Ads by Google X

رواية ضبط و احضار الفصل الاول 1 - بقلم منال سالم

الصفحة الرئيسية

  رواية ضبط و احضار كاملة بقلم منال سالم عبر مدونة دليل الروايات 

رواية ضبط و احضار الفصل الاول 1

أُخذت على حين غُرة عندما التقت به قبيل الصدفة في آخر مكانٍ ظنت أنه سيتواجد به، كانت هيئته بالزي العسكري الرسمي مغايرة لهذه المرة الوحيدة التي تشاجرت معه فيها، بَهر نظرها بحضوره الطاغي، وشخصيته القوية، استفاقت من صدمتها اللحظية لتجده يحدجها بنظرات قاتمة متوعدة، لا تنوي خيرًا، ومع ذلك تسلحت بشجاعتها لتواجهه، وكأنها لم تقترف شيئًا أضر به. انتصبت في وقفتها تسأله في تحفزٍ:
-إنت عاوز مننا إيه؟
على عكسها كانت “بسنت” ترتجف خوفًا من ردة فعله العنيفة نحوهما، وما عزز من ذلك الشعور المرتعب هو مظهره الرسمي الذي يوحي بسُلطةٍ مطلقة. ظلت مرتكزة بناظريها عليه عندما تكلم في حنقٍ:
-أنا مانستش اللي عملتيه معايا.
حادت “بهاء” ببصرها عنه، وردت باستعلاءٍ:
-مكونتش إنت المقصود.
اغتاظ من برودها المستفز، وسألها في توبيخ:
-والمفروض إنتي كده بتعتذري عن غلطك؟
تضايقت من نظرته إليها، ومع ذلك عللت له أسبابها بنفس الهدوء المزعج:
-أي واحدة مكاني طبيعي تتصرف بالشكل ده لما يكون الإنسان اللي هي مرتبطة بيه بيشتغلها، أو بيحور عليها، ولا حتى آ…
قاطعها متسائلًا في شيءٍ من التعنيف:
-وإنتي بقى متعودة تهجمي على الناس كده بجهل؟
كلمته الأخيرة أغاظتها، فهتفت مدافعة بتحدٍ، وكأنها تناطحه الرأس بالرأس، وإصبعها يلوح في الهواء:
-لأ، بس الخونة ومعدومين الضمير بيشوفوا مني العين الحمرة.
عقد حاجبيه معقبًا على عبارتها:
-بس مسيرك تقعي مع واحد يربيكي.
اشتعل وجهها بحمرة الغضب، وهتفت في حمئةٍ:
-محدش يقدر يمسني، أنا ما بسكتش عن حقي.
تعلقت “بسنت” بذراع رفيقتها محاولة تهدئتها دون كلامٍ، خاصة مع رؤيتها لاحتدام الموقف بينهما، في حين استطرد “عمر” مهددًا إياها:
-عمومًا اللي زيك خسارة الكلام معاه.
تضرج وجهها بحمرة شديدة، فحول عينيه عنها عندما جاء أحدهم ليخاطبه في لهجة مليئة بالاحترام:
-باشا، أسف لو هقاطعك، بس في موضوع آ…
انشغل عنهما للحظةٍ، فاستغلت “بسنت” الفرصة لتهمس إلى رفيقتها بصوتٍ مرتجف:
-بقولك إيه؟ يالا نجري أوام منه.
همت بالاعتراض عليها قائلة بصوتٍ خفيض لكنه شبه منفعل:
-وأسيبه كده من غير ما أرد عليه؟ ده بني آدم مستفز.
أصرت عليها بخوفٍ مبرر:
-كفاية مشاكل لحد كده، بينا نجري من هنا، ده لو نفخ في وشنا بعضلاته دي هيطيرنا.
لم تفكر مرتين، واستجابت لها، لتنسحب كلتاهما من محيطه في الحال بخطواتٍ أقرب للركض، كادت “بسنت” تنكفئ على وجهها بسبب ارتدائها للكعب العالي، فأسندتها “بهاء” قبل أن تفقد اتزانها، لتردد الأولى في توتر خائف:
-أنا هقع بالكعب ده.
عاتبتها الأخيرة متمتمة:
-وحد قالك تلبسيه طالما مش عارفة تمشي بيه؟!
جاء ردها عفويًا:
-ما إنتي اللي قولتيلي نتشيك، وبعدين أنا هعرف منين إننا هنشوف البعبع هنا؟ ده شكله شراني أوي
للحظة استدارت برأسها لتختطف نظرة سريعة تجاهه، قبل أن تعاود النظر أمامها، وافقتها في الرأي هاتفة بتعجلٍ:
-معاكي حق، الحمدلله إننا عرفنا نخلع منه أصلًا.
بالكاد تمكنت كلتاهما من بلوغ بوابة الخروج، لتقول “بهاء” في صوتٍ شبه لاهث:
-إنتي راكنة فين؟
أجابتها مشيرة بيدها نحو الأمام:
-هناك.
رددت في الحال بصوت متقطع بسبب تلاحق أنفاسها:
-يالا قبل ما يحصلنا.
على الجانب الآخر لم يكلف “عمر” نفسه عناء ملاحقتهما، وراح يمشي الهوينى وهو يتبعهما، ليقول مخاطبًا نفسه بثقةٍ، بعدما وضع يده في جيب سروال زيه القماشي:
-هتهربي مني فين؟ ده إنتي في مكاني!
…………………………………….
احتاجت للكثير من الجهد حتى تضبط انفعالاتها، وتتمكن من قيادة السيارة بثباتٍ وهدوء، بدلًا من الانطلاق في طريق العودة مباشرة، راحت تنتقل من مكانٍ لآخر بغير هدى، وكأنها ضلت وجهتها، والطرقات أصبحت مشابهة لبعضها البعض، فالتبس عليها الطريق، لهذا أبطأت “بسنت” من سرعة سيارتها، حتى أوقفتها بمحاذاة الرصيف، في بقعة شبه خالية من الزحام، لتلتفت ناظرة إلى رفيقتها، وقد افترضت مجازًا:
-تفتكري هو شغال هناك؟ في الأكاديمية؟
فركت “بهاء” جبينها قائلة بشيءٍ من الارتباك الحائر:
-مش عارفة، معنديش جواب لسؤالك بصراحة.
أضافت “بسنت” في نفس اللهجة المضطربة:
-بس لبسه بيقول غير كده.
ردت عليها بتفسيرٍ منطقي بدا أكثر إقناعًا لها:
-جايز تكون صدفة، المكان فيه عسكريين، ومدنيين، يعني بيتهيألي شيء طبيعي إننا نتصادف معاه.
-أنا مابثقش في الصدف، وخصوصًا إن حوارنا معاه لسه طازة…
توقفت لهنيهة لتبتلع ريقها، وأكملت:
-ده احنا حدفناه بالبيض، ده بقليله إن معملناش عجة!
همهمت “بهاء” في تخبطٍ زاد من توتر رفيقتها:
-ما تقلقيش أوي كده.
أطلقت “بسنت” تنهيدة تشي بقلقٍ بالغ، وعبرت عما يجوس في نفسها قائلة:
-أنا خايفة لو طلع فعلًا شغال في الأكاديمية، وعرف عننا أي معلومات، ممكن يوصلنا، ويعمل فينا حاجة…
تصاعد الخوف في نبرة “بسنت” وهي تخاطب رفيقتها كأنما تلوم تسرعها:
-ما كنا اعتذرناله وخلصنا.
ردت عليها بتعصبٍ:
-هو أدانا فرصة؟ إنتي شايفة بنفسك كان بيكلمنا من مناخيره إزاي!
للغرابة اتخذت صديقتها المقربة موقفًا متضامنًا معه، وخاطبتها في تحيزٍ:
-هو معاه حق، ما احنا بهدلناه، ومكانتش الحكاية سهلة، وبعدين ما الحال من بعضه، إنتي كان ناقص تشوطيه.
سددت لها نظرة قاسية، ولم تعقب عليها، فقد أرهقها التفكير في شأنه، لذا قالت في سأمٍ:
-كبري منه، ماظنش هيقربلنا، واحنا نعرف ناس برضوه يقدروا يوقفوه عند حده لو فكر يضايقنا.
لم يكن بوسعها مقاومة الوساوس المندلعة في رأسها، وأخذت تهتف في مزيدٍ من الخوف:
-أنا قلبي مش مرتاح، وإحساسي عمره ما خيب.
بالطبع فكرة الانتقام منهما كانت مطروحًا وبقوة، خاصة إن صدق حدس رفيقتها، وثبت أنه يعمل بهذا المكان، حاولت “بهاء” تجنب التفكير في هذا الأمر، وترجيح فكرة أن رؤيته كانت بمحض الصدفة، ولا خطر من ناحيته .. هكذا اعتقدت لتسكت الأصوات الدائرة في فضاءات رأسها.
……………………………………..
بدا وجهه وكأنه يشع بهالةٍ من القوة وهو يراجع أوراق قائمة الأسماء النهائية التي انتقاها بعنايةٍ للانضمام إلى دورته التدريبية الاستثنائية، ما زاد من اتساع بسمته العريضة هو تأكده من وجود اسمي صاحبتي المقلب السخيف ضمن المشتركين في هذا التدريب، والذي لا يُسمح بالانسحاب منه إلا بعد انتهاء ثلاثة أرباع المدة، والتي تمتد إلى ما يقرب من ستة أشهر. رجَّح “عمر” أنها وقعت على الأوراق الرسمية الخاصة به دون أن تقرأ جيدًا -أو حتى بتركيز- شروط الانضمام لذلك النوع الخاص من التدريبات الجادة. ها قد واتته الفرصة للتعامل معها بضوابطه الصارمة، وقواعده التي لا تخترق.
ولج إلى مكتبه “أنس”، فوجده على هذه الحالة المسترخية، فتقدم ناحيته ليجلس على المقعد في مواجهته، وهو يحادثه بشيءٍ من الفضول:
-شايفك رايق ومزاجك فل الفل، ما تبسطني معاك.
قابل “عمر” ألفته الزائدة بجدية بحتة، وسأله بتحفظٍ:
-عايز إيه يا “أنس”؟ في حوار جديد ناوي تلطني فيه معاك؟
رفع كفيه للأعلى مبديًا ندمه وهو يبتسم بمرحٍ:
-يا باشا والله أنا توبت عن المشاكل، والبنت إياها إديتها بلوك، ودلوقتي ماشي في السليم.
لم يبدُ مقنعًا به، وقال بفمٍ شبه ملتوٍ:
-ولا ماشي مع واحدة تانية؟
نفى في الحال:
-أنا عند كلمتي.
هز رأسه معقبًا بنفس النبرة الجادة:
-كويس، أتمنى تفضل على كده، مش شوية وترجع تاني.
خفض “أنس” من ذراعيه، ووضع يده على صدره قائلًا:
-ثق فيا يا باشا…
ثم مال للأمام قليلًا متسائلًا بمكرٍ:
-بس مقولتيش إيه اللي مفرحك؟
أراح “عمر” مرفقيه على سطح مكتبه قائلًا في نبرة مزهوة:
-الحمد لله القيادة وافقت على الاقتراح بتاعي، وبقى ليا لي كل الصلاحيات في إدارة الدورة التدريبية الجديدة زي ما أنا مخطط وراسم.
مط رفيقه فمه في إعجابٍ، ليعلق بعدها:
-مبروك عليك، طول عمرك مصدر فخر لينا كلنا، وأنا واثق إنك هتبهرنا.
تنهد متابعًا:
-ربنا المعين، وأقدر أحقق نتائج كويسة.
أكد له في ثقةٍ:
-إنت أدها يا باشا.
عبث بعدها “أنس” في ساعة يده متسائلًا بوجهه الباسم:
-مش ناوي تعزمني بمناسبة الأخبار الحلوة دي؟
رمقه بهذه النظرة الحادة قبل أن يخبره:
-مش لما أخلص حقي القديم منك الأول.
في التو وضع يده على منحنى عنقه هاتفًا:
-وماله، أنا رقبتي سدادة، خلي المرادي عليا.
انتهز الفرصة ليبدي موافقته وهو ينهض من مقعده:
-وأنا مش هرد كلامك، بينا.
قام “أنس” هو الآخر من موضع جلوسه، وهسهس في صوتٍ خفيض:
-استر يا اللي بتستر، وما يطلعش زعلك غالي، وينفض جيوبي!
رغم خفوت نبرته إلا أنه استطاع سماع جملته الشاكية، لذا ابتسم في انتشاءٍ لأنه عكر صفوه بشكلٍ ما.
………………………………………..
وقت الفراغ بالنسبة لها كان يعني تمضية المزيد من اللحظات المميزة مع رفيقاتها، حيث يمكنهن التجول في المراكز التجارية المختلفة، أو تناول الطعام في واحدٍ من المطاعم المتخصصة في الوجبات الغريبة. ألقت “بهاء” نظرة تفقدية سريعة على الحقائب المتنوعة التي تحملها في يديها قبل أن تدير رأسها نحو رفيقاتها اللاتي تباطأت خطواتهن بعد لف لمدة لا تقل عن الساعتين بين المحال المختلفة لابتياع المميز من الثياب ومنتجات العناية بالبشرة والشعر؛ وكأن هناك مسابقة للجمال قد انضممن إليها مؤخرًا.
هتفت “ميرا” بتذمرٍ موجهة كلامها للجميع:
-خلاص مش قادرة، رجلي بتوجعني، يا ريت تشوفوا مكان نقعد فيه.
اقترحت عليهن “بسنت” وهي تشير بيدها للأمام:
-هناك الـ Food Court
تساءلت “بهاء” مستعلمة:
-طب هنطلب إيه؟ أكل ولا هنشرب حاجة؟
في التو قالت “ميرا” وقد اتجهت نحو أحد المقاهي الحديثة القريبة من جهتها:
-يا ريت نقعد في الكافيه ده، ونشرب منه أي حاجة سخنة.
لم يتجادلن حول اقتراحها كثيرًا، فالتعب قد بلغ مبلغه منهن، وكن بحاجة للراحة لبعض الوقت. استقرت الشابات حول مائدة مستديرة، لتستطرد “بسنت” متحدثة وهي تميل قليلًا بجسدها نحو رفيقتها المقربة:
-“بيبو”، وصلك الميل بتاع التدريب؟
أجابتها “بهاء” بإيماءة مقتضبة من رأسها:
-أيوه، شكله هيبقى جامد، أنا قريت تفاصيله مختلفة ومش زي أي حاجة حضرناها قبل كده.
وافقتها الرأي، وزادت عليه:
-دي أول مرة يعملوا النوعية دي من التدريبات.
جاء تعقيبها منطقيًا:
-علشان كده أنا متأكدة إنهم هيجيبوا أحسن ناس فيه.
فتحت “بسنت” هاتفها المحمول لتستعرض الرسالة الإلكترونية التي وصلتها على بريدها الخاص، أظهرتها لصديقتها قائلة وهي تشير نحو سطرٍ بعينه:
-كاتبين إن فيه جزء عملي كمان، وإنه أساسي في التقييم.
ضيقت “بهاء” عينيها لتقرأ مجددًا ما دوِّن في الرسالة، ثم أردفت بشيءٍ من الثقة:
-وماله، مافيش حاجة هتستعصى علينا.
علقت عليها “بسنت” في امتعاضٍ ظاهر:
-المهم نشتغل في الآخر، ما يبقاش بعد الصرف ده كله نقعد في البيت.
قطبت رفيقتها جبينها مخاطبة إياها:
-ما هو على يدك، الشغل المتاح إما سكرتيرة عند مدرس مشهور، يا في مكتب تخليص جمركي على أده، يا إما في مكاتب تصوير، وحاجات لا تُذكر…
هزت “بسنت” رأسها كنوعٍ من التأييد لها، فتابعت “بهاء” بنفس الجدية:
-والشركات المحترمة عايزة ناس عندها خبرة، طب هنجيبها إزاي واحنا أصلًا مش لاقيين حد يشغلنا؟
ثم أصبحت نبرتها أكثر حدية وهي تسألها:
-ولا إنتي عاجبك نشتغل في وظيفة أي كلام؟ حاجة أقل من قيمتنا؟
بلا أدنى تردد نفت “بسنت”، وهذا التعبير المحتج يسود قسماتها:
-لأ طبعًا.
بعد لحظاتٍ كن جميعًا يجلسن حول طاولة شاغرة، قمن بوضع مشترياتهن أرضًا، وبدأن في استعراض قائمة المشروبات بشيءٍ من الحيرة، استطردت “ميرا” متحدثة أولًا:
-هتطلبوا إيه يا بنات؟
ردت عليها “بسنت” بتحيرٍ:
-مش عارفة، أول مرة أجرب الأعدة هنا.
اختطفت “بهاء” قائمة المشروبات من يدها، وقالت في ثقة معهودة بها.
-هاتي المنيو وأنا هجيبلكم حاجة حلوة على ذوقي.
لم تُبدِ أيًا منهن أدنى معارضة، وتركن لها مهمة اختيار ما قد يرضي أذواقهن المتباينة، فتحركت من فورها صوب عامل الكاشير لتطلب ما وجدته مناسبًا وِفق ذوقها المميز.
…………………………………..
كعادته تفادى نظرات الإعجاب التي يستطيع تبينها وقراءتها بسهولةٍ كلما مر بجمعٍ من النساء، فوجوههن، مع حركة أعينهن المنبهرة، بجانب تعليقاتهن الهامسة تفضح تأثير حضور عليهن، ورغم ذلك لم يكن يشعر بالرضا عن حاله، بل بدا الأمر وكأنه تحت وطأة من الضغط والإحراج، لهذا كان لا يحبذ التواجد في الأماكن العامة، أو التي تشتهر بالزحام. انعكس العبوس على محيا “عمر”، ولام صديقه الذي لم يتورع عن إبداء إعجابه بوقاحةٍ وعلنية بأي أنثى مغرية تلف ناظريه:
-ما كنا روحنا أي كافيه عادي وخلاص، لازم يعني هنا.
استدار “أنس” برأسه ليتابع سير إحداهن وهي تتغندر في مشيتها قائلًا:
-يا باشا المزز الحلوين كلهم بيجوا في الأماكن دي.
لكزه “عمر” في جانب ذراعه قبل أن يوبخه:
-مش إنت توبت يا ابني ولا أنا غلطان؟
حمحم مرددًا مبتسمًا ابتسامة عريضة:
-أيوه طبعًا، بس ده لا يمنع إني أمتع عيني بالحلويات، والجمال الرباني.
بدا غير راضٍ عن سلوكياته المتجاوزة، فلوى ثغره مدمدمًا بتهكمٍ:
-شكلك من اللي بيضحك عليهم بسهولة، ده كلهم يا نافخين، يا ضاربين الشغل.
أطلق ضحكة قصيرة، ليضيف بعدها بابتهاجٍ غريب:
-وماله، هما بيعملوا ده كله ليه؟ مش علشان احنا نتبسط ونكون راضيين عنهم؟ خلينا نقدر تعبهم ده.
بلهجةٍ محذرة تكلم “عمر” وهو يشير إليه بسبابته:
-مش هترتاح إلا لما تقع على جدور رقبتك.
رفع كفه للأعلى معترضًا عليه:
-مش أنا يا باشا.
في غير صبر قال “عمر” وهو يطوي ذراعي نظارته الشمسية ليعلقها في الزر العلوي لقميصه السماوي الذي يبرز انتفاخ عضلاته:
-طب شوف هتقعدنا فين.
أشار “أنس” بيده نحو أحد الأماكن هاتفًا بنبرة متحمسة:
-الكافيه ده ممتاز…
ثم خفض من نبرته مكملًا بابتسامةٍ لعوب:
-وفيه طراوة وحلاوة ما تتوصفش.
فهم ما يرمي إليه فرسم ذلك التعبير الجاد على تقاسيمه معقبًا:
-قولتلي بقى.
لم يتركه “عمر” يهنأ باختياره، حيث جذبه من كتفه بخشونةٍ طفيفة، ليأمره في لهجةٍ صارمة لا ترد:
-خلينا نقعد جوا علشان عينك الزايغة دي.
تنهد مليًا وهو يقول مستسلمًا دون أن يبعد عينيه عن إحداهن:
-أوامر معاليك.
……………………………………..
كادت تمضي لحظاتها اللطيفة مع رفيقاتها بسلاسةٍ ويسر لولا أن تعثرت بغير قصدٍ في مشيتها أثناء حملها لأكواب المشروبات الساخنة التي ابتاعتها لهن، فقذفت بها نحو ذلك الجالس على مسافةٍ قريبة منها، فانتفض فزعًا، وقام واقفًا ليلقي نظرة تفقدية على بنطاله الأزرق، وكذلك قميصه الفاتح. تنفس الصعداء لأن ثيابه لم تطلخ أو تتسخ على الإطلاق. على الفور بادرت “بهاء” بالاعتذار الشديد:
-أنا أسفة جدًا، والله مقصدش، ده حصل غصب عني.
دون أن ينظر ناحيتها رد “عمر” في تفهمٍ:
-حصل خير.
سرعان ما ارتفع حاجباها للأعلى في ذهول عندما رأت ملامحه المألوفة، بينما تعكرت تعبيراته وانتشر فيها عبوسًا جليًا عندما أبصرها. انقلبت سحنته وهاجمها بتحفزٍ مبرر:
-إنتي تاني؟
هذه المرة اصطدامها به كان بلا قصدٍ، ومع ذلك لم يقبل بسماع أي تفسيراتٍ منها، وواصل مهاجمتها لفظيًا، بنبرة مسموعة لمن حولها:
-يعني أعمل إيه علشان تحلي عن سكتي وتبطلي تبهدليني؟!!
استشاطت حنقًا من تعنيفه الزائد، وهتفت في تعصب وهي تستخدم يدها في التلويح إليه:
-ما تزعقش، قولتلك ما شوفتكش، عايز تصدق براحتك، مش عايز إنت حر!
تدخل “أنس” في الحوار محاولًا تلطيف الأجواء:
-خلاص يا جماعة، أكيد ده مش مقصود يعني.
على إثر أصوات الجدال المحتدمة تجمع من في المكان حولهم، لتظهر “ميرا” في الوسط وهي تتساءل بتحيرٍ:
-هو في إيه؟
ما لبث أن التقطت عيناها وجه “أنس”، فغامت نظرتها نحوه، وكسا وجهها وجومًا عظيمًا، ليبدو مثلها مندهشًا لرؤيتها ومناديًا باسمها:
-“ميرا”!
صاحت تنذره في حمئةٍ:
-ما تنطقش باسمي يا كداب، يا بتاع التلات ورقات!
دنا منها محاولًا تبرير موقفه السابق والمخزي معها:
-اسمعي بس.
أخذت “بهاء” الأمر شخصيًا، واعتبرته غريمها، فاعترضت طريقه، وهدرت به بغلظةٍ مستخدمة يدها في الإشارة إليه:
-ابعد عنها.
رد محتجًا عليها:
-أنا عايزة أكلمها بس.
أرجعتها إحدى الشابات للوراء حتى تتجنب الصدام معه، في حين ظلت “بهاء” تسد عليه الطريق وهي لا تزال تحذره:
-عارف لو فكرت تقرب منها تاني أنا هقفلك، وهبهدلك كمان!
اغتاظ من معاداتها المبالغ فيها، وسألها في استهجانٍ، ونظرة حادة مسددة إليها:
-مين إنتي أصلًا علشان تتكلمي بلسانها؟ ولية أمرها وأنا معرفش؟!!
رمقته بنظرة استحقارية جعلت داخله يحتـــرق غضبًا قبل أن تهينه بعبارتها المتوارية:
-واحدة عارفة نوعيتك الغشاشة!
احمر وجهه حنقًا، وهدر يهددها:
-إنتي أد كلامك ده؟
لتخرسه، وتلزمه عند حده، نزعت غطاء زجاجة المياه الخاصة بها، وقذفت بمحتوياتها في وجهه بغتة، لتجمده الصدمة، وتغرق كامل ثيابه. تفاجأ الجميع بما فعلت، وقبل أن تتصاعد الأمور أكثر، وتتطور للأسوأ، أسرعت “بسنت” بالإمساك برفيقتها، وشدتها من ذراعها للخلف وهي تخبرها:
-ليه كده بس؟
مسح “أنس” على وجهه بيده ليزيح قطرات الماء هادرًا:
-قسمًا بالله لأوريكي.
ردت على تهديده العلني بآخر مماثل له:
-لو قربت مني هعمل فيك محضر تحرش، ووريني هتطلع منه إزاي.
اشتاط على الأخير وراح يبادلها التهديد:
-طالما محضر بمحضر خليني أعلم عليكي.
لم تعبأ بنبرته المرتفعة، وظلت ثابتة تتحداه:
-طب يالا يا راجل، خليك أد كلمتك.
صاح بها بغضبٍ جم:
-إنتي مفكرة نفسك مين؟
قام “عمر” بتثبيته في مكانه واضعًا قبضته على صدره، وحال بينهما بجسده، ثم طلب منه في صوتٍ أجش:
-اهدى خلاص.
نظرت “ميرا” شزرًا لـ “أنس”، وتكلمت في عجرفةٍ:
-تعالي يا “بيبو”، ما يستهلش نحــــرق دمنا علشانه!
حينئذ هدر بها “أنس” صائحًا بما أحرجها، وجعلها في موضع مخجل:
-قبل بس ما تعملي فيها بنت ناس شوفي كنتي مقضياها مع كام واحد قبلي.
لم تتحمل “بهاء” قذف رفيقتها بمثل هذه الاتهامات المسيئة، وانطلقت تجاهه هاتفة عاليًا، ومدفوعة بعصبيتها الهائجة، قاصدة التشاجر معه يدويًا:
-أما إنك قليل الأدب ومش محترم، وأنا مش هسكتلك.
كادت تصل إليه لولا أن تدخل “عمر” في التو، حيث قام بلف ذراعه حول خصرها ليحاوطها، ثم حملها منه ليرفعها عن الأرضية، وأرجعها للوراء عند رفيقاتها، لتصرخ به باستنكارٍ وهي تقاوم مسكته المُحكمة:
-ابعد عني إنت كمان، سيبني!
رجاها في ضيقٍ بعدما حررها:
-امشي لو سمحتي…
ثم وجه كلامه الآمر إلى “بسنت” قائلًا قبل أن يعود إلى رفيقه:
-خدي صاحبتك المجنونة دي وامشي من هنا.
اغتاظت من نعته المستفز، وأرادت مواصلة الهجوم، فاستمر تصيح:
-طالما أنا مجنونة بقى، خلوني أوريكم الجنان اللي على حق.
هذه المرة منعتها “بسنت” من تجاوزه والوصول إليهما برجائها المتوتر:
-علشان خاطري أنا، تعالي معايا.
أجبرتها على الابتعاد عنوة، لتغادر مع بقية الشابات وهي لا تتوقف عن التهديد والوعيد، بينما عاد “عمر” إلى رفيقه، ليمنعه هو الآخر من اللحاق بهن تجنبًا للاشتباك اليدوي، ليتفاجأ بالأخير يسأله في صوتٍ يفح حرارة:
-مش دي نفس البنت اللي علمت عليك صح؟
أجابه باقتضابٍ، وقد شاب تفكيره قدرًا من الحيرة:
-أه هي، بس بتسأل ليه؟
لم يجبه “أنس” وهسهس في وعيدٍ، وعيناه المتقدتين لا تبرحان أثر طيفها الذي رحل:
-زي الفل، بقت عندي في الـ black list.
تنحنح “عمر” قائلًا، وهو يطوف ببصره على من يجلسون حولهما:
-اهدى بقى الناس بتتفرج علينا.
واصل “أنس” الحديث بعصبيةٍ:
-مفكرين نفسهم حاجة، وهما تحت رجلي!
حاول “عمر” بشتى الطرق إسكاته؛ لكنه ظل يصيح بغيظٍ:
-وصاحبتها اللي عاملة نفسها شريفة ومخدوعة فيا، كل يوم مقضياها مع واحد، دي معروفة في الجيم كله، ولا هي جت عليا؟!!
شده “عمر” من ذراعه ليجبره على السير معه هاتفًا:
-كفاية بقى، ويالا بينا من هنا.
جز على أسنانه مدمدمًا في توعد:
-ماشي، هتشوف بنت الـ … دي!
تمرير التوافه من الأمور، والتغاضي عنها، كان أمرًا عاديًا بالنسبة له، إلا حينما يمسه أحدهم علنًا، ويهزأ به ويهينه بشكلٍ فج، يجعله عرضةً للسخرية والاستخفاف، وها هي قد تجرأ عليه، واخترقت القواعد التي تغلف هالة شخصيته المتباهية، لهذا أقسم ألا يتركها لشأنها، وإن لجأ إلى أساليب مخادعة لم يستخدمها من قبل.
…………………………………
أمام السيارتين اللاتين جئن بهما، وقفن عند جراج المركز التجاري في مواجهة بعضهن البعض يثرثرن عما حدث قبل قليل، بالطبع كان التوتر سيد الموقف، لتهتف “ميرا” في صوتٍ منفعل نسبيًا، بالكاد تكافح لتجعله ثابتًا فلا يظهر اختناق نبرتها:
-مكانتش خناقة، مش هنضيع وقتنا كله نعيد ونزيد في اللي حصل.
ردت عليها “بهاء” بغيظٍ، وكأن ما اندلع داخلها من ألسنة اللهب لم تخمد بعد:
-حقيقي بني آدم سيرته تفور الدم، أنا عارفة كنتي مرتبطة بيه إزاي؟
أحيانًا حين تتحدث، ينفلت لسانها، وينطق بغير احتراز ما يزعج الغير، لهذا أخبرتها “بسنت” في شيءٍ من العتاب:
-مالوش لازمة الكلام ده يا “بيبو”.
برطمت الأخيرة بكلماتٍ مبهمة، في حين تحدثت “ميرا” بصوتها الذي اختنق بشدة، وقد راحت عبراتها تخونها وتنساب من طرفيها:
-وأديني عرفت غلطتي، كنت مفكراه حاجة، وطلعت أونطة، وخلاص محيته من حياتي، ممكن ما تتكلموش عنه نهائي.
في جمودٍ، وبلا تعاطف قالت “بهاء”:
-يكون أحسن.
أشارت “بسنت” بيدها في الهواء:
-تعالوا نروح مكان تاني.
اعتذرت منهن “ميرا” وهي تكفكف دموعها بمنديلٍ ورقي استله من حقيبتها الجلدية الصغيرة:
-لأ ماليش مزاج، خلونا نروح.
استمرت “بهاء” في تذمرها، فهمهمت بخفوتٍ وهي تفتح باب السيارة لتركب في الأمام:
-ربنا ياخده، بوظ علينا اليوم والخروجة.
………………………………………
قبل أن ينطلق ميعاد أول محاضرة في التدريب الاستثنائي بفترةٍ، تواجد كلًا من “عمر” و”أنس” في قاعة التدريس من أجل التأكد من وجود كافة المواد المطلوب عرضها على المشتركين به ليصبح لديهم فكرة مفصلة إلى حدٍ كبير عنه. ورغم أن الأخير لم يفعل أي شيءٍ سوى الجلوس في صمتٍ، والتحديق في الفراغ، إلا أن الأول لم يتركه لشأنه، وأفسد عليه سكونه، فاستطرد يخاطبه في شيء من الاسترابة:
-أول مرة أشوفك عايز تدي محاضرات في الأكاديمية، لأ ومعايا كمان.
رفض “أنس” الاعتراف بالهزيمة مهما بلغ مكر من أمامه ومهاراته الذكائية، فقال في غموضٍ غير مريح:
-المرادي غير يا باشا.
علق عليه بعينين ضيقتين:
-مش مطمنلك.
غمغم في نبرة هازئة رغم تجهم تعابيره:
-ما أنا الشرير في رواية أحدهم…
انخفضت نبرته إلى حدٍ كبير وهو يتم جملته:
-وهي بالذات أحدهم!
لم يوله “عمر” المزيد من الاهتمام، وانشغل بمراجعة عمله، ليواصل “أنس” الكلام في صوتٍ لم يفارق حنجرته من الأساس:
-ما هو تار بايت، مش بس عندك، لأ بقى عندي كمان!!
……………………………………………….
هل يمكن محاربة الخبث واللؤم بالمبادئ والأخلاق؟ سؤال لطالما طرحته في رأسها وهي تعيد محاسبة نفسها على ما اقترفت من أخطاء، كانت مترددة بعض الشيء في الاعتراف بخطئها، وما زاد من تغلغل هذا الشعور المؤرق هو تجاوز رفيقتها لمحنتها في زمنٍ قياسي، وعودتها لممارسة حياتها الطبيعية بشكلٍ أكثر من رائع، ومثير في نفس الآن للشكوك، وكأنها تعافت من شعور الخداع والكذب بمعجزة ربانية، ولم تكن فريسة للحب الأعمى، فلو كانت مكانها لما تمكنت من تخطي ذلك الأمر بسهولة.
لم تكف “ميرا” عن سرد محاسن رحلتها الفجائية الأخيرة عبر مكالمة هاتفية، وراحت تستفيض في إظهار كم المتع والأوقات المشوقة التي قضتها في سفرتها تلك، أصغت إليها “بهاء” بقليلٍ من الاهتمام وهي تقوم بترتيب خزانة ثيابها، وعلقت بين الحين والآخر عليها، لتقول الأولى في النهاية كأنما تعاتبها:
-دي كانت نقصاكي.
تنهدت قائلة:
-ورايا ارتباطات، ما إنتي عارفة.
جاء تعقيبها سخيفًا إلى حدٍ ما:
-ما تفكك من جو الدراسة والورق والمذاكرة وشوفي حياتك، واتمتعي بشبابك، بدل ما هو ضايع كده من غير فايدة.
-معلش يا “ميروو”، مش كل الناس زيك، أنا معظم الوقت لواحدي، وبدور على حاجة مفيدة تشغلني وآ…
قاطعتها فجأة لتختتم اتصالها بغرابةٍ:
-بقولك إيه، هكلمك وقت تاني علشان بينادوا عليا.
قالت وهي تبعد السماعة عن أذنها:
-أوكي، سلام.
تبسمت بعدئذ في مرارة مخاطبة نفسها وهي تفترش الأرضية جالسة عليها، لتقوم بطي كومة الثياب التي جمعتها بعدما أفرغت الدولاب من محتوياته:
-يا رب يكون عندي نص روقانك ده …………………………… !!
…………………………………………….


google-playkhamsatmostaqltradent