Ads by Google X

رواية ضبط و احضار الفصل الرابع 4 - بقلم منال سالم

الصفحة الرئيسية

  

رواية ضبط و احضار الفصل الرابع 4 - بقلم منال سالم


وكأن كسوفًا كليًا للشمس قد حدث لتوه، فأحال السماء المضيئة إلى ليلٍ حالك، فحضور ذلك الشخص المزعج وحديثه بأريحيةٍ أقلقها، وجعل الأفكار تتصارع في رأسها المشحون. توترت “بهاء”، وارتاعت “بسنت”، وراحت الاثنتان تحملقان بأعين متسعة في وجه “عمر” المسترخي تمامًا. لم تجرؤ أيًا منهما على النطق بكلمة، فساد صمت مخيف في الأجواء، تتخلله الهمهمات غير الواضحة بين الثلاثة أشخاص.
بدا صوت “بسنت” مرتعشًا وهي تهمس بالقرب من أذن رفيقتها:
-تفتكري بيقولوا إيه؟
ردت عليها “بهاء” في صوت خفيض ممزوج بالقلق:
-مش عارفة، بس قلبي مش مرتاح.
عبرت الأولى عن مخاوفها قائلة بذعر احتل كامل تقاسيم وجهها:
-ولا أنا، واحتمال يكونوا بيتكلموا عننا، وبيحكي عن اللي حصل وآ..
مالت “بهاء” برقبتها للجانب قليلًا حتى تتمكن من الحصول على زاوية رؤية جيدة، بدا من موضعها أنه غير قادر على رؤيتها، فاستراحت إلى حدٍ ما، وتراجعت إلى مكانها هاتفة في صوتٍ خفيض:
-هو شكله مش شايفنا أصلًا!
أراح صديقتها هذا الاعتقاد المؤقت، وأمنت عليها:
-يا ريت بجد.
ظللت كلتاهما محاصرتان في موجة من الأفكار المضطربة، وتأملان في أعماقهما أن ينقضي هذا اللقاء سريعًا دون أن يدري هو تحديدًا بوجودهما.
……………………………………….
رغم ارتفاع درجة حرارة الجو نسبيًا إلا أنها لا تقارن أبدً بحرارة المشاعر الصادقة المتبادلة بينهم، فما أجمل استعادة ذكرى الأحباب الراحلين بالالتقاء بمن يعيد إحياء ما فُقد وتناسى عبر السنوات. باهتمامٍ واضح تساءل “سليمان” وهو يمسح بمنديله القماشي العرق الذي راح يتجمع عند جبينه:
-والست الوالدة كويسة؟
أجابه “عامر” باسمًا:
-الحمدلله هي بخير.
رد عليه في نبرة تقديرٍ:
-دايمًا يا رب، هي من خيرة الناس والله.
شكره على لباقته مرددًا:
-تسلم يا عم “سليمان”.
استطرد متحدثًا بحماسٍ ظاهر:
-صحيح نسيت أعرفكم ببنت أخويا، حاجة من تربية زمان.
ثم استدار برأسه نحو سيارته مناديًا:
-تعالي يا “بيبو”.
نفضة قوية جعلت “بهاء” تقفز في مقعدها عندما ناداها عمها فجأة، وأخذت تهسهس:
-استر يا رب.
أحست بدفقةٍ من الخوف تتفشى في كامل بدنها بسرعة البرق، بالطبع كانت “بسنت” أشد رهبة منها، وتشبثت في ذراعها أكثر، وسألتها بصوتٍ فزع للغاية:
-هنعمل إيه دلوقت؟
ابتلعت ريقًا غير موجود في جوفها، وأخبرتها:
-هننزل طبعًا، هو احنا عندنا حل تاني.
التلكؤ أو المماطلة لن يجدي نفعًا، فالأمر محسومٌ مقدمًا، وعليها الترجل من السيارة ومواجهته. حاولت “بهاء” أن تخفي اضطرابها، ورغم هذا عكس وجهها ارتباكها، تصنعت الابتسام، فخرجت بسمتها مهتزة، وسارت تجاه عمها بخطواتٍ شبه بطيئة، ومن خلفها تحركت رفيقتها المفزوعة وهي لا تتوقف عن الدعاء.
استجمعت “بهاء” جأشها، وأصبحت مرئية للثلاثة رجال؛ لكنها افتقرت للشجاعة لتنظر إليهم، لهذا طأطأت رأسها قليلًا لتتحاشى النظرات المسلطة عليها، وتكلمت في صوتٍ مطيع:
-أيوه يا عمي.
حادثها “سليمان” في نبرة مبتهجة:
-تعالي يا “بيبو” سلمي على المقدم “عامر”، والرائد “عمر”.
تلقائيًا رفعت بصرها للأعلى لتنظر صوبهما، فزاد خفقان قلبها وتوترها مع رؤيتها لنظرة “عمر” مثبتة عليها، في التو أبعدت عينيها المرتبكتين عنها، وركزت بصرها على “عامر” الذي وجدته يمد ذراعه لمصافحتها، بادلته المصافحة مرددة بأدبٍ:
-أهلًا وسهلًا بحضرتك.
في التو غازلها “عامر” بمرحٍ وهو يغمز بطرف عينه:
-معقولة عندك الجمال ده ومخبيه عننا.
على الجانب الآخر، بدا “عمر” متفاجئًا لرؤيتها؛ لكن ما لبث أن أخفى اندهاشه، ليظهر تعبيرًا جديًا على ملامحه، وبطريقة رسمية بادر بتحيتها:
-إزيك يا أستاذة “بهاء”؟
ذُهلت من إخبار الجميع بطريقة مبطنة أنه على صلة بها، مما ضاعف من ربكتها وتوترها. طافت بنظرة مماثلة لارتباكها على من حولها قبل أن تقول بتذبذب:
-آ.. الحمد لله.
انتصب “عمر” في وقفته الشامخة أكثر، وقال موجهًا كلامه إلى من تتوارى خلفها عن الأنظار:
-مش اسمك “بسنت” برضوه؟
لم تجرؤ على النظر إليه، وردت بصوت مرتعش:
-أيوه.. ده اسمي.
في استغرابٍ مشوب بالحيرة تساءل “عامر” وهو يتطلع إلى شقيقه:
-هو إنت تعرفهم ولا إيه؟
بنبرة متغطرسة أجابه:
-أيوه، أنا اللي بدرسلهم في الأكاديمية.
ضحك في مرحٍ قبل أن يعلق:
-يـــاه، شوف الدنيا صغيرة إزاي!
زادت رجفة “بسنت”، والتصقت برفيقتها لتهمس في أذنها بذعرٍ لا يخبت:
-هيقولهم، أكيد هيقول على اللي عملناه معاه.
أدارت “بهاء” عنقها ناحيتها لترد عليها بصوتٍ خافت:
-اهدي بدل ما نتفضح.
تحولت كافة الأنظار تجاه “سليمان” عندما استطرد في شيءٍ من المدح:
-والله بنت أخويا محظوظة إنها عندك، هي ملتزمة، وبتحب الكتب والدراسة أد عينيها.
رفعت “بهاء” حاجبيها للأعلى في صدمة، فما يفوه به عمها يناقض كليًا تصرفاتها الفظة معه، عفويًا نظرت نحو “عمر” الذي حملق فيها بنظرة مستخفة مصحوبة بتعقيبه شبه الساخر:
-واضح فعلًا.
تجنبت نظراته التي تحاصرها، وأحنت رأسها على صدرها، بينما تحدث “عامر” بأسلوبه المرح مشددًا على شقيقه:
-مش هوصيك على القمرات دول، اعتبره أمر مباشر مني يا “عمر”.
قال دون أن يحيد بنظرته الثاقبة عن “بهاء”:
-ربنا يسهل.
عظمت ربكة “بهاء”، خاصة مع طريقة تحديقه الغامضة، فتعجلت قائلة بما يؤكد هروبها:
-هستناك يا عمو في العربية لحد ما تخلص.
ثم تراجعت مع رفيقتها للخلف، وقالت دون أن تتلقى أي رد:
-فرصة سعيدة.
ضحك “عامر” على طريقتها الخرقاء في المغادرة، ومازح شقيقه وهو يلكزه في جانب ذراعه:
-لأ وخجولة، واخد بالك.
لوى “عمر” ثغره متمتمًا بغير اقتناعٍ، وعيناه محدقتان في أثر طيفها الذي رحل:
-جـــــدًا!
…………………………………………
تشاور “سليمان” مع الشابين حول إمكانية تحريك السيارة من المسافة الضيقة المتروكة له دون أن يلحق الضرر بالسيارات الأخرى، فاقترح “عمر” عليه طريقة معينة لإزاحتها؛ لكنه كان مترددًا في تجربة الأمر، لهذا تولى الأخير عنه هذه التجربة.
في تلك الأثناء، كانت “بهاء” قد تجرعت نصف زجاجة المياه على مرة واحدة، ابتلعت ما ملأ جوفها لتستدير نحو رفيقتها الغارقة في ذهولها المرتعب، وخاطبتها في صوت مرتجف:
-أنا مش مصدقة اللي حصل.
ردت عليها “بسنت” بوجه مخطوف اللون:
-أنا حاسة إن هيغمى عليا، قلبي هيقف، مش قادرة خالص.
أضافت في توترٍ:
-احنا ولا كأننا في فيلم رعب وآ…
اختنقت باقي الكلمات في جوفها بغتةً عندما وجدت “عمر” يفتح الباب الآخر للسيارة ليجاورها ويجلس خلف عجلة المقود، اتسعت عيناها بشدة، وتجمدت في مكانها كالصنم، فقد شلت المفاجأة تفكيرها، وجعلتها متخشبة في موضعها. ما زاد من هول الصدمة عليها أنه لم يكلف نفسه عناء تبرير سبب وجوده أو حتى توضيح ما يفعله بجوارها، رأته يمد يده، ويدير المحرك، ليشرأب بعدها بعنقه، وينظر في تركيزٍ وإمعان أمامه. استغرقها الأمر عدة لحظات لتستوعب أنه استقل السيارة ليساعد في إخراجها.
بَهَر نظرها أنه كان واثقًا من قدراته العقلية ومهاراته الفذة، لم يهتز له جفن، ولم يبدُ مترددًا، بل كان في أوج ثباته وهدوئه، تعامل مع هذه المسألة التي تعد عسيرة على غيره بمنتهى السلاسة والتريث. أحست “بهاء” بهذه الخفقة الغريبة تعصف بقلبها وهي تجلس على مسافة قريبة منه، لم تستطع إبعاد عينيها الفضوليتين عنه، وراحت تتأمله بنظرة إعــجاب ظاهرة وفاضحة في حدقتيها. ما إن تمكن من إبعاد السيارة حتى منحها نظرة صارمة من عينيه جعلت بشرتها تتضرج بحمرة ساخنة وخجلة، بل وأجبرتها على خفض بصرها على الفور، لم ينبس بكلمة، وفتح الباب ليترجل من مكانه متسائلًا:
-كده تمام ولا تحب أوصلكم لحد البوابة؟
أخبره “سليمان” في امتنانٍ شاكر:
-كتر خيرك يا ابني، والله ما عارف من غيرك كنا طلعنا من المغرز ده إزاي.
ربت على جانب ذراعه في محبة قائلًا:
-تحت أمرك يا عم “سليمان”.
جاء رده ودودًا للغاية:
-الله يكرمك ويوفقك دايمًا…
همَّ “عمر” بالتحرك، و”سليمان” يتابع الحديث إليه:
-ومش هوصيك على البنات.
لحظتها فقط سدد نظرة غريبة وغامضة نحو “بهاء” الجالسة في المقدمة، ليقول بلا ابتسام:
-اطمن.
ثم رفع من نبرته ليحادثها على وجه الخصوص:
-مستنيكي في التدريب.
برقت عيناها في ذهولٍ، ولم تستطع الرد عليه، فابتسم في مكرٍ، ليغادر بعدها مع شقيقه، ما إن ابتعد حتى عاود عمها الجلوس في مكانه، ليستطرد في شيءٍ من الثناء:
-ابن حلال مصفي.
ردت عليه “بهاء” بتعابيرٍ تبدلت للانزعاج:
-أوي أوي.
اندفعت “بسنت” للأمام قليلًا، لتهمس إلى رفيقتها في تساؤل قلق:
-احنا كده روحنا في داهية؟
أجابتها في توجسٍ مماثل لها:
-لأ، الداهية هي اللي جت لحد عندنا!
………………………………………
لاحقًا، وحينما عادت إلى بنايتها، مكثت “بهاء” لدى زوجة عمها معظم اليوم ريثما ينتهي العمال من تركيب الباب الحديدي الذي أصر عمها على وجوده لزيادة حمايتها أثناء فترات غيابه عن البيت، كما انشغلت أيضًا بمساعدة زوجته في إعداد ملفوف الكرنب، وبعض الأطعمة الشهية، ولأكثر من مرة حاولت “فادية” إرشادها ليبدو الملفوف متناسقًا؛ لكنه كانت لا تجيد لفه، ففقدت الشغف في عمله، واتجهت لتقطيع البطاطس.
استطردت زوجة عمها تسألها في مكرٍ، كاستهلالٍ مسبق لما تريد البوح به:
-مافيش حد كده ولا كده شاغل بالك؟
قطبت جبينها متسائلة بشيءٍ من الاستغراب:
-تقصدي مين؟
ابتسمت في صفاء وهي تسهب في التوضيح لها:
-شاب تكوني اتعرفتي عليه، نفسي أفرح بيكي أوي، وأجوزك يا بناتي، إنتي شايفة بنفسك كل واحدة فيهم متهنية مع جوزها، وسافروا برا، واستقروا في حياتهم.
تجهمت تعبيراتها نسبيًا، وقالت وهي تتجه للحوض لتغسل الأطباق المتسخة:
-لأ، أنا الموضوع مش في دماغي أصلًا.
تحركت خلفها لتقف مجاورة لها، وتابعت في قدرٍ من الحماس:
-طب بصي، أنا عندي واحدة قريبتي ابنها لسه آ…
لم تتحمل سماع نفس العبارات المستهلكة عن عروض الزواج وغيرها، فقاطعتها في جديةٍ:
-والله ما بفكر في الحكايات دي يا طنط.
أصرت على موقفها معها قائلة:
-يا بنتي كل واحدة مسيرها في يوم تتخبط وتتجوز.
في نفس اللهجة الجادة خاطبتها:
-أنا عايزة أطمن على مستقبلي الأول واشتغل في وظيفة محترمة.
ردت عليها بتصميمٍ لا يقل عن عنادها:
-وماله، اعملي ده بجانب الجواز، وبعدين إنتي بتكبري مش بتصغري.
قوست زاوية فمها معلقة في سخريةٍ:
-قصدك يعني إني هعنس، وفرصتي هتقل، ومش هلاقي اللي يرضى بيا؟
في التو صححت لها مفهومها الخاطئ مبدية تبريراتها المنطقية:
-مقصدش والله، بس علشان تلحقي تخلفي وتربي عيالك في شبابك، وبعدين علشان ما تكونيش لواحدك لو لا قدر الله أمر الله نفد، وموتنا.
نظرت إليها قائلة:
-بعد الشر عليكم، ربنا يخليكم ليا…
ثم حررت زفرة سريعة لتضيف:
-بس الحياة مش واقفة على الجواز وبس، في حاجات تانية أهم.
لم تحاول الضغط عليها كثيرًا، وأنهت النقاش في هذا الموضوع مرددة:
-ربنا يهديلك الحال ويصلح بالك.
……………………………………………..
لما جنَّ عليها الليل، وأصبحت في غرفتها مستلقية على فراشها، تشتكي لنفسها من إرهاق نهارها، أمسكت بهاتفها المحمول، لتتفقد ما فاتها طوال اليوم، بالطبع قطع اتصال “بسنت” عليها ما كانت تقوم به، فأجابت عليها لتجدها تصيح فيها بتوترٍ:
-إنتي مش بتردي عليا ليه من بدري؟
أخبرتها في هدوءٍ، وهي تتقلب على جانبها لتنام عليه:
-كنت مشغولة معاهم في البيت، ما أنا حكيالك اللي ورانا.
جاء صوتها على نفس الوتيرة المتوترة:
-نسيت، أنا أصلًا مش عارفة أتلم على أعصابي من ساعة اللي حصل.
خللت “بهاء” أصابعها في شعرها المحلول، وهمهمت، وعقلها يجسد تصورًا طيفيًا لما مرت به:
-أومال أقولك عني إيه؟ ده أنا قلبي وقع في رجلي لما لاقيته جمبي.
سألتها “بسنت” في توجسٍ:
-تفتكري هيعمل فينا إيه؟
أجابت بعد لحظةٍ من الصمت:
-أي حاجة متوقعة مع الراجل ده.
استطاعت أن تسمع صوت تنهيدتها وهي تردد في تضرعٍ:
-ربنا يستر ويعديها على خير.
أطبقت “بهاء” على جفنيها قائلة:
-بلاش نفكر كتير، احنا مش ناقصين توتر.
سرعان ما فتحت عينيها عندما أخبرتها في صوت جاد مشوبٍ بالقلق:
-طيب ما تنسيش في عندنا تدريب عملي.
تساءلت في تحيرٍ:
-ده بتاع إيه؟
أوضحت لها في الحال:
-لما كنتي غايبة اتناقشنا عن موضوع النزاع بين الدول، وإن في أراضي بتتزرع ألغام في مساحات كبيرة، وآ…
ضغطت برأسها على الوسادة، وعلقت:
-افتكرت، إنتي كنتي بعتيلي صور بالملخص، بس أنا نسيت وما بصتش فيهم.
راحت تكمل “بسنت” حديثها إليها:
-المفروض بقى في تدريب عملي على عملية نزع الألغام.
زمت شفتيها مبرطمة:
-شكلي هبقى تور الله في برسيمه، وهو وصاحبه ما بيصدقوا يشتغلوا عليا.
ردت عليها صديقتها:
-إن شاءالله ربنا يعميه عننا، ويتلهى بغيرنا، أكيد مش هيركز معانا بس.
استلقت على ظهرها لتحملق في سقف الغرفة متمتمة بيأسٍ:
-بعد توصيات عمي ما أظنش!
داهمتها عشرات الأفكار غير المبشرة، والتي تمحورت جميعها حول كيفية استمتاعه بإحراجها على مرأى ومسمع من الآخرين، لم تتحمل تخيل المواقف المخجلة التي ستتعرض لها، فوضعت الوسادة على رأسها لتخفي وجهها، وأخذت تهسهس في تبرمٍ:
-عملت إيه في دنيتي علشان يبقى حظي كده!
………………………………………..
بدا الزي الرياضي مريحًا ومناسبًا للأجواء الخاصة بالتدريب العملي، فكما أخبرتها رفيقتها في وقت سابق أنه من المفترض أن ينتقلوا لمكانٍ آخر بعد تجمع المشاركين في الدورة التدريبية للبدء في تلقي الجزء العملي على أرض الواقع. بالطبع كان الاختباء عن الأنظار هو الاختيار المتوقع بعد لقائهما السابق، لهذا فضلت “بهاء” المكوث في المؤخرة، وترك من يفوقها طولًا يقفون في المقدمة. كانت ممتنة كذلك لغياب “أنس” عن التدريب، وإلا لما سلمت من مضايقاته المستفزة، يكفيها مرتها الأخيرة التي بالكاد تعافت منها.
في مساحة مزروعة بالعشب والحشائش، محاطة بسور من السلك الشائك، وتمتد على مدى البصر، وقف كافة المشاركين في التدريب في حالة من التأهب والاستعداد، لم يكن هناك أي مظلة يستظل بها أحد، فقط بضعة خيام منصوبة على بعد عدة أمتار من هذه المساحة، مخصصة للراحة، وأيضًا للعلاج في حالة الطوارئ.
اشرأبت “بهاء” بعنقها للأعلى قليلًا لتتمكن من رؤية “عمر” حينما أخذ يتحدث بشيءٍ من الإيضـــاح:
-احنا في المحاضرات السابقة اتكلمنا عن أهمية نزع الألغام، وخصوصًا إنها تعتبر من مخلفات الحروب، وضررها كبير سواء على المدنيين أو حتى الدولة.
انتشرت همهمات خافتة بين الواقفين، و”عمر” لا يزال يخاطبهم في لهجته الجادة:
-العملية دي مكلفة جدًا، لكنها أمر أساسي من أجل حماية الأرواح البريئة، والاستفادة من المساحات المهدورة، لأنها بتمدد لعشرات الكيلومترات.
صمت للحظات وعيناه تطوفان على الأوجه الحائرة والمتسائلة قبل أن يستطرد مرة أخرى:
-النهاردة احنا عاملين محاكاة ميدانية بسيطة لعملية نزع الألغام، وفيها بنعرفكم على الأدوات المستخدمة للكشف عن اللغم، وإزاي بيتم نزعه.
ما زال الجميع في حالة من الاستغراب والتردد، ورغم هذا كان على درجة عالية من الثقة والكفاءة وهو يسترسل في شرحه:
-والمفروض هنقوم بعملية التطهير اليدوي للألغام، والمطلوب من حضراتكم تحديد أماكن الألغام الوهمية باستخدام المجسات الحرارية، وفي فريق متخصص هيقوم بفكها وتنظيفها.
استمر على هذا المنوال موضحًا الأدوات المستخدمة في عملية نزع الألــــغام، وكيفية التعامل مع الوضع المتأزم، إلى أن أنهى إسهابه بتحذيرٍ جديد:
-طبعًا لازم تكونوا عارفين إن أخطر أنواع الألغام هي اللي بتكون مضادة للدبابات، دي تأثيرها مــــدمــر.
ارتفعت الهمهمات نسبيًا، وبدت الوجوه قلقة ومضطربة، لذا أشار بيديه قائلًا في صوتٍ حازم:
-مش عايزكم تقلقوا، احنا هنكون معاكم، وفي فريق متخصص هيساعدكم ويرشدكم طوال التدريب.
لحظتها هدأ الصخب، فأكمل محذرًا بجديةٍ شديدة:
-بس لازم تحطوا في دماغكم إن أول خطأ هو الأول والأخير، يعني الغلطة تكلفتها حياتك.
في استنكارٍ منزعج تساءلت “بهاء” بصوتٍ خفيض، وكأنها توجه استهجانها إليه خلسة:
-هو كده بيطمنا يعني؟
سمعت شكواها رفيقتها المرتاعة، وهتفت بذعرٍ راح يتصاعد بسرعة الصاروخ لمجرد تخيل تجربتها للأمر:
-أنا هيغمى عليا!
انتبهت الاثنتان إليه عندما تكلم مرة أخرى مشيرًا بيده نحو كومة من الثياب مرصوصة بنظامٍ عند الخيام:
-في لبس خاص مجهزينه لحضراتكم، بعدد كل الحاضرين النهاردة، وطبعًا راعينا اختلاف المقاسات بينكم.
تحولت الأعين تجاه المنطقة المشار إليها، قبل أن يوجه سؤاله للجميع مختتمًا كلامه:
-في أي أسئلة قبل ما نقسمكم لمجموعات؟
تخلت عن رهبتها لتتحلى بقدرٍ من الشجاعة، فرفعت من نبرتها وسألته بتحدٍ:
-معلش يعني هو احنا المفروض نشارك في الحكاية دي؟ اللي أقصده إن ده دور الراجل!
فجـــأة أديرت كافة الأعنق ناحيتها، ليحدقوا فيها باستغراب، فأحست بالحرج لتسلط الأنظار عليها؛ لكنه لا يُقارن بنظرة “عمر” القوية المصوبة نحوها دون غيرها، تقدم بخطواتٍ ثابتة تجاهها، فكان من يمر بجواره يتنحى للجانب، وكأنه يسهل عليه الطريق للوصول إليها، خاصة وهو يخاطبها بثباتٍ:
-معلوماتك غلط، لأن حوالي 25% من المشاركين في عمليات نزع الألغام على مستوى العالم من النساء، ده غير إن نسبة كبيرة جدًا منهم موجودين في الأمم المتحدة، وبيساهموا بدور فعال في حل الأزمة دي، يعني نقدر نقول باختصار إن دورهم لا يقل عن دور أي راجل بيقوم بالنوع ده من المهام الخطيرة.
أنهى جملته الأخيرة وهو يقف في مواجهتها، ليبتسم قليلًا بغموضٍ قبل أن يطلب منها:
-وعلشان كده هنبدأ بيكم الأول!
حملقت فيه “بهاء” بنظرة مذهولة، في حين قفزت “بسنت” في مكانها مذعورة، وخرج صوتها كالصراخ وهي تتساءل:
-مين؟
حاد ببصره عنهما لينظر إلى الحاضرين قائلًا:
-الأستاذة “بهاء”، وصاحبتها هيكونوا أول المشاركين معانا…
لقد وضعها حقًا في مأزق، فقبل أن تبدي “بهاء” اعتراضها، أو حتى ترفض أن تخوض التجربة أولًا، كنت مدفوعة للأمام وبتشجيع من الشابات المشاركات أيضًا في التدريب لخوض هذه التجربة المخيفة. استطاعت أن تسمع صوته يستحثها على المضي قدمًا:
-احنا نحب نشوف إبداعكم وتفوقكم في المنطقة (أ).
كانت “بسنت” ترتجف كليًا، فأشفقت عليها “بهاء” وخاطبتها ساخرة وهي تسير بجوارها:
-استودعك الله، أشوفكم في الآخرة، في جنة الخلد
بينما استمر “عمر” في توجيه أوامره للبقية:
-ودلوقت هقسم حضراتكم لمجموعات من فردين لـ 3 أفراد.
واصلت “بهاء” تقدمها نحو إحدى الخيمات بعدما استلمت ثيابها الجديدة، لتستدير ناظرة نحو “عمر” الذي كان يتابعها بنظراته المستمتعة، لوح لها بيده، وكأنه يتحداها أن تصمد في مهمةٍ لا تفقه فيها شيئًا، وقد كان محقًا في ذلك!
………………………………………..
بعد قيامهما بتبديل ثيابهما الرياضية إلى أخرى واقية، وضعت كلًا من “بهاء” و”بسنت” خوذة على رأسيهمًا، وقناعًا شفافًا أمام وجهيهما، لتبدأ الاثنتان في التحرك مع مرشد مجموعتهما ليستمعا بإصغاء وانتباه لما يمليه عليهما من أوامر لإجراء التجربة العملية في المنطقة الخاصة بهما، بينما يراقب الجميع ما تقوما به بتركيزٍ شديد.
باستخدام الحبال، والعصي، وذلك المجس الحراري حددت كلتاهما المناطق التي تم التأكد من خلوها من الألغام، ليتمكن غيرهما من السير عليها بسلاسة وبلا خوف. ظنت “بسنت” أن المسألة في غاية السهولة، لذا تقدمت في تعجلٍ -وبلا حذرٍ- نحو الأمام، فتسببت في الضغط بقدمها على لغمٍ خفي لم تره، ليصدر صوتًا مفزعًا بجانب نثر المياه الملونة عليها، قبل أن تُطرح أرضًا، وكأنها تعرضت للهـــلاك مجازًا، بالطبع طال الضرر رفيقتها، وارتمت على الأرضية شبه الطينية، فكانت مثلها في حالة رثة.
من مسافة لا تبدو بعيدة عنهما، تقدم “عمر” ناحيتهما بخطى مسرعة، ليقول مشيرًا بيده لمن جاءوا خلفه:
-ده مثال حي للي هيحصل على أرض الواقع لو استهنا بالأمر، ودوسنا على اللغم زي الأستاذة، بس الفرق إنك هتكون أشـــلاء.
حل الامتعاض على كافة تعبيرات وجه “بهاء”، ومع ذلك تجاهل ما يظهر على ملامحها ليكمل وهو ينظر إليها من علياه:
-طبعًا لو لابسة بدلة واقية، راسك هتطير وتتفتت، بس باقي جسمك هيكون مع بعضه.
دمدمت في صوت مستنكر خافت وهي تستند بمرفقيها على العشب الرطب:
-كده أنا المفروض أرتاح يعني؟
لم يبتسم، وواصل الحديث إلى باقي الواقفين، لتنهض بعدها “بهاء” من رقدتها المهينة، قبل أن تتجه نحو رفيقتها وتعاونها على القيام، لتسمع صوته يجيء من خلفها ليحذرها بصرامةٍ:
-يا ريت ناخد بالنا أكتر من كده.
هزت رأسها في طاعةٍ قبل أن تتجمد في موضعها عندما أكمل أوامره:
-اتفضلوا عيدوا من الأول بس في المنطقة (ج).
برزت عيناها في محجريهما متسائلة بذهولٍ:
-احنا مش موتنا خلاص، هنجرب تاني ليه؟
زجرها هاتفًا بنظرة قاسية:
-هنهزر؟ اتفضلي.
أومأت برأسها، وهمهمت بتذمرٍ ساخط:
-أوكي، حاضر، هروح أهو.
كان تأثير الوقعة كبيرًا على “بسنت” فبدت مترنحة إلى حدٍ ما، وتساءلت وهي لا تصدق ما فاه به:
-هو احنا هنعمل زي ما قال؟
جاوبتها ساخرة في تهكمٍ أكبر:
-أيوه: تم بعثنا من جديد، وهنقوم نشوف هننفـــــجـــر إزاي من تاني، لأن المرة الأولى مش أد كده، مدخلتش مزاجه.
ضبطت “بسنت” الخوذة على رأسها مبدية تذمرها الشديد:
-يا ختـــــاي! أنا مافياش حيل للانفـــــجار أكتر من كده.
…………………………………………
أخذ العرق يتفصد من جبينها وهي تعيد تكرار التجربة مرارًا وتكرارًا، كانت “بهاء” مرهقة للغاية، يسيطر عليها التعب، ناهيك عن تلطخ وجهها بالتراب وامتزاجه بعرقها، فأصبحت ملامحها مخبأة تحت الطين والأغبرة. هذه البقعة تحديدًا احتوت على مئات الألغـــــام، وكأن درجة الاختبار تزداد صعوبة بانتقالهما من منطقة لأخرى أثناء إجراء المحاكاة الميدانية، وبالتالي بذلت مجهودًا مُضنيًا للتركيز ولتجنب خطر التعرض للمــــوت المفاجئ. سارت “بسنت” على حذاها وهي تسألها:
-هو احنا انفــــجرنا كده كام مرة؟
فيما يشبه السخرية أجابتها بعدما توقفت لتأخذ نفسها:
-بتاع 15 مرة.
ردت عليها في يأسٍ:
-يا لهوي، احنا فشلة أوي.
جاء تعقيبها ساخطًا:
-أكيد تقييمنا هيكون تحت الصفر في التدريب ده.
حين رفعت “بسنت” رأسها للأعلى لتنظر أمامها، تسمرت، وهتفت في فزع:
-صاحبنا جاي علينا.
من تلقاء نفسها استدارت “بهاء” لتتجنب مواجهته، وخاطبت صديقتها بتجهمٍ:
-اديله ضهرك أوام، كأننا مش شايفينه.
أيدتها في الرأي، وقالت وهي تفعل المثل:
-معاكي حق، مش ناقصين تنمر منه.
أضافت عليها بعدئذ في سخرية مريرة:
-ده كفاية إننا بقينا ملطشة الأكاديمية، زمانهم عملوا مننا كوميكس للواتساب.
سرعان ما ادعت “بهاء” الانشغال بالتنقيب عن الألغــــام المخفية، رغم شعورها بأنه قريب منها، وصدق حدسها حينما تكلم من ورائها:
-المرادي إنتو أفضل..
توقفت عن البحث لتلتفت ناظرة إليه بتعجبٍ مشوب بالشكِ، فوجدته ينظر إليها بشيءٍ من الإعجاب قبل أن يتابع مادحًا:
-مهاراتكم اتطورت، وقدرتوا تحددوا أماكن الخطر بدون ما تخلصوا على نفسكم.
سمعته “بسنت” فتنفست الصعداء هاتفة في صوتٍ مرهق:
-أخيرًا!
بينما رددت “بهاء” بهزة خفيفة من رأسها:
-الحمد لله.
مرة أخرى أثنى “عمر” على أدائهما قائلًا، كنوعٍ من التشجيع لهما:
-برافو، استمروا على كده.
في تذمرٍ شبه مستتر تساءلت “بهاء” وهي تزيح الخوذة عن رأسها:
-طب ممكن نرتاح شوية؟ أنا تعبت.
أبدى موافقته في هدوءٍ:
-معاكو بريك لمدة ربع ساعة قبل ما ننتقل لمنطقة تانية.
لوت ثغرها مدمدمة بسخطٍ:
-وجاي على نفسك ليه؟
لم يتبين بوضوحٍ ما فاهت به، فاستطرد:
-أفندم! عيدي اللي قولتيه.
أعطته عذرًا كاذبًا وهي تتصنع الابتسام السخيف:
-ده أنا بقولك شكرًا على ذوقك.
ما إن ابتعد عنهما حتى رمت “بسنت” بثقل جسدها على الأرضية الترابية، وجلست تشكو في ألمٍ:
-أنا مش حاسة لا بأعصابي ولا برجلي، ولا بأي حتة في جسمي.
تطلعت إليها “بهاء” بلا تعليق، ونظراتها تشيح في الفضاء، فأكملت رفيقتها ندبها التعس:
-أنا عايزة أتستت وأقعد في البيت، كـــار الـ ( Strong Independent Woman ) مش بتاعي.
…………………………………………….
كانت تتوق حقًا إلى الاستلقاء، والاسترخاء، والاستحمام، فجسمها بالكامل أصبح مغطى بالتراب وممزوجٍ بالعرق، شعرت “بهاء” وكأنها أشبه بمن تم دفـــنه أسفل الرمـــال للاستشفاء، مع فارق أن ما يحدث الآن ليس نوعًا من الاستجمام، وإنما بدافع التدريب، وهي رغمًا عنها مُكلفة بإطاعة الأوامر. حينما غسلت وجهها بماء ذلك الصنبور البدائي المجاور للخيمات، ورأت كم التراب الذي سقط عن بشرتها أدركت أنه لا داعي للنظر في المرآة لرؤية كيف صارت هيئتها، بالطبع لم تكن في أجمل صورها، نظرت بطرف عينها نحو “بسنت” حينما تذمرت وهي تفرغ معظم علبة مناديلها الورقية لتجفف به يديها المبتلتين:
-الواحد عايز يتصنفر من تاني علشان يشيل أطنان الطين اللي عليه.
بعدما استقامت واقفة، ابتسمت “بهاء” معقبة عليها في سخريةٍ:
-صحيح الواحد كان نفسه يعمل حمام مغربي، بس مش للدرجادي، ده أنا اتردمت، ده ناقص يتحط علينا مونة ويرموا الأساسات.
ردت عليها صديقتها وهي تفرك بيدها فقرات عنقها المتيبسة:
-بجد الله يكون في عون اللي بيتدربوا كده، أنا كام ساعة وهِلكت.
قامت “بهاء” بتدليك ذراعها قليلًا لتخفف من الألم الصارخ في عضلاتها المتعبة، لتتحرك من مكانها قائلة:
-عايزين نلحق نشرب أي حاجة تفوقنا قبل ما صاحبنا يحط علينا من تاني.
أومأت “بسنت” برأسها موافقة، وتساءلت:
-مش عايزة مسكن؟
أجابت في شيءٍ من التمني:
-أه يا ريت لو معاكي.
راحت تقول وهي تشير بيدها:
-في واحد في الشنطة بتاعتي، تعالي معايا أجيبهولك من خيمة البنات.
بدت ممتنة لوجوده معها، وسارت كلتاهما تتأبطان ذراع بعضهما البعض نحو خيمة الشابات، لتضيق فجأة عينا “بهاء” باسترابةٍ وهي ترى التحام مجموعة من الشباب الحانق من مسافة لا تبدو بعيدة عنهما، بدافع الفضول اقتربت الاثنتان لرؤية ما يحدث، فاستمعت إلى أحدهم يصرخ:
-أما إنك غبي بصحيح.
همهمت “بسنت” في تلقائية:
-شكلها خناقة.
ردت “بهاء” بتوجسٍ:
-ما تخلينا نبعد.
أصرت على البقاء للمتابعة هاتفة بتصميمٍ:
-استني أما نشوف هتخلص على إيه.
احتد الجدال أكثر، وراح الشاب الآخر يرد بغلظةٍ:
-وإنت يعني اللي بتفهم؟ ما إنت تور الله في برسيمه.
في التو زادت حمئة الأول، ونعته بلفظٍ نابٍ:
-تصدق إنك عيل (…)!
جرحه لكرامته الرجولية وإهانته بهذا الشكل الفاضح والفج جعلته يثور غضبًا، فأراد الانتقام ممن أساء إليه، فهجم عليه بعداوة وشراسة ليلكمه في وجهه، ليتحول الآخر لوحشٍ حاقد، ويرد له الصاع صاعين، هنا صرخت “بسنت” في ذهولٍ:
-أوبا، دول مسكوا في بعض!
لجأ الشابان للإمساك بكل ما تطاله أيديهما للتشابك في خشونة وحدة، فالتقط أحدهما عصا خشبية، ورفعها في الهواء ليضرب بها ظهر الآخر بقسوةٍ، فأسرع الأخير بالتقاط قالبٍ من الطوب ليقذفه ناحيته بقوةٍ فانحنى ليتفاداه، وحينما تجاوزه وصل كالقذيفة نحو المتفرجتين من مسافة عدة أمتار، لتصرخ “بسنت” محذرة رفيقتها في ذعرٍ:
-حاسبي يا “بيبو”!
لم تتمكن “بهاء” من الابتعاد في اللحظة المناسبة عن موضع الخطر، فاصطدم القالب بساقها، وأصابها بالألم الشديد، لتصرخ من الوجع القاسي:
-أي!
انحنت لتتفقد مكان الإصابة، وإلى جانبها رفيقتها التي تحول فضولها إلى خوفٍ في لمح البصر، بينما ظهر “عمر” من العدم، ومعه بضعة ممن يعملون تحت قيادته ليقوموا بفض هذا التلاحم البشري بقوةٍ شديدة، وصوته يرن في الأرجاء:
-في إيه إنت وهو؟!!!
نجح هو ومن معه في إبعاد الشباب المتشاحن، وتساءل بصوتٍ جهوري مزعوجٍ للغاية:
-إنتو فاكرين نفسكم فين؟
وقعت أنظاره على “بهاء” و”بسنت”، فصارت عيناه قاسيتان، حيث ظن باعتقاده الخاطئ أنها مشاجرة معتادة تخص معاكسة الفتيات للظفر بإعجابهن، ولكونهما يقفان في وسط المشاحنة المحتدمة، فأساء الفهم وفسر الموقف بشكلٍ مغاير للحقيقة، لهذا قرر التصرف فورًا وبحزمٍ، فما كان منه إلا أن صب جام غضبه على كل الموجودين، وهدر آمرًا أحد رجاله بصيحةٍ مجلجلة، جاعلًا من حوله يضطربون قلقًا:
-هاتلي الشرطة العسكرية أوام، وأمسك كل اللي واقفين هنا!
آنئذ تشبثت “بسنت” بذراع رفيقتها، وكأنها تتخذها درعًا بشريًا لحمايتها، لتردد في ذعرٍ، ونظرات الهلع تطل من عينيها:
-الحقي يا “بهاء”، بيقولك الشرطة العسكرية، احنا كده روحنا ورا الشمس.
اللجوء لذلك الحل الصارم يعني التعرض لمشاكل جسمية، ربما لن تنجو أيًا منهما منها بسهولةٍ، لذا هتفت “بهاء” دون تفكير وهي تستحث رفيقتها على التراجع والفرار قبل فوات الأوان:
-تعالي نجري قبل ما يشوفنا.
تسمرت كلتاهما في موضعهما بفزعٍ كبير عندما أتى صوته القوي من خلفهما بما تضمن التهديد العلني:
-وهاتلي الجوز دول كمان، بدل ما يتعملهم أمر ضبط وإحضار …………………………………… ؟!!
……………………………………..

google-playkhamsatmostaqltradent