رواية هواها محرم كاملة بقلم آية العربي عبر مدونة دليل الروايات
رواية هواها محرم الفصل الاول 1
بسم الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أنّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُون فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبِكَ وكُن مِنَ السَاجِدِينْ واِعْبُد رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِينْ .
ادعُ لغزة كأنّك الوحيد الذي تذكُرها وتتعهدها بالدعاء..
ادعُ لغزة بيقين أن دعوتك ستقلبُ الموازين
وتدفعُ عنها ضرًّا لا تدركه..
كثفوا الدعاء لأهل غزة
اللهم إنا نستودعك أهل غزة وكل فلسطين ، اللهم
كن لهم عونا اللهم إنا لا نملك لغزة وفلسطين إلا الدعاء
فيارب لا ترد لنا دعاء ولا تخيب لنا رجاء وأنت أرحم الراحمين ،
اللهم انصر ضعفهم فإنهم ليس لهم سواك
الفصل الأول من ( هواها محرمٌ )
( ثري العشق والقسوة 2)
بقلم آية العربي
قراءة ممتعة
مراجعة لغوية : سناء يوسف
❈-❈-❈
انتبه لأفكارك لأنها ستصبح كلماتك
انتبه لكلماتك لأنها ستصبح أفعالك
انتبه لأفعالك لأنها ستصبح عاداتك
انتبه لعاداتك لأنها ستصبح شخصيتك
انتبه لشخصيتك لأنها ستحدد مصيرك
خيطٌ رفيعٌ يفصل بين التوبة والذنب
ربما ثانيةً واحدةً فقط قادرة على تغيير مصيرك
وربما قلبك بحاجة إلى سنواتٍ عدة كي يُبصر
فأنت لستَ أفضل من يعقوب ولستَ أسوء من إخوة يوسف
لا أحد يعلم ، ربما كنتُ أنت الذئب البريء من دمه .
آية العربي
❈-❈-❈
بعد مرور أكثر من شهرين على الأحداث السابقة .
في مكانٍ جديد
وداخل ڤيلا ذات تصميم هاديء حديث .
يجلس على مائدة الطعام وأمامه صحناً ممتلئاً بجمراتٍ متوهجة يطالعه بغرابة وينظر حوله باحثاً عن من جلب هذا الطعام ليعنفه ، عاد لصحنه ينظر له بعيونٍ غائمة ، يجاهد ليقبض على يده ويمنعها من التقدم ولكنها تخالفه وتتحرك نحو تلك الجمرات ، رغماً عنه التقط إحداها فأحدثت حرقاً جسيماً في كفهِ ومع ذلك لم تتوقف يده بل أكملت طريقها إلى فمه الذي فُرغ يتناول هذه المضغة الحارقة التي انسدلت إلى جوفه مصطحبة في طريقها أحشائه ، جميع أعضائه تخونه وكأنها اجتمعت عليه تعلن انتقامها منه ومن الماضي .
انتفض فجأة من نومه فزعاً يستعيذ بربه ، عيونه جاحظة وقلبه ينبض بعنفٍ كأنه ابتلعها حقاً ، رفع كفه يمسد على صدره كأنه يبرده ، قلبه كمن يقفز على ترامبولين يلومه على ضميره الأبكم ورأسه يدور كأنه في إحدى عربات دولابٍ دوار .
لتستيقظ على أثر حركته زوجته التي تجاوره ، ارتفعت بجسدها قليلاً ثم مدت يدها تضيء المصباح المجاور لها ثم التفتت إليه تطالعه بلهفة وتتسائل بترقب :
– مالك يا حسن ؟ ، نفس الحلم تاني ؟
كان يستند واضعاً رأسه بين كفيه مغمض العينين يلتقط أنفاسه ويفكر ، يحاول ضميره أن ينطق ، يحاول أن ينزع هذا اللاصق الحاد المكمم له لسنوات ليصرخ بصوتٍ عالٍ ، أومأ بصمت لها فتنهدت واتجهت يدها تربت على كتفه برأفة ثم تحدثت بقمع يغلفه الحنو وخيوط وجهها مرتخية ناعسة :
– لازم تدي لكل واحد حقه يا حسن ، لازم تدور على بنت أخوك شريف الله يرحمه وتديها حقوقها ، ده إنذار من ربنا ، الحلم معناه واضح وبيتكرر .
حرر يداه من حول رأسه ورفع رقبته يطالعها ويتحدث مبرراً فعلته بأنفاسٍ بطيئة واستفاضة :
– أنا مش بايدي حاجة يا أم يوسف ، إنتِ عارفة إني وقتها كنت لسة صغير وكان سمير ورضا هما اللي مسؤولين عن كل حاجة ، أنا كنت لسة بقول يا هادي ، وبعدين شريف الله يرحمه هو اللي اختار يبعد عننا وراح اتجوز الست اللي مش من ملتنا ولا دينها زي دينا وعصا أبويا وعاند أخواتي ، هو اللي خرج عن طوعنا يا أم يوسف .
كان يعلم أن تلك الكلمات لن تشفع له ، هناك حق استحلوه والتهموه لهذا لن يرتاح إلا برده لأصحابه ، وأكد على ذلك حوار زوجته حين قالت بجدية وقد اشتدت ملامحها :
– أنا وإنت عارفين كويس ليه شريف خرج عن طوعكم يا حسن ، إنت عارف إن أبوك الله يرحمه وأخواتك متشددين أوي لدرجة بيكفروا الناس حواليهم ، أخوك إتجوز واحدة حبها وأسلمت بعدها بس هما قاسيين أوي ، الوقوع في إيد ربنا أفضل من الوقوع في إيدهم ، فاهمين الدين كله غلط وعنف ولولا رحمة ربنا كان زمانك زيهم ، وهفضل ممتنة للعميد محمود حافظ الله يرحمه إنه لحقك قبل ما تغرق في أفكارهم ، حاول يا حسن تعمل الصح ، أنا عارفة إنهم واصلين وعارفة إنك خايف منهم ومن رد فعلهم ، بس على الأقل دور على بنت أخوك وشوف أحوالها وحاول تقرب بينهم يمكن قلبهم يحن ، ده لو كان عندهم قلب أصلاً .
تعمق في عينيها بينما عقله متعمقاً في حديثها ، هي محقة وصائبة تدفعه لفعل ما يريده ضميره ، إن كان يريد الراحة والسكينة فليبحث عمّن هي من صلبهم .
زفر بقوة ثم تحدث بصدرٍ منقبض من أثر رؤيته :
– أنا عارف الملجأ اللي كانت فيه ، عرفته بالصدفة زمان لما سمير قال لأبويا على اسمه ، هبعت يوسف يسأل هو اللي هيعرف يجيب لينا أخبار عنها .
شجعته وأردفت بنبرة محفزة وداعمة وهي تلكزه بخفة في ذراعه :
– ده اللي كان لازم يحصل من زمان يا حسن ، بس معلش قدر الله وما شاء فعل ، المهم متقفش غير لما توصلها ، وتعرف أخبارها ولو محتاجة مساعدتك متتأخرش عنها ، الله أعلم هي فيم دلوقتي وعايشة إزاي .
زفر بقوة يوميء لها ثم تحدث وهو يترجل من فراشه بهدوء :
– هقوم أتوضى واستنى الفجر .
❈-❈-❈
في منزل سامح وتحديداً عند محل عمله .
يقف يجْرد بضاعته مع الشابان وفي يده عدة أوراقٍ يراجع معهما الأعداد كما دونت ، يتحدث معهما ويحدثانه بمرحٍ معتاد برغم جديته في العمل .
تحدثت أحدهما قائلاً باستفاضة يشرح له ما حدث مع زميله ليلة أمس :
– أومال هتقول إيه يا اسطى سامح لو عرفت إنه إمبارح راح يشوف العروسة اللي أمه اختارتهاله وكان واخد في إيده علبة تمر سيوي كانت باقية عندهم من رمضان .
اتسعت عين سامح ورمق علي بصدمة قائلاً باستنكار :
– علبة تمر ؟ ، طب يا بيشو يمكن محشية فستق ؟
قالها ساخراً فقهقه بيشو أما علي الذي يُعرف ببخله فقد انكمشت ملامحه بضيق من حديث رفيقه الكاذب المبالغ فيه وتحدث مصححاً وهو يغلق العبوات بعدما تفحصها :
– إنت بتصدقه يا اسطى سامح ؟ ، مش من رمضان لاء ده كانت جيالنا زيارة من ابن خالتي اللي رجع من السعودية ، وأصلاً ماخدتهاش ، أمي مرضتش وصممت نجبلهم شوكالاتا .
قالها بنزق وهو يلوح بيده دليل على حنقه فضحك بيشو عليه وقال باستفزاز :
– أنا كل اللي قالقني إن العروسة ترفضك وتروح عليك علبة الشوكولاتا .
تلك المرة أومأ علي مؤكداً على حديثه يقول :
– وأنا كمان قلقان بسبب كدة ، مينفعش لو رفضتني أطلبها منهم ؟!.
كان يستشيرهما فضحكا عليه واستغفر سامح ربه من هذا الشاب وبخله فهو يعمل معه منذ شهر فقط وها هو يحاول نصحه بهدوء قائلاً بصوت رخيم :
– أنا بقى قلقان لو وافقت ، هتبقى ظلمتها يا علي ، عشرة البخيل زي عشرة اللي مبيصليش ، الاتنين مينفعوش مع بنات الناس .
زفر علي ونظر بغيظ نحو بيشو الذي يكتم ضحكاته ويرقص حاجبيه له باستفزاز فما كان منه إلا أن يلقيه بقطعة من القماش المتسخة التي تستخدم في تنظيف البضاعة دون أن ينتبه سامح الذي ينشغل في تدوين أعداد بضاعته .
توقفت فجأة سيارة سوداء أمام منزله ، سيارةً زجاجها كالصريم يخفي تماماً هوية قائدها ولكن ما أن رفع رأسه ورآها نبض قلبه بصخب كأن هذا الزجاج الأسود شفافاً يظهر من خلفه .
رفع نظره يترقب بعينيه هذا الزائر ، متعجباً من سرعة نبضاته التي ازدادت ولا يعلم لها سبباً .
ظل ثابتاً يتطلع فقط نحو باب السيارة وينتظر فتحه ، وكأن من بداخلها يترقب ملامحه ، كأنه تلبد بمقعده وهو يتابعه بثقب من مكانه ومن خلف الزجاج وتجاوره زوجته التي تتابع بصمت ويدها تحتضن كفه لتكن داعمةً له في كل ما يمر به مما جعل قلبه مكتفياً بها كزوجةٍ وروحه متشبعةً بها طوال الحياة .
تحرك أخيراً علي نحو السيارة حتى توقف أمامها ورفع كفه يطرق على زجاجها ليعلم هوية الزائر ظناً منه أنه مشتري يريد شراء إحدى قطع الغيار .
انتبه صقر لهذا الصبي ليزفر بقوة ويستعد لهذا اللقاء ، لف نظره يطالع من تُسَر عيناه برؤيتها فوجدها توميء له مبتسمة فبادلها ورفع كفيها التي تحتضن كفه ولثمهما ثم تركهما بحنو والتفت يستعد للنزول .
فُتح الباب وبسط قدميه أرضاً ثم نهض يترجل من سيارته ونظارته السوداء تخفي عينيه ولكن لا تستطيع حجبهما عن تلك العينين اللتان كادتا أن تخرجان من مقلتيهما بذهولٍ مما تراه .
أغلق باب سيارته ووقف صقر ينظر نحو شقيقه بينما مشاعرهما كالقطوف الدانية ، حواسهما مترقبة لأي حديث حتى لو كان حديثاً أبكم .
رفع صقر يديه يغلق زر حلّته ثم بدأت قدميه تتحرك نحو هذا الماثل يطالعه بذهولٍ .
خطوات ثابتة بطيئة حتى توقف أمامه وتحدث بنبرة يفيض منها الحب :
– إزيك يا سامح .
هذا ما كان ينتظره سامح ليحرر لسانه أخيراً في هذا السؤال الذي كان يتردد مراراً في نفسه قائلاً :
– صقر ؟ ، إنت عايش ؟
ابتسم له ، يعلم مدى تعسر الموقف ويدرك صدمة أخيه ، يدرك جيداً أنه حزن عليه وهذا كان واضحاً عندما راجع كاميرات المراقبة بعدما عاد هو وزوجته من رحلتهما إلى فيلتهما السابقة قبل أن ينتقلا ، رأى كم تألمت شقيقته وكذلك رأى الألم الذي رسم في عيني سامح ، ولكنه انتظر اللحظة المناسبة التي سيأتي بها إليه بعد أن يحُل كل الأمور ، وها هي قد أتت الآن .
التفت صقراً حوله ليتحدث إلى من يقفون قائلاً بثباتٍ يلازم شخصيته :
– سبونا لوحدنا شوية .
نظر الشابان لمعلمهما فأومأ لهما وعينه منكبة على شقيقه ينتظر منه أي حرف صادر .
خلا المكان من حولهما فتحدث صقر بنبرة هادئة وقوية في آنٍ واحد :
– تعالى نقعد يا سامح وهفهمك على كل حاجة .
غفل سامح ووعى على حاله ليحرر جسده من تيبسه ويلتفت ينظر نحو المقعد ثم عاد بنظره لشقيقه قائلاً بتشوش وما زال عقله لا يستوعب بعد :
– اتفضل ، تعالى ! .
تحرك معه صقر وجلسا سوياً على مقعدين ليزفر صقر وهو يطالعه ويتحدث متروياً حتى يستوعب سامح ما سيخبره به قائلاً :
– أيوة يا سامح أنا عايش ، اللي حصل كان خطة لازم منها ، بس أول حاجة لازم تعرفها أنا مبقاش اسمي صقر الجارحي ، أنا اسمي حالياً محمد عبدالله ، والسبب هتعرفه أكيد ، خبر موت صقر الجارحي كان لازم يحصل علشان يقدر محمد عبدالله يظهر ويعيش حياته زي باقي الناس ، اللي عايزك تعرفه دلوقت إني محتاجلك معايا ، أنا بحاول أخطي خطوات مدروسة ناحية حياة نظيفة ، بحاول اتخطى الماضي يا سامح وعلشان كدة إنت لازم تكون جنبي ، أنا بخطط لبيزنس جديد وعلى نضيف تماماً ، وخاص بمجال السيارات بردو ، شركة جديدة هنفتتحها قريب وعايزك معايا فيها ، واتمنى توافق وبعد كدة هحكيلك على كل حاجة .
كان يستمع له ولم يركز في أي كلمة سوى فقط أنه حي وأن خبر موته ما هو إلا أكذوبة تمت ليتخلص من أموره الخفية ، الآن بدأت تضح الرؤية قليلاً لديه وبدأ عقله ينير ويرتب أفكاره ،
إذاً شقيقه الذي ظن أنه قد مات مثل والده هو حي ، بل هو ماثلٌ أمامه الآن ويقص عليه أن تلك كانت خطة للنجاة ، وليس هذا فقط بل يطلب مساعدته ، يطلب دعمه ؟ ، حسناً كل هذا لا يهم ، تتركز الأهمية جميعها في كونه حيٌ يُرزق ، هو لم يمت .
لذا وبدون مقدمات أسرع سامح يقف وينزعه من مقعده ليجبره على النهوض وقبل أن يدرك صقر مغزى تصرفه كان يستقر بين ضلوع شقيقه ، يعانقه بقوة تفوق قوته ، يعلمه كيف يكون استقبال الشق بعد ظنه أنه فقده .
كان عناقاً كاد يفتك بالضلوعِ ولكنه يستحق ، شهوراً من الحزن والخلاء اجتاحته واجتاحت شقيقته ظناً منهما أنهما فقداه قبل حتى أن يتقربان منه ، ويأتي هذا ويتحدث بتراهات عن العمل والحياة دون أن يعانقه ؟ ، ياله من فقيرٍ معدمٍ للمشاعرِ ، ولهذا فهو يلقنه الآن درساً قوياً في كيفية استقبال الأشقاء .
لذا فقد أصبح صقر يبادله العناق ويربت على ظهره بكلتا يديه ، لم تكن مجرد ربتة بل كانت لكمة قوية ولكنها كانت كتدليكٍ يحد من آلام الروح وكل هذا يحدث أمام أنظار نارة التي تقطن مكانها ثابتة إلا من عينيها الفائضة بدموع السعادة وهي ترى رفيق دربها وحبيب روحها يتعافى .
ابتعد أخيراً سامح بجذعه ولم يفلته ، ينظر ويتعمق في ملامحه عن قرب ، نعم يشبه أباه الذي لا يحبه ولكنه يحب شقيقه جداً ، لهذا تحدث أخيراً بنبرة ممتلئةً بالحنين وهو على وشك البكاء قائلاً :
– مش هسيبك تاني ، مش هكرر نفس الغلط تاني ، حمدالله ع السلامة يا أخويا .
لنقل أنه حتى المشاعر يمكنها الخلق من جديد كنبتةً تنبت من أرضٍ كانت صحراء وانفجر بها نهر الرحمة العذب فحولها خصبةً تنبت بالحب ، هناك مشاعرَ جديدة تخلق داخله لم تكن موجودة من قبل ، مشاعر إيجابية قوية قادرة على سحق كل ما هو سيء بداخله ، قادرة على تفتيت ومحو سائر سلبياته .
وأخيراً تحدث بنبرة متحشرجة مماثلة لنبرة سامح :
– الله يسلمك ، الله يسلمك يا سامح .
ابتعد سامح ومسح عن وجهه يلتفت حوله لا يعلم كيف يعبر عن مدى سعادته الآن وهو يطالع صقر تارة ويطالع من حوله تارة أخرى ثم تحدث بتذكر :
– نهى ، لازم نهى تعرف ، هكلمها تيجي ونتغدا كلنا سوى ، لازم تفرح برجوعك .
تحدث صقر بنوعٍ من الجدية التي كان يستعملها في المؤامرات سابقاً :
– مش هينفع يا سامح ، لازم أمشي ، كلم نهى وعرفها بهدوء علشان لو شافتني فجأة مش هتستوعب ، فهمها وهستناكوا في الشركة بكرة إن شاء الله ، فيه مواضيع كتير هنتكلم فيها .
هذا الحديث لم يتقبله سامح ، كيف سيتركه يغادر هكذا ، حسناً ليصعد معه فقط للأعلى ، ليفاجئ أسرته به بعدما حزنوا لأجله ، لذا عاد يحاول إقناعه مجدداً قائلاً بنبرة مصرة :
– لاء ، على الأقل تطلع معايا نتغدا سوا ، وخلي نهى مرة تانية ، بس مينفعش تمشي كدة .
تحدث مجدداً بهدوء يغلفه الرفض :
– صدقني مش هينفع ، خليها مرة تانية أوعدك أجي أنا وناردين نتغدا معاك .
تذكر سامح أمر زوجته لذا تنهد وأومأ بقبول قائلاً بنبرة مازال يغلفها الذهول من عودته :
– تمام ، زي ما تحب ، مش هضغط عليك ، بس لازم أشوفك تاني قريب .
أومأ صقر يبتسم وأخرج من جيبه كارت مدون به عنوان شركته الجديد ثم مد يده إليه قائلاً :
– ده عنوان الشركة ، هستناكوا بكرة الصبح إن شاء الله علشان نتكلم في حاجات مهمة .
التقطه سامح من يده وأومأ يردد :
– تمام ، إن شاء الله .
أومأ له صقر وتحرك يغادر ويستقل سيارته تحت أنظار سامح الذي ظل يتتبعه إلى أن غادر المكان هو وزوجته كأنه لا يود مغادرته لذا ما إن غادر صقر حتى زفر بقوة وجلس يرتد على مقعده وهو يمسح عن وجهه قائلاً بنبرة شاكرة تغلفها السعادة تحت أنظار الشابان :
– الحمد لله ، الحمد والشكر ليك يارب .
❈-❈-❈
تطلع عليها وهو يقود حتى لمحت لمعان في عينيه فتحدثت بحنو :
– سامح بيحبك أوي يا صقر .
لمح هو الآخر الدموع المعلقة في عينيها فتوقف جانباً ثم مد يده يزيح أثرها عنها وتحدث بحبٍ فائضٍ جعل نبرته حنونة حين قال :
– وأنا بحبك أوي ، إنتِ أغلى حاجة في حياتي .
ابتسمت له وتحدثت بثقة نابعة من ثنائه عليها وثراء عشقه لها قائلة :
– عارفة طبعاً .
ابتسم لها فتابعت وهي تنظر أمامها :
– يالا بقى علشان منتأخرش على معادنا .
أومأ لها وتحرك معها حيث عيادة المعالجة النفسية التي بات يذهب لها واليوم موعد جلسته السادسة لديها .
꧁꧁꧁꧁꧁꧂꧂꧂꧂꧂
في الطريق المؤدي إلي كلية الفنون .
تجلس مايا في مقعدها ويجاورها عمر يتطلع إلى الطريق شارداً في مسألته .
منذ أن أخبر آسيا بحبه لمايا ورغبته في الزواج منها وقد سعدت كثيراً ولكن بقى عائقاً واحداً لحل هذا الأمر وهو ظهور حقيقة نشأته في ملجأ .
الأمر بالنسبة لآسيا أصبح هيناً بعدما أخبرتها نارة بعلمها منذ البداية وأن هذا لن يغير أنها حقيقة والدتها ، لذا فقد قررت عدم الخوض في تلك المسألة ولا داعي لإخبار مايا بالأمر أبداً وقبلت نارة بهذا ولكن عمر إلى الآن لا يتقبل هذا الأمر .
فكرة أن يبدأ حياته معها على كذبةٍ تؤرقه ، كيف يمكنه أن يتزوجها وهو يخفي عنها أمراً بالغ الأهمية كهذا ؟ ، وكيف يمكنه إخبارها وهو لا يمتلك كل الحق في ذلك ؟ ، لذا أصبح الضيق يلازمه وشعور الانقباض يلازم صدره كلما نظرت إليه وانتظرت منه خطوةً متقدمةً يأخذها في طريق علاقتهما التي تتضح معالمها جيداً وبرغم ذلك هناك عاصفةً ضبابيةً تمنعه من الوصول إليها .
تحدثت بهدوء بات يلازمها مؤخراً نسبةً لحالته المماثلة :
– عمر إنت عديت الشارع بتاع الكلية .
انتبه لنفسه فنظر حوله ليجد أنه بالفعل قد غرق في أفكاره ولم ينتبه أنه تجاوز المنعطف المنشود .
لف طارة القيادة وغير مساره عائداً بعدما نظر يميناً ويساراً وما زال الصمت يلاحقه حتى وصل أمام مبنى الجامعة وتوقف ينتظر نزولها ويخشى حديثها أو أسألتها التي لا يمتلك لها جواباً .
تنفست بقوة وآلمها صمته لذا نظرت له وقبل أن تترجل قررت البوح بالحديث الذي رتبته طوال ليلتها أمس قائلة بنبرة هادئة يشوبها الألم :
– عمر ، لو إنت حاسس إنك اتسرعت في قرارك ياريت تعرفني ، خلينا نتكلم أفضل ، قول اللي جواك إيه ، بس بلاش الصمت ده لأني بجد مبقتش مستحملة .
صدمه حديثها فنظر لها متعجباً ومتألماً ، لا يتقبل منها ما تفوهت به لتوها ولا يحتمل الضغط عليه بتلك الكلمات الثقيلة لذا قال قاطباً جبينه باستفهام :
– اتسرعت في قراري ؟ ، يعني إيه الكلام ده يا مايا ؟
تحدثت تبعد أنظارها عنه حتى لا تؤثر عليها عينيه كالعادة وقالت بنبرة تغلفها الجدية الجديدة عليها كلياً بعدما أهرمها الحنين والحرمان ومع ذلك ظهر حديثها طفولي :
– يعني اتسرعت يا عمر ، من خمس شهور قلت لي إنك بتحبني وهتكلم ماما ونحط مسمى رسمي لعلاقتنا ولحد دلوقت ده محصلش ولا أنا قادرة أحدد إنت بتتصرف كدة ليه ؟ ، من فترة بقيت ساكت وسرحان وقلقان وبتتجنبني دايماً ، من وقت ما صقر رجع وزعلت منك إنك خبيت عني وأنت متغير معايا .
نعم هي محقة ، منذ ذلك الوقت تحديداً وهو متخبط ، فحديثه مع آسيا كان متزامناً بعودة صقر وبعد اطمئنانه باستقرار أوضاع نارة ، ولكنه لن يسمح إطلاقاً بالتخلي عنها ، فقط يؤرقه ويقيده إخفاء الحقيقة .
تحدث بعدما زفر أنفاسه بصعوبة وبنبرة مشتتة قال :
– مايا أنا مش عايز في حياتي غيرك ، وأنا قراري كان صح جداً وأوعي تشكي في كدة بس ساعديني أتجاوز الفترة دي وهبقى كويس ، فيه أمور ملخبطة في حياتي صدقيني أول ما ألاقي ليها حل مافيش حاجة هتبعدني عنك تاني .
قوست ما بين حاجبيها تطالعه بتعجب وعدم فهم ، كيف ستحلل حديثه دون أن يتحدث ، عليه أن يخبرها بتلك الأمور كي يجدا حلاً سوياً أو على أقل تقدير كي تنتظر .
كانت تنتظر منه المزيد من الكلمات التي بخل عليها بها لذا زفرت والتفتت تفتح بابها وتترجل من السيارة ثم أغلقته بعنف والتفتت تخطو نحو جامعتها لتتركه يواجه وحوش أفكاره بمفرده
❈-❈-❈
بعد وقتٍ
في فيلا بهجت والد خديجة
تقف في المطبخ تعد الطعام مع والدتها ، أعلن هاتفها عن رسالة عبر تطبيق واتساب فقررت تجاهلها لحين الانتهاء ولكن يبدو أن المرسل لا يحب التجاهل لذا عاد يرسل مجدداً مراراً حتى نظرت لها والدتها بترقب وتحدثت بعيون يقفز منهما الشك :
– اغسلي إيدك يا خديجة وردي لإن واضح إن اللي بيبعت رسايل عارف إنك سمعاه .
زفرت وأومأت لوالدتها وأبعدت نظرها عنها فلغة العيون كادت أن تنطق اسمه بعدما علمت عائلتها قصته كاملة منها ومن ناردين التي أتت لتساعدها في سردها كما طلبت منذ أيام .
اتجهت تجفف يديها بعد أن غسلتها وتناولت هاتفها من فوق الطاولة ثم فتحته فوجدت عدة رسائل معظمها عبارة عن ( يا خديجة ردي عليا ) ( ردي عليا يا خديجة ) .
هزت رأسها مستنكرة أفعاله ، دوماً حظرت رقمه وبدلت رقمها ولكنه يجد مليون طريقة في الوصول إليها ، زفرت وردت برسالة محتواها ( وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ) وتابعت ( المفروض السلام يكون بداية أي حديث ) .
على الجهة الأخرى كان يبتسم لردها ، بات يعلم كيف يجعلها تنتبه له ، لذا أرسل رداً عبارة عن رسالة صوتية قائلاً بنبرة تحمل سعادةً مستجدة على نياط قلبه :
– ماشي ، سلام أليكم يا خديجة ، أنا جاي بليل ومعايا صقر ألشان أتقدم لك رسمي ، سمئي الرسالة دي لوالدك ، وقوليله إني بهب بنته جداً .
أرسل التسجيل الصوتي وانتظر إجابتها بترقب وحماس وهو يجلس مستنداً على فراشه حيث استيقظ منذ قليل وأول ما فعله هو مراسلتها كالعادة .
تحركت للخارج حتى تسمع رسالته بعدما غمرها الخجل من سماعها أمام والدتها لذا تحركت نحو الردهة وفتحها تستمع لها ثم تدلى فكها ، نعم أخبرها أنه فور حل أموره سيتقدم لخطبتها ولكن يبدو أن الوقت مر سريعاً .
وبرغم الشعور اللذيذ الذي اجتاحها ألا أنه كان مصاحباً لشعورٍ سيء يغلفه القلق والتوتر ، قلقة من ردة فعل والدها ، فهو إلى الآن لم يتقبله أبداً ، حتى بعدما أخبرته به ناردين ، لذا فهي بين شقي الرحى ولكن من المؤكد ستكون ابنة بارة مهما كلفها الأمر من استنزاف لمشاعرها .
زفرت بقوة ثم أرسلت له كلمة واحدة فقط لم تروِ ظمأه حين رآها ( تمام )
أغلقت بعدها هاتفها كي لا يزيد من الرسائل والتوتر معاً وعادت أدراجها حيث المطبخ كي تخبر والدتها بالأمر .
أما هو فعندما لم يظهر مؤشر وصول الرسايل على تلقيها كز على أسنانه بغيظ ونهض يتجه نحو حمامه ليبرد غضبه ويبدأ يومه بحمامٍ بارد
❈-❈-❈
عائدان في طريقهما إلى منزلهما بعد جلسةٍ نفسيةٍ أثمرت بطاقةٍ إيجابيةٍ كان لها الفضل في سكينته وراحته ، فمنذ أن بدأ تلك الجلسات التي ترافقه فيها زوجته وقد بدأ السكون يشق دروبه المظلمة لينير أرجائها ، كم أفاده البوح بكل ما كان يؤرقه وكم عالجت ندوبه كلمات المعالجة المدروسة جيداً لحالته .
كانت تحتضن يده مجدداً وتعلم أنه يستعيد حديث الطبيبة ويرتبه ليستعمله بنظامٍ وحكمةٍ في الأيام القادمة .
تنفست بقوة ثم تحدثت بترقب :
– صقر ممكن تقف عند أي صيدلية .
التفت لها يردف متسائلاً باهتمام فأصغر تفاصيلها تعنيه لذا قال :
– عايزة تشتري إيه ؟
ابتسمت له ثم مالت قليلاً عليه تردف بهمس وبلغة إيطالية :
– أشياءاً خاصةً .
أمال فمه في ابتسامة هادئة وتذكر جوابه حين ذاك لذا عاد يردف بخبث وبلغة مماثلة :
– لا يوجد خاص بيننا جميلتي .
أومأت تؤكد على حديثه وتحدثت :
– بالطبع لا يوجد حبيبي .
ينبض قلبه بعنف الآن ، ينبض ويرسل إشارات استشعارية لكامل أعضائه التي تطالبه بتقبيلها ولكن انتبه إلى زامور سيارة قادمة فالتفت ينظر أمامه وبرغم أن سرعته مناسبة إلا أنها دوماً تشتت تركيزه لذا زفر قائلاً بنبرة مازحة :
– ما رأيكِ أن تجلسي خلفاً في المرات المقبلة ؟
ابتسمت حتى سطعت أسنانها وتحدثت بمكر أنثوي :
– حسناً إن كنت تود ذلك .
عادت عيون الصقر في نظرته حينما باغتها بنظرة تحمل العشق والتهديد معاً وهو يقول :
– إياكِ .
أكملا طريقهما حتى توقف أمام إحدى الصيدليات وترجلت تبتاع ما تريد ثم عادت إليه بعد قليل وانطلقا إلى منزلهما .
❈-❈-❈
في منزل سامح الذي صعد لشقة والدته كي يتناول وجبة الغداء ويخبرهما بعودة صقر .
دلف يلقي السلام فردت عفاف التي كانت تساعد زينب في رص الطعام حيث قاربت على إنهاء شهرها السابع .
اتجه حيث تقف زينب الذي يظهر على ملامحها الإجهاد فأخذ منها ما تحمله واتجه يضعه على السفرة ثم قال بترقب :
– تعالي ياما إنتِ وزينب علشان عايزكم في موضوع مهم .
اتجهتا اثنانتهما إلى الأرائك وجلستا عليهما وجلس هو يقابلهما ثم بحث بعينه عن ابنته متسائلاً :
– أومال ريما فين ؟
تحدثت زينب وهي تشير برأسها نحو إحدى الغرف :
– جوة يا سامح بتلعب بالألعاب ، خير يا حبيبي عايز تقول إيه ؟
زفر يترقب ملامحهما ثم تحدث بتروي :
– طيب متتخضوش خالص من اللي هقوله ، بس صقر أخويا طلع عايش .
تدلى فكيهما سوياً ونظرتا لبعضهما ثم عادتا إليه وتساءلت عفاف بذهول :
– عايش ؟ ، إزااااي ، وكان فين طول المدة دي ؟
تحدث بشرود وهو ينظر بينهما :
– زي ما كنت شاكك يا أما ، كانت خطة علشان يبعد عن العالم الفاسدة دول ، أنا معرفتش منه تفاصيل كتير ، هو جالي تحت وقال هيحكي لي على كل حاجة ، بس هو عايزني أنا ونهى نروح له الصبح في الشركة بتاعته ، بيقول عايزنا معاه .
تحدثت زينب بعدما استمعت إلى حديثه قائلة بدهشة من هذا الخبر :
– سبحان الله ، كان إحساسك صح يا سامح ، فاكر لما قلتلي أنك حاسس إنه عايش ، طلع معاك حق فعلاً ، طول عمري بسمع عن القصص اللي زي دي بس أول مرة تحصل قدامي كدة ، لله في ذلك حكم .
أومأ مؤيداً يردف :
– فعلاً أنا كنت حاسس ، بس لما غيابه طال بدأت أصدق ، لكن جيّته النهاردة قلبت الموازين ، متتخيلوش فرحتي برجوعه أد إيه ، أخويا عايش وعايزني معاه وجالي وطلب مني أساعده ، أخويا محتاجني يا زينب .
ابتسمت له بحنو وتحدثت بحب :
– طبعاً محتاجلك وإنت هتعمل كل اللي عليك ناحيته ، أنا متأكدة من ده .
دوماً تثق به ، دوماً تعزز داخله الجانب الإيجابي والبطولي والذي يشعره كم هو صاحب مسئولية وأهل ثقة ، وهذا ما تتميز هي به لذا تعمق في عينيها بنظرة شكرٍ وامتنان على مشاركتها حياته .
تحدثت عفاف بهدوء لينتبها لها :
– طيب مقالكش محتاجلك في إيه يا سامح ، ويا ترى مين اللي هيبلغ نهى ، دي هتفرح جداً يا حبيبتي .
تحدث بتروي :
– مقالش يا حاجّة بس هروح بكرة واعرف منه ، وبالنسبة لنهى أنا هروح لها بالليل وأقولها بنفسي .
أومأت له عفاف ثم نهضت تردف وهي تخطو نحو الطعام :
– طيب يالا علشان نتغدا .
❈-❈-❈
في فيلا صقر ونارة الجديدة
تحديداً في غرفتهما
خرج من حمامه بعدما توضأ فوجدها انتهت من تبديل ملابسها وتحركت نحوه تنظر لهيأته ثم تحدثت بترقب :
– هتصلي ؟
أومأ لها بهدوء ، لقد انتظم في صلاته منذ شهر تقريباً ، ولكنه لا يصلي سوى في منزله ، إلى الآن لا يتقبل فكرة رؤية أحدهم لدموعه التي تسقط مع كل سجدة يسجدها لربه ، لا يتقبل أن يرى أحدهم ضعفه سوى ربه وأحياناً هي فقط .
تحركت متجهة نحو الحمام وتحرك هو نحو الركن الذي خصصه للصلاة في غرفتهما حيث يحتوي على سجادتين وإسدال ومصحف وحاملة ومسبحتين ، ركن يبعث في النفس الراحة والطمأنينة .
توقف يرفع كفيه ليبدأ بـ الله أكبر ويدخل في شعائر فرضه ، يؤديه بخشوعٍ وندم نابعاً من أعماقه .
سجد أرضاً وكالعادة تركض دموع التوبة فتسقط من عينيه أرضاً ، دموع الشعور بالذنب التي تغسل فؤاده ، يتذكر أول صلاة له ، أول سجدة ، أطال السجود حتى قلقت نارة عليه ونادته فسمح لأنفاسه الحبيسة أن تتحرر وحينما سمعتها اطمئنت لذا تركته ، يتذكر مناجاته لربه واعترافه بكم الظلمات التي كان غارقاً بها ، أجاد عليه الله بكمٍ من العطاء والرحمة يراهما كثيران جداً جداً على مثله لذا فمهما طال سجوده ومهما خشع في صلاته ومهما تاب وندم لن يكون هذا غمرة مياه في بحر الفضل الإلهي عليه .
انتهى من فرضه وسلم وجلس يقرأ بعض الآيات في كتابه ثم انتبه لنداء نارة عليه فصدق ونهض ينصب طوله ويتجه نحوها بعدما خرجت من الحمام .
وقف أمامها حيث تطالعه بنظرات لم يستطع قراءتها كعادته لذا قطب جبينه يتساءل :
– فيه إيه يا نارة ؟ ، حصل حاجة ؟
أومأت وقد التمعت عينيها بغيمة دموعٍ وهي تفتح كفها ليظهر اختبار الحمل به ، نزل بنظره لكفها يطالعه لثوانٍ ثم رفع نظره لعينيها ينظر بهما ليتأكد مما يراه فأومأت له ثم أكدت الخبر حينما قالت :
– أنا حامل يا صقر .
يمكن أن تأتي السعادة على هيئة قطرات ندى سقطت على ورقةٍ يابسةٍ كادت تسقط من غصنها ، ولكن هل يمكن أن تأتي السعادة كغيثٍ أخرج زرعاً على غير أوانه ؟ ، كثيراً عليه كل هذا الكرم ، كثيراً عليه كل هذا العطاء .
طال تحديقه بها لذا بادرت هي بعناقه ، تعلم جيداً مشاعره في تلك اللحظة فلم تنتظر أن يبدأ هو بالفعل بل عانقته بكل ما أوتيت من قوة فأسرع يبادلها ويدنو برأسه من عنقها ، يتنفس بقوة ويعصر عينيه حتى لا تسقط دموع الخجل المعلقة في مقلتيه ولكن هيهات ، لن تستطيع قوته ردعها فسقطت على عنقها تبلله فشعرت بها لذا زادت من قوة غمرها له وأردفت بأنفاسٍ متلاحقة :
– هتبقى أحلى وأحسن بابي في الدنيا .
زادت دموعه واشتدت ضلوعه عليها بصمتٍ تام ، حروفه ضائعة بين عشقها وسعادته بهذا الخبر .
ظلا هكذا لوقتٍ غير معلومٍ لكليهما حتى رن هاتفه ينبهه باتصالٍ من خالد ، رناتٍ متتاليةٍ وكأنه هادمٌ لللذات ومفرق الأحبة لذا حل وثاقه من حوله وابتعد يزفر بقوة ثم تعمق في عينيها اللامعة بينما امتدت يداها تجفف دموعه فرفع يده يحيط رأسها بكفيه واقترب يطبع قبلة حنونة على جبينها ثم ابتعد قليلاً وتحدث بلغة إيطالية وبنبرة متحشرجة تملؤها السعادة :
– سأدون تقويماً خاصاً بقدومه وسأنتظره بكل شوقٍ ، سأحبه بكل خليةٍ أمتلكها لأنه منكِ .
كانت سعادتهما ضمادة صنمت آذانهما عن تكرار هذا الرنين .
ولكن كالعادة المتصل لا يكل ولا يمل فزفر صقر وتحرك يلتقط هاتفه ويجيب بنبرة منزعجة جاهد ليجعلها هادئة قائلاً :
– تعلم أن هاتفي لا يفارقني ، لذا فيجب عليك أن تستنتج عدم رغبتي في الرد عليك الآن .
لم يبالِ بحديثه بل تحدث بخبث وجرأة :
– يكفي كذب ، عدم رغبتك أم عدم استطاعتك يا رجل ، يبدو أنك تمرح حتى في أهم يومٍ لدي .
زفر صقر بقوة تحدث وهو يلتفت يطالع نارة بغمزة عشقٍ قائلاً :
– ليس مهماً لك بقدر أهميته لي ، والآن ماذا تريد ؟
اتسعت عينا خالد وهو يردف باستنكار :
– ماذا أريد ؟ ، هل أطلب منك منة يا هذا ؟ ، لدينا موعد مهم هيا استعد وأحضر سيارتك وتعال ، سأكون في انتظارك .
تحدث صقر ببرود واستفزاز :
– حسناً سيطول انتظارك ، لتتعلم الصبر قليلاً .
أغلق معه وأغلق هاتفه ثم تحرك بخطواتٍ ممنهجةٍ نحو فريسته التي ترحب بالتهامه لها وباتت تساعده في قطع المسافة حتى تقابلا سوياً أمام فراشهما فرفع يده يتلاعب بخصلاتها مردفاً بحب :
– هديتك دي لازمها مكافأة .
أومأت مؤيدة تردف بجرأة اكتسبتها من حبه ودلاله قائلة :
– مستنياها أصلاً .
ابتسم لها وأمسكت يديه رأسها ثم دنى يلتهم شفتيها بخاصته في قبلةٍ فريدةٍ من نوعها ولكن لم يستطع إكمالها حيث رن هاتف نارة تلك المرة ففصل قبلته ووضع جبينه على خاصتها يردف بتوعد :
– سأقتله قبل أن نذهب هذا اللقاء .
❈-❈-❈
بعد وقتٍ
يجلسان أمام هذا الساكن الذي لا يفعل شيئاً سوى النظر إليهما ، منذ أن دلفا ورآهما بهجت وملامحه لا تفسر .
ويبدو أن صقر كان قد وضع هذا الاستقبال في حسبانه لذا فهو ثابتاً مترقباً لبدء الحديث الذي رتبه جيداً قبل مجيئه ليثمر ثماراً جيدة .
أما الآخر فمنذ دلوفه والتوتر يتملكه ، يتآكل اشتياقاً لرؤية عيناها التي ظنها هي من ستستقبله بدلاً عن هاتان العينان اللتان تطالعانه بنظرات كادت أن تنهي تاريخه وحاضره .
وبالفعل هذا هو شعور بهجت والد خديجة ، فبرغم معرفته بحسن استقبال ضيوفه إلا أنه عندما علم بقدومهما وعلم السبب تهيأت أمامه وسائل دفاعية لم يستعملها قط من قبل ، ما كوّنه عن هذا الماركو وما رآه منه جعله يحسم الأمر ويطرق طاولة الحكم قبل حتى سماع الجاني ، فبرغم شدة التزامه إلا أنه في نهاية المطاف يظل بني آدم تتلاعب بعقله تفاحة الخوف من المستقبل .
قُطعت أحبال أفكارهم عندما دلفت نسرين والدة خديجة وهي تخطو للداخل حاملة بين يديها صينية المشروبات الباردة
اتجهت تضعها على الطاولة بهدوءٍ ورتابة واعتدلت في وقفتها قائلة بملامح جادة أقل حدة من زوجها :
– اتفضلوا ، نورتونا .
أومأ لها صقر بابتسامة هادئة بينما انشغل ماركو في وصل أحبال أفكاره ، حتى أنه كاد أن يسألها عن خديجة ولكنه تحكم في حمـ ـاسه بسبب ملامح بهجت المتحفزة .
التفت نسرين عائدة من حيث أتت وذهبت إلى ابنتها خديجة التي تختفي خلف جدران الغرفة المجاورة ليتسنى لها سماع الحديث الذي تخشى عواقبه لذا فهي في أشد حالات توترها .
تحمحم صقر ينظف حلقه ليبدأ في وضع النقاط على الأحرف وترويضها قائلاً بنبرة هادئة تشوبها الثقة :
– خلينا ندخل في الموضوع يا أستاذ بهجت ، مش عايزين ناخد من وقتك كتير .
اعتدل بهجت في جلسته، لم يجابه أحدهم من قبل ولكن عند المساس بعائلته فسيتحول كل غريب إلى مألوف ، حيث كان يتمنى لو لم يتحدثا أبداً ولكن تأتي الأماني راكضةً فيسقطها الواقع الماثل أمامه ، وأخيراً نطق بهجت بنبرة جادة يغلفها الجمود وهو مرتكزاً على مقعده يطالعه بنظرة متحدية :
– اتفضلوا ، سامعكوا .
التفت صقر لينظر إلى ماركو الذي استحوذ عليه الصمت وكأنه أراد ترك مقدمة الحديث لصديقه حتى يجمع شتاته ، أراد وسيلة مساعدة والوحيد الذي يمتلكها هنا هو صقر وهذا ما فهمه جيداً لذا عاد بنظره إلى بهجت قائلاً بلهجة مصرية بدأ يعتاد عليها :
– أكيد يا أستاذ بهجت إنت عرفت كل اللي حصل معانا ، وعارف قصة خالد من أولها لحد اللحظة دي ، وكمان عارف سبب الزيارة دي ، ونتمنى إنك تدي فرصة لخالد يفهم الأمور اللي إنت دارسها وعارفها كويس ، لإن سواء أنا أو خالد عندنا استعداد نسمع منك ونفهم الأمور اللي اتأخرنا في فهمها ومعرفتها .
تعمق بهجت في عينيه يبحث فيهما عن الصدق ووجده عنده لذا تركه ولف عينيه ينظر لعينا ماركو فلم يجد بهما نفس النظرة ، أو ربما غُشي على عينيه رؤية شتاته بسبب غريزة الأبوة التي تتملكه ، بدأ القلق يسري في أوصاله من نظرات خالد له بينما شغله صقر متعمداً بوصلة حديثه مردفاً :
– بس أولاً ياريت تقبل بارتباط خالد وخديجة سوا ، خالد طالب إيدها على سنة الله ورسوله ومستعد يقدم أي ضمانات ليك وليها .
وكأن عقله كان ينتظر هذا الحديث ليعاود النظر فوراً نحو خالد ويتحدث بنبرة متجهمة كمن يلقي اتهاماً :
– قولي الأول يااااا ، يا خالد ، إنت أعلنت إسلامك ليه ؟ ، إيه السبب اللي خلاك تأسلم يعني .
تعمق خالد في عينيه ثم بلع لعابه وتحدث بلهجة ثقيلة على لسانه لذا خرجت الكلمات بطيئة متقطعة وهو يقول بصدق ودون تجمل برغم يأسه من الجواب :
– أسلمت ألشان هبيت خديجة وآيز أكمل هياتي صح .
لم يرَ بهجت في عينيه الشغف الذي يؤكد حديثه بالرغم من أنه ظاهراً لذا أردف يلقي ما في جوفه منذ بداية اللقاء بجمود أبٍ يخشى على ابنته من هذا الشاب وعالمه :
– وده مش سبب كافي يخليني أديك بنتي وأوافق على ارتباطكوا ببعض ، أنا أسف بس أنا راجل بسيط وراس مالي هما عيلتي وخديجة دي روحي ومقدرش أديها غير لإنسان متدين بيخاف ربنا يصونها ويريحها ، إنما انت يابني محتاج واحدة تتعب معاك ، محتاج واحدة عندها القدرة تجاهد علشانك ، وأنا أب ومقدرش أفرط في بنتي ،
متزعلش من صراحتي بس إنت لسة قدامك الطريق طويل أوي ولا أنا ولا بنتي هنقدر نسحبك ، أنا أسف بس طلبك مرفوض .
وكانت تلك الكلمات كمطرقةٍ في قبضةٍ فولاذية تطرق على قلب هذا الجالس ، ولم تكتفِ بالطرق على قلبه الذي بات يستغيث متألماً بل واصلت العزم إلى عظام فكه التي أصدرت أصواتاً دالة على قهره وغضبه في آنٍ واحد ، لطالما عُرف برجل الشغب والفوضى ، لم يسمع في حياته رفضاً سوى من والده لذا ساهم في نهايته ، كل من قابلهم نفذوا رغباته طمعاً في المال والحب والمتعة .
انتشلته من سوء أفكاره يد صقر التي ربتت على كفه الموضوعة على ساقه التي باتت تهتز بطريقة ملحوظة ليعلم بهجت أنه يتحكم في غضبٍ عاصف .
التفت يطالع صديقه الذي يحذره بعينيه أن يعود لرشده ولا يعود للماضي ، يتوسله بنظراته أن يلقي بماضيه في بئر الظلمات ويغلقه قبل أن يلتهمه ، هما في طريقهما إلى النجاة ولن يسمح له بالسقوط .
تحدث صقر بنبرة ثابتة وهو ينهض بعد أن انتبه ماركو له قائلاً ويداه تعملان على إغلاق زر حلته :
– يالا بينا يا خالد .
نهض خالد هو الآخر يجاهد كل جنود ماضيه بشراسة كي لا تستيقظ وبرغم فوزه في المعركة إلا أن روحه تنزف لذا قال وعينه تحمل ثقة ووعيداً قاطعاً :
– خديجة مش هتكون لهد غيري يا أستاذ بهجت ، خديجة هتكون ليا أنا وبس .
انتفض بهجت وقد طفح كيله لذا تحدث بتجهم وحدة وخوف :
– إنت بتهددني ببنتي في قلب بيتي ؟ ، فكرك يعني إني هخاف أو هتراجع ؟ ، بالعكس كل مادا بتأكد إني صح ، لا انت تنفع بنتي ولا هي تنفعك ، اتفضلوا مع السلامة .
قالها وهو يشير بيده نحو الخارج ليتحكم صقر في ردة فعله ونجح في ذلك لكونه بدأ يتقبل الأمور شيئاً فشيئاً بينما خالد كاد أن يزيد من حدة حديثه ويظهر استيائه ولكن أوقفه صقر بإشارة من يده قائلاً بنوعٍ من الحدة المراعية :
– خالد لازم نمشي حالاً ، أستاذ بهجت معاه حق ، وجودنا هنا دلوقتي هيعقد الأمور أكتر .
أومأ له ثم ابتسم ابتسامة أرعبت بهجت وهو يمر من جواره قائلاً بنبرة في ظاهرها مزاح وفي طياتها الرعب بعينه :
– فرصة سعيدة ولقاء قريب يا أستاذ بهجت .
مر بصحبة صقر حتى وصلا إلى الخارج وتحركا يستقلان السيارة ليسرع صقر في القيادة والابتعاد من هنا ولكن خالد لم يعد يحتمل أكثر من ذلك حيث التفت نحو صقر وتحدث بملامح وجه ضاحكة تغلفها الجدية ويطفو منها الغضب وهو يقول بلغة إيطالية متقنة :
– أظن أنه حان دور الخطة البديلة يا رفيق ، أخبرتك أن ذاك البهجت لن تفلح معه اللقاءات الرسمية ، لذا دعني أحل الأمر بطريقتي ولا تمنعني ، خديجة لي بالقبول أو الإجبار
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية هواها محرم) اسم الرواية