رواية عشق بين هشيم مشتعل الفصل الخامس 5 - بقلم اية العربي
إن لم تسعَ لإطفاء تلك النيران المشتعلة في يسارك فإن ألسنتها ستلتهمك شيئاً فشيئاً حتى لا يتبقى منك سوى هيكلاً خاوياً .
في قصر السيوفي
تحديداً في غرفة عادل
لم ينم منذ ليلة أمس ، يتحدث مع دعاء عمّا حدث بأسلوبٍ غاضبٍ ومتعصبٍ وتحاول هي امتصاص غضبه ولكنها لا تستطيع مهما حاولت ، الشيء الوحيد الذي يمكنه تهدأة غضبه فيه هو التقارب الجسدي بينهما وهذا ما فعله طوال الليل .
تحدث بنبرة باردة غير مبالية بحالتها :
– بت يا دعاء ، قومي طلعيلي غيار علشان أستحمى وأنزل .
كانت تحاول النوم بعد إرهاق بات مصاحباً لها وكلما غفت نادى عليها لأسبابٍ واهية .
استغفرت ونهضت فطالعها بعيون غاضبة قائلاً بقمع :
– اضبطي حالك يا بت أحسنلك ، عتتنمردي ولا إيه ؟
تنفست وتحركت تحضر ثيابه ثم وضعتهم على طرف الفراش قائلة بتأفأف وضيق من أفعاله :
– الغيار أهو ، قوم استحمى علشان تنزل تشوف أبوك .
طالعها بغيظ ثم تحرك من فراشه نحو الحمام ووقفت تتبع أثره بحنق من طريقته الفظة والغليظة معها .
في الغرفة المجاورة اتجهت نهال لتوقظ رامي بعد أمرٍ من جابر لها .
تحركت بخطى متوترة وطرقت باب غرفته فلم يجِب ، حاولت مرة أخرى ففتح الباب يطالعها بضيق ثم تحدث بجمود وملامح لا يبدو عليها أثر النوم :
– لو يدك اتحطت تاني ع الباب ده النهاردة هتندمي ، حظك إني مش فايقلك دلوك وإلا كان زمانك تحت ضرسي ، غورى من إهنة .
أومأت وفرت هاربة تحمد ربها أنها نجت منه بينما هو دلف ورطم الباب بقوة ، بحث عن هاتفه حتى وجده ملقى على الفراش بإهمال .
تناوله يهاتف صديقه فارس الذي أجاب بنعاس بعدما تبخر خوفه :
– خير يا رامي عاوز إيه ؟
تحدث بغل تفاقم طوال الساعات الماضية وتجلى في صوته حين قال :
– عايز الكلب ده يتحرق قلبه ، نار جوايا من اللي حُصل ، بقى عيل مالوش لازمة زي ده يعلم علينا كلنا وفي الآخر ميتعاقبش ! ، لازمن يدفع تمن اللي عمله .
تنبه فارس واعتدل يمسح على وجهه ثم تحدث بترقب وتوتر من احتمالية انكشاف ما حدث مجدداً :
– ناوي على إيه يا رامي ؟ ، سيبك من الموضوع ده اتقفل خلاص .
عنفه رامي قائلاً بغلظة وتوعد :
– لاااا ، وشرفي لحرق قلبه علشان يعرف كيف يتجرأ ويلعب مع أسياده ، جهز حالك الليلة بليل ، هنروح نعلمه درس عمره .
꧁꧁꧁꧁꧁꧂꧂꧂꧂
في الأسفل يجلس جابر على المخدع يفكر ، لم ينم وعقله يعمل بصخب ، مؤكد أن الخبر بدأ ينتشر في البلدة وسيبدأ الغمز واللمز بسبب ابنته التي تبرأ منها .
لو عاد الأمر له لقتلها في الحال بعد أن سحقت شرفهم بفعلتها ولكن حينها ستصبح سيرتهم على ألسن الجميع .
جاءت شريفة من خلفه تنادي بتوتر :
– مالك يا جابر ؟
صوتها آخر صوت يود سماعه ، هي السبب الرئيسي في ما آلت إليه الأمور ، لذا نهض ينقض عليها ويلقيها مكانه ويقبض بأصبعيه حول عنقها قائلاً بغضب وجمود تجمعا في قبضته :
– مالي ؟ ، رايدة تعرفي مالي ؟ ، إنتِ وبتك حطيتوا راسي في الوحل ، هو سؤال واحد بس وتجاوبي عليه وإلا ورحمة أبوي هخلص عليكِ دلوك .
أومأت له بعيون جاحظة عدة مرات لا تصدق أنه يقبض على عنقها فتابع بعيون حادة مخيفة :
– بتك كيف خرجت برا البيت في الوقت ده ، وليه ؟ ، وانتِ كنتِ فين ؟ ، اللي هي قالته صُح ؟
زاغت أنظارها وباتت أنفاسها مجهدة وهي تحاول التحدث فسمح لها بالكلام ولم يحل وثاقه لذا قالت بمراوغة لتنجو بنفسها خوفاً من بطشه الذي عاد بقوة :
– وأني إش عرفني يا جابر مانا كنت نايمة جارك وقتها ، تلاقيها قالت إكدة من خوفها .
نفض يده من حولها وطالعها بنظرة غاضبة يردف محذراً :
– فكري بس تشوفيها أو حتى تكلميها ، تبقي جنيتي على حالك ، من إهنة ورايح ملناش بت اسمها وردة ، تنسي إنك خلفتي بنت من أساسه .
أومأت له باستمرار فاندفع للخارج وتركها تتنفس بقوة وتخفي بين نظاراتها الجاحظة حقيقة الأمور .
꧁꧁꧁꧁꧁꧂꧂꧂꧂꧂
بعد وقتٍ تم عمل التحاليل اللازمة ل محمد رشيد الذي اتضح أنه يعاني من مشاكل في الكبد بالإضافة إلى الفشل الكلوي الذي يعاني منه مسبقاً وقد كشفته ركلة رامي له .
يقف يستمع إلى الطبيب بحزنٍ شديد ، والده لن يحتمل كل تلك الآلام ، لذا نظر للطبيب وتساءل بترجي :
– بس أكيد فيه حل يا دكتور ؟ .
تنفس الطبيب وتحدث باستفاضة وجدية :
– الحل الدائم مكلف جداً يا صالح ، وغير كدة صعب ، يعني والدك محتاج متبرع يقدر يتبرعله بجزء من الكبد ، والعملية مش هتتعمل هنا ، في الوقت الحالي الوضع مستقر وهنحاول نحجمه بالأدوية ، بس لو حصل معاه نزيف تاني هنحتاج تدخل جراحي فوراً ، متنساش المشاكل اللي بيعاني منها قبل كدة .
كان هذا هو الحل الذي يفكر فيه ( التبرع ) لذا أسرع يقول دون أي تردد :
– طيب أنا ممكن أتبرعله ، أعملوا التحاليل ولو التناسب بينا تمام يبقى خدوا مني كل اللي هو محتاچه .
سخر الطبيب من حديثه وقال معنفاً :
– ناخد منك كل اللي هو محتاجه إيه يا صالح هو مخزن ، أنا فاهم إنك زعلان على والدك بس الأمور مش بتتحل كدة ، إهدى وزي ما قلتلك ، في الوقت الحالي الوضع مستقر ومافيش داعي تقلق .
التفت ينظر لوالده الذي يتمدد على الفراش داخل الغرفة بينما هو والطبيب يقفان خارجاً .
ابتسم لوالده فبادله وأومأ له يطمأنه بنظراته لذا عاد ينظر نحو الطبيب قائلاً بهدوء :
– طيب يا دكتور دلوك إيه المطلوب ؟ ، ويقدر يروح إمتى ، والتعامل مع حالته يبقى إزاي علشان يبقى مرتاح ؟
تحدث الطبيب بتروي :
– هنمشي زي ما كنا بنتعامل عادي خالص مع شوية حرص والتزام بمواعيد الأدوية ، بس دلوقتي هناخده على جلسة الغسيل وبعدها يروح ، أهم حاجة الغذا السليم ومواعيد الأدوية .
أومأ للطبيب ووقف يتنفس بقوة ويفكر في كل تلك الأوضاع التي تراكمت فوق رأسه وأهمهم صحة والده .
꧁꧁꧁꧁꧂꧂꧂꧂
بعد عدة ساعات .
اعتدلت تلتقط أنفاسها بقوة بعد الجهد الذي بذلته في جمع القليل من محصول القمح ، كانت تظن الأمر لن يستغرق كل هذا الوقت ، ولكن على ما يبدو أن طاقتها محدودة جداً بالنسبة لجمع المحصول كاملاً بالإضافة إلى آلام جسدها التي ما زالت قائمة منذ أمس بعد الضربات التي تلقتها .
نظرت حولها وصدرها يعلو ويهبط ، ترتدي جلبابه وتحجب خصلاتها بعمامته ، من يراها من بعيد يظنها رجلاً .
انتفضت فجأة على الصوت الصادر من خلفها لأحدهم يتساءل بتعجب :
– إنت مين ؟ .
التفتت تطالع هذا الغريب بنظرات متوترة ثم تنفست وتحدثت بشموخٍ وقوة دعائية :
– إنت اللي مين وبتعمل إيه إهنة ؟
تعجب الرجل من هيأتها ، لقد ظنها رجلاً ولكنها أنثى في ثياب رجل ، تحدث بدهشة مرتسمة على ملامحه :
– وه ؟ ، إنت مين وبتعملي إيه في أرض صالح ؟
زفرت بقوة وتحدثت بثبات برغم توترها الذي تحاول إخفاؤه :
– دي أرض چوزي ، أني مرات صالح ، هتقول إنت مين بقى ولا أكلمه أخليه ييجيلك ؟
ما زالت الدهشة تعتلي ملامح محمود قريب صالح بل أنه شك في أمرها لذا تحرك قليلاً يبتعد عن تلك التي ظنها مجنونة والتقط هاتفه يهاتف صالح الذي يقف مجاوراً لوالده .
أجابه صالح متسائلاً :
– أيوة يا محمود ، عملت إيه يا أخوي ؟ .
تحدث بتعجب وهو يطالعها وهي تقف تناظره بتوتر بعدما علمت أنه يهاتفه :
– أيوة يا صالح ، دلوك أنا جيت ع الأرض بس لقيت حاچة غريبة .
ضيق صالح عينيه وتساءل وهو يبتعد قليلاً عن والده :
– حاچة إيه يا محمود ؟ ، خير ؟
تحدث محمود يشرح له ما رآه قائلاً :
– فيه واحدة لابسة جلابيتك وعمتك وواقفة تجمع المحصول ولما سألتها هي مين وبتعمل إيه في أرضك قالت إن دي أرض چوزها .
صدمة باعدت بينه وبين الأحرف لثوانٍ ، هل خرجت تجمع محصول أرضه ؟ ، هل سمعته صباحاً ؟ ، ما شأنها هي بذلك ؟ ، هل قال أنها أرتدت جلبابه ؟ ، ماذا تريد تلك الوردة من حياته وأي لعنة ألقت بها على قلبه وعقله الذي كلما تجنبها أتت إليه عنوةً .
أفاق على نداء محمود المتكرر له فتحمحم يقول بهدوء وتقطع من أثر صدمته :
– أحم ، كلامها صُح يا محمود ، بس معلش خليني أكلمها إكدة .
تعجب محمود وتساءل بدهشة :
– وه ؟ يعني إيه صُح ، إنت اتچوزت إمتى يا واكل ناسك ؟
تأفأف صالح وقال بعچالة :
– هفهمك يا محمود لما أشوفك بس دلوك إديلها التليفون خلينا اتكلم وياها .
زفر محمود واعتلت الدهشة ملامحه ثم عاد يتقدم منها وهى تطالعه بحذر فمد لها يده بالهاتف قائلاً بنبرة ساخرة :
– خدي اتحدتي ويا چوزك .
توترت أنظارها ومدت يدها تتناول الهاتف ثم ابتعدت قليلاً ووضعته على أذنها وتنفست بقوة قبل أن تجيب بتوجس قائلة :
– نعم ؟
تنهد كأنه ارتوى من صوتها ولكنه عنف مشاعره التي تأتي في أوقاتٍ خاطئة ثم ادعى الجمود وتحدث بجدية وصرامة :
– دلوك تاخدي حالك وترچعي ع الدار ولما أرچع هيبقى لينا حديت تاني ، حالاً يا وردة .
اغتاظت من نبرته وأوامره ولكنها تساءلت بترقب :
– والدك عامل إيه دلوك ، وضعه بخير ؟
تعجب من اهتمامها بصحة والده ، تعجب من شخصيتها التي ظن أنه بدأ يفهمها ولكنه كان مخطئاً ، تجاهل سؤالها وعاد يردف محذراً :
– مبحبش أعيد كلامي يا بت الناس ، قولتلك دلوك ترجعي ع الدار وادي التليفون لصاحبه ، يالا عاد .
زفرت بحنق ثم تقدمت وناولت الهاتف إلى محمود ثم عادت أدراجها نحو المنزل وتركت هذا الواقف ينظر نحوها بتعجب ثم وضع الهاتف على أذنه فتابع صالح :
– قولي يا محمود ، هي جمعت محصول أد إيه من الأرض ؟ ، وجمعته كيف ؟
التفت محمود يتفحص الأرض بأنظاره وأكوام المحصول المحصود ثم اعتدل يجيب بتقارب :
– حصداه زين يا صالح بس بالجزارة مش بالآلة ، علشان إكدة مش كتير يعني بس مش قليل بردو ، يعني حوالي قيراطين إكدة .
تعجب من فعلتها ، استخدمت تلك السكين التي هجمت عليه بها أمس ! ، مؤكد لا تعلم مكان الآلات فهو يخزنها في غرفة مغلقة ولكن من الواضح أنها أُجهدت كثيراً خاصةً وأنها مجهدة بالفعل بعد ليلة أمس .
تنفس يردف بضيق :
– خلاص يا محمود شوف شغلك دلوك وأني ساعة ولا اتنين وراچع .
أغلق معه بعدما أوصاه والتفت يعود لوالده الذي يستند على مقعد ينتظر انتهاء جلسته .
تساءل صالح بعد قليل بترقب :
– بقولك يا أبوي ، هنزل أچيب حاچة من تحت وأرچعلك ؟ ، ماشي ؟
أومأ محمد وتحدث بجهد :
– إنزل يا ولدي متقلقش ، لسة بدري لحد ما الچلسة دي تخلص .
أومأ له وتحرك بعدما أوصى الممرضة عليه ، نزل للأسفل ومنه نحو السوق التجاري ليبتاع بعض الأغراض .
كان المكان قريباً من المشفي حيث وصل سريعاً إلى محل ملابس ودلف ، وعلى غير عادة قابله صاحب المحل والذي لم يكن سوى شاب في نفس عمره وبينهما معرفةً مسبقة ولكنه الآن ينظر اليه نظرة جديدة تعجب لها صالح .
ألقى السلام وقال :
– معلش يا قاسم كنت محتاج شوية حاجات إكدة وفلوسهم هتوصلك بكرة الصبح أول ما أبيع المحصول .
طالعه قاسم بتعجب وحك الجهة الخلفية من رقبته يجيب بمكر :
– ومالو يا صالح ، المحل تحت أمرك ، بس حاچات زي إيه ؟
أحس صالح بالمكر في حديثه وبدأ يستشف حقيقة الأمور ، على ما يبدو أن خبر زواجه من وردة ابنة جابر السيوفي بدأ ينتشر ، تنفس بقوة وقرر تجاهل الأمر ولف عينيه يبحث بين أغراض المحل قائلاً بجدية :
– هدوم حريمي ، عبايتين وكام قميص بيت إكدة .
نبرته وطريقته في نطق جملته جعلت قاسم يتجاهل فضوله ويومئ قائلاً :
– تمام يا صالح ، تعرف المقاس ولا نختار حاچات وسط ؟
دقق النظر في عينيه وتحدث بنظرة ثابتة وبنبرة جادة :
– لارچ يا قاسم ، لسة عنديك أسألة ولا خلاص إكدة ؟
تحمحم قاسم وأومأ وتحرك يحضر ما يريده صالح ، المعروف عن صالح بين شباب البلدة يجعلهم مرحبين بالتعامل معه ، سمعته الحسنة وشموخه ومواقفه الرجولية مع الناس تميزه بينهم ، ومؤكد أن قاسم برغم ما سمعه صباحاً إلا أنه يكن لصالح الود والإحترام ويشك في حقيقة تلك الأخبار الواردة ، فهو يعلمه جيداً ويصعب تصديق ما سمعه ، ولكن هل يا ترى الجميع مثله أم هذا تفكير الأقلية فقط !!
خرج صالح يحمل الأكياس في يده ويتجه نحو محل بيع الهواتف ، لا يعلم لمَ يفعل ما يفعله ولكن في يقينه أن تلك الأغراض أقل حقوقها منذ أن بات أمرها واقعاً على عاتقه ، يعلم أنها لا تمتلك حتى الملابس ، وبالنسبة للهاتف فوجوده معها أمراً ضرورياً ليستطيع الوصول لها حيثما يريد .
دلف يلقي السلام ويتوقع نفس النظرات بل وتعمد تجاهلها .
تحدث مباشرةً إلى الشاب الذي يستند على الدولاب الزجاجي ويتلاعب بإحدى الهواتف قائلاً :
– بقولك يا فتحي ، كنت رايد موبايل عادي وفلوسه هتوصلك بكرة الصبح .
طالعه فتحي بتعجب فقد سمع للتو أنه تزوج ليلة أمس من وردة السيوفي ، وكالعادة نظرة صالح ثابتة تتفوة بمَ لا تستطيع الألسن نطقه ، يخبره بنظرته أن يتجاهل تماماً ما سمعه .
وهذا ما حدث حيث اعتدل فتحي وتحمحم يتساءل :
– ومالو يا صالح المحل تحت أمرك ، بس قولي عايزه كيف ، قدامك أهي البترينة اختار اللي يعچبك منيها .
نظر صالح نحو الهواتف المعروضة وقبل أن يقرر اختيار أحدهم سأله فتحي بفضول تغلب على جدية صالح :
– هو إنت صُح اتجوزت يا صالح ؟
تحدث دون أن يلتفت له ليقطع هذا الحديث قائلاً بنبرة باردة :
– اللي سمعته صُح يا فتحي ، والچهاز ده كويس .
قالها وهو يشير على أحد الأجهزة ليقطع باقي حديثه فتحرك فتحي يحضره بصمت ووقف صالح يتنفس ويجاهد ليهدأ ، على ما يبدو أن المعاناة بدأت للتو .
انتهى صالح من شراء ما يريده وأثناء عودته سمع الأفواه تهمس وتشير عليه فتابع خطواته بضيق إلى أن أوقفه أحدهم يقول ساخراً :
– صباحية مباركة يا عريس .
توقف صالح مكانه لثوانٍ ثم التفت يطالع هذا البغيض والذي لم يكن سوى تاجر ألبان كان بينه وبين صالح خلافٍ سابق .
طالعه صالح بنظراتٍ مبهمة ثم التفت ليغادر ولكنه عاود حديثه قائلاً بنبرة استفزازية يتعمد وضعه في موقف حرجاً بين الناس :
– حقك يا عم ، ما أنت بقيت نسيب عيلة السيوفي ، بس مش كنت تعزم حبايبك بردو يا واكل ناسك ، ولا هو الموضوع جه إكدة فجأة ؟
كان هناك بعض المارة والتجار يقفون ينظرون نحو صالح الذي بات كأنه لا يسمع صوت هذا السئيل بل أكمل سيره بثبات إلى أن غاب عن أنظارهم مما أدى إلى اشتعال غضب هذا البائع وأردف بجرأة مخادعة بعد أن تأكد من رحيله :
– شوفته يا عالم ، أهو اللي كان بيقول إنه شريف وشهم ، وياعالم الموضوع ده حصل إزاي وعمل إيه علشان يبقى نسيب عيلة السيوفي بحالها ، الدنيا مبقاش فيها أمان يا عالم .
لم يجبه أحد برغم التشتت الذي أحدثه هذا الخبر منذ الصباح ، فالبعض وثق في صالح والبعض تشوشت ثقته واهتزت بهذا الشاب والقلة فقط هم من يصطادون في المياة العكرة .
وصل إلى المشفى وحالته لا تسر عدو ، نيرانه تغلي ولولا حكمته التي ما زالت بحوزته لذهب ولكم هذا المستفز ولكنه استعمل كل درجات ثباته حتى لا يعيره اهتمام ، سمعته أصبحت علكة في أفواه الحاقدين وهذا من كان يتجنبه طيلة حياته .
كل هذا حدث بسبب شهامته وتدخله لإنقاذ تلك الوردة قبل حتى أن يعلم هويتها ، ليته لم يرها ولم يقع في حبها يوماً ، لكان الأمر هيناً قليلاً ، ولكنه يعاني من الغضب والعجز والخذلان معاً .
صعد ليجد أن جلسة والده قد انتهت وبعد المعاينة وتوصية الطبيب ووصف الدواء المناسب رحل هو ووالده عائدان إلى منزلهما عند غروب الشمس .
꧁꧁꧁꧁꧁꧂꧂꧂꧂꧂
يقف رامي مع فارس في أرض عائلته المجاورة لأرض صالح .
تحدث فارس بقلق بعدما فهم مخطط رامي وما يريده :
– بس الموضوع ده يقلق يا رامي ، ممكن يتعرف إن إحنا اللي عملنا إكدة ووقتها فيها حبس .
تحدث رامي بخبث يحفزه قائلاً :
– يا عم متخافش مافيش حاچة هتتعرف ، هي سيجارة وقعت ع المحصول والنار مسكت في الهشيم ولا من شاف ولا من درى ، ها قولت إيه عاد ؟ ، فكر في ال money .
يعلم جيداً نقطة ضعف فارس لذا قال جملته ساخراً فتحمحم الآخر وتحدث وهو يحك رأسه مفكراً :
– إنت قولت كام بالضبط ؟
ضحك رامي وبنبرة ماكرة أجابه :
– عشرين ألف جندي ، عمرك شوفت سيجارة تمنها إكدة ؟ ، علشان بس تعرف إنك غالي عندي .
زفر فارس وقال محذراً :
– ماشي يا رامي ، موافق ، بس تخليك إهنة لحد ما أخلص وأرجعلك .
أومأ رامي يردف بتأكيد :
– مش ماشي ، إحنا قاعدين إهنة لحد ما الفلاحين كلهم يروحوا وميبقاش فيه غيرنا ، وبعدين لازمن نتأكد إنه اتخمد علشان تنفذ وانت مطمن .
بدأ قلق فارس يتلاشى وهو يفكر أن خطة رامي متقنة وأن تنفيذها أمراً هيناً ، فقط لفافة تبغ مشتعلة وقعت دون قصد فأشعلت الهشيم .
꧁꧁꧁꧁꧁꧂꧂꧂꧂꧂
وصل صالح إلى منزله ، تلك المرة طرق الباب وهو يسند والده ففتحت له وردة تطالعهما بترقب ثم ابتعدت عن الباب لتسمح لهما بالدخول وقالت وهي تنظر نحو محمد :
– حمدالله ع السلامة يا عمي ، الدكتور قالك إيه ؟
تحدث محمد بوهن وهو يخطو ليجلس على الأريكة بمساعدة صالح :
– الحمد لله يا بتي ، لسة في العمر بقية .
تنهدت بارتياح بعد حديث محمد لها ، لقد ظنت أنه سيكون جافاً معها ولكنه خالف ظنها بنبرته الحانية ، لذا أسرعت تردف بحماس :
– أني سلقتلك فرختين بلدي ، أكيد راجع جعان ، هروح اچبلك تاكل علطول .
تحركت نحو المطبخ تحت أنظار صالح المندهشة منذ دلوفه خاصة بعدما رآها ترتدي جلبابه ، غابت عن أنظارهما فنظر لوالده قائلاً بنبرة لينة معاتبة :
– إيه يا حچ محمد ! ، فكرتها مرت ولدك بحق ولا إيه ! ، مانا حكيلك كل حاچة عاد .
تحدث محمد بتروي وهو يتنهد بعمق :
– غلبانة يا ولدي ، مبقاش ليها غيرنا ، وياعالم قالت إكدة ليه ، يمكن كنت إنت طوق النجاة الوحيد ليها ، مهواش سهل على بت السيوفي تقول إكدة وتاچي تعيش عيشتنا ، أكيد فيه سبب ، ربنا هينصرك ويردلك حقك بإذن الله .
زفر صالح بقوة ، حديث والده يبعث الطمأنينة ولكن الأمور تخطت حدودها بعد انتشار الخبر ، وعلى ما يبدو أن الصعاب ستواجهه ، لقد رأى الجحيم في عين عائلتها ويوقن أنهم لن يهدأوا بعد اعترافها الظالم هذا .
تحدث ليغير مجري الحديث :
– قوم يا حچ محمد علشان تغسل وتدخل ترتاح على سريرك .
꧁꧁꧁꧁꧁꧂꧂꧂꧂꧂
بعد وقتٍ وبعد أن أسدل الليل ستائره على البلدة .
يتمدد محمد على فراشه ويطعمه صالح من الحساء الذي أتت به وردة بعد رغبتها في إطعامه وتقديم بعض المساعدة ولكنه رفض رفضاً قاطعاً وصمم على عدم تدخلها في شؤون والده .
انتهى ونهض وترك والده ينام بعد جهدٍ وتعب ، وجدها تجلس على أحد المقاعد في المطبخ فوضع صينية الطعام وتحدث دون النظر إليها :
– فيه برا حاچات ليكِ ، علشان مرة تانية متلبسيش هدوم غيرك ، واللي عملتيه في الأرض النهاردة معيزهوش يتكرر واصل ، شغل الأرض ملكيش صالح فيه ، فهمتي ؟
ضجرت من عجرفته معها ، أولم يتعلم قول شكراً لها بعدما جمعت محصول أرضه ؟ .
التفت ليغادر فأردفت باستفزاز :
– خيراً تعمل شرا تلقى .
التفت يطالعها بعيونه ، عيون نطقت مؤكدة على حديثها قبل أن يؤكدها لسانه بنبرة معنية :
– صُح ، خيراً تعمل شراً تلقى .
غادر وتركها تندم على ماقالته ، ربما ودت لو تبادلا الحديث ولكنها غفلت عمّا فعلته به ، هل ظنت اتهامها له هيناً وما فعلته سيمر مرور الكرام ؟ ، إذاً هي حقاً لا تعرفه بعد .
خرج ليرى أرضه وليحفظ حصاده في المخزن حتى لا يتم سرقته برغم انتباهه .
نظر للأرض التي على ما يبدو جُمع نصفها وتبقى نصفها فقط ، لذا تنهد وعزم أمره على حفظ ما جمع في الغرفة المخصصة لتخزين المحصول وترك جمع البقية للصباح .
أما في الداخل فخرجت تنظر للأغراض التي قال عنها ، بحثت فيها فوجدتها ملابس مختلفة وحذاء وهاتف .
تنهدت بحزن ، تذكرت أمرها مسبقاً ، دوماً هي من ابتاعت لنفسها تلك الأغراض ، لم يأتِ أحدهم بشيء لها من قبل ، هذه هي المرة الأولى التي يبتاع لها شخصاً ما أغراضاً خاصة ، لذا فهي حزينة على ما فعلته ، نادمة ، منذ اللحظة الأولى التي نطقت بها هذا الاتهام وهي نادمة ويتآكلها الندم ولكن لم يكن حينها هناك مخرجاً آخراً مما وقع عليها سوى ذاك الأمر ، هي تؤمن بالقضاء والقدر ، وبمَ أنه أوحي إليها قول هذا آنذاك فمن المؤكد هناك حكمة تنتظرهما .
تنفست بقوة ورفعت بكفها مقدمة الجلباب تستنشقه بتفنن وتغمض عينيها ، ابتسمت ثم تحدثت وهي تنهض للحمام :
– ريحتك حلوة قوي .
بالطبع رائحته طيبة ، أنتِ لا تعلمين عن زوجكِ الكثير بعد أيتها الوردة ، فهو صانع الروائح الطبية وصاحب النفس الأطيب .
꧁꧁꧁꧁꧂꧂꧂꧂
في الثالثة صباحاً .
وبعد يومٍ شاق قضاه صالح ، يتمدد على الأريكة الخارجية في سبات عميق بعدما أصر على النوم هنا واستبدال فراشه مع وردة .
وعلى عكسه تماماً يحوم الأرق حولها فلا تستطيع النوم في سريره بالرغم من رتابته ونظافته إلا أنها مستيقظة تفكر في أمره وشخصيته وحياته وحياتها معه .
أصبح زوجها في ساعات بل دقائق معدودة ، لا تعلم من أين أتتها تلك الثقة به لتلقي بنفسها في براثنه دون معرفته جيداً .
ولكن مهما كانت خصاله وطباعه لن يكون أسوء من أفراد عائلتها وما عاشته معهم ، مؤكد شخصاً مثله أنجاها من مصير محتوم يمتلك شخصية كريمة وهذا ما بدأ يتضح لها .
تعمقت بأفكارها في الأيام القادمة وكيف ستقضيها هنا وكيف ستتعامل معه ، ربما اطمئنت من جهة محمد الحنون ولكن ماذا عنه وعن جفائه معها ؟
تسللت إلى الغرفة وإلى أنفها رائحة دخان وصوت النيران وهي تأكل الهشيم .
توقفت عن التفكير ونهضت على الفور تفتح النافذة لترى ما جعلها تجحظ بصدمة ، الأرض على مرمى بصرها تحترق وألسنة اللهب تلتهم القمح الذهبي كما لو كأنها تضور جوعاً .
انفكت عقدة لسانها وبدأت تصرخ مستنجدة :
– الحقوووونا ، الأرض بتولــــــــــع .
ركضت للخارج حيث يتمدد صالح وهزته بقوة مردفة بصراخ :
– الأرض بتولع يا صالح فوووووق .
انتفض صالح في أقل من لحظات يركض نحو الخارج بتشتت وضياع كأنه في كابوساً مزعج ليرى أمامه المحصول يتآكل .
أسرع نحو حوض سقي الأرض وبدأ بملئ الدلو ثم دفقه على النيران وقد عقد لسانه حتى أنه لم يطلب النجدة من أحد بل تتوهج النيران في عينيه .
من تصرخ هي وردة وتساعده في ملئ المياة وتستنجد بالبشر الذين تبخروا ، فهنا لا يقطن أحداً سواهم .
كان محمد قد استيقظ أيضاً واستند حتى وصل للخارج ووقف عند محيط منزله يتطلع على أرضه وابنه وحالتهما بحسرةٍ ويردف مستسلماً بوهن وحزنٍ شديد :
– عليك العوض ومنك العوض ياااارب .
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية عشق بين هشيم مشتعل) اسم الرواية