما تتبعها سبات برلنت الغاضبة وهي فقط تهتف :
” كل هذا لأنكِ زوجة صانع الأسلحة، يا الله لو أنكِ تزوجتي ملكًا لدهستي عامة الشعب و…”
فجأة توقفت بسرعة عن الحديث حين مرّ بها تميم متحركًا صوب غرفتهم حيث ترقد برلنت مشعثة الشعر مزرية الحالة، ابتسمت كهرمان تتحرك بعيدًا تهمس :
” ليسعدك الله بيرلي ..”
ذهبت هي لتبحث عن مكان لها تختبئ به حتى تنتهي الأعمال، لكن وأثناء تجولها لمحت نفس الدرج الذي صعدته يوم التقت بالفرقة التي ستحيي حفلة النساء .
نظرت له ثواني بتفكير قبل أن تقرر أن تصعده، وهكذا فعلت وهي تبحث بعيونها عن الجميع، ستحيا ما يعيد لها بعض ذكرياتها قديمًا .
بينما هو تحرك بعدما أبلغ والدته من خلال إحدى العاملات أن تفرغ له الممرات من النساء كي يصعد لها .
وبالفعل ها هو يسير في الممر صوب حجرة والدته وحين طرق الباب وسمع صوتها يسمح له بالدخول ابتسم يقول بصوت هادئ :
” السلام عليكم أمي”
” عليكم السلام بني، لمن أدين بمجيئك منذ الصباح ؟!”
كانت تتحدث ببسمة واسعة ليستغل هو الأمر بمكر وهو يهتف :
” للملكة تبارك ”
انتفض جسد والدته انتفاضة ملحوظة، وهو ابتسم لها يقول بهدوء :
” جئتك بخصوص الحفل الوطني أمي، هناك بعض التغييرات الهامة التي ستضاف لهذا العام ..”
نظرت له بعدم فهم :
” تغييرات ؟! أي تغييرات تلك ؟!”
نظر لعيونها يهمس بهدوء شديد ونبرة مقصودة :
” زواجي …”
وفي إحدى غرف الممر، أو في الغرفة الأخيرة في الممر وبعدما أفرغت النساء الممر بأكمله لمرور الملك واكتفين بالجلوس هادئات إلا من بعض العزف وقليل من الكلام لحين خلو المكان بأكمله من أي رجل .
لكن كهرمان كانت تسمع ضرب الدف وهي تردد بعض الترميمات بصوت منخفض سرعان ما ارتفع دون شعور منها حين شردت بعقلها بعيدًا..
بدأ الجميع ينتبه لها وهي تغمض عيونها تحرك يديها بهدوء أمامها، تغني تلك الكلمات الغريبة على مسامعهم، لكنها وللحق أعجبتهم وبشدة .
وكهرمان التي اندمجت بدأت تصفق تزامنًا مع غنائها وبعض الفتيات يشاركنها التصفيق والبعض الآخر يضرب الدف .
وقد زادت الحماس بين الجميع، حتى أن احداهن جذبت كهرمان لمنتصف حلقة تطالبها برقصة تليق بتلك الكلمات، وكهرمان لم تحرمهن ما تشتهيه هي، فأخذت تحرك يديها في الهواء بشكل مقصود، ثم كتفها، ومن بعده خصرها، حركات بسيطة استهلت بها الرقصات لتبدأ الحماسة تزداد وصوتها يزداد حماسة والناس يزدن من تصفيقهن وقد غفلن بشكل كلي عن أن الطابق يحتوي رجلًا ولم يكن أي رجل، بل كان الملك ….
وهو خرج من جناح والدته تاركًا إياها تتجرع صدمتها ببطء، صدمة هو لم يتجرعها حتى الآن، لكن هذا ما يجب أن يحدث، بعد أيام سيعلن تبارك زوجة له خاصة أنه وحسب حديث سالار تقدمت في جميع التدريبات .
فجأة توقفت أقدامه ولم تتوقف دقاته، بل ازدادت حين سمع ضرب الدف يعلو بحماس شديد، ورغم تحذيره للنساء أنه سيمر إلا أنهن استمررن فيما يفعلن، ولم يكن ذلك هو ما أوقفه، بل ذاك الصوت الذي على وهو يغني بنبرة شجية، نبرة يعلمها جيدًا، نبرة يدرك صاحبتها ويكاد يقسم أنه يراها الآن تتراقص نفس الحركات التي رآها سابقًا يوم الحظيرة بالقرب من البحيرة .
ارتفع صخب ضربات قلب إيفان وهو يحاول أن يبعد تلك الفكرة عنه، ربما تتشابه النبرة والصوت، بالطبع لن تشترك أميرة في رقصات كتلك مع النساء، بالطبع لا .
ابتعد بسرعة عن الغرفة وهو يستغفر الله، أصبح وكأنه يركض بعيدًا عن صوتها الذي تسبب له في فتنة، يالله حتى الصوت فتنة، المرأة بكل ما فيها تمثل فتنة، لكن … لِمَ هي بالتحديد من تسري فتنتها عليه ؟!
وصل لبداية الدرج ولم يكد يخطو عليه خطوة واحدة حتى ارتفعت أصوات الغناء لها أكثر لدرجة أنه في هذه اللحظة تخيل نفسه يركض للغرفة يسحب المغنية من مرفقها يلقي بها في السجن حيث لا جمهور ولا دف ولا أحد يشجعها على ما تفعل .
ظل واقفًا مكانه لا يدري ما يفعل، لا يعلم ما عليه فعله، حتى لمح إحدى العاملات تتحرك في الممر ليقول :
” أخبري النساء في غرفة الاحتفالات أن يخفضن اصوات الغناء، وأن يلتزمن الحدود حين إعلامهن بوجود رجل في المكان ..”
ختم حديثه يهبط الدرج بسرعة يهرب من ذلك الصوت الذي كان يطارده وكأنها تعانده وتزيد من الغناء ليتوقف وهو يضغط على سور الدرج يهمس بغضب :
” يالله هل تزداد في الغناء عنادًا ؟؟ أأمنع الاحتفال الوطني بأكمله ؟! هذا ما ينقصني، رحل أرسلان وترك لي نسخة أكثر ازعاجًا منه ”
مسح وجهه يتحرك بعيدًا وهو يهمس :
” سامحك الله أرسلان، أما كنت تستطيع منع شقيقتك تعلم الغناء والرقص، استغفر الله، لقد حملتني ذنوبًا في دقيقة تكفي اعوامًا مقبلة، يا الله هذه المرأة..”
وبمجرد أن تحرك بعيدًا عن كل ذلك وكان على وشك الخروج من القصر لمح طيفها يهبط الدرج بسرعة كبيرة وهي تركض في ممرات القصر، ولم يشعر إيفان بنفسه وهو يتحرك خلفها، ربما يصرخ في وجهها ويفرغ بها بعض غضبه .
لكن وحين لحق بها اتسعت عيونه مما يرى، تحرك بسرعة خلفها يراقب ما تفعل كهرمان ليراها تخرج من أحد الأبواب الصغيرة في القصر وهي تتلفت خلفها، همس بصدمة كبيرة :
” ما الذي تفعله تلك ؟! هل تهرب من القصر ؟؟”
وعند هذه الخاطرة اتسعت عيونه برعب ينتزع معطفه الملكي بسرعة، ثم سار بثوبه السفلي المتكون من بنطال وسترة وحزام يحتوي أسلحته، يلحق بها من نفس الباب مرددًا :
” تلك الغبية لا تدرك أن المنبوذين منتشرون بممرات سفيد، ستلقي بنفسها في التهلكة ”
نظر لها تسير بكل راحة وعدم اهتمام ولم يجد في ثوبها سيفًا أو أي سلاح حماية ليلوي ثغره هامسًا :
” يبدو أن أسلحتها لا تخرج إلا لي ”
انتبه إيفان أنها تتحرك في بعض الشوارع التي يعلمها جيدًا والتي تؤدي لمكانٍ يعلمه تمام العلم، مكان بمجرد اقترابك منه تسمع اصوات عالية متداخلة يخرج منه .
توقفت أقدامه أمام المكان يهمس بعدم فهم :
” سوق العاصمة ؟؟ حقًا ؟؟”
____________________
” حين قتالك مع خصمك تأكد أن تنظر لعيونه، أره أنك لا تخشى منه مقدار شعره، حدق به وكأنك تخبره أن الموت هو آخر ما تخشاه ”
ختم حديثه وهو يرفع سيفه عاليًا يقاتل أحد كبار جنوده والذي كان ماهرًا في القتال، يبتسم بسمة جامدة بعض الشيء، وحوله الجنود يراقبون ذلك القتال .
الشاب الأصغر عمرًا والقائد الاعلى، منافسة شبه محسومة، لكن لا أحد حتى الآن استسلم أو أسقط سيفه، بل كانت المنافسة تزداد حدة، وسالار يرفع سيفه بقوة يهبط به بالقرب من ذلك الشاب الذي تراجع بسرعة وقبل أن يضاعف سالار ضربته بثانية رفع الشاب سيفه يتلقف ضربة سالار يهمس له :
” خفف ضرباتك يا قائد فأنا لستُ عدوًا ”
لكن سالار لم يتوقف وهو يزيد من ضربات والشاب شعر أنه على وشك السقوط ارضًا، يعافر للنجاة من أسفل سيف سالار الذي كان يضغط على أسنانه بقوة يهتف بصوت شبه مرتفع :
” تهاونك سيكون سبب هلاكك، إن قاتلت عدوك بنفس طريقة قتالك لي، فلا تفارقن الشهادة لسانك ”
ختم حديثه بضربة قوية أسقطت الشاب ارضًا ومعه السيف الخاص به، وصوت أنفاسه يعلو بشدة، رفع عيونه بهدوء صوب سالار الذي راقبه من الاعلى يمد كفه له، ليتمسك به الشاب ينهض مبتسمًا :
” اعتقد أنه كان قتالًا جيدًا ”
” أنت خسرته ”
” خروجي حي من قتال معك هو انتصار في حد ذاته سيدي القائد ”
ابتسم له سالار بسمة جانبية قبل أن ينظر حوله للرجال يقول بجدية :
” هيا أكملوا التدريبات، انقسموا لعدة فرق كل فريق مكوّن من شخصين، وكل فريق يقاتل الآخر، هدف هذا القتال هو التدرب على كيفية حماية ظهر بعضنا البعض أثناء القتال، وفي الوقت ذاته نحمي انفسنا ”
وبمجرد أن ختم حديثه بدأ جنوده ينقسمون لعدة فرق كما أمر، ثم حملوا أسلحتهم ليبدأوا في القتال، راقبهم هو لدقائق، ومن بعدها أشار لأحد الرجال ذوي المكانة العالية يقول بصوت هادئ :
” أكمل مراقبتهم لحين انتهي من تدريبات الملكة واعود ”
تحرك بعد هذه الكلمات صوب الساحة الخلفية والتي كانت مخصصة لتدريب الملكة، توقف هناك ينظر حوله بحثًا عنها، وهي التي لم تكن تتأخر ثانية واحدة عن تدريبها.
” أين اختفت هذه الفتاة يا ترى ؟؟”
أخذ يدور بعيونه في المكان بشكل ملحوظ، قبل أن تتوقف عليها وهي تقترب منه ببطء غريب، تسير بحذر وكأنها تخطو على جمر، ترتدي رداء اسود اللون مع حجاب من اللون الازرق ولثام اسود تخفي به كامل وجهها عدا عيونها .
ضيق سالار عيونه وهو يطيل النظر بها دون وعي، وحين توقفت أمامه تحدثت بصوت منخفض :
” السلام عليكم ”
” وعليكم السلام ”
صمت يحرك نظراته عليها بشكل جعلها تبعد عيونها عنه تقول ببسمة صغيرة :
” أعتذر للتأخر فقط …”
صمتت لا تدري ما يجب قوله، وكأن مخزون كلماتها نفذ فجأة، وهو رفع عنها ذلك الحرج متسائلًا بجدية يقترب خطوات قليلة من مكان وقوفها :
” أرى أنكِ ترتدين اللثام على غير عادتك ”
توترت تبارك وزاغت عيونها بشكل أثبت لسالار وجود خطب بها، ترى ما الكارثة التي فعلتها هذه المرأة الآن .
” أنا… أنا قولت اتلم بقى واسمع الكلام خلي ربنا يكرمني وافوز عليك انهاردة ”
نظر لها بسخرية لاذعة قبل أن يقترب خطوة فتتراجع اثنتين وهو يتسائل بجدية وشك :
” ما الذي تخفينه ؟!”
” ماذا ؟!”
” ماذا فعلتي هذه المرة ؟!”
” لا شيء ”
ابتسم سالار بسمة غير مصدقة :
” حقًا ؟؟ لا اصدقك، هذه النظرات التي تعلو وجهك في هذه اللحظة تخبرني وبوضوح أن هناك كارثة انتهيتي منها لتوك، والآن ودون كذب أخبريني ما حدث ”
ختم حديثه يقترب منها بقوة بغية إجبارها على الاعتراف بما فعلت، حتى ينقذ ما يمكن إنقاذه إن كان هناك فرصة لتصحيح ما فعلت .
ابتعدت عنه تبارك بسرعة للخلف ترفع سيفها في وجهه بسرعة وبردة فعل غير إرادية تقول بجدية :
” لا تتقدم ..”
اتسعت أعين سالار بقوة وهو يحدق في سيفها الذي ارتفع في وجها دون مقدمات، ودون أن يقنعها هو ساعات لفعل ذلك، ودون أن يشعر ارتسمت بسمة على فمه وكأنه أعجبه ما حدث .
حسنًا هو بالفعل أعجبه ما حدث وبشدة :
” أوه، هذا تقدم واضح، أن تتحدثي بسيفك لهو تقدم مبهر في الحقيقة ”
بللت هي شفتيها من أسفل اللثام وهي تحاول الحديث :
” أنا ..أنا فقط لم …لم أقصد أن..”
لكن وقبل أن تكمل كلمتها كان سالار يرفع سيفه في وجهها هو الآخر بشكل جعل أعينها تتسع وهي تتراجع بقوة للخلف وكأنها للحظة ودت أن تعتذر عن فعلتها، لكن سالار لم يسمح لها أن تمحو ما فعلت والذي أعجبه وبشدة، يرفع سيفه في نية واضحة للقتال ..
وهي ما كان منها إلا أن تصد ضربته بسرعة وبمهارة جعلت بسمة سالار تتسع أكثر يراقبها بفخر وكأنه يشهد المرة الأولى التي تزحف فيها ابنته بعد شهور من تعليمها :
” هذا …رائع ”
في ثواني تراجع للخلف يرفع سيفه مجددًا، وهذه المرة لم تنتظر تبارك أن يهجم هو عليها، لتبادر هي بالهجوم بشكل جعل ضربات قلب سالار تزداد، الحماس دبّ في صدره كما لم يحدث منذ ثواني حين قتاله مع امهر رجال جيشه، هو حتى حين قتاله مع إيفان أو تميم أو دانيار، أو حين قتاله في الحرب، القتال معها يحمل طعمًا ولذةً مختلفة يتذوقها للمرة الأولى .
دارت تبارك حول نفسها تتذكر كل لحظة وكل خطوة تعلمتها منه، وطبقتها منذ ساعات على زمرد .
وعلى ذكر زمرد تذكرت ذلك القتال الذي كادت تخرج منه بلا عين، ومبتورة الذراعين، يا الله تلك الفتاة كانت تقاتلها وكأنها تدين لها بثأر، قتال تذكرت به جميع تعليمات سالار لترى الدهشة تعلو وجه زمرد التي هتفت بصدمة :
” يا فتاة أنتِ حقًا، تقاتلين بشكل جيد ”
ابتسمت تبارك بفخر لهذا الاطراء، هي بالفعل تقاتل بشكل جيد مع خصم كزمرد، فأن تبارز شخصًا مستواه كخاصتك أو قريب منه، يختلف عن مقاتلك لمبارز محترف كسالار .
مع زمرد تشعر بتفوق وتطور نسبي في مستواها، حتى وإن كانت زمرد تفوقها، لكن أن تقاتل سالار أشبه بسباق بين فهد وطفل يتعلم السير، و هذا لحسن حظها، فأن تتعلم مع شخصٍ ذو خبرة كبيرة وعلى مستوى عالٍ افضل من تعلمك على يد شخص عادي المستوى ..
فاقت من شرودها بقتالها الذي خرجت منه بجروح كثيرة في وجهها وذراعها، على ضربة سيفٍ كادت تشقها نصفين لتسقط ارضًا بشكل مزري، وحين وجدته يقترب منها بسيفه رفعت خاصتها تستقبل ضربته بسرعة وهي تتنفس بصوت مرتفع .
وعلى فم سالار ارتسمت بسمة واسعة فخورة :
” أنا فخور بـ..”
وقبل أن يكمل جملته تساقط لثام تبارك كاشفًا عن وجهها الذي كان به بعض الخدوش والكدمات، اتسعت عيونه شيئًا فشيء وهو يراقبها بصدمة كبيرة :
” يا الله يا مغيث، ما الذي حدث لكِ ؟!”
نظرت له تبارك وهي ما تزال رافعة سيفها تمنع به خاصته عن قطع رأسها، لكن حين شعرت بالهواء يلفح وجهه شهقت تبعد سيفه عنها وهي تنهض ترفع اللثام بسرعة، لكن فجأة وجدت سيفه يوضع على يدها وهو ينظر لها بشر :
” من ذا الذي تجرأ وفعل بكِ هذا ؟؟؟”
نظرت تبارك لعيونه ترى شر كبير بهما، ابتلعت ريقها بريبة تحاول الحديث، لا تعلم ما تقول، تنفست بصوت مرتفع وهي تحرك عيونها بعيدًا عنه :
” أنا..هو أصل أنا وانا جاية التدريب خبطت في عمود ”
تشنجت ملامح سالار :
” ماذا ؟!”
” عربية…قصدي حصان خبطني ”
” ما هذه الحجج السخيفة، ما الذي تقولينه ؟! أخبريني من الذي تسبب لكِ بهذه الجروح قبل أن يزداد غضبي ”
ابتلعت ريقها تبحث عن حجج أخرى غير سخيفة، لكن لسوء حظها فجميع الحجج التي تقال في مثل هذه المواقف لا تمت لعالمهم بصلة، عليها الجلوس يومًا مع نفسها وعمل قائمة بحجج أخرى سخيفة تليق بعالمهم .
صرخ سالار بجنون حين طال صمتها يرفع سيفه عليها :
” تحدثي من فعل بكِ هذا ؟؟”
حدقت تبارك في السقف بخوف تقول :
” لقد …هو …لقد كنت ابارز أحدهم وهذه الجروح نتجت عن المبارزة ”
ضيق سالار عيونه بشكل مخيف وهو يقترب منها يهسهس بشكل مرعب :
” تبارزين أحدهم ؟؟ رجل ؟؟”
” لا لا، بل امرأة، هي صديقة لي هنا ”
وفي ثواني جاءت صورة كهرمان لعقل سالار، فمن غيرها من النساء يستطيع المبارزة هنا، هي وصديقتها، لكن ورغم معرفته بهذا إلا أنه قال بعدم رضا وهو ما يزال يضع سيفه على رقبتها :
” تسببت لكِ بهذه الجروح، هل رددتها لها ؟؟”
نظرت له بعدم فهم ليهمس بشر :
” لا تخبريني أنكِ تركتيها تنتصر عليكِ، أو ترحل دون أن تردي لها الضربة بعشرة ”
رمشت تبارك ثواني بعدم فهم، قبل أن تهز رأسها بسرعة كبيرة تقول :
” لقد فعلت، اقسم أنني فعلت، لم أكن خصمًا سهلًا يا قائد ”
ارتسمت بسمة صغيرة على وجه سالار شيئًا فشيء ينزع سيفه عنه وهو يقول بهدوء :
” هذا جيد إذن”
صمت ثم قال بحنق وغيظ :
” لكن إياكِ أن تتورطي في قتالات مع أي أحد آخر وتخرجي بخدش واحد سمعتي ؟! كوني اليد العليا في أي قتال تكونين طرفًا به ”
” أنت استثناء لهذا صحيح ؟!”
ابتسم لها بسمة صغيرة يضع سيفه في غمده هامسًا :
” سأظل استثناءً طوال الوقت …”
نظرت له ثواني بتوتر وهي تحاول إبعاد همساته الرقيقة عن أذنها، وقبل أن تتحدث بكلمة أخبرها بهدوء شديد :
” اذهبي لمشفى القصر ودعي الطبيبة تضمد لكِ جروحك تلك لئلا تلتهب، والآن سأعود للتدريبات الخاصة بجيشي، ويومًا آخر نكمل، حين تكونين بكامل قوتك ”
ختم حديثه وهو يهز رأسه لها باحترام، يرمق جروحها للمرة الأخيرة بتردد قبل أن يرحل بسرعة كبيرة ادهشتها وجعلتها تتراجع للخلف بفزع من انتفاضة ذلك .
” ماذا دهاه ؟؟”
صمتت وهي تتحسس جروحها تلعن زمرد، تلك الـ …حسنًا لا تنكر أنها استمتعت وبشدة بالقتال معها، وافرغت به بعض مما تضمر، وعلى ذكر ما تضمر، ألم تكن قد قررت تجاهله وعدم المجئ للتدريب؟؟ ما الذي حدث الآن ؟؟
_______________
توقف أمام باب الغرفة يتنهد بصوت مرتفع، اليوم عليه أن يجهر بزواجهم في مسجد القصر، رغم أنه لم يوفر فرصة إلا وأخبر بها الجميع أن هذه المرأة التي تقبع خلف هذا الباب هي امرأته هو وزوجته هو ..
تنفس ثم ابتسم بسمة صغيرة يطرق الباب بهدوء :
” برلنت …برلنت ”
لكن لم يصل له أي صوت منها، فكرر ما كان يفعل متسائلًا بهدوء :
” برلنت، أنتِ وحدك بالداخل ؟؟”
وصل له بعد ثوانٍ انتظار صوت خافت ناعس يقول بهدوء :
” نعم تميم، أنا وحدي ”
ابتسم تميم يقول بخفوت واحترام شديد :
” إذن هل يمكنني الدخول من فضلك؟!”
وهي في الداخل كانت متسطحة أعلى الفراش بكسل شديد، خصلاتها متناثرة ومنعقدة بشكل مشين في الحقيقة، عيونها ذابلة أثر النوم، لاتعي سوى أن صوت تميم يطالبها بالاقتراب، ومن هي لتمنع تميم عن قربها وهي تشتاقه ؟؟
ابتسم تردد بصوت خافت ناعس :
” تعال .”
ابتسم تميم يفتح الباب بهدوء ثم طلّ برأسه اولًا خشية أن يكون هناك أحد غيرها، رغم أنها أخبرته العكس، لكنه يدرك أي نوع من الأشخاص تكون هي حين النوم.
ابتسم يغلق الباب خلفه يقترب من الفراش ببطء، خلع حذاءه قبل أن يجلس جوارها يرفع يرأسها بهدوء يعدل من وضعيته كي لا تصيبها الآلام في الرقبة جراء ذلك، ومشهد نومها بهذه الهيئة المدمرة كان أحب على قلبه من رؤيتها بكامل زينتها .
ابتسم يسترجع ذكريات قديمة له حين كانت تقضي بضعة أيام رفقته لأجل سفر والديها …
اقتحم الغرفة في الصباح بلهفة متجاهلًا صيحات والدته خلفه بأن يدع الفتاة تنام بسلام، وأن يتركها وشأنها .
لكنه لم يهتم سوى لأنه يود رؤيتها في الصباح، فضول شديد دفعه لمعرفة كيف يكون مظهرها حين تستيقظ، شعور غريب يخبره أنه سيحب ما سيرى، لكن وحين اقتحم الغرفة اتسعت عيونه وفغر فاهه يرى مظهرًا فوضويًا لها، وقد سقطت بجسدها بأكلمه ارضًا تضم لها الغطاء، بينما رأسها فقط مستقرة أعلى الفراش .
صدمة تلقاها الشاب في منتصف صدره وقد حطمت تلك الصغيرة أحلامه التي قضى ليلته بأكملها يتخيلها، يتخيل أنها تنام كالملاك على الفراش خصلاتها تتناثر حولها برقة بينما أشعة الشمس تشاركها الفراش بشكل ساحر، وفي النهاية وجد هذا .
في هذه اللحظة لم يتمالك تميم نفسه وانهار ارضًا يضحك بصوت صاخب عليها، يا الله حطمت الصغيرة احلامه، بل ودهستها أسفل اقدام الواقع .
نهض بصعوبة لكثرة ضحكه يتحرك لها يرفعها بين ذراعيه واضعًا إياها على الفراش مبتسمًا :
” ها نحن ذا يا صغيرة ..”
وضع الغطاء أعلاها، ثم أخذ يعدل وضعية رأسها ويجمع خصلاتها بعيدًا عن عيونها، واخيرًا مال يطبع قبلة رقيقه .
وفي الوقت الحالي ها هو يطبع نفس القبلة أعلى رأسها بحنان شديد هامسًا بالقرب من أذنها :
” في النهاية تملكين طريقتك الخاصة في سحري صغيرتي”
توقف عن الهمس يشرد في وجهها وهناك بسمة متسعة تعلو وجهه، فتحت هي عيونها تمنحه بسمة مماثلة هامسة:
” صباح الخير ”
” صباح الخير بيرلي، عساكِ قضيتي ليلة سعيدة ”
ابتسمت له تهز رأسها بخفوت قبل أن تغمض عيونها مجددًا تستمتع بهذا الحلم الواقعي لتميم الذي يتحسس خصلاتها الهائجة المتشابكة الـ …مهلًا، تميم يتحسس خصلاتها ؟؟ تميم رأى شعرها الهائج ؟؟ شعرها !؟
عند هذه الفكرة انتفضت برلنت بسرعة بعيدًا عنه بفزع لدرجة أنها سقطت عن الفراش تطلق صرخة مرتفعة جعلت تميم يفزع وهو يلقي بجسده على الفراش كي يمسكها، لكن فات الأوان لتسقط برلنت بقوة ارضًا وتصطدم في علاقة الثياب جوار الفراش لتسقط الأخيرة فوق رأسها بشكل كاد يحطم جمجمتها لولا يد تميم الذي امسكها بسرعة وهو يهتف من بين أنفاسه المفزوع :
” يا ويلي ..يا ويلي، ما بكِ برلنت، ما بكِ ؟!”
كانت برلنت متسعة الأعين لم تخرج بعد من صدمتها بما حدث، أرادت تلاشي خجلها من رؤيته لها بهئية صباحية مدمرة، لتصطدم في مواقف أكثر احراجًا .
عدّل تميم من وضعية العلاقة، ثم نظر لها وهي مرمية ارضًا تحاول التنفس، ليمد يده لها يقول بلطف :
” تعالي ”
مدت يدها له ليسحبها بقوة يتلقفها بين أحضانه وهو يقول بهدوء :
” هل تنتوين حضور إشهار زواجنا بجروح بيرلي ؟!”
نظرت له برلنت بخجل تهتف :
” ما كان عليك الدخول ورؤيتي بهذا المظهر تميم، هذا محرج للغاية ”
أطلق تميم ضحكات مرتفعة قبل أن يرفع أنامه ويبدأ في تصفيف خصلاتها محاولًا تدارك ما يمكن إدراكه :
” حسنًا، أظن أن هذا أفضل مشهد قد استيقظ عليه يومًا ما بيرلي ”
تأوه يقول بصوت منخفض :
” يا الله برلنت أنا بائس لدرجة أن أي شيء تمنحيني إياه وإن كان بسيطًا يبهرني ويسعدني ….ويفتنني ”
ختم حديثه بهذه الكلمة الهامسة يميل عليها مانحًا إياها قبلة صغيرة رقيقة أعلى وجنتها، ثم ابتعد يقول مبتسمًا :
” ثم أنسيتي أنني كنت استيقظ على مشاهد أكثر جنونًا من هذا لمدة أسبوعين حين قضيتي ايامك في منزلي !!”
ضحكت برلنت بصوت منخفض وهي تبعد خصلات بخجل :
” كنت طفلة في ذلك الوقت تميم، يالله الأمر في غاية الاحراج ”
ابتسم لها يربت على خصلات بحب :
” أنا آخر شخص قد تخجلين منه برلنت، والآن هيا انهضي لتتجهزي، فاليوم يومك جميلتي ”
نهض يبتعد عن الفراش ثم توقف أمامها بهيئة مرتبة، بثياب رمادية اللون تلائم عيونه، وخصلات مصففة بعناية ورائحة الزهور تفوح منه بشكل مبهر، هيئة تناقض هيئتها المدمرة العشوائية، الشيء ونقيضه حقًا .
وهذا لم يساهم في تخفيف الاحراج الذي تمر به .
ابتسم تميم يتفهم كل الأفكار التي تمر بها، لكنه فقط تحرك ليحمل الحقيبة التي تركها جوار باب الغرفة حين جاء والتي تراها برلنت الآن فقط، رفعها في وجهها يقول بلطف :
” هذا لكِ بيرلي، عسى أن ينال اعجابك”
نظرت له بعدم فهم تلتقط منه الحقيبة تخرج ما فيها بسرعة كبيرة لتشهق بصوت مرتفع حين أبصرت ثوب طويل بديع لها، رفعت عيونها له تهمس بصدمة :
” تميم هذا ..هذا … أنت… أنت..من صنعه ؟؟”
ابتسم يهز رأسه لها :
” منذ سنوات صنعته ولا ادري حقًا إن كان يلائمك أم لا، لكن يمكنني إرسال من يساعدك في جعله مناسبًا لكِ، كان هذا الثوب الوحيد الذي صنعته، لم أحبذ العمل بالخياطة، لكنني صنعته لكِ خصيصًا ”
كلماته عنت لها الكثير، الكثير لتترك الثوب وهي تتحرك عن الفراش تتحرك له تضمه لها وهي تهمس بصوت متحشرج خافت :
” شكرًا لك، شكرًا لك تميم ”
ابتسم تميم يبادلها العناق هامسًا :
” بل شكرًا لكِ برلنت، شكرًا لوجودك في حياتي البائسة تلك ..”
_____________________
يدور في الأسواق منذ ساعة ..ساعتين ؟؟ لا يدري لكنه يشعر بالملل الشديد وهو يتبع مهيار طوال هذا الوقت، وقد كان الاخير متحمسًا وهو ينتقي هداياه التي سيدخل بها على عائلة عروسه .
نظر خلفه يشير لدانيار أن يقترب :
” اقترب دانيار وانظر إلى هذا القماش الجميل، هذا من الحرير، اعتقد أنه جيد كهدية لها صحيح ؟! ما رأيك أنت ؟!”
التوى ثغر دانيار يجيب بصوت خافت :
” لا أدري، لم أجرب الزواج من قبل ”
ربت مهيار على كتفه مبتسمًا :
” لا بأس قريبًا تفعل، وحينها سآتي معك لانتقاء الهدايا المناسبة ”
لا يدري السبب لكنه في هذه اللحظة تذكر عرضه الذي طرحه على زمرد دون أن يجد ردًا منها في المقابل، بل كل ما ناله منها هو تجاهل وهرب دون مبرر أو حتى رفض، هل تحاول التلاعب به ؟؟ إن كانت تفعل فالويل لها من شياطينه .
نظر حوله يبحث عنها بعيون متفحصة، فهو وإن وافق على المجئ للسوق مع أخيه فما فعل سوى لأنه يدرك أنها تخرج للتسوق في هذا اليوم تحديدًا، لا تسيئوا الظن، هو لا يراقبها أو ما شابه، بل فقط يود الامساك بها وضربها في جدار أحد المنازل هنا، وإخراج خنجره ووضعه أعلى رقبتها مهددًا بشر أن تعطيه رده ويفضل أن يكون ( نعم) .
لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فجأة وأثناء امساك شقيقه لقطعة حرير معينة التمعت عيونه مستدعيًا صورة قريبة لها وهي تمسك قطعة حرير شبيهه لتلك تتساءل عن سعرها، ودون أن يشعر انتزعها من بين أصابع مهيار يقول بصوت بارد بعض الشيء وهو ينظر بعيدًا عن أعين شقيقه المصدومة :
” سآخذه ..”
لم يفهم مهيار ما يسمع، لكنه وجد شقيقه يلقيه للبائع يقول :
” احزم لي هذه القطعة في حقيبة سأشتريه منك ”
اقترب منه مهيار بشكل غريب وهناك بسمة أغرب ترتسم على فمه هامسًا :
” مهلًا مهلًا، ما هذا الذي تراه عيناي يا أخي؟! ”
نظر له دانيار ببرود شديد يجيب سؤاله :
” قطعة قماش حريرية ”
” عدا قطعة القماش، ما الذي يحدث ؟! لا تخبرني أنك وجدت فتاة تعجبك وستطلب يدها، هل يعقل أنك تغار لأنني سأسبقك في هذه الخطوة ؟!”
زفر دانيار بغيظ وهو يبعد وجه مهيار عنه :
” أنت توقف عن هذا فقط القماش اعجبني و….”
فجأة توقف لسانه عن الحديث دون شعور حينما ابصرها تتحرك أمامه، لا يظهر منها سوى عيونها وقد كانت أكثر من كافية ليتعرف عليها .
ورغم أنه تعهد ألا يركض خلفها أو يلحق بها أو غيره، إلا أنه اخلف وعده لنفسه وهو يحث خطاه ليلحق بها متجاهلًا مهيار الذي نظر له بعدم فهم :
” إلى أين ؟؟ أنت ماذا تفعل ؟؟”
لكن دانيار لم يتوقف وهو يركض بسرعة بعيدًا عنه وصوت البائع يصيح في أثره:
” سيدي وماذا عن قطعة القماش ؟؟”
استدار له مهيار يجيب بحيرة :
” لا بأس ضعها في حقيبة سأدفع أنا ثمنها ”
وبالفعل دفع مهيار ثمن قطعة القماش، ثم تحرك حاملًا حقيبته صوب المحل الخاص بوالد ليلا، يشتاق لرؤيتها وبشدة، لذا لا ضير في الذهاب ورؤيتها سريعًا قبل عودة شقيقه من موجة الجنون تلك .
بينما وعند دانيار سار بين العامة وهو يتخبط بهم معتذرًا، يعتذر لهذا وذاك وعيونه لا ينزعها عنها .
واخيرًا وصل حيث دخل، نظر للمكان ليكتشف أنه محل أسلحة، قلب عيونه يقول بحنق :
” حقًا ؟؟ يا ويلتي من هذه المرأة ؟؟ ”
النساء يذهبن لمحلات الزينة والزهور وهي تذهب لمحلات الأسلحة وسباقات القتال، يا فرحتك يا دانيار بمن اخترتها خليلة لك .
دخل المحل الذي كان صاحبه يضع في كل شبرٍ منه سلاح، حتى السقف كان يتساقط منه سيوف، أبعد دانيار السيوف عن طريقه زافرًا بحنق حتى وصل لغرفة مفتوحة الباب توقع أو تمنى إيجادها بها .
وبالفعل أبعد الستائر التي تغطي الباب ولم يكد يخطو الغرفة حتى وجد جسد يتطاير صوبه بقوة مرعبة ليتحرك هو بسرعة للجانب يرى جسد الرجل يستقر ارضًا وهي تقف أمامه بعدما ضربته بقدمها تتنفس بصوت مرتفع .
حرك دانيار عيونه بينهما يهمس بصدمة :
” ألا لسان لديكِ تتحدثين به ؟! ما هذا الجنون يا امرأة ؟!”
استدرات صوبه زمرد بصدمة وقد اتسعت عيونها تهمس بغيظ شديد :
” أنت ؟! ما الذي تفعله هنا ؟! هل تراقبني ؟!”
” بل أحاول أن احتوي كوارثك، ما هذا الذي تفعلينه بالرجل ؟؟”
صاحت زمرد بقوة وكأنها تبرأ نفسها أمامه :
” هذا الحقير أعطيته سيف والدتي ليلمعه، وبدلًا من ذلك أخذ يحاول التقرب مني بشكل مشين ”
وبعد انتهاء كلماتها ركضت صوبه بسرعة تصرخ في وجهه بجنون وهي تضرب معدة الرجل بقوة كارهة غاضبة :
” اللعنة عليك وعلى اشباهك الاربعين يا حقير، اقسم أنني سأقطع يديك التي حاولت لمسي بها بأسلحتك التي تصنعها ”
ختمت حديثها تبتعد عنه وهي تحاول الهدوء، لكن فشلت في ذلك لتهرول صوبه تميل عليه وهي تلكمه بجنون جعل دانيار يخرج من صدمته وهو يندفع لها يحاول جذبها بعيدًا عنها :
” توقفي ..توقفي …قلت لكِ توقفــــــــــي ”
وبالفعل توقفت بسبب صرخته التي جعلت جسدها يهتز بقوة، نظرت له ليبعدها دانيار وهو يمسح شعره بغضب شديد ينظر للرجل المسطح ارضًا يتنفس بصوت مرتفع، وفي ثواني كان هو من يهجم عليه بجنون يصرخ في وجهه بشكل مرعب :
” أيها القذر المتحرش، هل تدري عواقب التحرش بامرأة يا حقير ؟؟ سأحيل حياتك جحيمًا ”
كان يهتف بكلماته وهو يصرخ في وجهه بجنون وقد تراجعت زمرد للخلف بخوف من ملامحه وحركات جسده الغاضبة، وحينما انتهى دانيار نهض يتنفس بعنف، ثم نظر لها بشر :
” اتبعيني للخارج ”
وقبل أن ترفض صرخ في وجهها :
” الآن”
وبالفعل حملت سيفها تلقي الرجل بنظرة أخيرة مشمئزة، ثم خطت خلفه، وهو فقط يسير بغضب متوعدًا له بالويل، أول شيء سيفعله حين عودته للقصر أنه سيرسل له جنود يسحبونه لينال عقابه .
وحينما خرج تحرك مع زمرد صوب أحد الأماكن الهادئة في السوق، توقف دون مقدمات ثم استدار لها فجأة بشكل جعلها تتراجع وهو فقط صرخ :
” كيف تذهبين لهذه الأماكن وحدك ؟! امرأة تدخل لمحل قذرة كهذا لا يوجد به سواها ؟! هل جننتِ ؟!”
اتسعت عيون زمرد بدهشة قبل أن تندفع تدافع عن نفسها :
” أنت كيف تصرخ في وجهي بهذا الشكل وبأي حق ؟؟ استطيع تدبر أمر نفسي دون الحاجة لتدخلك أو مساعدتك، أنت من تقحم نفسك في شوؤني ”
وقبل أن تضيف جملة أخرى توقفت برعب حين انتزع هو سيفها بسرعة مخيفة من بين يديها ينزع عنه غمده يضعه على رقبتها هامسًا بفحيح :
” لا يعلون صوتك بهذا الشكل يا امرأة ”
نظرت له زمرد بشر وهي تتنفس بصوت مرتفع قبل أن تقول بغضب :
” ما الذي تريده مني ؟!”
” أنتِ ”
رأى عيونها تتسع بشكل مخيف ليهتف مصححًا كلمته المنفعلة :
” أريدك زوجة لي، عرضت عليكِ سابقًا أن نتزوج ولم احصل على ردي، بل هربتي مني كالجرذ الجبان ”
تنفست زمرد بصوت مرتفع وهي تحاول ايجاد رد في عقلها، حسنًا اهدأي زمرد، اهدأي وانظري بعيدًا عن عيونه الزرقاء الغادرة تلك وأخبريه أنكِ لا تريدين الزواج به، فقط تأكدي ألا تنظري في عيونه .
وعلى عكس كل النصائح التي أخذت تخبر نفسها بها، اول ما نظرت له كان عيونه لتتوه بهما وهو ما يزال يترقب جوابها، والسيف بينهما فاصلٌ…
” لا استطيع ”
كلمات بسيطة غبية هي كل ما استطاعت الخروج به بصوت خافت، واعين زائغة، لم تتحدث بالثبات المطلوب، فقط ابتلعت ريقها وهي تقول بصوت خافت كمن هُددت لتخرج تلك الكلمات .
ويبدو أن شعور الرفض لم يصل بالكامل لدانيار الذي رفع حاجبه يقول :
“والسبب ؟؟”
ابتعدت سيفها أن رقبتها تقول ببسمة صغيرة ساخرة :
” لا اعتقد أنك حقًا ترغب في سماع السبب ”
” لا تحكمي بدلًا مني، أريد سببًا مقنعًا لرفضك لي ؟؟ لا يعقل أنكِ لستِ معجبة بي، أنا وسيم في النهاية ”
ختم حديثه مبتسمًا لتقلب عيونها وهي تحاول أن تنسلخ عن حالة الكره لنفسها والتي دخلت بها حين سألها السبب :
” يكفيك أنك مغرور وغد، وتزعجني ”
” لا اعتقد أن هذا سببًا مقنعًا، حتى عيونك لا توافقك الأمر”
تحركت عيون زمرد بسرعة تبتعد عنه تهتف بصوت خافت :
” ربما عليك القبول برفضي فقط والرحيل، أنا لا أريد الزواج بك، وهذه إرادتي الكاملة، ربما يومًا ما …”
ابتلعت ريقها بصعوبة تنطق بصوت متهدج :
” ربما يومًا ما تجد من تقبل بغرورك لأجل وسامتك ”
ختمت حديثها تنتزع سيفها منه كي لا تكرر ما عاشته سابقًا من مطاردات هدفها سيفها، الذي استعادته بالفعل وخسرت في المقابل قلبها .
نظرت له نظرة أخيرة، ثم أبعدت عيونها عنه بسرعة قبل أن تضعف، هي ما اعتادت الضعف يومًا وأن قلبها سيتسبب لها في تجربة ذلك الشعور فاللعنة عليه وعلى مشاعره ..
رحلت بعيدًا عنه بسرعة كبيرة تاركة دانيار يقف مكانه بصمت، لا يتحرك ولا يتكلم فقط يراقب رحيلها بهدوء شديد، وحين اختفى طيفها عن عيونه ابتسم بسمة صغيرة يقول بإصرار:
” لا أظن أن هذا سببًا كافيًا ليمنعني شيئًا أريده….”
___________________
صوت الأجراس استرعى انتباهها لترفع رأسها مبتسمة كالعادة مرحبة بالزائر :
” مرحبًا بك في …”
فجأة توقفت حين لمحته يطل عليها ببسمته المعهودة، وكأنه يرحب بها بطريقته الخاصة :
” مرحبًا بكِ آنستي، عسى نهارك سعيدًا ”
ابتسمت ليلا بسمة صغيرة بتوتر شديد وهي تلملم الاوراق أمامها تهتف باسمه بصوت خافت :
” سيدي الطبيب؟! مرحبًا بك، لم يعلمني أبي أنك قادم ”
” في الحقيقة هو لا يعلم، لقد كنت في السوق على مقربة منكم وفكرت أن أمر لإلقاء التحية على العم، لكن يبدو أنه ليس هنا ”
هزت رأسها بخجل تقول :
” نعم، إذن هل اساعدك في شيءٍ ما ؟؟”
نظر مهيار حوله ثواني قبل أن يقول بجدية :
” ما رأيك أن تساعديني في انتقاء بعض الورود الجميلة ؟!”
قرع قلبها بشكل غير منتظم، لقد شعرت فجأة أنه احضر مطرقة وضربها بها بقوة، ورود ؟؟ امرأة ربما ؟؟ ما الذي يحدث وهي لا تعلم عنه ؟؟
ابتلعت ريقها تقول بصوت خافت :
” ربما إن أخبرتني المناسبة والشخص الذي ستهديه هذه الورود اساعدك في انتقاء شيء مناسب ”
نظر لها ثواني يعلم أنها تجهل نيته، فقط والدها هو من لمح له بالأمر في إحدى زياراته له هنا، لذا رأى أن يترقب ذهابه مع دانيار الليلة لمنزلهم وأخبارها هناك :
” مناسبة سعيدة، والورود ستكون لفتاة رقيقة ”
مناسبة سعيدة ؟! وفتاة رقيقة ؟؟
هل سيتزوج ؟؟
نظرت له ثواني تشعر برغبة عارمة في الصراخ في وجهه تجذبه من ثيابه كي يعترف على كل ما يضمر، لكنها رغم ذلك ابتسمت له تقول بصوت منخفض :
” أوه هكذا إذن، ليديم الله سعادتك دائمًا سيدي الطبيب، بالطبع سأساعدك في انتقاء شيء مناسب، انتظرني دقيقة لو سمحت ”
تحركت بعيدًا عنه وهو استقر على أحد المقاعد لتتحرك هي ببطء شديد وقد علت ملامحها نظرات غريبة مخيفة تهمس بكلمات لا تصل له، غابت دقائق طويلة ظنها ستمدت لساعات، قبل أن تعود حاملة بعض الورود والتي لفتها بشكل جيد داخل بعض الحقائب الورقية تقول بحذر :
” هذه هي سيدي، احرص على عدم فك هذه الحقيبة عنها كي تحتفظ برائحتها أطول فترة ممكنة حين تسلمها لتلك الفتاة ”
ابتسم لها مهيار بسمة واسعة، ثم أخرج من جيبه بعض النقود يضعها أمامها بهدوء :
” سلمت يداكِ آنستي، اعتقد أنها ستعجبها كثيرًا، شكرًا لمساعدتي ”
” العفو سيدي الطبيب، أنا في خدمتك ”
اطال مهيار النظر لها قبل أن يستأذن منها بهدوء شديد يرحل تاركًا قلبه عالقًا لديها، لا يعجبه أن يرحل الآن، لكن صبّر قلبه بعودة قريبة، وحينها لن يرحل أبدًا إلا وهي معه …
__________________________
يتحرك في السوق خلفها منذ ساعة تقريبًا وهو متيقظ لأي حركة قد تثير انتباهه، متيقظ لأي همسة غريبة حوله، يده تتحسس سيفه وقد انزل قلنسوة أعلى وجهه يتخفى عن الأعين التي قد تلتقط وجهه .
ها هي تتحرك أمامه كفراشة لا تجد زهرة تستقر عليها، هو يسير خلفها فقط ليحميها، يتركها تنعم للحظات قليلة بالحرية، تفعل ما تشاء وهو هنا يسير في ظهرها يحميها من أي شيء قد يكدر سعادتها الواضحة تلك .
توقفت كهرمان فجأة أمام أحد المحلات بأعين متسعة ترمق أحد الأحذية بأعين تلتمع بقوة، مالت قليلًا كي تراقبه باهتمام شديد ..
وهو على بعد منها يراقب ردة فعلها تلك بعدم فهم :
” حذاء رجالي ؟؟ حقًا؟؟ هل هذا ما جذب جُلّ اهتمامها ؟؟”
وكهرمان نهضت تعتدل في وقفتها مبتعدة عن المحل وعقلها يعرض صورة لذلك الحذاء الذي يحمل علامة مشكى، الحذاء المفضل لشقيقها والذي كان يرفض ارتداء غيره وهو يردد ضاحكًا :
” هو مريح في القتال، ولهذا أحبه ”
تنهدت كهرمان بصوت مرتفع تسير بين المحلات تتلمس هذا وتسأل عن سعر ذاك، حتى توقفت أمام محل يبيع الفواكهة به عجوز وابنه المراهق .
ابتسم المراهق يسارع لإرضاء كهرمان :
” مرحبًا سيدتي تودين بعض الفاكهة الطازجة ؟؟”
نظرت له كهرمان ببسمة لم تظهر سوى في عيونها بعدما أخفت وجهها بلثام :
” طازجة ؟؟”
” نعم سيدتي، يمكنكِ التأكد بنفسك، لا اعتقد أن امرأة بمثل جمالك تجهل الأمر، الفواكهة الطازجة تتعرف على بعضها بسهولة ”
اتسعت عيون كهرمان بصدمة حين سمعت كلمات الصبي المغازلة لتشتعل وجنتيها وتضحك ضحكة لم تستطع كبتها .
بينما إيفان على بُعد صغير منهم اتسرعت عيونه بشر يهمس ضاغطًا على أسنانه:
” ذلك الفتى الـ ….”
صمت يحاول أن يتجاهل ما يحدث، هو في النهاية مجرد مراهق صغير وهي فتاة شابة، ما احتمالية أن تتأثر بكلماته الرقيقة ؟؟
والإجابة كانت احتمالية مائة بالمائة، فها هي كهرمان سقطت في فخ الصغير تقول بخجل :
” إذن اعطني بعض الفراولة رجاءً ”
ابتسم إيفان بعدم تصديق يهتف :
” أيتها الغبية الحمقاء، كل هذا لأنه شبهك بالفاكهة ؟؟”
ثواني وانتهى الصبي مما يفعل يعطي الحقيبة لكهرمان التي شكرته ببسمة، وقبل أن ترحل أوقفها الصغير يضع لها حبة فاكهة مجانية في الحقيبة يقول ببسمة وتملق :
” هذه هدية مجانية لاجلك سيدتي، فقط لأنكِ جميلة ”
قلب إيفان عيونه يهتف بحنق شديد :
” يا الله هل أنشأ متحرشين صغار داخل مملكتي؟؟ لا يعقل كم التملق بهذا الصغير ”
وكهرمان لم تفوت بادرته اللطيفة لتمنحه بسمة واسعة تمسك له طرف ثوبها برقة تميل برأسها له :
” اشكرك سيدي اللطيف، أقدر لك هديتك ”
أشار لها إيفان مستنكرًا :
” يا الله لا ينقصها سوى أن تعانقه لتشكره، كل هذا لأجل حبة فاكهة وأشجار القصر عامرة بها ؟؟ ”
رحلت كهرمان بهدوء تكمل رحلتها داخل السوق وهي تتناول بعض الفاكهة من أسفل اللثام الخاص بها، وإيفان مستمر في مراقبتها وكم ود لو عاد لقلعته وتركها وحدها عقابًا لها على هذا الغباء الذي ترتكبه في حق نفسها .
لكن فجأة وجد فتاة صغيرة تصطدم بعنف في كهرمان مسقطة حقيبة الفواكه ارضًا ولم تتوقف حتى لمساعدتها في جمع ما سقط لتركض بعيدًا، بينما كهرمان مالت تجمع الفواكه بعدم فهم تراقب ركض الفتاة بتعجب وقبل أن تفهم ما يحدث شعرت بيد تنتشلها بقوة تجبرها على الوقوف، ثم صوت مرتفع يصرخ في الجميع :
” ها أمسكت بكِ أيتها الحقيرة، أنتِ شريكتها لتلك اللصة الصغيرة ؟؟ ظننتم ستخدعوني وتسرقون ذهبي، ايها اللصوص ؟؟”
اتسعت أعين كهرمان دون فهم وقبل أن تتحدث بكلمة، وجدت يد المرأة تتحرك صوب حجابها تجذبها منه بشكل جعل صرخة تخرج من فم كهرمان وهناك رجل جاء وانتزع عقد ذهبي من بين فواكهها المتناثرة يقول :
” ها هو عقدك يا عمة كان بين الفواكه .”
نظرت لهم كهرمان بذهول تقول :
” ما هذا ؟! دعيني أنا لم أفعل شيئًا، الفتاة اصطدمت بي واسقطتني و…”
وقبل أن تكمل كلمتها شعرت بصفعة تسقط على وجهها لتتسع عيونها بصدمة كبيرة وصوت يصرخ بكلمات غير مفهومة تنادي الحراس المنتشرين في الأسواق وقد تجمهر الجميع حولها ..
وكهرمان فقط ما تزال في صدمتها أنها لتوها تلقت صفعة جراء اتهامها بسرقة لا تعلم عنها شيئًا، هي أميرة مشكى تتلقى صفعة من رجل على شيء لم ترتكبه ؟؟
رفعت عيونها صوب الرجل وقد احمرت عيونها بقوة وقبل أن تتحدث بكلمة واحدة شعرت بأيدي الحراس تجذبها بقوة بعيدًا عن المرأة تجرها، ولم تكد تصرخ بهم أن يدعوها، حتى سمعت صوتًا جفف الدماء بعروقها وجعل الجميع يتوقفون عن الحديث ..
” مـــا الــذي يــحدث هنا ؟؟؟؟؟؟؟”
_______________________
الحب… لا تعلم متى يطرق بابك، فافتح له بالحسنى، لئلا يحطم الباب فوق رؤوسك وفي النهاية سيقتحمه …
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية مملكة سفيد) اسم الرواية