رواية اليمامة و الطاووس الفصل الثاني 2 - بقلم منى الفولي
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
الحلقة الثانية
اطلقت سلوى ضحكة مدوية لتنتبه فجأة لخطأها، وتحاول كتم ضحكاتها بلا جدوى، تحت نظرات ياسر القلقة وهو يرى التحفز والضيق بعين محبوبته، والحرج بأعين والديها وشقيقه، وانتفض قلبه رعبا من ضياع حلمه وهو يرى انتفاض حبيبته مواجهة تلك الضاحكة بوجه محتقن.
وجهت دعاء نظرات حانقة ، لتلك التي تسخر من بساطة والدتها على هذا النحو، وهي تحاول التحكم بنبرتها الغاضبة احتراما لوجودها بمنزلهم: ممكن أعرف حضرتك بتضحكي على أيه.
انتبه ياسين لحرج الموقف، وأن لم يكن راضيا عن الزيجة نفسها، فتنحنح زاجرا سلوى ومعتذرا لمضيفيه: سلوى، معلش يا جماعة، هي سلوى كده عشرية وبتاخد على الناس بسرعة، وتحب الهزار والضحك.
لتلتفت له دعاء وهي تقول بحدة: طيب على الأقل مش تقولنا بتضحك على أيه عشان نضحك معها.
حاولت والدتها احتواء الموقف، فاقصى ما يهمها الأن ألا تخسر ابنتها فرصة كهذه، خاصة وهي تظن بأن تلك المرأة تتعمد ذلك، لذا فقد امسكت يد ابنتها تعيدها لمقعدها وهي تبتسم مبررة: ربنا يسعدها ويفرح قلبها، ياما الواحد بيفتكر حاجات تضحك وميكنش وقته، دي ساعات بتحصل في العزا الشر بره وبعيد، على الأقل احنا في فرح ويحق لها الضحك، بس خلينا احنا في فرحتنا دلوقتي، وهانضحك ونهيص كلنا بعد الاتفاق.
أكد ياسر على كلام والدتها بحماس، سعيدا بتسامحها الذي كان بمثابة طوق نجاة لحلمه الذي كان يغوص أمامه في بحر رمال من صفاقة زوجة أخيه: أيوه هو ده الكلام، يا أحلى حماة في الدنيا، نرجع للجد بقى، وبصراحة أنا عندي فكرة يا عمي أتمنى توافقني عليها.
انتبه الجميع لحديثه خاصة مع نبرته المتوترة تلك، ليتمتم والدها متوجسا: أتفضل يا ابني سامعك.
تنحنح بتوتر متجنبا النظر تجاه أخيه وزوجته التي كفت عن الضحك بل كادت تكف عن التنفس وهي تنتظر ما بجعبته، ولم يطل انتظارها كثيرا، حيث أكمل مرتبكا: حضرتك أنا شقتي جاهزة من كله، صحيح الفرش موضته قدمت، بس هو مستخدمش تقريبا، لأن والدي جدده كله قبل ما يتوفى الله يرحمه بحاجة بسيطة، وأنا من يومها عايش عند أخويا، وحتى لو لما باروح شقتي برجع على النوم، فأنا باقول أني أشتري أوضة نوم جديدة وحضرتك تدفع تمن شد وتوضيب التلت أوض التانين.
استنكر والدها عرضه ليهتف معترضا: وتدخل على عفش قديم.
أسرع يدافع عن فكرته التي يتمنى أن تؤتي ثمارها المرجوة: والله يا عمي المسألة مش فلوس وبس، الفرش ده عزيز عليا جدا، زي ما قولت لحضرتك، أن والدي اشتراه كله قبل ما يتوفى الله يرحمه، ده غير أنه كان جايبه من أحسن معرض في مصر، وكله زان.
ساندته والدتها مغتنمة الفرصة، لعلمها بأن إمكانياتهم لن تفي بشراء ما يليق بمستوى العريس: هو في زي حاجات زمان وخشب زمان، ده كل العفش دلوقتي من خشب الصناديق.
صاح بحماس سعيدا بمؤازرتها: والله أنت ست الكل يا ماما، وبعدين يا عمي، أنا كلها سنة واحدة وأكمل السن القانوني وأفك الوديعة، وساعتها والله هاجيب لها كل اللي نفسها فيه، ونبقى نجهز من أول وجديد، على الأقل هنبقى عارفين محتاجين أيه ومش محتاجين أيه.
صمت والدها صمت العاجز تخنق رغبته بتشريف ابنته، إيدي الفقر والعوز، ليتردد بالإجابة خاصة وهو يرى إشارات زوجته الخفية بالموافقة، ومعرفته بأنه لن يوفي ما عليه مهما اجتهد، ومهما طالت الخطبة، ليخرج صوته مختنقا محاولا أن يلقي بمهانة الموافقة على عاتق غيره: رأيك أيه يا عروسة.
أطرقت دعاء بحزن حاولت إخفاءه لترحم والدها من حيرته وقهره: اللي تشوفه يا بابا.
لتنهي والدتها تلك المراوغات، خوفا من أي تدخل يسلبهم ذلك العرض السخي: على خيرة الله، ربنا يتمم لكم على خير يا ولاد.
لم يفت ياسر النظرات المستنكرة لسلوى و شقيقه، فقرر أن يلقي بأخر ما لديه فكل ما يهمه تحقيق حلمه بأسرع وقت: ربنا يخليكي يا ماما، والله يا عمي ما هتندم، وأنا عايز استغل كرم حضرتك، واتمنى تنفذ لي أخر طلب.
ابتسم والدها بود، لتهذيبه ومراعاته لهم: أؤمر يا حبيبي.
ابلتع ريقه بتوتر وهو يقول باندفاع: أنا عايز نتجوز الاجازة دي.
ارتفعت عدة شهقات بينما اعتدل ياسين بجلسته ينظر لشقيقه بعدم تصديق، و أخذت دعاء تفرك يديها بحياء، بينما أحتد صوت أبيها المستنكر: هو أيه يا بني الكلام ده، هو سلق بيض، ولا أنت جي تلعب بينا الكورة.
أسرع يبرر مطلبه، خوفا من أن يخسر إعجاب والدها الذي لمسه بنظرته له: ماعاش ولا كان يا عمي اللي يلعب بحضرتك، بس ممكن أعرف هنستنى أيه، تنجيد الفرش وشده مش هياخد أكتر من شهر، ومن بكرة تقدروا تيجوا الشقة وتشوفوا أيه اللي محتاج يتغير، يبقى خير البر عاجله، [بلهجة ذات مغزى وهو ينظر لدعاء بعتاب] وده يثبت لحضرتك أني مش جاي اثبتكم بخطوبة أو دبلتين، افضل داخل خارج على حسهم.
أطرقت دعاء بحياء وقد وصلتها رسالته المستترة، بينما لما تستطع سلوى الصبر أكثر من ذلك فاندفعت تلوم تهوره المعتاد: المواضيع دي ما بتتاخدش كده يا ياسر، ده جواز ومسئولية.
نظر لها ياسر شزرا، يعلمها أن تدخلها غير مقبول بعد ما فعلته، متجاهلا الرد عليها، موجها حديثه لوالد محبوبته: قولت أيه يا عمي؟
نظر له والدها يستشف صدق نواياه، ليغمغم مترددا: بس يابني أنت لسه قدامك سنة لحد ما تتخرج، ومش بتشتغل، هتعيشوا أزاي، وتصرفوا منين.
ابتسم بسعادة لمجرد أنه تقبل مناقشة الأمر، ليشرح متحمسا: حضرتك أنا ماليش أخوات غير ياسين، ووالدي لما توفى ساب مبلغ في البنك، اتحطلي نصه وديعة لحد ما أبلغ الرشد، وهو ده اللي هفرش منه الشقة بإذن الله السنة الجاية، وكمان العمارة اللي عايشين فيها ودي ايجارها الشهري عشر تلاف جنيه، لي نصهم [ناظرا تجاه أخيه بامتنان ورجاء ألا يحطم حلمه] ياسين أخويا الكبير، رفض أصرف منهم واتكفل هو بمصاريفي طول السنين اللي فاتت.
قاطعته والدة دعاء داعية، مستبشرة بحياة رغدة لإبنتها الوحيدة: ربنا يخليكم لبعض، ويوسع رزقك كمان وكمان.
ابتسم لها بحب شاكرا مساندتها التي يحتاجها بشدة: ربنا ما يحرمني منك ولا من دعاكي يا ماما، [مسترسلا في شرح وجهة نظره] المهم يا عمي أن إيجار السنين اللي فاتت، عامل مبلغ معقول، أقدر أوضب منه الشقة وأشتري أوضة النوم، وماعتقدش أن في بداية شغلي أن مرتبي هيعدي الخمس تلاف نصيبي في الإيجار، وبأذن الله بمجرد ما أتخرج ابن عم والدي وعدني بوظيفة في البنك اللي بيشتغل فيه.
توتر والدها وهو يلمح الاستهجان بأعين أسرة ياسر، والحماسة بأعين زوجته بينما ابنته تطرق بخجل لا يخفي سعادتها، ليتمتم متلعثما: والله يا ابني ما عارف أقولك أيه.
ليردف ياسر بحماس، مستمد من تردد والدها وعدم رفضه للأمر برمته: عمي أنا والدي ووالدتي مكنوش أغنية، هما كانوا مدرسين وسافروا سوا إعارة وبنوا مستقبلهم سوا، وأنا نفسي أن أنا ودعاء كمان نبني مستقبلنا سوا خطوة خطوة، عشان لما نوصل بإذن الله نبقى نجحنا سوا.
لم يستطع والدها أن يمنع ازدياد إعجابه بذلك الشاب الرائع، ولكنه خاف أن تكون أحلامه تحول بينه وبين رؤية الواقع، فحاول تنبيه لصعوبة التوقيت: يا ابني ماهو بالعقل كده، أنتم كلها حوالي شهر وتبدأوا امتحانات، والاجازة كلها تبقي تلت شهور، تلاتة ونص، يبقى جواز أيه ده اللي هتلحقوا تتجوزوه في الاجازة دي.
لوح ياسر بيده سعيدا ليشرح فكرته بحماس، وقد تيقن من قرب تحقق حلم عمره: طيب حضرتك اسمعني وبعدين نشوف هينفع ولا مش هينفع، عشان حضرتك ما تقلقش من النهاردة لأخر يوم في الإمتحانات مش هنركز غير في مذاكرتنا، ومش هاجي أشوفها ولا هاكلمها في التليفون، عشان معطلهاش ولا اشغلها وك...
قاطعته والدتها تثني عليه بحماس: ربنا يحرسك لشبابك يا حبيبي، عين العقل ربنا ينجحكم يارب.
ابتسم لها سعيدا وهي يشكرها بود: تسلمي يا ماما، ربنا يخليكي لينا [ناظرا لدعاء بمشاكسة] بس ده طبعا ما ميمنعش أن أساعدها في المذاكرة لو احتاجت حاجة، واطمن عليها بعد كل امتحان.
ابتسمت دعاء بحياء ليتنحنح والدها زاجرا: وبعدين يا ابني، كمل كلامك.
تنحنح ياسر مكملا بحرج: يعني أنا قصدي أن الأسابيع اللي باقية على الامتحانات مش هنعمل فيها أي حاجة، بس أخر يوم في الامتحانات هننزل بإذن الله نشتري الشبكة ونلبسها خلال أسبوع، وبعد أذن حضرتك بكرة ولا بعده تيجوا تشوفوا الشقة، عشان نشوف اللي محتاجين نغيره، وبعد الشبكة علطول هنبتدي توضيب.
هتف والدها مستنكرا: وهو الاجازة هتكفي التوضيب ولا الجواز، ولا هترجعوا الكلية في الصباحية.
نظر ياسر لمحبوبته الخجلة بشغف وقد دغدغت كلمات والدها عن زواجهما أحلامه ليتمتم هائما: احنا ممكن نخلص توضيب في خلال شهرين، ونتجوز ونقضي شهر العسل باللي باقي من الاجازة، ونرجع الكلية وهي مراتي.
نظر والدها له بحيرة، وهو يراه قد وجد لكل مشكلة حل، ولكل أزمة مخرج، ليلتفت لياسين يسأله الرأي: أيه رأي حضرتك في الكلام ده يا داكتور.
ليجيب ياسين بقناع من الجمود يخفي وراءه حمم مشتعلة من الغضب، لتهميش أخيه له، وتوريطه على هذا النحو باتفاق لا يقبله: رأي أيه بقى، هو ياسر خلى لنا حاجة نقولها، ماهو مزبط كل حاجة مع نفسه أهو.
تهرب ياسر من النظر لأخيه وهو يتعمد لي عنق كلامه ليحصل على مبتغاه، وليحدث ما يحدث بعدها: أهو قال لحضرتك أهو، أنا مزبط كل حاجة صح، ومفيش كلام تاني ممكن يتقال.
بهت ياسين من جراءة شقيقه على أن ينسب له ما لم يقوله، بل وفي وجوده أيضا، وكاد أن ينهره مبديا حقيقة رأيه، ولكنه صدم بذلك السيل من الزغاريد الذي أطلقته والدة العروس،التي فسرت الأمر على هواها، واعتبرت ما قيل هو موافقة على خطة ياسر، أو أنها استشعرت ثورة غضبه القادمة فوأدتها بمهدها بقوات مكافحة العراك متمثلة بكل مظاهر الفرح من زغاريد ومباركات، التي تلقى نصيب الأسد منها لصفته بمثابة والد العريس، لتخمد ثورته قبل أن تبدأ، لا يعلم أيفرح بكبر ابنه، أم يحزن لكبر نفسه على طاعته واحترام رأيه، ولكن ورغم كل شيء لم يستطع وأد تلك الفرحة احتلت ملامحه بالكامل وفاضت بعينيه التي تنظر لعروسه بعشق فاضح، فلا يجد أمامه غير تقديم التهاني، والاستئذان بالانصراف متحججا بموعد جراحة سيجريها بالصباح الباكر، متقبلا رغبة أخيه بالبقاء مع عروسه بارتياح، فلا قبل له بالمجادلة الأن، خاصة مع تعبيرات زوجته المبهمة التي لا يستطيع تفسيرها.
❈-❈-❈
بعد مرور عدة ساعات
خرج ياسر من المصعد متوجها لشقته وهو يدندن منتشيا بسعادة، لا يصدق أن الحلم أوشك أن يصير حقيقة، يسترجع كل لمحة أو كلمة في لقاءهم الأول بعد أن أصبحا مرتبطان رسميا، كم كانت خجولة ورائعة، يشعر بمشاعر مختلفة وهو يضع مفتاحه بثقب الباب، متخيلا تلك المرة التي سيفتحه حاملا محبوبته، ليفتح الباب لدنيا جديدة يتشاركها سويا، انتفض من أحلامه على صوت فتح الباب المقابل لشقته، وصوت أخيه الهادر مقرعا: حمد الله على السلامة يا عريس.
ارتبك ياسر حتى سقطت مفاتيحه أرضا، ليلتقطها بسرعة وهو يدفع الباب مضطربا: أتفضل يا ياسين.
دلف ياسين خلفه مغلقا الباب بقوة ليختلط صوت إغلاقه مع صياحه الغاضب: ممكن أعرف أيه ده اللي أنت هببته هناك.
جلس ياسر وهو يجيبه بهدوء: عملت أيه، روحت خطبت زي ماكنا متفقين.
انفعل ياسين رغم هدوءه المعهود ليصيح غاضبا: احنا ما اتفقناش أنك هتتجوز بعد تلت شهور، على فرشك القديم، عشان توفر للهانم وأبوها.
لينهض ياسر واقفا بمواجهته، ليحتد صوته حانقا: وكمان ماتفقناش ندخل بيوت الناس نتريق ونضحك عليهم.
توتر ياسين وهو يقول مضطربا: وأنت بقى ماصدقت تتلكك بغلطة مش مقصودة، عشان تمشي من راسك وتلغيني، وتصغرني وتع...
قاطعه ياسر قائلا بتقدير حقيقي: معاش ولا كان اللي يصغرك يا دكتور، أنت كبيري وكلمتك على رقبتي، ولو صغرتك ابقى قليت بنفسي مش بيك.
زفر ياسين بسخط وتمتم متبرما: امال تسمي اللي حصل هناك أيه.
نظر له ياسر لائما وهو يقول معاتبا: معناه أني مش صغير يا أخويا، مش عيل تضحك عليه وتراضيه بكلمتين تفهمه أنك رضيت وموافق، وتروح معه وأنت في نيتك تفركش الجوازة، وتعجز الناس بطلبات عارفين أنهم مش قدها.
تهرب ياسين بعينيه من مواجهة أخوه مبررا بصوت مهتز وحروف متعثرة: لا طبعا، بس لما أروح الأقيهم بالشكل ده يبقى لازم أفوقك.
تبرم ياسر معترضا: مالهم الناس وشكل أيه ده اللي معجبكش.
احتد ياسين يخفي سخف موقفه: أنت فاهمتني أنهم ناس بساط وعلى قد حالهم، مقولتش أنهم عايشين في خرابة زي دي، وأنهم معدمين مش هيقدروا حتى يجهزوا بنتهم.
صدم ياسر من كلمات شقيقه، ليرد مستنكرا: واحنا مالنا ومال بيتهم وظروفهم، هو أنا اللي هاصرف عليها ولا هي اللي هاتصرف عليا، والموبيليا وكل اللي هاجيبه، في الأخر لبيتي.
تأكد ياسين من مخاوفه، وأن تلك البنت قد سرقت منه أخر من تبقى له بعائلته، وأن هذه الزيجة هي نعش علاقتهما وترابطهما المتين، فلأول مرة يجابهه أخاه بهذه الصورة، ليزداد تعنتا، دفاعا عن حقه بأخيه وربيبه: وأنا مش موافق على الجوازة دي يا ياسر، خصوصا بالشكل المتخلف اللي اتفقت عليه، ولو صممت على اللي في دماغك تبقى بتخسرني، شوف بقى عندك استعداد تبيع أخوك اللي رباك عشانهم، ولا ناوي على أيه.
أطرق ياسر بحزن وهو يغمغم بمرارة: أنت اللي بايعني وبتظلمني يا ياسين، وبتحرمني من الحق اللي إديته لنفسك.
احتقن وجه ياسين ليردف حانقا: قوام قلبتك علي، ووقفتك قدامي ترد علي كلمة بكلمة، وبقيت أنا الظالم اللي بيحرمك من حقك.
ابتسم ياسر بحزن وهو يقول بمرارة: لا يا دكتور دعاء ملهاش ذنب، ولا قلبتني عليك ولا حاجة، أنت اللي مستكبر أني أرد عليك، وأقف أدافع عن حقي واختياري، لأنك أخويا الكبير، مع أنك أنت نفسك وقفت قدام أبوك عشان بتحب سلوى.
استنكر ياسين المقارنة بتعالي: أنت بتشبه دعاء بتاعتك بسلوى، أنت مش عارف سلوى بنت مين.
احتدت نبرة ياسر وهو يرى استهانته بمحبوته وتقليله لشأنها: لا عارف، وعارف كويس كمان أن أبوها مهندس كبير وغني، بس نفس المهندس ده هو سبب رفض بابا للجوازة دي، لأنه كان عايزك تتجوز من بيت مستقر وأسرة مترابطة، مش بنت اللي رمى بناته واتجوز واحدة طلقها من جوزها، بعد ما حبوا بعض وهي على ذمة رجل تاني، من غير ما يراعي حرمة ولا دين، ولا حتى النسب اللي بينهم وأنه بوظ جوازة بنته اللي كانت مخطوبة لأخو الهانم اللي اتجوزها.
هدر ياسين بغضب أعمى، فلا يحق لأحد أن يذكر ارتباط حبيبته بغيره يوما ما، أو يعرض بنقطة ضعفها ومنبع أوجاعها: أياك تجيب السيرة دي على لسانك، دلوقتي بقيت سلوى مش عجباك عشان خاطر عيون الست هانم بتاعتك.
هادنه ياسر موافقا، فهو يعرف مكانة سلوى لدى شقيقه: سلوى فوق راسي من فوق، وعمري ما انسى جميلها عليا وتعبها معايا، واللي عمله والدها يعيبه ميعيبهاش هي، زي ما ظروف دعاء ما تعيبهاش ولا تقلل منها، [لينخفض صوته حرجا] ولو على أنا اللي هاجهز، فأنا مكنتش صغير زي ما أنت فاكر، وعارف.
تمتم ياسين بحيرة: عارف أيه؟!
تنحنح ياسر مضطربا وهو يتمتم بحرج: أنت كنت بتتكلم في التليفون قدامي عادي، عشان كنت فاكرني صغير ومش هافهم أنك أنت اللي جهزت كل حاجة، لما باباها عند ومرضيش يجهزها، عشان فسخت خطوبتها من أخو مراته الجديدة، وعارف كمان أنك بعت نصيبك من دهب ماما من ورا بابا.
تهاوى على الكرسي خلفه وهو يطرق برأسه أرضا لا يقوى على مواجهة أخيه ليرى بعينيه قبحه وإزدوجيته، يتذكر مجابهته لوالده وإصراره على اختياره، والأن ينكر على أخيه التمسك بإختياره، يتذكر ضعفه وتواريه، وهو يتحايل على والده ويبيع ذهب والدته ليشرف حبيبته ويحظى بقربها، بينما أخيه الذي يلومه أشجع وأقوى، فضل المواجهة على التحايل والالتفاف.
لتلين نبرته ويخرج صوته واهنا: أنا بس خايف عليك، لأني عارف قد أيه أنت متسرع، ومش عايزك ترجع تندم.
ليبتسم ياسر بسعادة وهو يرى بداية لين أخيه: والله عارف، وعارف قد أيه بتحبني، زي ما بابا كان بيحبك، بس أداك الفرصة تخوض التجربة، وتتحمل نتيجتها عشان تكون الدكتور ياسين اللي الدنيا بتنبهر بعقله وشخصيته.
ابتسم لتملق أخيه، ليمازحه بإريحية: ثبتني أنت كده.
ضحك ياسر مشاكسا: لو لسه متثبتش بسيطة، [بلهجة تمثيلية] أنت بابا وأنت كل مالي، لو بعدت عني أموت يا حياتي.
ضحك ياسين حتى دمعت عينيه، ليتوقف ملتقطا أنفاسه وهو يتذكر والده، وكيف ترك له حرية الاختيار رغم تحفظه وقتها، فلما لا يعطي أخوه نفسه الحرية، لربما وجد سعادته كما وجدها هو مع سلوى، لينظر لأخيه بتقدير يبثه تلك الكلمات التي سمعها هو منذ سنوات، ومازال صداها يتردد بإذنه بصوت والده الراحل: أنت بقيت راجل، وأنا مش هاقف في وش سعادتك، وهافضل دايما جنبك وفي ضهرك، ربنا يوفقك ويخلف ظني.
ارتمى ياسر بحضن أخيه سعيدا وقد لمس صدق موافقته ودعمه: ربنا ما يحرمني منك يا أخويا وتفضل دايما في ضهري واتسند عليك.
شدد ياسين من احتضان أخيه، هامسا بحنان: أنا موافق أنك تتجوز الاجازة دي، بس عايزك تشد حيلك وسنة بالكتير، وتجبلي الواد اللي أنا معرفتش أجيبه.
ليربت عليه أخيه مواسيا بحب: واد أيه اللي معرفتش تجيبه ده، وأنت سنة بإذن الله وتبقى أصغر جدو، أنت أبويا يا ياسين مش أخويا وبس.
دفعه ياسين من حضنه بمرح محاولا التماسك والخروج من تلك الحالة العاطفية التي لا تليق به: وفر الشوية دول لحبيبة القلب تثبتها بيهم [ليهم بالرحيل وهو يكمل] بلغني بالميعاد اللي هيجوا يشوفوا فيه الشقة عشان أكون موجود وأشرفك.
استوقفه نداء ياسر الممتن: ياسين، ربنا ما يحرمني منك.
ليبتسم بود وهو يدلف لشقته، حامدا الله أن أنار بصيرته، وتخلى عن عنده، قبل أن يخسر أخيه أو يحطم حلمه وسعادته.
❈-❈-❈
بعد ثلاثة أيام، بشقة ياسر
استمع لجرس الباب ليترك ما بيده ويتجه لفتح باب الشقة، حيث يجد سلوى تقف تبتسم بمشاكسة: أدخل ولا لسه مخاصمني.
يحاول إخفاء ابتسامته على ملامحها المشاغبة، وهو يتنحى من أمامها بهدوء: اتفضلي.
ضحكت وهي تدلف للشقة ببساطة وهي تشير له بالخروج: لا أنت اللي هتتفضل بره لحد ما نشوف احنا شغلنا.
عقد حاجبيه بحيرة: شغل أيه.
أجابته وقد بدأت في ترتيب الغرفة: فطارك على السفرة عندي، وأنا و أم محسن ونجوى، هنوضب شقتك، لاحسن لو العروسة شافتها كده هتنفد بجلدها والجوازة تبوظ.
نظر لها بلوم متهكما: وهو ده يزعلك.
ابتسمت وهي تتمتم بإعتذار: والله ما كان قصدي، بس مامتها شبه فردوس محمد قوي، وكانت بتتكلم زي أفلام أبيض وأسود، مقدرتش أمسك نفسي، حقك علي.
حاول ألا يبتسم وهو يحذرها، لأن تشبيهها كان حقيقيا فعلا: سلوى أوعي النهاردة..
قاطعته وهي تعده بصدق: لا والله ما تخافش، وبعدين أنا مقدرش على زعلك تاني، ده أنت زعلك وحش وقلبك أسود قوي، [معاتبة] قدرت تستغنى عننا وعن أكلي يومين كاملين، عامة عوضتهلك وعاملة النهاردة للجماعة كل الأكل اللي بتحبه.
ابتسم ياسر وهو يغمغم بحرج: لا مفيش داعي للتعب، أنا كنت ناوي أجيب جاهز ونتغدى في شقتي.
عقدت حاجبيها وهي تقرعه بلوم: وهي دي كمان مش شقتك، ولا أنت فرقت خلاص.
تمتم بحرج: والله مش عايزة اتعبكم، كفاية أنك هتوضبي هنا.
أعادت له أمرها بالخروج وهي تنهره بحسم: باقولك أيه متعطلناش، وروح أفطر وابعت لي نجوى وأم محسن.
ما كاد يلتفت حتى اصطدم بتلك الشابة ذات العيون المنتفخة والوجه الحزين، الذي أثار قلقه من أن يكون قد ظلم تلك الفتاة، وأن معاملته الودودة قد علقتها به دون أن يدري، ليسألها باهتمام: صباح الخير يا نوجا، مالك شكلك مرهق.
اشاحت بوجهها دون أن تجيبه، فتنحنح بحرج وهو يوجه كلامه لشقيقتها: مالها نجوى يا سلوى، هي مخاصمني ولا أيه؟
نظرت له سلوى بضيق، معاتبة: فاكر أنت وبس اللي بتعرف تتقمص، وكمان تتخلى عن اللي بيحبوك.
راقب نجوى التي تهرب بعينيها من مواجهته وهو يغمغم بتوتر: أنا زعلتك واتخليت عنك في أيه يا نجوى.
اجابته سلوى بسرعة: ما حضرتك اتقمصت وبطلت تدخل تذاكر لها، مع أنك عارف أن امتحاناتها على الأبواب، ومبتفهمش الرياضة غير منك، وجاوبت الواجب غلط والمدرس احرجها قدام زمايلها.
شاكس ياسر نجوى، محاولا اخراجها عن صمتها: وبدل زعلانة ومقوصة جاية تساعديني ليه.
غمغمت نجوى بانكسار: عشان أجدع منك.
ضحك ياسر محاولا استرضاءها: طول عمرك يا نوجا [معتذرا] اخلص بس من موضوع الزيارة دي وافضى لك.
غمغمت بنبرة مؤنبة: قصدك، تخلص من الزيارة عشان تذاكر لي المرة دي، وتفضى بعد كده لجوازك وتخلص مني للأبد.
ضحكت سلوى وهي تنهي الحوار سريعا: لو على تالتة ثانوي يا نجوى متحمليش هم، هيكون شبع من الجواز وهيساعدك، يالا بقى متضيعوش الوقت، ونلاقي الناس جات واحنا لسه مخلصناش .
ليخرج مسرعا ممتنا لإنقاذ سلوى له من تلك المواجهة التي يخشى عواقبها: هندهلكم أم محسن، عشان تخلصوا بسرعة.
دلف لشقة أخيه مضطربا، لا يعلم لما تنظر له نجوى بتلك النظرة الغامضة، أما أنها حزينة لتوبيخ المدرس وتخليه عنها بالفعل، ولكن كلمات شقيقه عن ظنه بوجود مشاعر لديها له، هو ما أثر عليه.
❈-❈-❈
على مائدة الغداء بشقة ياسين.
التف الجميع حول المائدة العامرة بشتى أنواع الطعام الفاخر وبكميات ضخمة، يتبادلون الحديث بود و انسجام، لتنهض أسرة دعاء لغسل أيديهم، والتوجه لشرب الشاي بغرفة الاستقبال، تلاحقهم كلمات سلوى المرحبة.
ابتسمت سلوى بمجاملة وهي تهتف: لا كده ما ينفعش يا جماعة ده الأكل زي ما هو.
ابتسمت دعاء ممتنة: شكرا يا مدام، تعبنا حضرتك.
هتفت سلوى تعترض بمرح: أيه مدام دي، احنا خلاص بقينا اخوات وأهل، يا تقولي يا سلوى يا ساسو زي نوجا.
تبتسمت دعاء سعيدة: ماشي يا ساسو.
ابتسمت والدة دعاء بعفوية: بسم الله ما شاء الله، أنت اللي عاملة أكل يكفي شارع بحاله، بس تعملي حسابك على الأسبوع الجاي العزومة عندنا.
ابتسمت سلوى مردفة بتلقائية: عندكم، لا معلش مش هينفع عشان الظروف.
اختفت الابتسامة من وجه دعاء وهي تسأل متوجسة، وقد رأت استخفاف وتهكم، بنبرة سلوى، من وجهة نظرها هي: ظروف أيه حضرتك.
زفرت سلوى بحرقة وهي تقول بحزن: نجوى امتحاناتها على الأبواب ونفسيتها وحشة قوي، وأنا قلقانة أن الخوف يأثر عليها وعلى نتيجتها، أو أنها متجيبش مجموع هندسة وتحقق حلمها، عشان كده مابسيبهاش، وهي علطول في الدروس دي حتى زعلانة قوي أنها مقدرتش تكون موجودة النهاردة وتتعرف عليكم.
ابتسمت دعاء بحرج من سوء ظنها وحساسيتها المفرطة: ربنا يوفقها ويطمنك عليها يارب يا ساسو.
ضحكت سلوى مازحة: لا ما هو أنا بقى مستعجلة على جوازكم أكتر من ياسر، عشان ناوية أورطكم، أصل السنة اللي جاية تالتة، يعني سنة مصيرية، ومينفعش تكون علم رياضة وعندي اتنين محاسبين ويسيبونا نغرق.
ابتسمت دعاء بود وهي تقول بمرح: يا سلام، ده احنا تحت أمرها، المهم هي ربنا يوفقها وتحقق حلمها.
دعت سلوى برجاء: يارب يا دودو، يارب.
ابتسم ياسر سعيدا بجو المحبة السائد بتلك الزيارة، ينظر لحبيبته وسعادتها بفرحة عارمة، ليجلس بجوارها يحاول مجاذبتها أطراف الحديث: عجبتك الشقة.
أطرقت أرضا وهي تومئ ايجابا، ليضحك الجميع على خجلها.
ابتسم ياسين برضا بعدما أطمئن لأختيار أخيه، ورأى القناعة والرضا بعين خطيبته، ليعرض صادقا: لو خايفة على فلوس خطيبك وقلبك على فلوسه، متقلقيش يا ستي اطلبي وأنا سداد.
ابتسمت دعاء بخجل، وهي تتمتم بخفوت: ربنا يخليك يا دكتور، بجد مش عايزة حاجة.
ابتسم والدها بطيبة وهو يؤيدها: دي الشقة بسم الله ما شاء الله، كاملة من مجاميعه، هي مصاريف وخلاص، هو يدهن وش نضافة، ويغير أوضة النوم وأنا أوضب الباقي والحمد لله على كده قوي.
اعترض ياسر احتجاجا على خجلها وتعففها الزائد: بس احنا اتفقنا من الأول أني هاغير الإجهزة، ليه دلوقتي مش راضية.
غمغمت دعاء بخجل وهي تفرك يديها وتنظر للأرض بتوتر: أنا كنت فاكرة الاجهزة مستهلكة، بس هي تقريبا جديدة وماركات محترمة.
ضحكت والدة دعاء بسعادة، فرؤيتها لتلك الشقة الفارهة قد أسعدها وطمئنها بأن ابنتها ستتجنب ما عانته هي من فقر، لتؤكد براحة: عندها حق يا حبيبي، ماهو يعني حرام الإجهزة صاغ سليم، واللي يبوظ أبقوا جيبوا اللي أحسن منه، وكمان...
قطع كلامها صوت الباب وهو يغلق بعنف، مقترنا بصوت نجوى الغاضب: يا سلام....
❈-❈-❈
تفتكروا الدنيا هتمشي عادي والجوازة هتم ولا في حاجة هتتغير
•تابع الفصل التالي "رواية اليمامة و الطاووس" اضغط على اسم الرواية