رواية أشلاء القلوب الفصل الحادي عشر 11 - بقلم ندى محمود
أخترق صوته مسامعهم كالرعد ، ولكن الكلمات كان وقعها أكثر كالصاعقة التي احرقتهم في أرضهم، او أشبه بوقف الزمن !! :
_ لا بقت مراتى !
لحظات من الصمت هيمنت على الجميع ، تهجمت ملامح ليلى وأسمى وأختلطت الصدمة بالثوران الهائج وهو يستمعون إلى كلمة ” مراتى ” أذانهم تحاول تكذيب ما يلقى عليها، أصبحت ليلى كجمرة نار متوجهة وأسمى أكتفت بتعابير وجهها الثورانية وكان السبق لليلى فى الصياح قائلة :
_ مراتك ده إيه!!.. انت بتهزر صح.. لا مهو مش معقول توصل معاك لكده يا أُسيد.. هو ده اللى كنت خايفة منه دلوقتى وضحت نيتها كويس أوى الله اعلم قالتلك إيه واقنعتك بده ، مهى حرباية ليها كذا شكل ولون وبتمثل دور الغلبانة والبريئة
غامت عيني ملاك بالعبرات الحارقة فتلك الكلمات ثقيلة على القلب، إلى متى ستظل في هذا العذاب ، فرت هى من بطش نيرة وأكرم لتقابل زوجة خالها وابنتها ، سمعت صوته الرقيق هامسًا بجانب أذنها :
_ اطلعى على اوضتى فوق أنتى عرفاها
اماءت بموافقة فى أعين دامعة وهرولت مُسرعة إلى اعلى وسط نظراتهم النارية التى تكاد تحترقها أرضًا، فتعود مُجددًا ليلى لصياحها الغاضب :
_ مش واضح زعلك على مراتك، رايح تتجوز وهى مكملتش لسا ست شهور ، لا ورايح تتجوز مين أاااا …….
صرخ بصوت جهورى أهتزت له أركان المنزل أيقظت البركان الخامد بداخله بذكرها زوجته ، جعلهم يقتلعون عن الكلام فورًا فى خوف :
_ جوازى من ملاك ملوش أى علاقة بحزنى على مريم ده حاجة وده حاجة ، قسمًا بالله اللى هيدايق ملاك بحاجة هتشوفوا أُسيد اللى أنتوا عارفينه والكلام بذات ليكى يا أسمى هانم.. ملاك بقت مراتى خلاص واللى هيوجه أى اهانة ليها كأنه بيهنى أنا، وصل الكلام يارب اللى حصل دلوقتى ده ميتكررش تانى
سمعت صوته فى الغُرفة ، أرتعدت اوصالها وفقدت القدرة على التحرك ، كان هذا أخر شئ تود حدوثه أن يرفع صوته على والدته واخته ، ستفتر العلاقة بينهم بسببها ، عاتبت نفسها وأنبها ضميرها ، أين كان عقلها حين وافقت على هذا الزواج الذى لن يجدى نفعًا لأى من أطراف البيت وبالأخص هى، كان بأمكانها أن تطلب منه المساعدة فى تخلصيها من هذا العذاب ولكن عن طريق ترك البلاد، ترك كل شئ خلفها تعيش فى مكان جديد بحياة أفضل لعلها تجد فى تلك البلد الشخص المناسب لها الذى يخرجها من الظلمات، تكاد الشجون تشق صدرها وتقسم اضلعها.. خالطتها فكرة مجنونة وهى أن تطلب منه الطلاق بمجرد قدومه !!!!!
بالأسفل تقدمت ليلى ناحية ابنها تتطلع إليه بخيبة أمل وأسف لتهتف بصوت يخالطه البكاء :
_ هتعمل إيه يعنى يا ابن ياسر لو زعلت ست الحسن لتكون هتمد ايدك عليا ، مهو ده اللى ناقص فاضل إيه بعد ما تعلى صوتك وتهددنى، روح خليها تنفعك اللى بتعصى امك علشانها دى
لتسدير وتتجه نحو غرفتها والعبرات تنهار على وجنتيها لترمق أسمى أخيها بنظرة غاضبة ولا تختلف كثيرًا عن نظرة والدتها، ثُم ركضت تلحق بها وكذلك هو صعد إلى غرفته ليفتح الباب على مصراعيه ويدفعه بعنف مصدرًا صوتًا أهتزت له أركان الغُرفة ومعها جسدها الذى أرتجف رعبًا من هيئته المخيفة وعيناه التى تحولت إلى كتلة دماء أوشكت على الانفجار.. راقبته وهو ينزع سترته عنه ويلقيها بعنف على الفراش بجانبها ثُم يتجه ليجلس على الاريكة الوثيرة دافنًا وجهه بين ثنايا قبضتى يديه، ساد الصمت لدقائق طويلة بينهم حتى خرج صوتها المبحوح الذى يغالبه البكاء :
_ كل ده بسببى ، صدقنى لو كنت اعرف أن الامور هتوصل لكده مكنتش وافقت على الجواز ده نهائى أنا توقعت أنها هتتعصب فعلًا وهتحصل مشكلة بس مش للدرجة دى !
ظل على وضعيته كما هو لم ينبث ببنت شفة أو يرفع نظره لها حتى فطغى البكاء عليها مردفة بنشيج مسموع :
_ روح صالح أمك يا أُسيد وبوس على ايدها وراسها متخلهاش تغضب عليك بسببى ، أمك مش هتتعوض لكن أنا هروح وهتيجى الف وحدة غيرى، ولو طلبت منك تطلقنى متقولهاش لا !!
رفع رأسه اخيرًا متاملًا وجهها الذى امتلأ عبارات ، رأى الطيبة الناطقة فى وجهها ، لم يخطئ عندما شبهها بطفل صغير يستطيع نسيان من احزنه فى ظرف لحظات ، طفل لا يحمل فى ثنايا قلبه حقدًا أو كره تجاه أحد ، صافى القلب كصفاء المطر .. أكملت بصوت مرير :
_ هى عندها حق فى كل حاجة بتعملها أنا لو مكانها هعمل كده ، يعنى هى مقتنعة أن ماما كانت السبب فى موت جوزها طبيعى هتكرهنى وهتكون معاملتها ليا كده وعلشان كده أنا مش برد عليها وبستحمل كلامها وبسكت ، أنا مش زعلانة والله غير أنى اتعودت على كده كمان أنا عارفة أنه هييجى يوم وهتعرف لوحدها أنها ظلمتنى والأمور هتتحسن
نهض من مقعده ليسير ويجلس بجانبها هامسًا بنبرة تفيض حنانًا :
_ أنتى ملكيش ذنب فى حاجة ياملاك !
هتفت ببكاء مرير وقد سيطرت عليها موجة بكاء عنيفة :
_ لا ليا متقولش مليش ذنب ، أنت حملتنى اكبر ذنب دلوقتى وهو أنك بتعصى أمك وتتعصب عليها بسببى.. عندهم حق أنا من ساعة ماجيت مجبتش الخير وجات المشاكل معايا
أحاط وجهها بكفيه متشدقًا بعينان تبتسمان وصوت ينسدل كالحرير ناعمًا :
_ معندهمش حق طبعًا، هو فى ملاك بيجيب الشر والمشاكل لما يدخل البيت، يلا اهدى وامسحى دموعك كده
دفعت كفيه بعنف صائحة به لأول مرة فى أنفعال جلى :
_ مش هـهدى يا أُسيد غير لما تروح تصالح أمك وتعمل اللى تطلبه منك ، متحملنيش ذنب زى ده ارجوك.. قوم يلا
هز رأسه بالموافقة فى هدوء وهب واقفًا متحفزًا ثُم أنصرف متوجهًا نحو غُرفة أمه … !!
***
أشار للنادل بيده وثوانٍ وكان أمامهم وهو يقول له بنبرة رسمية ممزوجة بإبتسامة عذبة :
_ طلبات حضرتك ايه ؟
علق نظره على زمردة مجيبًا بخفوت رجولى :
_ هتشربى إيه ؟
تنهدت بعمق زامة شفتيها بضيق زائف فقد أجبرها على القدوم معه، وبعد سؤاله الآن أبت أن تتحدث لولا نظرته الصارمة يأمرها بالإجابة فهتفت باقتضاب :
_ عصير مانجا !!
انتصب فى جلسته وأردف محدثًا النادل بخشونة :
_ اتنين عصير مانجا !
اراخت ظهرها على المقعد غارزة طرف حذائها فى الارض بعصبية وترمقه شرزًا واخيرًا تحدثت بأنزعاج :
_ عايزة إيه يامراد هاا ، اخلص
اشتعلت دمائه فى عروقه ليهتف بسخط زائف :
_ فى إيه يابت ما تتعدلى بدل ما اعدلك !!
أستقرت فى عيناها نظرة ملؤها الكبر والاستعلاء، فتأففت بخنق وهى تهتف بغيظ :
_ هتعملى إيه يعنى، أنا معرفش انتو شايفين نفسكم على إيه، اخلص قول عايز إيه علشان أنا واصلة معايا لهنا
قالت أخر جملاتها وهى تشير إلى رقبتها فمد يده بكوب الماء متمتمًا بإبتسامة مستفزة :
_ طاب خدى اشربى ونزليها لتكتم على نفسك !!
أشاحت للجهة الاخرى مستغغرة ربها مرارًا وتكرارًا تجاهد فى أخفاء الضحكة التى تنشب الحروب لخروجها ، نظرت له وهمست بوجوم ولكن العيون تبتسم :
_ مش وقت هزارك البايخ ده على فكرة !
ضحكة صامتة ظهرت على محياه فأستطرد مبتهجًا :
_ طيب سيبك دلوقتى من الهزار ولمى لسانك الطويل ده احسلك، وقوليلى مش عايزة تقولى لمروان ليه أنك أخته
تنفست الصعداء بأمتعاض لتجيبه بمرارة :
_ أنا مرتاحة كده يامراد ، أنت شايف اللى حاصل لملاك من ساعة مادخلت العيلة صدقنى كنا عايشين مرتاحين ط.. ثُم إن ملاك عملوا معاها كده ولسا كمان جدى وعمى لما يعرفوا أن هى وأسيد اتجوزوا هيعملوا إيه يبقى أنا هيعملوا إيه معايا
اتكأ بساعديه على سطح الطاولة مغمغمًا بنبرة لا تحمل أى من المزح نبرة تحمل من الجدية والزمجرة مايكفى لإخضاعها :
_ ملاك وضعها مختلف يازمردة وجدى وعمى فاكرين أنها بنت مش شرعية علشان كده محدش قابل وجودها، لكن أنتى وضعك مختلف ومينفعش تقعدى وحدك وسط الظروف دى من جهة معتز ومن جهة أكرم متعانديش واسمعى الكلام وأنتى بذات وضعك أصعب من ملاك وأنتى عارفة أنا قصدى كويس إيه
اعتدلت فى جلستها وتهمس برعب جلى :
_ اوعى تكون قولت حاجة لحد يا مراد
بنبرة كلها ثقة وثبات هتف :
_ اطمنى محدش يعرف حاجة بس علشان محدش يعرف حاجة لغاية ما أنا احل الموضوع ده ، تبطلى عند كده وتوافقى أننا نقول لمروان
أغمضت عيناها بعبوس تكره ضعفها الذى يضطرها لقبول تلك الامور ، لا تريد آثر ذلك الرأى الذى يقترحه عليها ولكنها مجبرة حتى تستمر فى أخفاء الحقيقة التى تحاول هى ومراد فى اخفائها عن الجميع ، تابع بنبرة مهتمة :
_ زمردة أنا خايف عليكى عايزك تبقى جمب اخوكى علشان لو حصل أى حاجة واتكشف الموضوع تبقي فى آمان
رفعت يدها فى وجهه متشدقة بضجر ، تخرج الكلمات من فمها بصعوبة كان هذا آخر شئ تود حدوثه :
_ خلاص يامراد خلاص قوله هعمل إيه يعنى ، أما نشوف هيحصل إيه كمان لما يعرف هو وأمه وبقية البيت
***
تجلس أسمى بجانب امها تحاول تهدئتها ، لم تتوقف عن البكاء منذ ما سمعته من فم ابنها .. تلك الشمطاء ستقضى علينا جميعًا أقنعته بالزواج منها بحيلة ماهرة لم تعرفها واوقعته فى شباكها ، نعم لقبتها بشمطاء، ذلك الملاك الذى لا يحمل فى قلبه سوى الحبٌ والودٍ والعطف يلقب بشمطاء ، تتوعد مرارًا وتكرارًا وتخبر ابنتها بأنها لن تترك ابنها لها.. ترىَ ماذا سترى المسكينة ملاك على ايدى هذه المرأة القاسية التى جهزت عدتها لخوض حرب عزمت من البداية على الخروج منها بأنتصار عظيم وسحقها كالجراد ! …………
دخل أسيد غرفة والدته وعندما رأى وضعها المزرى أشار بعينه إلى شقيقته بالخروج فتطلعت إليه بنظرة متمردة ساخطة ورحلت ، أغلق الباب وتوجه جالسًا أمام والدته ، هم بألتقاط يدها لتقبيلها فسحبتها بعنف بعيدًا عنه فى نفس تنم عن عدم رضى ، أصدر تنهيدة حارة فى خنق ليهمس بحنو :
_ حقك عليا ياست الكل مكنتش أقصد صدقينى ، أنا آسف !
اشاحت بوجهها للجهة الأخرى معبرة عن نفورها وغضبها المستمر فاعتدل فى جلسته أكثر وقرب رأسها من شفتيه طابعًا قبلة حانية على جبينها متمتمًا :
_ أنا مستحملش اشوفك زعلانة منى ، ده أنا ماشى فى الدنيا دى برضاكى .. متزعليش منى يا أمى قوليلى أنتى عايزة إيه بس واللى يخليكى راضية عنى وأنا أعمله ؟!
لمعت عيناها ببريق خبيث لتنظر له هاتفة بجفاء :
_ تطلق الحرباية اللى اسمها ملاك دى !
تأفف بقوة ليجيبها بشئ من الزمجرة :
_ أطلق إيه يا أمى .. ده احنا مكملناش كام ساعة متجوزين ، أنتى مش عايزانى مبسوط أنا مبسوط بجوازى خلاص بقى عايزة إيه تانى
أثار نيرانها فأشتعلت وتوهجت ، الجميع يعرف انه لن يكون سعيد بهذا الزواج قط ، الكل يعى جيدًا حقيقة أنه مازال لم يتخلص من ذكريات زوجته الباقية بعد رحليها ، ولن يستطيع التخلص منها ولو بعد حين .. اذًا لماذا يحاول اقناعهم أنه سعيد هكذا وهو العكس، صاحت به منفعلة :
_ أنت بتضحك على مين علينا ولا على نفسك ، مبسوط إيه .. لا واضح السعادة الصراحة فى عينك .. أُسيد أنت اتجوزت البنت دى لسبب احنا منعرفهوش وأنت مش مضطر تعمل كده الجواز مش ساهل ولو مطلقتهاش دلوقتى هتطلقها بعدين .. كنت قادر تصبر لغاية ما تلاقى الوحدة اللى تعوضك شوية عن فقدان مريم وتعوضك عن خسارة ابنك وتجبلك العيال اللى نفسك فيهم ، حرام عليك يابنى بتعمل فى نفسك كده ليه ؟!
قامت بالقاء الملح على جرحه الذى لم يلتئم بعد ، هاجت شجونه وعصفت الأعاصير بقلبه الممزق خاصة عند ذكرها الأطفال ، فهو أكثر مايشتهيه الآن طفل يحمل اسمه أنتظره لسنوات وفى النهاية لم يأتِ.. تناثرت أجزاء قلبه فى كل جزء يحاول جمعهم من جديد ولكنه يفشل فى كل مرة ، صعد العبوس والمرار إلى سحنته وظهرت فى عيناه التى كانت ملجأ لتلك الشجون .. واخيرًا همس بإبتسامة مريرة :
_ ومعنديش نية أنى اتجوز جواز حقيقى تانى يا أمى.. فعلًا يمكن يكون نفسى فى ابن بس واضح أنى هكمل حياتى وحيد كده، فأرجوكى احترمى قرارى واقبلى بملاك مرات ابن ليكى على الأقل لفترة معينة زى ماقولتى لغاية مانتطلق، عامليها كويس لو مش علشانها علشانى يا أمى احترامًا ليا هى دلوقتى مراتى يعنى كل كلمة موجهة ليها كأنها موجهة ليا أنا .. أهم حاجة دلوقتى بس متكونيش لسا زعلانة منى
أثرت كلماته فى داخلها وتحركت عاطفة الأمومة بداخلها عندما رأت الحزن والشجن بعينه ، وأشفقت على زهرة قلبها البكرية الذى القت به الظروف القاسية فى محيط يمتد لطول النظر من جميع الجهات وحتّمت عليه الموت غرقًا أو جوعًا أو من البرودة أو الأشدهم المًا عن طريق أسماك المحيط المتوحشة !! .. مدت يدها وملست على لحيته الكثيفة بأعين دامعة هامسة بصوت باكى :
_ ربنا مبينساش حد ياحبيبى وهيكرمك صدقنى ويعوضك مش عن مريم بس لا على طيبة قلبك وحنيتك كمان ، وبخصوص اللى اسمها ملاك دى علشان خاطرك بس هحاول اتعامل معاها كويس ، هحاول يعنى مش اكيد لغاية ما تطلقها
ظهرت إبتسامته الساحرة ليرفع يدها إلى فمه ويقبلها بدفء وكذلك يتجه إلى جبينها ثُم نهض من جوارها بعد أن اخبرها بأنه سيذهب لمباشرة أعماله ………………..
***
أستل الليل ردائه كاملًا ، قضت ملاك يومها وحيدة بعد رحيل أُسيد ، اعتكفت فى غُرفتها بمفردها لم تخرج حتى لتناول الطعام خشية من أن تتلقى ما لا يرضيها من افواههم .. أدركت أنه إذا علم أنها لم تتناول الطعام طوال اليوم ولم تأخذ دواءها سيكون لها من بطشه نصيب فقد أكد عليها قبل الرحيل أن تأخذ دوائها وتتناول الطعام ، ولكن ماذا عساها أن تفعل ليس لديها الجرأة الكافية للخروج أمامهم ، رغم أنها لم ترتكب ذنب لتخشاهم ولكن نفسها الطفولية تمنعها من الاشتباك معهم .. شعرت بأنها أخطأت فى أمر الزواج ظنًا منها أنها ستتمكن من خضوع قلبه لها وتجعله عاشقًا ولهان لها كما أصبحت هى الآن ، ذلك الشعور يعتصر قلبها أن تكون عاشقة له وتنتظر نظرة منه ترىَ فيها رغبته بها وحبه الجنونى وهو غير مبالى لها فقط يريد مساعدتها وحمايتها زارعًا فى عقلها أنه يحبها ولديها جزء في قلبه تحتله وحدها ولكن ضمن محتويات العائلة ” شبيهة بمكانة شقيقته ” وهو فى الحقيقة لم يكن شعوره تجاهها سوى شفقة منه ورأفة بحالها … رياح باردة اقتحمت الغُرفة معها أمواج تحمل اصوات نباح الكلاب المرتفع وكأنهم شئ اخافهم او يتشاجرون حول شئ ……..
على الجانب الآخر كان ريان قد وصل القاهرة بعد سفر دام لساعات فى سيارته وكان أول مكان نزل من سيارته أمامه هو منزل أُسيد الذى تكمن به ملاك ، أو الذى كانت.. اصابته حالة من التوتر والقلق حين لم يجد الرجال أمام المنزل ، سار نحوه وهم بطرق الباب فأذا به يجد زمردة تفتح الباب ويفاجئ بحقيبة ملابسها التى فى يدها وتستعد للخروج.. وقعت نظرتها عليه لتقرأ فى عينه التساؤلات والدهشة فتقابل نظراته ببرود ونظرة أستحقار مجيبة إياه مستنكرة :
_ طبعًا جاى تسأل على ملاك ، بس زى ما أنت شايف ملاك مش موجودة وأنا راجعة بيتى دلوقتى
ضم حاجبيه على بعضهم مردفًا بأستغراب :
_ مش موجودة إزاى يعنى، راحت فين ؟!
أستقرت نظرة منها عليه ملؤها الحقد والغضب مازالت لن تنسى الإهانة التى القاها كالسهم المسموم فى تجاه قلبها غبر مباليًا لذلك القلب الصغير ، لم تسيء معاملته قط ولكنه فعل كأنها نكرة لا تساوى شئ ، والآن يقف امامها وكأن لا شئ حدث ، اطالت النظر فى وجهه تكاد تنفجر به وتكسر أضلعه ولكن حتمًا لن تخرج من الحرب منهزمة دون أن تصنع خسائر فى العدو ، وستسخدم أشد الأسلحة المًا تكاد تكون الهزيمة الحقيقية له !!
تقدمت خطوة نحوه وهى تقول مبتسمة بمكر وتتصنع الصدمة :
_ إيه ده معقول ريان بيه ميعرفش ملاك فين ، تؤتؤتؤ ملهاش حق ملاك متقولكش هى و أسيد .. اصل الصبح كنا عند المأذون عقبالك كده أن شاء الله ، وكان كتب كتاب أسيد وملاك ، وهى دلوقتى فى بيت جوزها !!
ضغطت على كل حرف فى اخر كلمة مستقصدة أشعال نيرانه أكثر بكلمة زوجها ، وقفت تتابع تقلبات وجهه التى أخذت جميع الوان الطيف لتستقر على اللون الاحمر الداكن، فوجدته يهتف وهو يجاهد فى ضبط انفعاله :
_ إذا كنتى حابة تهزرى فده مش وقت هزار خالص لأنى مش فى مزاج للهزار ده وقولى ملاك فين
قهقهت بصوت مرتفع وهى تضرب كفًا بكف واستطردت بنظرة وضيعة :
_ وأنت مين اصلًا علشان اهزر معاك، ملاك فى بيت جوزها اللى هو أسيد ولو مش مصدقنى روح واتأكد بنفسك
رأت نظرة فى عينه ارعبتها حقًا لا تعرف اهى بسبب ماسمعه منها او بسبب طريقتها فى الحديث معه ولكن لا يهم ، الأهم الآن أنها نجحت فى تحقيق مبتغاها ، باغتها بحركة فجائية منه وهو يسحبها من ذراعها إليه هامسًا له بخفوت مرعب :
_ عارفة لو طلعتى بتكدبى هندمك على اليوم اللى شوفتينى فيه، أما طريقتك فى الكلام دى فهدفعك تمنها بطريقتى
دفعت يده بوحشية عنها رامقة إياه شرزًا ثُم دلفت إلى المنزل واغلقت الباب وتركت العنان لدمعة حبست فى مقلتيها بمجرد تذكرها لما قاله لها فى المنزل هنا منذ ثلاث أشهر، أخرجت هاتفها وأجرت أتصال بمراد تعرف منه لماذا تأخر هكذا وهى تنتظره منذ وقت فأخبرها أنه فى طريقه إليها …………….
***
فتح باب الغُرفة ودخل بعد يوم شاق ومُرهق ، نزع سترته عنه كما يفعل دومًا متنهدًا بأرهاق وإذا به يصدم بملاك النائمة على الارضية ، متكورة حول نفسها كالجنين فى بطن أمه لا يوجد مايغطى جسدها الضئيل ويدفيه فى ذلك البرد، انحنى إليها وهتف بصوت قوى بعض الشئ يحمل بداخله السخط :
_ ملاك .. ملااااك
فتحت عيناها دفعة واحدة وانتفضت جالسة عندما رأته وهمست له بخفوت مترقب فى صوت يبدو ناعسًا :
_ نعم !
بنظرات دقيقة تفحصها قائلًا :
_ نايمة على الأرض ليه ؟؟!
ابتعلت ريقها بأضطراب بسيط مغمغمة بتوضيح بسيط :
_ يعنى أصل أنا نمت على الكنبة ولقيتها مش مريحة أوى فنمت على الارض
_ والسرير ده بيعمل إيه؟!
أوضحت أكثر بخجل أشد وهى تهز كتفيها لأعلى لتظهر جهلها قائلة :
_ معرفش بس قولت يمكن أنت مش حابب حد ينام عليه أو جمبك بالاخص
جثى على ركبيته أمامها ، تلك الملاك تتفنن فى كل مرة وتجعله مجبور على معاملتها برقة وحنان كمان ينبغى أن تعامل ، عفويتها وبراءتها الطفولية لا يستطيع المقاومة أمامهم ، تشدق مبتسمًا :
_ وأنتى بأى حق بتقررى بالنيابة عنى ثُم أن أنتى مبقتيش حد ياملاك ، أنتى حاليًا مراتى ومينفعش أنام على السرير وأنتى على الارض أو الكنبة عييب يعنى.. عايزك تتعاملى بعفوية ياملاك ده بيتك خلاص، قومى يلا كملى نومك على السرير وأنا هاخد دش وأنام زيك .. بس قبل ماتنامى أكلتى وأخدتى علاجك ولا قاعدة من الصبح مكالتيش حاجة
ازدردت ريقها بخوف وهزت رأسها بنفى وإيجاب فى آن واحد بنظرات طفولية مرتعدة ولكنها لم تنفعها كثيرًا حيثُ أندفع بها يردف بغضب :
_ وبعدين يعنى ، أنتى طفلة صغيرة ياملاك هقعد فوق راسك علشان تاكلى ، مش عارفة مصلحتك يعنى.. مصممة تعصبينى عليكى فى كل مرة بسبب عندك ده وحركاتك الطفولية، مانعين الأكل عنك يكونش وأنا معرفش
أطرقت ارضًا بأسى متمتمة :
_ مقدرتش اطلع يا أُسيد، صراحة مكنتش مستعدة لأى كلمة من مامتك أو أختك ففضلت القعاد فى الأوضة لغاية ما تيجى
مسح على شعره زافرًا بخنق ثُم تشدق :
_ طاب أنا كل يوم هطلع وهاجى آخر اليوم ، هتقعدى كل يوم من غير أكل لغاية ما آجى مثلا.. مينفعش اللى بتعمليه ده أنا مش عايز اتعصب عليكى بس أنتى بتجبرينى على كده
إبتسمت بمرارة وصوت مرير وعابس اجابته :
_ أنت دايما متعصب عليا يا أُسيد نادر لما بشوفك بتضحك فى وشى أو تكون هادى
تتهمه بقسوته معها بالرغم من أنه يجاهد ويدهس على نفسه محاولًا أن يظهر لها حبه العفوى لها وأنه لا يريد احزانها ، ولكنها تتعمد أشعال نيران غضبه بما تفعله من عناد ، لم يكن لديه نية بأخافتها .. خرج صوته الحانى التى بدأت تعتاد عليه رويدًا رويدًا :
_ أنا لما بتعصب عليكى بيبقى بسبب خوفى عليكى لو بصيتى وعديتى المرات اللى اتعصبت عليكى فيها هتلاقيها بسبب عندك أو غيره ، متعادنيش معايا واسمعى الكلام ومش هتشوفى منى غير حنية
اصطبغ وجهها بحمرة خفيفة ، يخدش حياؤها بكلامته المعسولة ونبرته التى تحتضنها.. ماهذا الرجل كيف له أن يكون شخصين فى آن واحد ، يتقن التحول من غضبه إلى طبيعته الهادئة والساكنة .. لا يمكنها القول سوى أنه جذاب لدرجة كافية لجعل أى فتاة تفتن به من أول نظرة، رجل بما تحمل الكلمة من معنى ، صدره الواسع وطولة باله ، هدوءه ، حكمته ، غضبه ، ابتسامته الساحرة .. يكفى أنها ترى كل هذه الصفات يوميًا أن سؤلت الأن من هى فستجيب
أنا التائهة فى صحراء على امتداد البصر لا أعرف مفر منها !
أنا التى نخر الحزن قلبها بلا هوادة !
أنا فتاة شبت ونموت وحيدة تغزت على الألم ، حتى أصبحت ذو مناعة قوية ضد الصدمات.. !
أنا العاشقة لرجل لست بقلبه ولا يفكر فى أن احتل جزء صغير من عقله حتى !
رجل لا يسمح لها بأختراق حواجزه ، بيننا سد كسد يأجوج ومأجوج كلما تهدم منه جزء يعود بنائه مُجددًا
اخيرًا تحدثت بعد أن اظهرت عن صف اللؤلؤ بين شفتيها فى مكر :
_ أنا ممكن أكل بس بشرط ، أنا سمعت طراطيش كلام كده الصبح من مرات خالى بتقول أنك ليك فترة طويلة مش بتاكل كويس أو مش بتاكل اصلا لسبب مجهول ليا حتى الآن والنهاردة من الصبح مكالتش حاجة، فأنا هاكل لو أكلت معايا
أستقرت نظرة لئيمة منه وابتسم متمتمًا :
_ أنتى بتساوميني يعنى، أنا لو عايزك تاكلى هتاكلى غصب عنك ياملاك ومن غير ما أكل ، فـ زى الشاطرة كده قومى اعملى أكل وملكيش دعوة بيا أنا مش جعان اساسًا !!
رفعت كتفيها لأعلى مردفة بنظرة متحدية :
_ أنا قولت اللى عندى ، هاكل لما تاكل معايا .. أنت بتقول عنى عنيدة وأنت مشوفتش حاجة من عنادى لسا
لاحت على ثغره إبتسامة واسعة ليغمغم بغضب مزيف :
_ وأنتى مالك أنتى بيا أنا مش عايز أكل !
حدقته بطرف عيناها فى أستنكار قائلة ببرود :
_ خلاص طلاما أنا مالى أنت كمان مالك بيا أنا مش جعانة ، أنت خسران إيه لما تاكل .. أنا لو حصلى حاجة دلوقتى ومُت هيبقى بسببك
قهقه بخفة من تلك القطة الصغيرة التى تساومه معتقدة أنها ستنتصر عليه ، ولكنه سيتقن دور المهزوم ويخضع لما تريد قائلًا :
_ ماشى روحى حضرى الأكل وهناكل مع بعض !!
تهللت اساريرها كطفلة صغيرة ووثبت واقفة وهى تقول بحماس شديد ، أن دقق النظر فى عيناها فسيرى وميض الحب فى عيناها يلمع كالنجم فى وسط السماء السوداء :
_ فى الواقع عندى شرط تانى كمان ، تيجى تحضره معايا
أظهر الدهشة المزيفة ليهتف بخبث بسيط :
_ ماشى ياملاك هانم همشى وراكى للنهاية ، اسبقينى على المطبخ وهغير هدومى والحقك !
اماءت له بسعادة طفولية وهرولت مغادرة الغُرفة متجهة نحو المطبخ ومن حسن الحظ أن الجميع كان غارق فى ثبات عميق ، بدأت بالتفتيش فى أغراض المطبخ لا تعرف ماذا تحضر للعشاء ، دقائق وهلّ وهو مرتديًا بنطال أسود اللون اعلاه كذلك جاكيت من نفس اللون .. أقترب ووقف بجانبها ثُم أستطرد :
_ هتعملى إيه ؟!
أفترت شفتاها عن إبتسامة ساحرة مجيبة بعفوية :
_ معرفش أنت حابب تاكل إيه !!
_ أى حاجة من ايدك حلوة أنا مش بتفرق معايا
قالها بعفوية تامة لم يكن له نية واضحة فيما قاله فقط قالها بغرض اظهار الودّ والحنو ، ولكن قلبها ترفرف كطير حديث الولاد أنطلق فى الهواء يرفرف بجناحيه بحرية، رفعت نظرها إلى أحد الارفف العلوية وحاولت فتحها فتولى المهمة وفتحها بكل سهولة لطول جسده ونظر له قائلًا :
_ عايزة إيه ؟
أخبرته بما تريده وجلبه لها ، بدأت بالتحضير بمساعدته القليلة لها ، كانت تختطف نظرات له بعينان تضحك ، شعورها وهو يقف بجوراها ويبادلها الحديث ويمازحها بتلقائية ، تارة يضحك بصوته المرتفع وتارة يكتفى بإبتسامة جميلة تجعلها فى قمة سعادتها ، قربه منها يبث فى نفسها الطمائنينة والسعادة ، وحتى أن كان زواجهم لفترة معينة وسينتهى ، وإن كانت تعلم أن حبها من طرف واحد ولن يشتركا فى نفس القلب ، سيكفيها أن تعيش اللحظة بقربه ، أن تكون بحانبه وتسمع صوته وترى إبتسامته الساحرة ، أن يحتضنها ويضمها إلى صدره حتى وأن كان ذلك بدافع شفقته عليها .. فهى قابلة بكل شئ مقابل أن تكون معه .. انتهيا من تحضير الطعام وهموا بتناوله ولكن قطع ذلك صوت رنين هاتفه الذى اجاب عليه فى أستغراب :
_ خير يا ريان فى إيه حصلت حاجة ولا إيه؟!
اتاه صوته المنفعل قائلًا :
_ انزلى يا أُسيد أنا فى الجنينة بره مستنيك
اجابه بصدمة متساءلًا :
_ فى الجنينة ،أنت أمتى جيت أساسًا يابنى .. طيب نازلك دلوقتى
توترت ملاك بشدة فأيقنت أنه علم بزواجهم من زمردة وحتمًا هو بالأسفل يشتعل بالنيران من فرط غيرته.. غادر أسيد الغرفة فورًا فتوجهت هى ووقفت تنظر إليه من الشرفة وعندما وقع نظره عليها فى غرفته تأكد مما قالته زمردة .. أنا ريان غفور رؤيتع لأُسيد وهو يسير نحوه أندفع إليه كالثور الهائج ………..
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية أشلاء القلوب) اسم الرواية