رواية مملكة سفيد الفصل الرابع و الثلاثون 34 - بقلم رحمة نبيل
” حتى في المدينة الفاضلة، حيث لا ذنوب ولا عصيان، ستراودك نفسك الامارة بالسوء أن تغادر أسوار المدينة وتجرب المتعة اللحظية التي تمنحك إياها المعصية ”
وهي كانت من اوائل من عبروا تلك الأسوار، أبت أن تلعب دور المسكينة طويلًا واستهوت نفسها دور الشرير في هذه الحكاية .
تستند على فراشها تحدق في المكان أمامها بشرود لا تسمع سوى اصوات الماضي ولا ترى إلا صور عذابها، عذابها الذي بدأ على يد تلك الخادمة التي استطاعت سلب ما لم تستطع هي أخذه…قلب تقيّ الدين .
انهارت ارضًا وهي تترجاه ألا يفعل بها هذا :
” ارجوك تقيّ الدين أنا ارجوك، لقد …أنا فقط سأفعل كل ما تريده فقط لا تفعل هذا بي ”
تألم تقيّ الدين من نظراتها وتنهد وهو ينحني يرفعها من كتفيها بود :
” شهرزاد، اقسم بالله أنني سأعدل بينكما ما استطعت، فلا تعتقدي أنني يومًا قد اظلمك، والله لن أفعل، لكن فقط … إن اردتي التحرر مني سأتفهم هذا شهرزاد و…”
نفت ورفضت شهرزاد بقوة صارخة :
” لا، لن أفعل ولن اتحرر منك، أنت لن تتخلص مني بهذه السهولة تقي الدين”
فزع تقي الدين من نظراتها المريبة وهو يردد بعد تنهيدة قصيرة :
” إذن شهرزاد أنتِ ستتقبلين أن تصبحي زوجتي الأولى، وآمنة ستصبح زوجتي الثانية ”
وقد كان، تزوج بها تقي الدين، وأصبحت تلك الخادمة التي لم ترتقي يومًا لتجاورها في السير، ندًا لها وزوجة للملك، الملك الذي عكف على تعليمها كل ما يؤهلها لتصبح ملكة كالقتال والفروسية وغيرها، ورغم أنه يومًا لم ينتقص من حق شهرزاد أو يظلمها، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا لها.
شهرزاد التي دفنت جميع شياطينها في أعمق نقطة في ابارها قبل الزواج منه، ها هي تستخرج كل تلك الشياطين الآن، وخاصة بعد أن علمت أن تلك الخادمة تحمل وريث الملك الاول .
وما هي إلا أيام مرت لتكتشف شهرزاد أنها تحمل كذلك بطفلها، فسارعت تنشر الخبر بين الجميع أنها تحمل الطفل قبل آمنة ولكنها أسرتها في نفسها حتى تتأكد، أخبار نشرتها بين الجميع فقط ليعلموا أن البكر سيكون ولدها هي .
وتمر الشهور وشهرزاد تدفن نوايها في أعمق مناطق بئرها، حتى جاء اليوم المنتظر وحان موعد ولادتها المبكرة بسبب تناولها لبعض الاعشاب التي سهلت الأمر، لتعتزل بنفسها في المنزل الجنوبي حتى بعد ولادتها لطفلها الاول واعلنت أنها حصلت للملك على ولي عهد، مستغلة غياب الملك في أحد الحروب .
حتى وصلتها اخبار مولد آمنة لطفلها فعادت متخفية للقصر وقد جهزت كل شيء لهذه اللحظات .
ابتسمت آمنة بتعب تسمع صوت المرأة التي ساعدتها في وضع ولدها :
” مبارك مولاتي لقد رزقك الله بفتاة ”
نظرت لها آمنة نظرات شبه واعية تردد من بين ضباب عيونه :
” فتاة ؟؟”
وقبل أن تتساءل عما تقصد سقطت في غفوة غير معلومة السبب، غفوة لم تمنحها حتى فرصة التأكد مما سمعت .
في تلك اللحظة تحركت مرأة داخل الجناح تحمل بين ذراعيها فتاة صغيرة عمرها يومين تقريبا تضعها في الفراش الخاص بالصغير، وخرجت بالفتى الذي انجبته آمنة وتحركت بهدوء دون أن يوقفها أحدهم أو يوجه لها كلمة .
وقد أبصر ما حدث العريف والذي كان في طريقه صوب مكتبته وتعجب دخول الخادمة بطفل وخروجها بطفل كذلك من غرفة الملكة، لكنه لم يفكر في الأمر كثيرًا وتحرك صوب وجهته .
بينما الخادمة وصلت صوب جناح شهرزاد التي اتسعت بسمتها بمجرد أن أبصرت الصغير يتوسط ذراع الخادمة لتهتف بلهفة :
” الصبي ؟؟”
” نعم مولاتي هذا هو طفل الملكة آمنة ”
حدجتها شهرزاد بنظرات غاضبة مريضة وهي تنتزع منها الصغير صارخة :
” هذه الحقيرة ليست ملكة، وهذا ليس طفلها، من هذه اللحظة هذا ولدي أنا، طفلي أنا سمعتي ؟؟”
هزت الخادمة رأسها في رعب شديد، فالمرأة التي دبرت لكل هذا بدقة مخيفة، لا يجب أن يعارضها أحد وإلا ناله منها ما لا يسره .
وشهرزاد لم تهتم بنظرات الخادمة لها تضم الصغير لصدرها وهي تهتف له ببسمة مريضة :
” مرحبًا بك يا صغيري في أحضان والدتك، سوف تكون ولي عهد هذه المملكة وصغيري العزيز .”
فتح الطفل عيونه ببطء ينظر لها دون إصدار أي صوت وهي اخذت تدور به فرحة لا تصدق أن القدر ابتسم لها، فبعدما انعزلت في المنزل الجنوبي لتلد قبل آمنة وتحصل على طفلها أولًا، اكتشفت أنها فتاة فازداد سخطها وقررت ترقب مولد طفل آمنة، وحين علمت أنها أحضرت فتى سارعت للخطة البديلة وها هي، حازت طفلها الصغير لم يتبقى أمامها سوى التخلص من غريمتها وهذا تعلم جيدًا كيف تفعله ….
كل شيء كان مخطط له، رحيل الملك في هذا الوقت تحديدًا، وحصولها على الصغير، وما تبقى كالتخلص من آمنة لن يكون صعبًا .
أفاقت شهرزاد من أفكارها وهي ما تزال تحدق أمامها، تحاول أن تخرج من حالة الحنون التي اصابتها، تعقد أصابعها على مفرش السرير وهي تهتز بجسدها :
” فعلت كل هذا لأجل لا شيء ؟؟ ضحيت بكل ما امتلك، نبذت ابنتي وفقدت زوجي لأجل أن ينبذني بهذا الشكل ؟؟ لن أسمح له، لن أسمح لك يا ابن آمنة أن تفعل ”
انتفضت عن الفراش تتحرك بسرعة خارج الجناح بأكمله وهي تتحرك بغضب مخيف تهتف بصوت مرتفع في الجميع :
” ليجهز لي أحدهم موكبي سأعود للقصر ”
تحدث أحد الحراس في الممر الخاص بالمنزل الجنوبي :
” لكن مولاتي لقد أمرنا الملك …”
قاطعته بجنون وهي تصرخ في وجهه :
” اخبرتكم أن تجهزوا لي موكبي، أي كلمة مما قلت لم تفهموا ؟؟ اسرع قبل أن أصدر أوامري بحرقكم احياء، أنا هنا الملكة الأم”
نظر لها الجندي باعتراض ولم يشأ اخبارها أنها بالفعل فقدت كل تلك الامتيازات التي تتغنى بها، لكنه فقط اكتفى يقول :
” حسنًا مولاتي، لكن الملك بالفعل أمر بعدم تحركك إلا بأمر شخصي منه هو، لذا نحن نعتذر حقًا لا يمكننا تنفيذ أوامرك في الوقت الحالي ”
وهذه الكلمات كانت أكثر من كافية لتشتعل شهرزاد وهي تتراجع ببطء لا يعكس ما تضمر في صدرها :
” أنت محق، لا بأس إذن نفذ أوامر ملكك ”
تحركت بعيدًا عنه صوب الغرفة تحت نظرات الجندي المتعجبة رضوخها بهذا الشكل، لكنه لم يهتم كثيرًا وهو يعود لعمله.
بينما شهرزاد عادت للجناح تقول بنظرات مخيفة :
” يبدو أن الطرق الملتوية هي ما تجبركم على الطاعة أيها القذرين، سأريكم …..”
_____________________
صدمة سالار في هذه اللحظات تركته مشلولًا لا يقدر على النطق، عُقد الملكة آمنة ؟!
ابتلع ريقه يهمس لايفان بصوت خافت وبشدة وهو يجذبه بعيدًا عن باب غرفة زمرد بصعوبة :
” إيفان رجاءً تريث، ربما هو عقد مشابه لخاصة والدتك، ما الذي سيأتي بعقد والدتك لهذه الفتاة في الداخل ”
قال إيفان بصوت مرتعش متوتر لاول مرة وقد فقد اتزانه:
” هذا ما اريد معرفته، ربما …ربما تعلم مكان والدتي، ربما وجدت هذا العقد في مكان يمكنني الوصول لوالدتي فيه، ربما أخذته منها، أنا فقط …”
امسك سالار إيفان من كتفه يحدثه بصوت جاد وهو ينظر في عيونه بشكل صارم :
” إيفان عزيزي والدتك رحمة الله عليها ماتت وأنت طفل رضيع في إحدى الغارات، لقد قُتلت أمام أعين والدك ولولا رحمة الله به لكان رحل هو كذلك في اليوم ذاته ”
ارتجف إيفان وهو يهمس له :
” لكن هذا العقد …”
” ربما هو مجرد عقد مماثل لخاصة والدتك و…”
” مستحيل، مستحيل أن يكون، سالار انظر ”
ختم حديثه يشير صوب الجزء الخلفي في العقد مرددًا :
” هذا نقش بأحرف والدي، النقش الذي اعتاد وضعه على سيوفه الخاصة وما يصنع، اقسم بالله أن هذا العقد يعود لوالدتي ولا يوجد أحد قد يصنع مثله، أنا أعلمه من كل تلك الرسومات التي تظهر والدتي بها رفقة أبي ”
صمت ثم أشار للداخل يقول بصوت مرتفع :
” هذه الفتاة بالداخل بالتأكيد تعرف ما حدث لها، ربما …ربما هي حية، هم لم يجدوا جثتها، ربما لم تمت بعد”
في هذه اللحظة أفاق دانيار على حديثهم يحاول أن يفهم ما يقال والذي كان يتعلق بزمرد:
” ما الذي تتحدثون عنه، وما علاقة زمرد بما تقولونه و ..هذا العقد، هذا العقد خاص بها، كيف جاء لكم ؟!”
استدار إيفان صوب المتحدث بسرعة وهو يستوعب الآن أنه دانيار ليقول بترقب :
” هل تعلم ..هل تعلم هوية الفتاة بالداخل ؟!”
شعر دانيار بالخوف يملئ صدره وقد خشي للحظات أن يكون الملك قد جاء ليوقع عقاب عليها، فقط مرتاب من نظرات إيفان تلك التي لا يدرك لها سببًا .
ابتلع ريقه يهز رأسه بهدوء شديد :
” هي …هي …ما الذي فعلته لتتساءل عن هويتها مولاي ؟!”
رفع إيفان العقد أمام أعين دانيار دون مقدمات لتشتعل أعين الاخير بنظرات التقطها إيفان :
” هل هذا العقد يخصها ؟؟”
مد دانيار يدها ليلتقطه منه، لكن إيفان أبعده بسرعة وكأنه يأبى أن يفارق كفه :
” نعم هو لها، و…هل يمكنك اعطاءه لي مولاي ؟؟ فهي متعلقة بهذا العقد أكثر من أي شيء وستحزن إن فقدته، رجاءً”
أضاءت أعين إيفان بنظرات غامضة :
” ترى ما سبب تعلقها بهذا العقد ؟! ومن أين لفتاة عادية كتلك الفتاة بالداخل أن تحصل على مثل هذا العقد الثمين، وما سبب إصابة تلك الفتاة بطعنة يا ترى ؟؟”
اسئلة كثيرة سقطت فوق رأس دانيار الذي هز رأسه وهو يحاول أن يخرج بإجابة ترضي إيفان وفي الوقت ذاته لا تضر بزمرد:
” هذا …هذا العقد متوارث من والدتها، وهي فقط متعلقة به لأنه آخر ما تمتلك منها، وهي في الداخل لأنها فقط أُصيبت بطعنة طائشة و….”
كلمات كثيرة نطق بها دانيار وهو يحاول التبرير لإيفان الذي لم يكن يعي من حديثه سوى الجملة الأولى، هل قال والدتها ؟؟ كيف ذلك ؟! هذا العقد يعود لوالدته هو .
نظر صوب سالار وكأنه يطلب منه الدعم، كأنه يترجاه المساعدة فيما يحدث له، وسالار كان عاجزًا عن فعل شيء سوى فقط التساؤل بشك :
” هل الفتاة بالداخل هي نفسها رفيقة الأميرة كهرمان ؟؟”
هز دانيار رأسها بهدوء شديد وتردد لتتسع أعين إيفان وهو يهمس بشحوب :
” أي واحدة تقصد ؟! هل هي نفسها زوجة تميم و….”
قاطعه دانيار نافيًا برأسه:
” بل الأخرى، نفسها الفتاة التي كانت تعترض أثناء محاكمة خاطفي الأميرة كهرمان ”
ضربت ذكرى ذلك اليوم إيفان وهو يحاول تذكر تلك الفتاة التي يتحدث عنها، حتى سمع صوتها يتردد في أذنه وهي تعترض بكل تبجح وتصرخ في وجه الرجال، نفسها الفتاة التي تبجحت سابقًا في حادثة السرقة لزوجة تميم .
عند هذه النقطة تحرك إيفان بسرعة عن باب الغرفة وهو يهتف بأمر قوي اللهجة :
” اعلموني حين تفيق الفتاة ”
ودون انتظار رد انطلق يعدو في القصر بشكل مخيف جعل سالار يلحق به بسرعة خوفًا أن يتسبب لنفسه في ضرر، لكن إيفان لم يكن يهتم بكل هذا وهو يتحرك صوب المكتبة يقتحمها بقوة دون أن يهتم بجسد تبارك الباكية التي انتفضت عن موضعها جوار مرجان والذي كان يحاول مراضاتها..
اقتحم إيفان المكتبة يصرخ باسم العريف والذي خرج له سريعًا متعجبًا :
” ما الذي يحدث هنا ؟! هل قررت العودة للانتقام من كلماتي التي …”
لكن إيفان قاطعه وهو يتحرك له بسرعة يجذبه صوب أحد الأركان تاركًا خلفه سالار الذي توقف ينظر لتبارك بشر هامسًا :
” ما الذي تفعلينه خارج جناحك مولاتي في هذا الوقت ؟!”
رفعت تبارك عيونها له بعدم فهم ليهتف هو بغضب وقد كان لا ينقصها حقًا في هذه اللحظة أن تسمع صرخاته :
” عفواً ؟؟”
” عفواً أنتِ مولاتي، لكن وجودك الآن خارج الجناح أمر مرفوض بالمرة”
نهضت تبارك عن مقعدها تجابهه صارخة بوجع مما تتعرض له :
” ومن يا ترى الذي أصدر هذا الأمر ؟!”
أجابها سالار بقوة :
” أنا”
ابتسم له بسمة صغيرة تبادله العناد بالمثل :
” حين يتخلى الملك عن الحكم لاجلك، وقتها سأنفذ أوامرك يا قائد ”
ختمت حديثها تتحرك عائدة صوب مرجان الذي لم يكن يفهم أيًا مما يحدث حتى سمع صوت سالار يقول :
” وكلمة الزوج تعلو كلمة الملك، تبارك ”
توقفت اقدام تبارك بصدمة كبيرة لتلك الكلمات تستدير له بملامح متشنجة متسائلة، وهو منحها بسمة صغيرة :
” وانا في مكانة زوجك المستقلبي في الوقت الحالي، لذا رجاءً توجهي لغرفتك دون التسبب في مشاكل آنسة تبارك”
ابتسمت له تبارك بسمة واسعة مغتاظة :
” أرى أنك تمنح نفسك العديد من الحقوق التي لم امنحها أنا لك يا قائد ”
” يحق لي، تبارك ”
” حق أخذته دون شورى أو وجه حق لا يُعد حق”
اقترب منها سالار يجيب بجدية كبيرة وهو ينظر لعيونها متحديًا :
” هذا لم يكن حديثك حين عرضتي عليّ مشاركتي الحرب تبارك ”
” وهل الزواج حرب يا قائد ؟!”
ابتسم لها بغضب مما يحدث الآن في هذه اللحظة وهو لم ينتهي بعد من اتفاقه مع إيفان، هتف ببساطة قبل أن يلقي مرجان بنظرة تحذيرية تعني الكثير وتخفي الكثير :
” سيكون كذلك إن كان منكِ ”
ختم حديثه يتحرك بعيدًا عنهما تاركًا مرجان يحاول الهرب من المكان بأسره ليتجنب أي مخاطر على تفسه، وما كاد يتحرك حتى أوقفته تبارك وهي تقول :
” إلى أين مرجان، لم انتهي من شكوتي بعد ؟!”
” أنا…أنا فقط تذكرت فجأة أن ابي طلب عودتي اليوم للمنزل سالمًا، فأردت أن اطمئنه أنني مازلت حيًا، لذا استأذنك بالرحيل مولاتي ”
ركض سريعًا عقب كلماته وتبارك تنظر في أثره بعدم فهم، ثم استدارت صوب الجهة التي تحرك لها الجميع تفكر في الرحيل لئلا تتطفل عليهم، لذا تحركت خارج المكتبة تقرر الذهاب لتفحص حالة زمرد وكذلك برلنت .
_____________________
” والآن ماذا سيدي ؟؟”
ارتشف بافل ما تبقى في كأسه يجيب والنيران تملئ صدره :
” الآن سننتظر حتى تتحول نيران غضبهم لرماد، وحينها نهجم ونضربهم ضربتنا ”
اعترض أحد الرجال الذين فروا من مشكى لمخبئهم :
” نضرب ماذا ؟؟ نضربهم ضربتنا ؟؟ تقصد نريهم خيبتنا”
ختم حديثه يضحك بسخرية ثم أكمل :
” نحن وكنا كاملي الصفوف هُزمنا على الجانبين، الآن وقد اصبحنا كالقطيع المشرد تود أن نهجم عليهم ؟؟ معذرة يا بافل أنت في هذا وحدك يا عزيزي ”
وبمجرد أن نطق تلك الكلمة حتى ارتفعت الصيحات المؤيدة والجميع يؤكد رفضه التام لأخذ أي خطوة إضافية صوب الممالك، يعبرون جميعهم عن غضبهم باستياء شديد :
” نعم هذا ما سيحدث لا قبل لنا في الاقتراب من الممالك، لنتعايش كما كنا وننسى ما حدث، فغضبنا لن يفيدنا على أية حال ”
علت الهمهمات المؤكدة لحديثه والجميع يوافق، بينما بافل ينظر لهم بأعين حمراء وقلبه ينتفض غضبًا وذلًا لن يخمد إلا بالانتقام .
دار بعيونه بين الجميع قبل أن يبصق ارضًا هامسًا :
” حفنة من الجبناء الضعفاء الوسخين، وتتعجبون أن هُزمنا ؟؟ حمدًا لله أننا لم نفنى بعد ايها القذرين ”
صمت يتنهد بصدر يجيش بالكثير :
” لكن أنا، أنا لست مثلكم، ولن أكون، وثأري سآخذه وبيدي هذه …..”
____________________
” هل قصدت ما سمعته للتو تميم ؟؟”
نظر لها تميم لحظات قبل أن يهز رأسه بهدوء وفي عقله أفكار كثيرة تتقاذفه ظنونه، وحين أبصر نظرات الصدمة تعلو وجه برلنت سارع للقول :
” أبي بخير ولم يُعدم بيرلي، هو بخير لقد عفى عنه الملك حين علم أنه مظلوم و..”
” وعشت حياتي اجلد نفسي بسياط الندم لأجل شيء لم يحدث ؟؟”
كانت كلمات برلنت خافتة مكسورة النبرة ودموعها التمعت بحسرة داخل عيونها، حسرة على ايام ضاعت من حياتها بين دوامات الندم والحزن والقهر، يا الله لقد عانت لشهرين كاملين من كوابيس قاتلة كادت تودي بصحتها النفسية .
ابتلعت ريقها تقول بصوت منخفض :
” لقد كدت أموت حسرة في أحد الأيام لولا أن اغاثتني والدتي و….”
صمتت برلنت فجأة وهي تدفن وجهها بين يديها ليتحرك تميم يجاورها بتردد يجذب رأسها لصدره هامسًا :
” بيرلي، صغيرتي لا تبكي رجاءً ”
صرخت برلنت باكية دافعة إياه بعيدًا :
” لا تطالبني بالتوقف تميم، فهذه حياتي التي تدمرت هنا وليست خاصتك ”
تنفست بصوت مرتفع وهي تهتف :
” هنت وهانت حسرتي عليك تميم لتخفي عني كل هذا ؟؟ أنا فقط أشعر بالـ ”
توقفت ثواني تحاول أن تتوازن وتدرك ما تشعر حقًا في تلك اللحظة، ليراودها شعور مبهم من السعادة بالتحرر من ذاك الذنب الذي كبلها، مختلطًا بشعور الحسرة على سنوات ضاعت بسبب ذلك الذنب نفسه، هي فقط تشعر دون إرادة منها أنها حزينة ومقهورة، حتى وإن ظن البعض في تلك اللحظة أن مشاعرها سخيفة مبالغ بها .
” تميم أنا ….أنا فقط سعيدة لأجل والدك، وكذلك والدتك، أنا سعيدة لأجل عائلتك”
وتعيسة لما أصاب عائلتي، لكن هل تلومه على ما أصاب عائلتها ووالدها هو من تسبب في كل ذلك ؟! لا فهو عانى وعائلته جراء مكر والدها، لكن الله يمهل ولا يهمل، وها هي عائلة والدها تدمرت، وعائلة تميم نجت .
سقطت دموعها بحزن وقهر تحت أعين تميم المتفهمة لكل الأفكار التي قد تمر في عقلها الآن، يدرك التخبط والحسرة التي تملئ نفسها، وهو ابدًا لم يكن على استعداد ليتحمل كل ذلك ..
اجبرها تميم على الخضوع لاحضانه وهو يهمس لها :
” ارجوكِ بيرلي اسمعيني وتوقفي عن البكاء، انى أرجوكِ اقسم أنني سأخبرك كل شيء لكن فقط توقفي عن هذا البكاء فهذا ليس بالشيء الجيد وقد استيقظتي للتو بعد أيام مرض ”
بكت برلنت أكثر وكأنه أمرها بذلك تتحدث بتقطع من بين نبرتها :
” أنا لا يمكنني تخيل أنني طوال هذه السنوات عشت بشعور الخزي والقهر لأجل لا شيء، تحملت رؤيتك أمامي دون التقدم والتحدث بكلمة لأجل لا شيء، اضعت حياتي هباءً لأجل لا شيء، تميم لقد …لقد توقفت حياتي منذ ذلك اليوم الذي أدركت ما فعلت بالعم مؤمن ”
ضمها تميم وهو يشعر بالغضب يستحوذ عليه من أجل ما تعاني، ولم يتحدث بكلمة قد تثقل من مشاعرها، ولم يخبرها أن والدها كان يعلم الأمر واستمر بإخفائه :
” أنا آسف حقًا بيرلي ”
بكت برلنت أكثر وهي تهمس :
” لِمَ أخفيت عني تميم، لماذا لم ترحم حالتي السيئة وتخبرني ؟؟”
ابتلع تميم ريقه يقول :
” ظننتك تعرفين و…”
” من أين لي بتلك المعرفة وانا غادرت القرية قبل أن نسمع الحكم على والدك، أنا بالكاد علمت ما حدث من أبي و….”
صمتت فجأة وقد ضربها الإدراك فجأة لتتأوه بصوت موجوع مجروح :
” اوه، ابي …لا بد أنه كان …كان يعلم صحيح ؟؟”
أبعد تميم عيونه عنها ولم يكد يتحدث بكلمة حتى سمع صوت طرقات على الباب قاطعت حديثهم، تنهد تميم براحة أن تخلص مؤقتًا من حصارها يتحرك صوب الباب ليفتح، وتفاجئ بوجود تبارك التي ابتسمت له بسمة صغيرة تقول بصوت منخفض :
” مرحبًا تميم، هل يمكنني فحص برلنت ؟؟”
نظر لها تميم ثواني قبل أن يبتعد عن المدخل مشيرًا صوب الفراش :
” نعم رجاءً كنت سأستدعي أحدهم ليفعل ”
ابتسمت تبارك تخطو للغرفة ولم تكد تتحدث حتى سمعت صوتًا افتقدته يقول بلهفة :
“تبارك ”
نظرت تبارك جهة الفراش لتتسع بسمة هاتفة :
” برلنت ؟؟ يا ويلي أنتِ بخير ؟؟ أنا لا اصدق، متى استيقظتي ؟؟”
أجاب تميم براحة وقد فرح أن شغلتها تبارك عن التفكير في ما حدث :
” للتو فعلت، هل يمكنك فحصها ؟؟”
” نعم بالطبع سأفعل، الحمدلله على سلامتك والعقبى لزمرد إن شاء الله ”
كانت تتحدث بعفوية كبيرة وهي تتحرك صوب الفراش قبل أن ينتفض جسدها للخلف بقوة كبيرة على إثر صرخات برلنت الهادرة :
” مهلًا ماذا ؟؟ ما الذي قلته للتو ؟! زمرد ؟؟ ما الذي أصاب زمرد ؟؟”
أبصرت تبارك نظرات تميم الذي اغمض عينه بقوة وكأنه بذلك يتجنب صراخها، لتعض شفتيها وهي تكرر بصوت منخفض وقد تعزز عندها شعور أنها تسبب المشاكل للجميع حولها حتى وإن لم تتعمد ذلك :
” هل قلت شيئًا لا يجب قوله !؟”
نظر لها تميم بيأس فتمتعت بصوت منخفض خجل :
” آسفة …”
_______________________
في أحد أركان المكتبة كان يدفع جسده صوب الجدار يحاصره بعيونه غاضبًا ثائرًا يبحث عن الحقيقة بين نظراته وكأنه سيستطيع استخلاصها منه بالفعل:
” أخبرني إذن..”
” أخبرك ماذا أيها الـ ”
صمت العريف حين أبصر نظرات إيفان له ليبتلع ريقه مدركًا أنه الآن ليس واعيًا وأنه يمر بحالة جنون نادرة في الوقت الحالي :
” مولاي، إن كان غضبك بشأن ما حدث وما قلت لك منذ وقت قصير، فأنا فقط كنت غاضبًا، اقسم لك إيفان أنني أثق بك ثقة عمياء، أرجوك ألا تحزن من غبائي، أنت بني مثلك كسالار اقسم بالله و…”
” توقف عن الحديث الكثير أيها العريف ليس هذا ما عدت لأجله فكلماتك تلك لم أتوقف عندها لكثير من الوقت لمعرفتي أنك أضحيت عجوز خرف في أواخر حياته لا يدرك ما يتفوه به، فلا بأس بما قلت ”
تغضنت ملامح العريف وقبل أن يتحدث اقترب سالار منهم يقول بصوت جاد :
” إيفان ما الذي تفعله ؟؟ دع العم شهدان وشأنه ”
نظر له إيفان بشر ومن ثم نظر لشهدان يقول:
” ليس قبل أن يتحدث بكل ما يعلم ”
اجابه سالار وهو يقترب منهم يحرر العريف من بين أنامل إيفان بجدية كبيرة :
” دعه فقط رجاءً وهو سيتحدث بكل شيء دون حاجتك للتعامل بهذا الشكل الغير لائق بالمرة ”
كان العريف يحرك عيونه بينهما وهو يحاول معرفة ما يتحدثون به :
” هل يمكنني فقط أن أعلم ما الذي يدور الآن حولي حتى أدرك ما يجب قوله ”
استدار له إيفان بسرعة كبيرة ليتراجع العريف بريبة :
” أنت أيها الشاب أضحيت خطيرًا منذ تلك الحرب، ليهدك الله يا بني ”
تحدث إيفان يقترب من العريف الذي ظل واقفًا ثابتًا دون حركة، ينظر له ينتظر حركته، وإيفان فقط همس له بصوت منخفض :
” هل كان لي شقيقة ؟!”
نظر له العريف ثواني وكأنه لم يستوعب ما قيل حتى الآن، ومن ثم تساءل بسرعة :
” تقصد تلك الفتاة التي انجبتها شهرزاد وبدلتك بها و…”
” لا، لا ليس هذه، أنا فقط أتساءل إن أنجبت والدتي فتاة، هل لي شقيقة من أمي ؟؟”
نظر له العريف ثواني قبل أن يقول بصوت خافت :
” هل تقصد الملكة آمنة؟!”
” نعم، هل كانت تحمل طفلًا بعدي ؟؟”
غامت أعين العريف بمشاعر حزن عميقة هامسًا :
” لقد كانت تحمل طفلًا وقت الهجوم على المملكة حين فقدناها، لم نعلم إن كان هذا الطفل صبي أم فتاة، لكنه قُتل مع والدتك ”
تراجع إيفان يحاول أن يستوعب ما سمع للتو، وعقله يدور في داوئر مفرغة، ولحظات الحقيقة تُعاد أمام عيونه، حين تولى العرش في عمر المراهقة بعد موت والده، تلك اللحظة كان في نظر العريف مؤهلًا ليتحمل الحقيقة التي دفنها ..
” أخبروني أنك تريد رؤيتي أيها الملك ؟!”
رفع إيفان والذي كان في تلك اللحظة في بداية حكمه للبلاد مجرد مراهق يشعر بالحيرة مما يدور حوله :
” نعم رجاءً يا عم اجلس، أود الحديث معك في عدة أشياء بخصوص الحكم و لقد علمت أنك كنت تود مقابلتي منذ أيام ولم تكن هناك فرصة لذلك و…”
قاطعه العريف جالسًا على مقعد في جناح إيفان يقول بجدية :
” أسمع يا بني، اعلم من نظراتك الآن أنك كالغريق، تحتاج لقشة تتعلق بها كطوق نجاة، لكن صدقني إن كنت تعتقد أن هذا الطوق هو أنا فأنت مخطأ، أنا عريف هذه المملكة ولست ملكًا لاساعدك، ولا أدري شيء بخصوص كل هذه الأمور، لكنني أعتقد أنني اعلم من يمكنه مساعدتك ”
كام إيفان يسمع كلماته وهو يحاول فهم ما يريد الوصول له حتى قال بجدية :
” من تقصد ؟؟ امي ؟؟”
اشتعل غضب العريف لتلك النظرة التي خص بها والدته عند ذكرها:
” لا ليست الملكة شهرزاد وصدقني هذه آخر شخص قد تود الاعتماد عليه أو طلب مساعدته بشيء ”
نظر له إيفان برفض لكل ذلك الكره الذي انبثق من نظراته يدافع عن والدته:
“أيها العريف من تتحدث عنها هي أمي والملكة الأم هنا و….”
” لا ”
همس إيفان بعدم فهم لتلك الكلمة الاعتراضية التي لم تكن في موضعها الآن:
” لا ؟؟”
” نعم، لا، هذه المرأة ليست ملكة أم وليست والدتك حتى ”
ارتجف جسد إيفان بصدمة كبيرة حين سمع تلك الكلمات لينتفض صارخًا بصوت هز المكان وغضب كبير :
” ما الذي تهزي به أيها العجوز ؟! يبدو أنك بدأت تشيخ وتتحدث بما ليس له معنى، وأنا لن أسمح لك أن تمس والدتي بكلمة واحدة تسيئ لمكانتها هنا ”
ابتسم العريف وظهر التصميم في عيونه :
” اعتقد أنه حان الوقت لتأخذ صفعتك التي ستفيقك أيها الشاب، انتظرت سنوات الوقت المناسب ولا أعتقد أنني سأستطيع مواصلة الصبر حتى تغرقك تلك المرأة القذرة ”
هنا وكفى اندفع جسد إيفان صوب العريف يجذب ثيابه بغضب حتى كاد يخنقه :
” هذه المرأة التي ذكرتها بالسوء للتو هي …”
” لصة ”
كلمة نطقها العريف بأعين معاندة مصرة دون أن يخشى شر إيفان المرعب الذي يلتمع في عيونه، يبتسم له مكملًا :
” هذه المرأة مجرد مجرمة لصة سرقت طفل من والدته ومن بعدها تخلصت منها، أي أنك الآن تنادي امي للمرأة التي قتلت والدتك بدم بارد .”
شحب وجه إيفان وقد بدأت يده تترك ثياب العريف ببطء، يشعر أن المكان يدور حوله، هو يكذب عليه ؟؟ لكن كيف والعريف لم يفعلها يومًا هو ليس ذلك الغر أو المخادع و…هي أمه ؟؟ هو يتهم والدته الآن بأنها لصة وقاتلة ؟؟
دارت الغرفة بإيفان حتى أنه كاد يسقط ارضًا لولا يد العريف الذي امسكه بسرعة وهو يهمس له برعب :
” مولاي ..”
نظر له إيفان يحاول إبعاده عنه بعناد :
” أنت فقط تحاول خداعي؟؟ أنت فقط تلفق تهم لا يتقبلها أي عقل فقط لتصل لهدفك ”
نظر له العريف بشفقة وقد أبصر في عيونه نظرات توسل ورجاء، يترجاه بصمت أن يجيب بالموافقة ويخبره أنه محق وأن كل تلك الكلمات لا تعني شيئًا .
لكن العريف في هذه اللحظة كان مصرًا على تحطيم ذلك السور من الأوهام الذي احاطته به شهرزاد .
” كل كلمة قلتها هي حقيقة مولاي، والدتك ليست شهرزاد اللعينة، بل هي الملكة آمنة ”
شحب وجه إيفان أكثر يستدير صوب العريف يهمس بصدمة أخرى:
” آمنة ؟! زوجة أبي الثانية !!”
” ووالدتك، الملكة آمنة هي نفسها والدتك الحقيقية ”
شعر إيفان أنه عاش عمرًا طويلًا كالمغيب، المرأة التي كان يسمع كل ليلة شهرزاد تبكي وتلعن بها، وتتهمها أنها سرقت منها زوجها وحتى بعد موتها لم ينسها وصنع لها محراب لعشقها، كانت دائمًا تردد أنها فقدت تقيّ الدين يوم فقد هو آمنة، تلك المرأة التي مقتها لأنها سلبت سعادة شهرزاد هي نفسها والدته ؟!
المرأة التي كان يسمع والده يصف حبها ليل نهار والدته ؟؟ المرأة التي رحل والده مبتسمًا فقط لأنه علم أنه سيلقاها في الحياة الأخرى والدته ؟؟
سقطت دموع إيفان واخيرًا ينهار ارضًا ببطء وقد جاءت كلمات العريف التالية من بعيد وكأنه يتحدث له على بعد أميال كثيرة :
” إن لم تصدقني سآخذك للمرأة التي بدلت بينك وبين شقيقتك من شهرزاد، هي ستخبرك بكل ما خططت له شهرزاد، تلك القذرة وضعت ابنتها المريضة والتي ولدتها مبكرًا عن قصد في فراشك لتقنع والدتك أنها أنجبت فتاة، واخذتك هي لتربيتك، ومن ثم تخلصت من والدتك ولم تهتم أن ابنتها الحقيقية قُتلت ذلك اليوم أيضًا وكاد والدك يُقتل في نفس اليوم كذلك ”
كانت كلمات كثيرة تحدث بها العريف وهو يرى إيفان الساقط ارضًا مستند على الفراش ينظر أمامه بنظرات غريبة، يحدق أمامه بشكل بدا له كما لو أنه انفصل عن الواقع .
ولم يشعر إيفان بالوقت الذي جلس به هكذا حتى وجد أحد الأجساد تجذبه صوب صدر حنون وصوت هامس يخبره :
” عزيزي هل أنت بخير ؟!”
رفع إيفان عيونه ببطء صوب ذاك الصوت ليبصر سالار، صديقه المقرب والذي كان يرمقه بشفقة وحنان، في هذه اللحظة لم يجد إيفان أنسب من صدر سالار لينفجر في البكاء عليه بحسرة وقد رنت اصوات بكائه في المكان بأكمله …
وكأن ما حدث بالماضي داخل عقل إيفان، انعكس في الحاضر، إذ تحرك سالار بسرعة يجذبه لصدره وهو يشعر بما يمر به فهو منذ طفولته لم يهنأ بحياة عادية هادئة، جذبه له يقول بصوت منخفض :
” إيفان يا عزيزي ”
رفع إيفان عيونه لسالار يهتف بنبرة امتلئت بوجع يكاد سالار يقسم أنه لم يسمعه بصوت إنسان من قبل، نبرة من أدرك للتو ما حدث حوله وما يدور، عقل إيفان حسبها بشكل سريع وهو يجمع كل الخيوط يتحدث بوجع متمنيًا أن يكون ما فهمه خاطئًا :
” لو أن ما افكر فيه صحيح، إذن والدتي كانت حية بين أيديهم كل تلك السنوات، و…تلك الفتاة إن كانت هي نفسها الطفل الذي كانت تحمله وقت الهجوم إذن هي تماثلني بالعمر تقريبا، لكنها …لكنها تبدو أصغر من ذلك، هي اصغر من أن تكون في عمر الثلاثين، و…هي إن لم تكن شقيقتي من أبي إذن هي شقيقتي من والدتي و………”
ازداد احمرار وجهه ليهتف قبل أن ينهار باكيًا بإدراك لفكرة كونها عقله في ثواني :
” كانت بين أيديهم وانتهكوها، يا ويلي ”
انهار إيفان ارضًا بعنف بينما سالار انهار معه يضمه له بقوة وصوت صرخات إيفان وبكائه ترن في المكان وهو فقط يضمه كما الماضي، صورتان متجاورتان لنفس المشهد، لكن الوجع اختلف، الوجع أضحى اسوء أعمق .
وصوت بكاء إيفان اختلف بكلماته المكسورة :
” انتهكوها وكسروني، يا ويلي ”
ضمه له سالار بقوة وهو يربت على ظهره بصمت وقد شعر بالوجع والدموع تحرق عيونه، يبصر قهر الرجال قولًا وفعلًا، صديقه الشامخ الذي كان يأبى طوال حياته منذ نضج أن يظهر فقط نظرة ضعف لأحدهم، ها هو ينتحب بين أحضانه بقهر ووجع .
فاللهم نعوذ بك من قهر الرجال .
تنفس وهو يحاول أن يهدأ إيفان بكلمات هو نفسه غير مقتنع بها :
” إيفان، هل سنفترض افتراضات الآن ونتوجع منها ؟؟ علينا التأكد في البداية من كل ذلك، أنت لم تستبق حكم شيء من قبل فما لك تفعلها الآن ؟؟ ”
رفع إيفان عيونه له يقول :
” كل شيء يقود لتلك الحقيقة، يا ويلي لو صدقت سأتحطم لاشلاء ”
رفض سالار تلك الكلمات وهو يضمه أكثر:
” الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، ولو حدث وصدقت كل تلك التكهنات، فهذا لأن الله اعلم مني ومنك وكلفك ما تستطيع تحمله، والآن انهض لنفهم ما يحدث هنا ”
كان العريف يراقب ما يحدث بحسرة على ما أصاب الجميع، فالأمر أشبه باعصار دمر كل شيء، ابتلع ريقه يقول بصوت منخفض وهو ينحني يربت على رأس إيفان بحنان وكأنه يعتذر له ضمنيًا عن كلماته:
” ربما يستطيع دانيار مساعدتكم في هذا ..”
نظر له الاثنان وكأنهما نسيا للحظات وجوده قبل أن يهز سالار رأسه بإصرار، ينهض وهو يجذب معه إيفان يهندم له ثيابه ويرتب له هيئته رافضًا أن يخرج بهذا الشكل المذري أمام الجميع :
” هيا سنذهب ونعلم كل شيء من دانيار، تعال معي”
تحرك يجذب خلفه إيفان الذي كان يسير كالجثة وكل عقله في أن ما سيعلمه لن يزيده إلا كسرة .
وصل سالار به لباب المكتبة ليتوقف فجأة، ثم استدار له يتراجع للخلف وهو يدفعه يقول بصوت قوي :
” الملك دائمًا في المقدمة إيفان”
نظر له إيفان بملامح باهتة قبل أن يتقدمه يفتح باب المكتبة يحاول أن يصلب هامته وهو يتحرك بين الممرات أسفل نظرات الجنود الذين اعتدلوا في وقفتهم يستقبلون الملك وقائد الجيوش الذي يلحق به بكل قوة ..
وإيفان يسير بينهم مرفوع الرأس كعادته، بقوة وهيبة كما اعتاد الجميع منه، لكن في داخله كان كل ذلك مجرد غطاء واهي يخفي خلفه قهره وكسرته …
_________________
كان دانيار وبعد رحيل الجميع لا يفهم ما يحدث فقط يقف أمام الغرفة بهدوء يحدق بالباب بانتظار أي همسة تصدر منها .
فجأة أبصر اقتراب تميم منه وهو يسند زوجته التي كانت تبكي بصوت مرتفع مطالبة بوجود زمرد وتبارك تسير جوارهم وملامح الذنب تملئ وجهها .
وبمجرد أن وصل الجميع للغرفة حتى ابتعدت برلنت عن تميم تتمسك بيد تبارك باكية :
” ساعديني للوصول لها تبارك، ارجوكِ اريد رؤيتها ”
أمسكتها تبارك تتأسف على حالتها وحالة كهرمان وحالة زمرد وحالتها وحالة الجميع، وكأن سحابة سوداء اصطدمت بالقصر .
استغفرت ربها تتحرك مع برلنت صوب الداخل تحت أعين تميم الحزينة، وبمجرد أن اختفوا داخل الغرفة حتى أبصر تميم ملامح دانيار التي بدأت تتحول للشحوب، مظهره كان مروّعًا :
” دانيار لا اعتقد أن ما تفعله بنفسك شيء جيد، تحتاج للراحة ”
استدار له دانيار يحدق في وجهه، ثم نظر للباب مرة أخرى يقول بصوت منخفض :
” أنا سبب كل ما يحدث، لو أنني فقط لم أنبذها، لو أنني فقط تفهمت كل شيء واخبرتها ألا تتحرك، لو أنني كبحت جماحها في اليوم الأول الذي ابصرتها تقاتل كالرجال، لو أنني ما أغفلت عنها خلال تلك الحرب، لو أن كل ذلك حدث ما كنا هنا الآن، لكانت الآن في طريقها لتصبح زوجتي ”
تنهد تميم بصوت مرتفع :
” ما الذي يحدث هنا دانيار، ما سبب نبذك لتلك الفتاة؟! لا اعتقد أن كونها عاملة في القصر هو ما تسبب في ذلك النبذ الذي تتحدث عنه، خاصة أنك كنت في البداية تتحدث معها بفخر، إذن ما الجديد الذي جعلك تقول هذه الكلمات عن نبذها ؟!”
نظر له دانيار ثواني قبل أن يبتسم بسمة لا تليق بالموقف حقًا :
،” يبدو أن رؤية العريف تتحقق يا اخي، فأنا احببت أحد القراصنة، وها هي نهايتي تقترب على يدها، لم أكن اعرف أنها منهم، ولا اعتقد أن معرفتي كانت ستغير شيئًا فها أنا بعد معرفتي حقيقتها مازلت غارقًا حتى أذنيّ بهوسي بها ”
نظر له تميم بعدم فهم ولم يكد يتحدث حتى سمع الجميع صوت إيفان القوي يصدر :
” نعم هذا بالتحديد ما أريد معرفته، ما هي حقيقتها تلك دانيار ؟؟؟”
في الداخل .
بمجرد أن أبصرت برلنت ما يحدث حتى انفجرت في بكاء حاد وهي تقترب بسرعة من فراش زمرد تهتف باسمها في لهفة ولوعة :
” حبيبتي، ما الذي حدث لك زمرد؟! من ذا الذي اطفأ شعلتك، اطفأ الله نيران حياته ”
أستدارت كهرمان والتي كانت تقرأ في أحد المصاحف جوار فراش زمرد، تبصر تقدم برلنت منها لتترك المصحف بهدوء جوار جسد زمرد تهم لبرلنت تفتح أحضانها بسعادة وخوف :
” برلنت عزيزتي، أنتِ بخير ؟؟ متى استفقتي ؟؟”
نظرت لها برلنت باكية :
” للتو فعلت ولم يخبرني أحدهم بما حدث لزمرد لولا تبارك ”
ابتسمت تبارك بخجل شديد هامسة :
” لست فخورة بهذا في الحقيقة ”
صمت كهرمان برلنت لها بقوة وهي تهمس لها :
” حمدًا لله على سلامتك حبيبتي، العقبى لزمرد إن شاء الله، الأن هدأ جزء من قلبي وتبقى الجزء الآخر”
نظرت لها تبارك تقول بصوت خافت وقد شعرت أنها إن لم تنتهي من أمر كهرمان والملك ستنفجر، وها هو المكان هادئ مؤهل لذلك :
هذا الجزء متعلق بزمرد أم الملك ؟!”
اتسعت أعين كهرمان بقوة مخيفة لتتحرك برلنت تستريح على مقعد كهرمان الذي كانت تتوسطه سابقًا تمسك يده زمرد وتقبلها بحب، ثم مسدت خصلاتها بحنان شديد .
تراقب ما يدور بين كهرمان وتبارك .
” تبارك ما الذي …ما الذي تقولينه أنتِ هذا ليس مـ ..”
” هو كذلك يحبك كهرمان، لطالما فعل، لكنه كان يشعر بالمسؤولية تجاهي وأنا احرره واحررك من كل هذا ”
شحب وجه كهرمان مما تسمع:
” تبارك، يا ويلي لا …اقسم أنني لست كما تظنيني، أنا لست خائنة لاقع في حب زو…”
” ليس زوجي ولن يكون كهرمان، فلا أنا أراه زوجًا لي، ولا هو يتقبل سواكِ زوجة له، لذا لنوفر الوجع على الجميع ونتقبل هذه الحقيقة ”
شهقت كهرمان وهي تضع يدها على رأسها تحاول الاستيعاب :
” ما الذي تقصدينه أنتِ ؟؟ أنتِ المقدرة له و…”
” هراء، كل هذا هراء في الأساس، أنا لست مقدرة له، الله سبحانه وتعالى يقدرنا لمن يشبهنا ويليق بنا، وانا لا اليق بإيفان، أنا لا يليق بي أن أكون ملكة لسفيد بأي شكل من الاشكال، ربما الكثيرون قالوا هذا، ورغم حزني في البداية إلا أنني الآن اتقبل هذا ببسمة وسعادة، أنا لا يليق بي أن أكون ملكة، أنتِ فقط من تستحقين أن تصبحي ملكة، وزوجة له ”
” يا ويلي هل غفر الله كامل ذنوبي وذهبت للنعيم حيث النفوس الصافية والاحباء جميعهم متجمعين ؟؟”
كانت هذه الكلمات الصادرة بخفوت صادرة من جهة الفراش لتتحرك جميع الأعين صوب برلنت التي كانت تحدق بهما بعدم فهم :
” ماذا ؟!”
قالت كهرمان بريبة :
” هل قلتِ شيئًا برلنت ؟!”
هزت برلنت رأسها برفض ليعلو صوت زمرد مرة أخرى بينما تجاهد لفتح عيونها :
” هل نومي لساعات على هذا الفراش جعلكِ تجهلين صوتي ؟؟ هل ظننتم أنكم تخلصتم مني أيها الاوغاد ؟؟”
اتسعت الأعين وارتفعت الأصوات المصدومة وهم يهجومون عليها بسرعة وكهرمان تصيح بعدم تصديق باكية :
” يا ويلي زمردة العزيزة ”
عانقت زمرد بقوة بينما ارتفع طرف شفاة زمرد بحنق وتشنج :
” تكلفت والدتي الكثير لتسميني زمرد، وتأتين أنتِ لتجعليني زمردة واحدة فقط ؟! أنتِ تحطين من قيمتي بهذا الشكل ”
ضحكت تبارك ضحكة سعيدة وهي تقترب منها بسرعة تدفع كهرمان بعيدًا :
” ابتعدي لاطمئن أن كل شيء بخير كهرمان ”
نظرت لها زمرد بحنق ورغم أنها تشعر بالجحيم يشتعل في جسدها من الوجع :
” هل تقللين من شأني أيتها الملكة المدللة، هذه الطعنة أقل ما تلقيت في حياتي، جسدي هذا تربى على الاوجاع لتعلمي فقط ”
وكلماتها تلك التي تحدثت بها لتقنع الجميع أنها قوية لم تتسبب إلا في جلب الوجع لهم، وانفجار برلنت في البكاء :
” عسى أن تُشل يده لذلك القذر الذي اصابك يا زمرد، يا ويلي لقد كدنا نفقدك بسبب حقير ”
نظرت لها زمرد بسعادة تمسك كفها بحب لأنها بخير :
” سعيدة أيضًا لرؤيتك سالمة بيرلي، لقد انتقمت لكِ ممن مسك، والآن حان وقت رد الدين، فماذا أنتِ فاعلة بمن أصابني يا امرأة ؟؟”
نظرت لها برلنت باكية :
” والله لو رأيته لانتزعن أصابعه لذلك الحقير ”
نفخت كهرمان بقوة وهي تقترب من زمرد في الوقت الذي بدأت تبارك تحاول أن تطمئن عليها وعلى حرارتها التي كانت مشتعلة في الساعات السابقة :
” من هذا الذي فعل بكِ هذا زمرد ؟؟”
نظرت لهم زمرد قبل أن تقول بنبرة سوداوية :
” أنه ذلك الصغير القذر اخي الصغير، والله لاقطعنه اربًا على مرأى ومسمع من بافل ومن ثم سأتبع الاخير به، صبرًا فحربي لم تنتهي معهم بعد ”
صرخت بها كهرمان بغضب شديد رافضة أن تقحم نفسها في هذه الامور مرة أخرى :
” لا رجاءً اكتفينا من كل ذلك، دعي هذا لرجال المملكة فأظن أنهم جميعهم يمتلكون الكثير معه بالفعل”
” أبدًا لن اتركه لأحد، هو لي، بافل موته على يدي أنا”
كانت تتحدث بغضب رغم ملامح الوجع التي تعلو وجهها، والتعرق الذي بدأ يظهر على وجهها، لتتحرك تبارك بسرعة للخارج وهي تردد بلهفة :
” سأذهب لأرى أي شيء قد يسكن اوجاعها ”
وبالفعل تحركت بينما اقتربت كهرمان منها تجفف قطرات عرقها بطرف حجابها، ثم مالت تقبل رأسها هامسة :
” إن فعلتيها سأكون معكِ المرة القادمة زمرد ”
ابتسمت لها زمرد بسمة صغيرة متعبة وهي تحاول التحدث، لكنها بالفعل كانت مستنزفة بعدما تلاشى مفعول الاعشاب المهدئة من دمها بالكامل …
في الخارج عند الرجال ..
كان إيفان يستمع بصدمة من دانيار كل شيء يخص زمرد، شعر بقلبه يتضخم بالوجع .
شقيقة بافل ؟؟ من في الداخل والتي من المحتمل أنها شقيقة له أو تربطها بوالدته علاقة غير مباشرة هي نفسها شقيقة أكثر أهل الأرض فساد ؟؟ شقيقة عدوه الوحيد، وابنة عدوه السابق الذي حرمه من والدته ؟؟
كاد إيفان ينهار متراجعًا للخلف لولا يد سالار الذي امسكه جيدًا يحاول أن يدعمه ببعض القوة، ودانيار الذي ظن أن الملك يتساءل لأجل معاقبتها، تعجب ملامح الشحوب التي علت نظراته إيفان.
ما الذي تخفيه له الحياة من مصائب أخرى ؟؟
ابتسم دون شعور وهو يحاول التنفس :
” هل أخبرتك شيئًا عن والدتها دانيار ؟؟”
نظر له دانيار بشك وقد بدأ عقله يعمل في أكثر من اتجاه :
” شيء كماذا مولاي ؟!”
” أي شيء عنها، اسم والدتها أو أصلها، هل هي منهم كذلك ؟؟ ”
كان يتحدث بصوت منخفض به نبرة بكاء مستترة خلف جنوده الظاهر، حتى سمع صوت دانيار الذي أجاب عليه بالحقيقة كاملة بعدما شعر بنظراته التائهة :
” لا شيء عن والدتها سوى عقدها و…سيفها ”
نظر له إيفان وقد بدأ قلبه ينبض بعنف :
” سيفها ؟! هل لدى والدتها سيف ؟؟”
هز دانيار رأسه بريبة من ملامحه، يتحرك صوب الجدار يحضر السيف الذي تركه مستندًا هناك يقول :
” نعم هذا هو السيف، أخبرتني مسبقًا أنه يخص والدتها ويعني لها الكثير، لذلك كانت متعلقة به نفس تعلقها بالقلادة ”
امسك إيفان من يده السيف وقد كانت ترتجف وهو يدعو الله في صدره أن تخيب ظنونه، فهذا الوجع هو لم يستعد له .
وبمجرد أن أمسك السيف وابصره شعر إيفان بالأرض أسفل تتحرك لاسفل وكأنها تبتلعه، شعور غريب أصابه وهو يهمس بصوت منخفض :
” هذا….هذا سيف …سيف جدي الذي اورثه لأبي وفقده يوم الهجوم ”
نظر صوب سالار يقول بصوت منخفض :
” سيف أبي وعائلتي المتوارث ما الذي يفعله معها ؟؟ كيف …كيف وصل لها و…”
وقبل أن يكمل باقي سؤاله اندفعت تبارك من داخل الغرفة بشكل قوي لتتوقف فجأة بشحوب حين وجدتهم يسدون المخرج، تراجعت بسرعة للخلف تقول مبتلعة ريقها :
” أنا…أنا آسفة فقط، فقط لم اعلم أنكم تقفون أمام باب الخروج مباشرة و…”
كانت تتحدث وهي تعدل من وضعية حجابها بتوتر ودون شعور منها، بينما سالار يراقبها باهتمام شديد هاتفًا :
” هل تحتاجين لشيء ؟!”
رفعت انظارها له تتذكر مواجهتهم في المكتبة، يا الله لا تدرك ما الذي حدث وقتها لتتحدث معه بهذا الشكل :
” أنا فقط أردت سؤال مهيار عن بعض الأعشاب المهدئة لأن زمرد عادت للتوجع”
بمجرد ذكرها لاسم زمرد حتى اندفع إيفان بشكل مخيف صوبها :
” مابها ؟! هل استيقظت ؟!”
تراجعت تبارك للخلف بسرعة وصدمة، بينما مد سالار يده بسرعة لتكون حائلًا بينهما، يهتف في أذن إيفان بكلمات غير مسموعة لغيره .
ابتلعت تبارك ريقها تبدل نظراتها بينهما :
” هي استيقظت منذ دقائق قليلة ويبدو أن مفعول المهدأ يتلاشى من دمها .”
تنفست تبارك تحاول الهدوء والثبات :
” فقط احتاج لمساعدة من مهيار في إحضار الاعشاب رجاءً، لأنه إن استمر الوجع سيكون هذا أكثر من قدرتها على التحمل ”
شعر إيفان بالحيرة وهو ينظر حوله بلهفة غريبة يصرخ بصوت هائج :
” أين مهيار ؟؟ أين ذلك الرجل ؟؟”
ودانيار الذي كان في حالة يُرثى لها تحرك حول نفسه يبحث عنه بعيونه تحت صرخات إيفان له :
” أين شقيقك دانيار، أين ذلك الغبي ؟؟”
ركض دانيار بين ممرات المشفى وهو يهتف من أسفل أسنانه :
” ذلك الطبيب الفاشل الوغد يظل يقفز أمام عيوني دون الحاجة له، وحين يتطلب الموقف وجوده يختفي كالزئبق، سأقتله بيدي هاتين ..”
___________________
ابتعد مهيار بعض الشيء عن الرجل الذي كان متسطحًا على أحد الأسرة يقول بجدية تحت أعين ليلا المنبهرة به، واعين مرجان الحانقة :
” لا بأس يا عم أنت بخير حال، تحتاج فقط للتأكد من تناولك الاعشاب المناسبة كل يوم ”
ابتسمت ليلا بسمة واسعة وهي تهتف بصوت منخفض :
” هل ترى ما يفعل مرجان ؟!”
نظر مرجان صوب مهيار الذي كان ينتقي بعض الأعشاب للرجل بجدية، وقد التوى ثغره بغيظ شديد:
” أرى ماذا عزيزتي ؟؟ طبيب يقوم بعمله ”
نظرت له ليلا بحنق شديد :
” هل حقًا هذا كل ما تراه ؟! يبدو أن العمى اصابك مرجان، انظر إليه الرجل تبارك الله هيبة وجاد في عمله يبدو كما لو أنه يؤدي مهمة وطنية ”
خرج صوت حانق من فم مرجان :
” هذا ما ترينه أنتِ فقط عزيزتي، أما أنا أراه طبيب كأي طبيب في هذه المملكة ”
” بل هو افضل الأطباء، هو هيبة وشموخ على قدمين مرجان ”
فجأة اقتحم العيادة دانيار الذي كان محمر الوجه غاضب الملامح يصرخ بجنون :
” مهيار أيها الفاشل، أين تذهب، تعال لتفحص زمرد أنها تتألم ”
ختم حديثه يجذب شقيقه خلفه من ثيابه بقوة خارج المكان ومهيار يسير معه بصدمة ولم يستوعب بعد ما يحدث، بينما ليلا تنظر أمامها بعدم فهم :
” ما الذي حدث للتو ؟!”
قال مرجان ببسمة واسعة :
” أحدهم اقتحم المكان جارًا الشموخ الذي يسير على قدمين خلفه ”
انطلقت ضحكات صاخبة بعد تلك الكلمات وصوت مرجان رن في المكان بأكمله، بينما ليلا رمته بنظرة مشتعلة تصرخ في وجهه بغضب أنه يقصد أعضابها، ليصرخ هو بالمثل في وجهها، وفي ثواني اندلع شجار معتاد بين الاثنين ليجذب كلٌ منهم الآخر بغضب تحت أعين المريض الذي ما يزال متسطحًا على الفراش دون فهم لما يحدث .
” إذن هل سيعطيني أحدكم الاعشاب المطلوبة أم ماذا؟!”
___________________
يتحرك في بلاده فوق حصانه وأصوات الشعب حوله المبتهجة تطرب أذنه وتشعره برجفة سعادة تمر بين أوردته، شعب وفيّ صامد أبيّ، ابتسم أرسلان لشعبه يهز رأسه لهم، ثم وعندما وصل لمنتصف السوق توقف ليهبط عن حصانه دون أن يهتم بشيء، يتحرك بينهم وقد بدأ الشعب يهتفون باسمه ويهللون لعودته وقد ظنوا أن الظلام سيبتلعهم بالكامل، لكن ها هو فجرهم يشرق بعد ليلة طويلة ظلماء ..
ابتسم إيفان لهم يهز رأسه لهم باحترام وتقدير يهتف بينهم :
” شكرًا لكم أجمعين، أنا ممتن أنكم لم تنحنوا يومًا أو ترضخوا له، ممتن أنكم أبيتم الخضوع، شكرًا لكم ”
صمت يدير عيونه بين المنازل المهدمة والاجساد الجائعة الضعيفة والمساجد المدمرة وكل الخراب من حوله وكأنه في مدينة أشباح، ليبتلع غصته يقول بصوت مرتفع كي يصل للجميع :
” ستعود مشكى يا قوم، من بناها مرة يستطيع إعادة بنائها الآلاف المرات، سنبنيها وتعود افضل مما سبق، وفيما يخص السلع الغذائية فستتوفر بوفرة للجميع ولمدة شهرين وحتى نعود للتجارة، سوف يتم توزيع السلع الغذائية مجانًا على جميع سكان المملكة، وكل من يواجه تعسرًا في شيء يأتي لي فقصري سيكون مفتوحًا طوال الأيام لسماع طلباتكم وتنفيذها، وحتى تمر تلك النكبة ونعود لما كنا عليه سنتعاون جميعًا بما نقدر عليه ”
ختم حديثه ليعلو هتاف الشعب في المكان باسمه وهو فقط ينظر أمامه بشرود يبتسم لهم وفي عقله تدور حسابات كثيرة عن الطريقة التي سيعيد لها بناء كل ذلك، تحرك في المكان وخلفه بعض الرجال الذين تطوعوا ليصبحوا جنودًا له بعد مقتل رجاله المخلصين اجمعين، همس للمعتصم وبارق بصوت منخفض :
” سوف اتحرك بشكل سري مساءً صوب سفيد، سأتحدث لايفان بخصوص تمويل البلاد بسلع غذائية وأسلحة لشهرين كاملين، سأعقد معه صفقة، افرغوا خزائن البلاد من الذهب واحضروه، سنشتري ما استطعنا من غذاء الممالك حولنا حتى يعود الفلاحين للزراعة ”
توقف ينظر جواره لبارق الذي كان يجاوره حتى يتأكد أنه أتم دوره معه :
” و..ملك بارق ”
ابتسم له بارق دون أن يسمع باقي جملته يربت على كتفه :
” خير الله يكفينا جميعًا ملك أرسلان، ارسل قوافلك لأخذ ما تريد من مزروعات سبز ولا تحمل همًا، ولا ترسل معهم أموال أو ذهب، سأنتظر لتنهض وحينها يكون لنا حديث آخر”
كانت الجملة الأخيرة التي قالها بارق هي البطاقة الذهبية التي سيقنع بها أرسلان ذو الكبرياء المتورم على قبول مساعدته دون دفع أموال في الوقت الحالي .
وارسلان قدر له هذا وبشدة فهو بالفعل لديه الكثير ليحضره وهذا يوفر عليه الكثير، في وقت آخر لم يكن ليقبل ولو قبّلوا يده، لكن هذا شعبه وهم الآن في كارثة حقيقية :
” أقدر لك هذا ملك بارق، هذا سيكون دينًا في رقبتي”
ابتسم له بارق يدرك أن أرسلان لن ينسى الأمر، لكن لحين يتذكر مجددًا تكون تلك النكبة قد مرت .
أبعد أرسلان عيونه صوب المدينة يتأملها، ثم قال بكلمات مقتضبة :
” لا يلحقن بي أحد رجاءً ”
ختم حديثه يتحرر من عبائته الملكية يتركها لأحد الرجال، ثم سار بعيدًا عن الجميع، يخرج من السوق دون أن يهتم لشيء، يتحرك في المكان حتى وصل واخيرًا لطرق المدينة حيث السهول الخضراء، أو هذا ما كانت عليه قبل أن تتحول لرماد عقب نيران يبدو أنها نشبت بها .
طالت عيونه يبصر المكان حوله يتفقد بقاياه القديمة، يستدعي صورته التي كانت تريحه بعد تعبٍ طويل، لكن لا شيء فقط سواد ورماد، بافل ورجاله لم يتمكنوا من تدمير الحاضر فقط، لكنهم دمروا الماضي كذلك .
ضغط على كفه يهمس بصوت منخفض ملئ بالاصرار :
” لكن المستقبل لنا، ستعود مشكى لسابق عهدها، وهذا وعدي ….”
_______________________
بمجرد عودة دانيار ساحبًا مهيار خلفه، انتفض جسد إيفان وهو يصرخ :
” أين كنت مهيار كل هذا الوقت ؟!”
تعجب مهيار تجمع الكل أمام غرفة زمرد، وملامح الملك وسؤاله :
” هل يمكن أن يتشرف أحدكم ويخبرني ما يحدث رجاءً ؟؟”
تحدث إيفان وهو يدفعه بخشونة صوب الغرفة :
” هيا اذهب لترى كيف حالها للفتاة في الداخل، هي تتألم، هيا ادخل بسرعة ”
نظر له مهيار بتعجب، ومن ثم نظر لدانيار ينتظر منه تفسيرًا على ما يحدث، لكنه فقط ساعد الملك في دفعه صوب الغرفة التي تقف تبارك على بابها:
” سمعت ما قال الملك هيا تقدم ”
وما كاد يتقدم لينتهي من كل هذا حتى سمع صوت إيفان يقول فجأة :
” انتظر إلي أين ؟!”
توقف مهيار يحدجه بنظرات غاضبة كبتها لعلمه أنه أمام الملك :
” انفذ أوامرك مولاي ”
” نعم، لكن انتظر لنتأكد أنها بحجابها، سمو الأميرة رجاءً تفقدي الفتاة في الداخل اذا كانت تضع حجابها ام لا ؟؟”
كانت كلماته موجهة لتبارك التي ما تزال تراقب ما يحدث بانتباه شديد دون أن تنتبه أن حديث إيفان كان لها، فهي غير معتادة على سمو الأميرة تلك، فقط تنتظر أن يعود مهيار ليدخلوا لغرفة زمرد، وإيفان يحدق بها في عدم فهم :
” سمو الأميرة …سمو الأميرة ؟!”
زفر سالار بغضب شديد وهو لا يعجبه أن تظل واقفة بهذا الشكل تحدق في الجميع هكذا ليقول دون السيطرة على نفسه :
‘ مولاتي …”
انتفض جسد تبارك تنظر له بانتباه :
” ماذا ؟؟”
رفع سالار حاجبه يقول بصوت هادئ ظاهريًا فقط :
” رجاءً مولاتي اذهبي للداخل وتفقدي إن كانت المريضة تضع حجابها أو لا ؟!”
هزت تبارك رأسها بسرعة ثم تحركت للغرفة وغابت بها ثواني، استغلها إيفان في النظر لسالار بحيرة، نظرات جعلت سالار يهتم بغيظ :
” ماذا !!”
ابتسم له إيفان بسخرية لا تليق حقًا بوضعه في هذه اللحظة :
” يبدو أنك تمتلك طرقك مع الأميرة تبارك ها !!”
رمقه سالار بشر يهمس له بصوت منخفض :
” ليس الآن إيفان، ليس وأنا لا امتلك حقي فيها لاضربك، وبالطبع ليس وأنت بهذه الحالة …مولاي ”
رمقه إيفان بنفس النظرات الجانبية الساخرة حتى عادت تبارك تقول بصوت منخفض خجل مما حدث :
” يمكنك الدخول مهيار ”
” الطبيب مـ ”
توقف سالار عن التحدث بسرعة قبل أن ينتبه له أحد مدركًا أن اللحظة غير مناسبة ليوضح لها حدودها مع رجال المملكة، صمت وتراجع لكن إيفان ابتسم بسمة صغيرة بعدما التقط ما كان على وشك النطق به، فقط ينتهي من كل ذلك ومن ثم يتفرغ لأمر سالار وتبارك .
غاب مهيار واخيرًا خلف الأبواب المغلقة والتي تخفي لإيفان الكثير والكثير ….
_____________________
بعد ساعات قليلة ..
كان يقف أمام المقابر يحدق بها، انحنى على ركبتيه يجلس أمامهما، ثم ابتسم بسمة صغيرة يلقي على قاطنيها التحية :
” مساء الخير أبي، كيف حالك أنت وأمي ؟؟ اشتقت لكما بشدة، لكن عسى الله أن يجمعني بكم في جنات النعيم”
صمت يتنفس بصوت مرتفع بعض الشيء ورغم برودة الأجواء التي بدأت تزداد في هذا الوقت من العام قال ببسمة:
” لقد دارت الدنيا وتحقق ما تنبأت به يا أبي، ها أنا أقيم حربًا لأجل الفوز بمن احب، تمامًا كما فعلت مع أمي، لكن اعتقد أن حربي أشد شراسة من خاصتك ”
صمت يهمس بصوت منخفض وخجل وكأنه أمام والده حقًا :
” لستُ فخورًا بما أوصلني لهذه المرحلة وسأعيش حياتي استغفر ربي على ما أذنبت به في حق نفسي، كانت لحظة ضعف استغلها الشيطان بمهارة، لكن والله لاقسمن ظهره بتوتبي ”
تنهد بصوت مرتفع يبتسم مجددًا :
” على كلٍ أنا فقط جئت أخبركم أنني اشتاق لكما، وأنني الآن رغم كل ما يحدث معي لأول مرة سعيد، سعيد أنني وجدت من يمكنه مشاركتي وحدتي المقيتة تلك ”
سقطت دمعة من عيون سالار يبتسم لمرأى اسماء والديه منقوشة أمامه، اغمض عيونه يدعو لهما في قلبه وهو يتذكر كل ما مر به بعد وفاتهما ومن ثم مقتل العم دارا وانتقاله لعناية العريف.
حتى جاءه العريف يومًا يخبره أنه عليه الذهاب للقاء خاله، وقتها شعر بالتعجب من ذلك اللقب وقد كاد عقله الصغير ينسى وجود آزار نهائيًا، خرج متخفيًا من المملكة مع العريف وتحركا صوب آبى .
وبمجرد أن خطى لهناك شعر أن جميع الأماكن مألوفة بشكل كبير، سنتين فقط منذ كان هنا آخر مرة مع والديه لزيارة خاله..
ثواني حتى امسك العريف يده وتحرك داخل حجرة الملك آزار بعدما انبأه منذ يومين أنه يود الانفراد به بعيدًا عن الأعين..
وها هو يقف في منتصف غرفته يراقب نظرات آزار المتعجبة له :
” خير يا شهدان هل حدث شيء في المملكة ؟؟”
نظر له العريف ثواني قبل أن يقول بجدية :
” لا كل شيء بخير، لكنني جئت امنحك أمانة شقيقتك.”
انتفض جسد آزار بقوة وهو ينظر له بصدمة وقد سحب وجهه وارتجف ومازال مظهر شقيقته المضجرة في دمائها لا يُمحى من عقله :
” عائش ؟!”
” نعم، في الحقيقة شقيقتك رحلت وكذلك زوجها، وتركوا لك أمانة معي، وحان الوقت لتتسلمها ”
نظر له آزار بلهفة ليلمح في هذه اللحظة صغير في الثامنة من عمره تقريبًا يخرج من خلف العريف على استحياء، كان تمامًا كعائشة ملامحها ونظراتها التي جعلت آزار يسقط على ركبتيه ارضًا سريعًا وهو يمد يده يتحسس الصغير الذي قلب البلاد رأسًا على عقب بعد دفن شقيقته وزوجها وقام بغارات على المنبوذين بحثًا عنه كالمجنون حتى يأس، لكن والله لم يستسلم ..
سقطت دموع آزار يهتم بحب :
” سالار ؟؟”
نظر سالار للعريف مترددًا قبل أن يقترب من آزار ويعانقه وهو يقول :
” مرحبًا خالي ”
انفجرت مشاعر آزار كلها في ثواني وهو يبكي بصوت مرتفع يضم الصغير له يقبله ويتلمس به طيف شقيقته وقد بدأ قلبه يهدأ واخيرًا بعد عامين .
وكان هذا اللقاء العاصف بداية تحول سالار من طفل لرجل على يد آزار الذي تولى تدريبه بشراسة ليصبح مقاتلًا، مع الاحتفاظ بحقيقته لنفسه دون معرفة أحد، مستغلًا أن لا أحد بالفعل يعلمه بشكل شخصي داخل المملكة عدا زوجته والتي توفاها الله بعد عامين من مجيئه، ونزار الذي كان طفلًا لا يتذكر شيئًا عنه.
وهكذا ظل سالار يتدرب مع خاله ويحيا بآبى لأعوام طويلة حتى أصبح في سن يسمح له بالتطوع في جيوش سفيد فتقدم لها لينال مكانته .
ابتسم يخرج من شروده ينهض عن الأرض يلقي السلام على والديه مودعًا إياهم بحب :
” المرة القادمة سأعود لكما بزوجتي، تمنيا لي الحظ الجيد في القادم ”
تحرك صوب حصانه يعود للقصر ليرى أين وصل إيفان، فهو وبعدما أخبرهم مهيار أنها نامت بتأثير بعض الأعشاب، رحل الجميع عدا إيفان ودانيار اللذين اصرا على البقاء أمام غرفتها .
توقف بعد نصف ساعة تقريبًا أمام القصر ليبصر حصان يقترب منه يحمل جسدًا يتشح بالسواد مخفيًا وجهه خلف قلنسوة سوداء كذلك، ابتسم سالار يتعرف على صاحب الجسد من العلامة الذهبية التي تعلو طرف معطفه الاسود .
” مرحبًا بأسد مشكى ”
توقف أرسلان أمام سالار بقوة ينتزع القلنسوة الخاصة به مبتسمًا بسمة واسعة :
” مرحبًا بحامي حمى سفيد، ما الذي تفعله خارج القصر في هذا الوقت ؟!”
تحرك سالار داخل القصر بعدما أصدر أمره بفتح الأبواب وهو يجيب أرسلان :
” كنت في زيارة لوالديّ ”
هز أرسلان رأسه :
” رحمة الله عليهما، إذن وصلتني اخبار انتصاركم، نفع الله بكم الأمة رجال سفيد ”
” وبك جلالة الملك، فقد وصلتنا كذلك اخبار انتصارك وتسلمك عرشك مجددًا ”
صمت ثم تساءل :
” جئت لأخذ الأميرة ؟!”
” نعم لهذا، ولسبب آخر، اريد مقابلة إيفان”
صمت سالار ثواني يفكر في حالة إيفان في هذا الوقت، يحاول التفكير في شيء يجيب به أرسلان دوو أن يخوض في أمور إيفان الخاصة :
‘ هو في الحقيقة ..لا اعتقد أن إيفان سيكون متفرغًا هذه الأيام لأيٍ مما يحدث حوله، حتى أنه غير متفرغ لمحاكمتي ”
فجأة توقف حصان أرسلان بقوة وبشكل مخيف يهتف مصدومًا :
‘ ماذا ؟! محاكمة من ؟؟ من سيحاكمك ؟؟ هل تمزح معي ؟؟”
ابتسم له سالار يتنهد بصوت مرتفع :
” فاتك الكثير مولاي، هذه حكاية طويلة، اقصها عليك لاحقًا ”
” سالار هل تتلاعب بي ؟؟ جننت أنت وإيفان ؟! من سيحاكم من ولماذا ؟؟”
لم يجبه سالار بل نظر أمامه بجمود قبل أن يتوقف بحصانه يسلمه لعامل الاسطبل وكذلك فعل أرسلان :
” يمكنك القول أنني اخطئت ولاكفر عن خطأي احتاج لهذا ”
قال كلماته وهو يتحرك صوب المشفى وخلفه أرسلان الذي يزيد من خطواته صارخًا :
” أيًا كان ما فعلته، لا يحق لإيفان أن يعرضك لمثل هذه المحاكمة، أنت بهذا الشكل ستعرض نفسك للقيل والقال هذا لا يمكن أن يحدث سالار ”
” صدقني حين أخبرك أن سبب هذه المحاكمة هي القيل والقال ”
” ما الذي حدث لأجل هذا، أي إثم قد يجعل الملك يحاكمك سالار ؟؟”
توقف سالار ثواني ثم استدار له وقال :
” أحببت..”
تفاجئ أرسلان من كلماته وتراجع للخلف :
” أحببت ؟؟ أنت ؟؟ وهل …هل هذا إثم يستحق المحاكمة ؟!”
هز سالار رأسه يجيبه ببساطة لا تمت للموضوع بصلة :
” حينما تكون الملكة المستقبلية للبلاد هي المعنية من الامر فنعم هذا إثم يستحق المحاكمة ”
انتهى من كلماته يتحرك داخل المشفى وخلفه أرسلان الذي سار بحيرة لا يفهم ما سمع يحاول أن يوازن الكلمات داخل عقله .
” الملكة المستقبلية للبلاد ؟؟ أنت تحب الكلمة المستقبلية للبلاد ؟؟ تلك التي احضرتها لمساعدتي صحيح ؟؟ يا ويلي كيف لم انتبه ؟؟ كيف فعلت هذا سالار ؟؟ ما الذي ألقاك في مثل هذا الإثم يا أخي، كيف تفعل بإيفان هذا ؟؟ احببت المرأة التي يحب ؟!”
كانت كلمات أرسلان مستنكرة بشكل كبير ليتوقف سالار فجأة في منتصف الممر بالمشفى، واستدار نصف استدارة لارسلان يقول ببسمة صغيرة :
” لا، لا تقلق، فإيفان لم يحب تبارك يومًا، هو يحب امرأة أخرى وكان سيتزوج تبارك لاحساسه بالذنب تجاهها، لكنه في الأساس لا يمتلك لها أي مشاعر، فجميع مشاعره بالفعل تمتلكها أمرأة أخرى وهو قرر الزواج منها بمجرد انتهاء كل ما يحدث أسفل سقف هذا القصر ”
شعر أرسلان برأسه يدور بسبب كل ما سمع :
” أنا لا افهم ما تردد، أنت تحب امرأة وهذه المرأة الأولى هي نفسها زوجة إيفان المقدرة، وإيفان لا يحب هذه المرأة وانما فقط يشعر بالذنب تجاهها، وهو يحب امرأة أخرى ؟؟ ما هذا الذي يحدث هنا؟! لِمَ لل يحب كلٌ منكما الفتاة التي يريد ببساطة ؟؟”
ابتسم له سالار يجيب :
” هذا لأننا نعشق المصائب ونهوى المشاكل ارسلان، فقط انتظر حتى تعلم هوية المرأة التي يحب إيفان”
لحق به أرسلان حتى وصل أمام الغرفة ليبصر إيفان بملامح لا تفسر ويهمس بعدم فهم :
” من يا ترى ؟! لا تخبرني أنه يحب زوجة رجل آخر ؟؟”
غامت عيون سالار بنظرات غير مفسرة يهمس وهو يرى قرب معركة أخرى في الطريق :
” لا تتعجل، فأنت في النهاية ستعلم بها …”
تمتم أرسلان بتعجب وهو يسير خلفه :
” وأين كنت أنا من كل هذا ؟؟”
” حسنًا لنقل أنك تصبح اعمى حين يتعلق الأمر بالمشاعر ”
نفخ أرسلان بحنق :
” هذه سخافة ”
ابتسم سالار يهز رأسه:
” صبرًا حتى تسقط في هذه السخافة ”
” نعم، حتى وإن فعلت لن ينفي هذا أنها سخافة ”
في هذه اللحظة فُتح باب الغرفة بقوة لتخرج تبارك تقول ببسمة واسعة للجميع بعد انتظار ساعات لتفيق زمرد :
” لقد استفاقت زمرد …”
ودون أن يمنح إيفان أحدهم الفرصة للتنفس بعد كلمات تبارك كان ينطلق صوب الغرفة بسرعة وهو يقول بصوت قاطع وملامح قاتمة :
” الجميع للخارج …”
ارتفعت عيون زمرد صوب الباب تنظر صوب الملك بتعجب لاقتحامه غرفتها وطرده الجميع، ولم تكد تتحدث بكلمة واحدة حتى قاطعها إيفان بكلمات حادة لاذعة صارخًا فيهم بجنون ولم يعد يستطيع الانتظار أكثر ليعلم الحقيقة ويقطع الشك باليقين :
” ألم تسمعوا ما قلت، كلٌ للخارج ”
تعجب الجميع أوامره وصراخه ورغم ذلك خرجوا دون قول كلمة تاركين الباب مفتوح لئلا يُقفل على رجل وامرأة باب واحد دون رابطة بينهما .
وحين خرجت كهرمان وابصرت أرسلان ابتسمت بسعادة تهتف باسمه :
” أرسلان ؟؟”
رفع أرسلان عيونه لها ليقول بصدمة :
” مهلًا هل كانت شقيقتي واحدة ممن طرد إيفان ؟! ايها القذر ”
قال كلماته يهم بالتحرك صوب الغرفة ليحصل على قصاصه من إيفان ويريه كيف يرفع صوته ويطرد شقيقته من مكان، لكن سالار امسك يده يهمس له :
” دعه يكفيه ما يعيشه في هذه اللحظة ..”
نظر له أرسلان بجهل .
بينما دانيار كان يقف مشتعلًا كالجمر أمام الباب يود فقط لو يراها، منزعجًا من بقاء الملك معها وهو هنا بالخارج ..
بينما في الداخل نظر إيفان لها ولأول مرة يبصر وجهها دون غطاء ليتوقف عن التنفس لثواني، فهذه هي نفسها الملامح التي يحتفظ والده برسومات كثيرة لها، ابتلع ريقه يقترب منها بشكل جعل زمرد تشعر بالريبة وهي تنظر حولها بحثًا عما تحمي به نفسها وكل ما يدور في عقلها هو أنه اكتشف حقيقتها .
فتحت فمها لتصرخ في وجهه بالخروج والابتعاد عنها وتردد لبعض التهديدات الغبية، لكن قطع كل ذلك صوت إيفان يسألها أكثر سؤال مريب في هذه الحياة :
” ما اسم والدتك ؟!”
نظرت له زمرد وشعرت بالخوف من نظراته تهمس بصوت مهتز :
” أنت… أنت…ما شأنك لها و…”
” ما اسم والدتك، تحدثي دون جدال يا امرأة”
نظرت له زمرد برفض ولم يعجبها أن يأمرها أو أن يأتي على ذكر والدتها، فتحت فمها لتلقي باعتراضها في وجهه لولا صوت صراخ إيفان الجنوني وقد فاض كيله وهو يود معرفة إن كان ما يشك فيه صحيح او لا، صراخه ليس غضبًا منها أو بقصد اخافتها بقدر ما كان نفاذ صبر وقلة حيلة.
” ما اسم والدتك تحدثي قبل أن يجن جنوني”
ودون شعور نطقت زمرد بارتجاف وخوف وهي تتمسك بالغطاء، نطقت بكلمة لا يدري إيفان أتحييه أم قتلته ..
” آمنة … اسمها آمنة ”
_____________________
اسرار …وكُشفت .
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية مملكة سفيد) اسم الرواية