رواية ضبط و احضار الفصل السادس 6 - بقلم منال سالم
الخطة الموضوعة مُسبقًا طبقت اليوم بعد مراجعة متأنية ومناقشة دقيقة لكل نقاطها، وبالتالي تُعطي وتجسد النتائج الأقرب للواقع، ليتم استخدامها لاحقًا في حالة حدوث ذلك. أراد “عمر” بشدة أن تُسفر القرعة العشوائية عن انضمام “بهاء” إلى فريقه الخاص بالمفاوضات وتحرير الرهائن؛ لكن يبدو أن الحظ لم يكن حليفه، فقد وقع الاختيار لتكون ضمن المجموعة الأخرى التي ستتعرض للاختطاف القسري على يد “أنس”، ودون علمٍ منها بتفاصيل العملية، والذي بالطبع لن يضيع الفرصة عليه للتلاعب بها، واستفزازها نفسيًا وبدنيًا؛ وكأن في ذلك متعة له.
الشعور الذي لازمه حينها كان مزعجًا بطريقة لا توصف، على الرغم من أن الأمر قد يبدو روتينيًا أو معتادًا؛ ومع هذا استاء لأنها لم تكن إلى جواره، ليحميها بطريقته الخاصة، ويُبعد عنها الشرور.
للتمييز بين الفريقين المتواجهين، ارتدت الفئة المسئولة عن تنفيذ عملية الاختطاف الملابس السوداء، بجانب الأقنعة، بينما الفئة المُكلفة بتحرير الرهائن وإلقاء القبض على الخاطفين ارتدت الزي العسكري. تنبه “عمر” إلى قائده حينما خاطبه:
-العملية بدأت.
أدى التحية العسكرية، ورد عليه في نبرة رسمية:
-تمام يا فندم، واحنا جاهزين.
تابع القائد بلهجته الجادة:
-كل حاجة هتتسجل، وبعد كده هنرجع نحلل اللي حصل مع الخبراء.
هز رأسه مرددًا في نفس النبرة الرسمية:
-طبعًا يا فندم.
ابتسم قليلًا إليه، وقال:
-بالتوفيق للجميع فيها.
اكتفى بخفض رأسه هاتفًا:
-شكرًا لحضرتك.
تحرك بعدها متوجهًا إلى فريقه ليتابع ما يدور معهم، وقلبه ينبض بنوعٍ من القلق على تلك الغائبة عن عينه، والحاضرة في عقله.
………………………………………
كان واثقًا في قرارة نفسه أن رفيقه يراقب الوضع عبر كاميرات البث المباشر من الجانب الآخر، لذلك عَمِد “أنس” إلى استفزازه بشكلٍ مستتر فقط ليغيظ، ويشعره أنه صاحب الأفضلية والكلمة العُليا في شيءٍ ما، خاصة مع شكوكه بشأن ذلك الاهتمام الخفي من قبله تجاه هذه الشابة المتعجرفة، فأراد تلقينها درسًا، وإهانتها بشكلٍ يجعلها أضحوكة في نظر الآخرين، ودون أن يتلقى التوبيخ جراء تصرفاته، لأنها ببساطة في سياق التدريب.
أعاد “أنس” وضع قناعه على وجهه لتغطيته، ثم انحنى نحو “بهاء” الفاقدة للوعي، ليجذبها من ذراعها، رفعها قليلًا عن الأرضية، ثم حملها من خصرها ليلقيها على كتفه، وعاد بها إلى داخل الكافيتريا. دنا من رفيقتها الفزعة، وألقاها أرضًا بجوارها آمرًا أحد رجاله:
-تراقبلي الجوز دول، ماتشلش عينك من عليهم، مش عايز غلطة.
استجاب الرجل لأمره الصارم، فـأضــاف “أنس” مشيرًا بيده نحو مدخل الكافيتريا:
-وخلي الشباب يأمنوا الجهة دي كويس، ولو حسوا بحركة يبلغوني.
رد عليه في طاعةٍ:
-تمام معاليك.
سرعان ما أحاطت “بسنت” برفيقتها لتحميها، ولم تظل “بهاء” غائبة عن الوعي كثيرًا، فقد راحت ضربات رفيقتها الخفيفة على وجنتها تستحثها على الاستفاقة، وعندما بدأ عقلها في التيقظ، شعرت بالألم الموجع في فكها، فتأوهت بصوتٍ خفيض، ونظرت بنصف عين من موضع رقدتها إلى صديقتها تسألها:
-حصل إيه؟
رغم خوفها الصريح إلا أن “بسنت” تنفست الصعداء لرؤيتها بخير، ضمتها إليها في محبةٍ صادقة، وهتفت في صوتٍ هامس:
-الحمد لله إنك بخير.
بضعة لحظات مضت على “بهاء” لتتمكن من استيعاب ما يجري، وقتئذ انتفضت في جلستها مرددة باستنكارٍ:
-هو احنا اتخطفنا بجد؟
أومأت برأسها مؤكدة، وبصوتٍ خفيض:
-أيوه، وشكلنا هنمــــوت.
ضيقت عينيها بشكٍ واسترابة، لتعلق في شيءٍ من المنطقية:
-أنا مش مصدقة ده، في حاجة غلط، ما هو مش معقول نكون في معقل رجالة الحــــروب وقــادة المعــــارك، ويحصل فينا كده!!
كانت “بسنت” على عكسها تمامًا، عاجزة عن التفكير، فأردفت بنبرة معبرة عن خوفها النابع من أعماقها:
-مش قادرة أفكر يا “بيبو”، أنا همـــــوت في جلدي من اللي بيحصل فينا.
حاولت طمأنتها قائلة بهدوءٍ، وهي تمسح بنظرة شاملة ما يجري في محيط المكان لتقيم الوضع في عقلها:
-متقلقيش، دلوقت يبان أصل الحكاية إيه!
……………………………………..
في غرفة ما مملوءة بالعديد من الشاشات العريضة، وفي مكان ما ليس ببعيدٍ عن موقع المحاكاة العملية لحادثة الاختطاف، احتشد بعض القادة بجانب أفراد العمليات الخاصة وكذلك فريق الدارسين للتداول فيما بينهم والتعليق بشكلٍ يتيح التعامل مع الأزمة بأكثر الطرق احترافية.
بجانب هذه المناقشات الجادة مع المجموعة المسئولة عن التفاوض مع الخاطفين، كان “عمر” مشغولًا بالتنسيق مع فريقه ووضع فرضيات خطط الاقتحام وتحرير الرهائن من الاحتجاز.
تابع ما يقوم به “أنس” من تصرفات مستفزة، وفهم إشاراته الخفية لإغاظته وإشعاره بتفوقه في تلك اللحظات الحرجة. استثير بداخله شيءٍ ما،و كان مع مرور الوقت يستعر أكثر ليشعره بالحنق، وبالتالي بذل مجهودًا كبيرًا لضبط انفعالاته، والحفاظ على هدوئه الزائف أمام الآخرين، وراح يستمع بتركيزٍ إلى ما اقترحته مجموعة الدارسين من أفكار مختلفة لإنقاذ المحتجزين بأدنى الخسائر.
عفويًا، كان ينظر بين الفنية والأخرى إلى شاشة العرض التي تركز على “بهاء” وصديقتها، همهم مع نفسه وهو يراها لا تزال فاقدة للوعي:
-ده برضوه اللي اتفقنا عليه؟
لم يسترح لتوريطها في ذلك التدريب تحديدًا، خاصة مع إصابتها السابقة، والتي ربما لم تتعافَ منها بعد، ندم لأنه لم يتدخل –مستغلًا سلطته- لجعلها في فريقه، وما المانع إن فعل ذلك من أجل مصلحتها؟ على الأقل كان سيضمن أنها بخير، حاول أن يصفي ذهنه، ويركز على الوضع الحالي، ليخرجها منه دون أذى.
……………………………………..
في موقع مكوثهما، كانت الاثنتان تدوران ببصرهما في الأرجاء، لمتابعة حركة هؤلاء الملثمين حولهما، بنفس الصوت الهامس، والتعابير الواجمة، تكلمت “بهاء” في نبرة ضيقٍ:
-هو ده العملي بتاعهم؟ حسبي الله ونعم الوكيل.
تساءلت “بسنت” بتبرمٍ:
-فكريني كده يا “بيبو” احنا اشتركنا ليه في التدريب ده؟
لم تنبس بكلمة، لكن “بسنت” أخذت تنوح في تحسر:
-أقولك أنا، علشان نكتسب معلومة جديدة، يبقى عندنا خبرة تنفعنا، مش علشان يجيلنا عاهة مستديمة.
علقت عليها “بهاء” بسحنةٍ منقلبة:
-احنا شبابنا كده ضاع، أخرتها هنتحط على عربية المطافي ملفوفين بالعلم.
شاركتها السخرية فأضافت:
-أيوه، والنعي بتاعنا هيكتبوه على بوكيهات الورد، وهنلاقي لفيف من القيادات ماشيين في جنازتنا.
صمتت للحظاتٍ، وتابعت:
-“بيبو”..
همهمت باقتضابٍ:
-نعم.
تأبطت ذراع رفيقتها، وطلبت منها:
-أنا مش عايزة جو الأكشن ده، أنا عاوزة أتستت وأقعد في البيت.
بدت وكأنها تؤيدها في رأيها، فجاء تعقيبها محملًا بالندم:
-الظاهر احنا غلطنا لما جينا هنا.
رفعت “بسنت” بصرها للأعلى لتردد:
-يا رب خرجنا من الليلة دي على خير، ده احنا غلابة أوي!
……………………………………
تناثر الرهائن في زاويا مختلفة من الكافيتريا، ولم يكونوا فُرادى، بل مجتمعين في مجموعات صغيرة ما بين ثنائية وثلاثية، على مسافات قريبة من بعضهم البعض، شعر الكل بالخوف والارتياع ممن يهددونهم بالقـــتل في حال مخالفتهم للتعليمات، لهذا على قدر المستطاع لزموا الهدوء، ولم يحاولوا القيام بأي شيء متهور قد يعرض حياتهم البريئة للخطر.
تجول “أنس” بتفاخرٍ وغرور بين رهائنه، لينادي على أحد رجاله آمرًا إياه بنبرته المتباهية:
-جمعلي الناس دي كلها في حتة واحدة.
صوته المألوف كان مثيرًا للشكوك بدرجة كبيرة، فعرفت “بهاء” هويته من نبرة صوته المميزة، ومع هذا بقيت صامتة، تتنظر الفرصة المناسبة لإطلاع رفيقتها بحقيقة ما يحدث.
أطاع الرجل أمر قائده، وراح يشير إلى باقي الأتباع بتنفيذ الأمر في الحال، ليقوموا بتحريك الجميع إلى منطقة منتصف الكافيتريا، وإجبارهم على الجلوس في وضعية الركوع، وأياديهم فوق رؤوسهم. ما إن تأكد “أنس” من نجاح ذلك حتى اقترب من رفيقه ليناديه:
-“أمير”، تعالى عاوزك شوية.
ترك شاب يبدو فتيًا، مفتول العضلات، وفاره الطول، من يُحادثهم ليسير معه متسائلًا بجديةٍ:
-في جديد مطلوب مننا؟
أخبره في خبثٍ بعدما تأكد من ابتعادهما عن البقية:
-طبعًا إنت عارف إن “عمر” مش هيسكت، وهيبقى عايز يثبت نفسه علينا في العملية دي، فاحنا عايزين نأمن على نفسنا كويس.
تساءل في تحيرٍ:
-بتفكر في إيه؟
أشار له ليسير معه نحو إحدى الحقائب السوداء، فتح السحاب، وأبرز حزامًا مدججًا بأصابع الديناميت، ابتسم في مكرٍ، واستطرد:
-استخدم ده!
نظر إليه مليًا قبل أن يعقب:
-ماشي كلامك.
أدار “أنس” رأسه نحو “بهاء”، وتابع في نشوة غريبة:
-هاتلي بقى البت اللي هناك دي نلبسهولها.
استغرب للغاية من اختياره لها دونًا عن غيرها، وأفصح عن رأيه بصراحةٍ:
-واشمعنى هي بالذات؟ ما تاخد أي شاب يقوم بالدور ده.
بتصميمٍ مريب علق:
-اسمع مني، ده اللي هيخليه يضايق أكتر، وما يعرفش يركز.
كان “أمير” غير مقتنع بحجته الواهية، وحذره:
-“أنس” بلاش حركاتك النص كُم دي معاه، إنت عارف إنه ما بيحبش الهزار في حاجات معينة، وخصوصًا لو فيها بنات.
كز على أسنانه مُبديًا احتجاجه عليه:
-ده تدريب، هو أنا هقــــتـــلها بجد!
تطلع إليه بنظرة مليئة بالشك، فأكمل:
-وبعدين أنا قاصد ألبخه لما أعمل كده.
ظل “أمير” على اعتراضه مرددًا:
-مش حابب كده.
لم يتركه لشأنه دون أن يدفعه للقبول بتنفيذ ما اقترحه عليه، فوسوس إليه كالشيطان:
-اسمع بس كلامي، وهتعرف إن معايا حق، ويا سيدي هاخد شاب كمان معاها، أهوو علشان بتوع المساواة يرتاحوا!
على مضضٍ اضطر أن يقبل، رغم توجسه من تبعات ذلك الاختيار المريب.
……………………………………
كلتاهما كانتا تثرثران في صوتٍ مهموس، بالكاد مسموعٍ لمن حولهما، خاصة بعد إخبارها خلسة بأن ما يجري مجرد محاكاة لعملية اختطافٍ وهمية قد تحدث في مكان ما على وجه الأرض، وجميع من تورط في الأمر مجرد فئران التجارب فيها. تساءلت “بسنت” في استنكارٍ مغتاظ:
-ولازمتها إيه نتلط في الحوار ده؟
ردت بهمسٍ، وعيناها تراقبان ما يجري بتمعنٍ:
-مش عارفة، بس أنا شكيت من أول ما شوفت عينين الراجل ده إنه الحيوان “أنس”!
ضغطت “بسنت” على شفتيها متمتمة بصوتٍ خافت منزعج:
-واطـــــي ويعملها.
في التو حذرتها “بهاء” حينما لمحت أحدهم يقترب نحو مجموعتهما المحاصرة:
-طب اسكتي لأحسن في حد جاي علينا.
تعلقت بناظريها به، فحلَّ التوتر على قسمات وجهها عندما رأته متجهًا صوبها، انفلتت منها شهقة غادرة عندما جذبها من ذراعها فجأة ليجبرها على النهوض معه، قاومته بأقصى طاقتها متسائلة في حدةٍ:
-إنت عاوز مني إيه؟
على غير طبيعتها، وفي شيء من التهور، أمسكت “بسنت” برفيقتها من ذراعها الآخر لتمنعه من أخذها قسرًا، وصرخت فيه:
-سيبها، شيل إيدك عنها.
تحرك “أمير” ناحيتها، وانتشل قبضتها من على ذراعها، ليدفعها بقدرٍ من الخشونة للخلف وهو يصيح بها:
-اتركني على جمب شوية.
لم يبدُ الأمر وكأنه مزحة سخيفة، كادت “بسنت” تنكفئ على وجهها من إثر الدفعة القوية، وراحت تصيح في تخوفٍ واضح عليها:
-“بهــــاء”! سيبها، إنت واخدها فين؟
جذبتها شابة أخرى من ذراعها لتستحثها على الانحناء، وتجنب الخطر، خاصة مع تدخل أحد أتباع “أنس” لإخضاعها، بينما ظلت “بهاء” تصرخ مستغيثة قبل أن تختفي عن الأنظار:
-الحقيني يا “بسنت”!
عجزت عن نجدتها، وظلت أسيرة من يفرضون عليها الحصار قسرًا وقهرًا.
………………………………………..
طغى حنقها على أي مظاهر للخوف، وما عزز من ذلك الإحساس الغاضب فيها هو لقائها بـ “أنس” الذي ما زال يرتدي قناعه، وكأنها لا تعرف هويته بعد، اغتاظت للغاية من تماديه في الدور، وتناسيه أن ما يدور مجرد تمثيلية وهمية لمحاكاة اختبار ما تم الاتفاق عليه في وقت سابق. أصغت إليه “بهاء” وهو يخاطبها بعجرفةٍ مستفزة:
-شوفي يا حلوة، إنتي ليكي معزة غالية أوي عندي، والصراحة أنا حابب أتوصى بيكي زيادة حبتين.
في نبرة مُطعمة بالاتهام سألته:
-هما قالولك تعمل كده في التدريب ده؟
احتدت نظرته تجاهها بعدما كشفت الأمر برمته، فاستأنفت بلا خوفٍ، وكأنها تُحقر من دوره:
-مش المفروض احنا بنمثل دور الرهينة أو الضحية، وإنت اللي خاطفنا؟ ولا أنا غلطانة!
لحظتها انتزع عنه قناعه ليظهر بوجهه المحتقن أمامها، وراح يخاطبها متصنعًا الابتسام بسخافةٍ:
-عاجبني فيكي إنك ذكية، وبتقري المواقف بسرعة.
رمقته بنظرة حادة، فتابع في انتشاءٍ أصابها بالتوترٍ:
-وعلشان كده هقوم معاكي بأحلى واجب…
نظرت إلى ما يحمل في يده، فاتسعت عيناها ذهولًا، وشعرت بتلاحق دقات قلبها عندما أخبرها بتشفٍ:
-هلبسك الحزام ده، وأظنك عارفة هو إيه بالظبط…
ما ضاعف من شعورها بالارتباك تأكيده الواثق:
-ده الحاجة الوحيدة اللي حقيقية هنا، والصراحة هو هيليق عليكي أوي.
لم تشك للحظة أنه يستخدم لعبة وهمية لمجرد بث الخوف في نفسها، والتلذذ برؤيتها تحت وطأة الرعب، خاصة أنه قام بإشعال فتيل أحد أصابع الديناميت لتجربته أمامها، فانتفضت في فزعٍ، وأبدت في التو استهجانها:
-واشمعنى أنا بالذات؟ ما تشوف حد غيري.
أطفأ فتيله قبل أن يصل إلى إصبع الديناميت، ورد عليها بغلظةٍ:
-احنا مش جايين نلعب هنا.
رأى “أمير” كيف احتدم الجدال بينهما، وتدخل هاتفًا في شيءٍ من التنبيه الجاد:
-“أنس”، ماتنساش كل حاجة متراقبة، ومتسجلة.
كلمه “أنس” في نبرة شبه مغلولة:
-والمفروض الأستاذة تعمل دورها صح، وده اللي أنا بتكلم فيه!
حاولت “بهاء” المناص منه قبل أن يجبرها على ارتداء ذلك الحزام المُمــــيت، فقامت بدفعه من صدره قبل أن تركض بعيدًا، ليتفاجأ بتصرفها، لم يتركها لحال سبيلها، ولحق بها، حيث قبض عليها من ذراعها، فأجبرها على الوقوف، ليديره بعدها بخشونةٍ خلف ظهرها، تألمت من قسوة مسكته، وصرخت في وجعٍ:
-آه، حرام عليك، إنت بتعمل فيا كده ليه؟
قصد الضغط أكثر على ذراعها ليؤلمها بشدة، ثم همس بالقرب من أذنها في نبرة مهددة:
-أحسنلك تعملي الدور بتاعك كويس، بدل ما يكون تقييمك زي الزفت.
صرخت بصوتٍ مختنق ينم عن بكاءٍ وشيك:
-آه، دراعي.
مجددًا تدخل “أمير” منذرًا رفيقه:
-بالراحة يا “أنس”.
في خشونة واضحة ألبسها الحزام النــــاسف جبرًا، وأدار زر التشغيل بالمفجر الموصول به، ليدفعها نحو “أمير” قائلًا:
-حطها عند حتة قريبة من المدخل، وفجَّـــــــر الحزام عند اللزوم.
نظرت إليه بعينين تشعان غضبًا جمًا، وعنفته:
-إنت مش طبيعي.
جذبها “أمير” من ذراعها لتسير معه بعيدًا عن “أنس”، فكانت تلعن رفيقه بغيظٍ، فهمس لها:
-اهدي مافيش حاجة خطيرة، ده تدريب، وشوية وكل حاجة هتخلص.
أدارت رأسها لتنظر إليه بحقدٍ ممزوجٍ بالغضب، وأردفت في صوتٍ لائم:
-تدريب إيه اللي يكون بالشكل ده؟
لم يعلق بشيء، واصطحبها إلى البقعة المواجهة لمدخل الكافيتريا، لتبدو في الصدارة عند حدوث الاقتحـــام من الجانب الآخر.
……………………………………….
في واقع الأمر، كره “عمــر” ما يجري من شد وجذب بين الاثنين، وخصوصًا أنه يدرك دوافع “أنس” الخفية لإغاظته، فبدا وكأنه يقف على جمرٍ متقد، ينتظر بفارغ الصبر اللحظة التي يتحرك فيها للقيام بمهمته لتحرير الرهائن.
بعد إعطاء إشارة التنفيذ، تحرك مع مجموعته بحذرٍ تام تجاه الكافيتريا، وفي نفس الآن كانت تجري المفاوضات الوهمية مع الخاطفين للمماطلة معهم، ريثما ينجح في الوصول إلى نقاط اختراق صفوفهم.
قام “عمر” بتوزيع رجــاله مستخدمًا يده ليشير إليهم، فانتشروا في أماكن بعينها، وبلا صوتٍ تقريبًا، ليبادر أحدهم بإلقاء عبوة دخان، في التو ملأت المكان بسحبٍ ضبابية جعلت الرؤية مشوشة، وتبعه آخر من زاوية أخرى، لتزيد من كثافة الدخان المموه.
بضعة ثوانٍ وســاد الهرج، ثم سُمع دوي إطلاق طلقات صوتٍ مخيفة، جعلت الجميع يصرخ في هلعٍ، لتلج بعدها فرقة الاقتحــــام لتشتبك مع المعــــتـــدين باستخدام طلــــقــــاتٍ معينة ذات نبضاتٍ كهربية تشل حركة الجسد البشري مؤقتًا فور أن تصيبه، للإيحاء بأن الشخص قد فقد حياته –مجازًا- أثناء عملية التحرير، ليتم بعدها حسم النتائج النهائية بشكلٍ يميل للدقة والواقعية.
استطاع “عمر” أن يحدد موقع “بهاء” فور أن تجاوز مدخل الكافيتريا .. في الحال تأهب، واتخذ وضعية الهجوم مُشهرًا سلاحه للأعلى في مواجهة “أنس” عندما وجده يطوقها من عنقها بذراعٍ، وباليد الأخرى وضع سلاحه النـــاري على جبهتها، لتصير مهددة أكثر، وكأنه ينتظر قدومه ليتحداه. تريث في حركته حينما أثبت له نواياه بتهديده:
-لو حد قرب هفجر المكان باللي فيه، هي لابسة حــــــزام ناسف!
دون أن يخفض فوهة سلاحه خاطبه “عمر” بثباتٍ:
-سلم نفسك، اللي بتعمله مش هيجيب نتيجة.
رد عليه بتحدٍ، رغم رنة الغيظ الظاهرة في نبرته:
-مش أنا اللي أخسر بسهولة…
انخفضت نبرته إلى حد ما عندما أتم جملته:
-حتى لو كان تدريب.
قبل أن يضغط على زر المُفــــجــــر الذي بحوزته، قررت “بهاء” التصرف حسبما كانت ترى في أفلام الإثارة والحركة، حيث تقوم البطلة الأسيرة باستخدام رأسها كوسيلة لتشتيت تركيز العدو، لهذا ودون أن تفكر مرتين، خاضت التجربة، وأرجعت رأسها للخلف لتصطدم بفك “أنس” في قوةٍ مباغتة قاصدة لكمه. تفاجأ بما فعلت، وترنح للوراء ناعتًا إياها بحقدٍ:
-يا بنت الـ (…)!
اللحظة التي غفل فيها عنها كانت كفيلة بمنح “عمر” فرصة لا تعوض لاصطياده، فنـــال منه في الحال، ومن المرة الأولى، حيث أصابه في منتصف جبهته، ليُطرح أرضًا وكامل جسده ينتفض من أثر الطلقة الجانبي، ليندفع بعدها تجاه “بهاء” مادحًا صنيعها وهو مبتسم في سعادة:
-برافو عليكي! متوقعتهاش منك.
صرخت في وجهه وهي شبه ترتجف:
-فِك البتاع ده عني.
أومأ برأسه مرددًا:
-حاضر.
خفض سلاحه، وراح يفك ذلك الحزام عنها، لتتحرر تمامًا من الخطر، وإن كان وهميًا، استدارت برأسها نحو رفيقتها التي نادتها وهي شبه تهرول:
-“بهــاء”، إنتي كويسة؟
جذبتها إلى أحضانها لتضمها بشدةٍ، ثم قالت ممازحة لتهون من وطأة الضغوطات التي مرت كلتاهما بها:
-أيوه، لسه ما تحولتش لأشــــــلاء.
أبعدتها عنها لتنظر إليها في فخرٍ قبل أن تضيف:
-الحمد لله، مش مكتوبالي المرادي.
وكأن قدرتها على الصمود قد تلاشت فجــأة، حيث تراخى جسد “بسنت” تمامًا، وراحت تهلوس في صوتٍ واهن:
-أنا خلاص جبت أخري.
حاولت “بهاء” الإمساك بها قبل أن تسقط أرضًا وهي تصرخ باسمها في قلقٍ كبير:
-“بسنت” ……………………………………. !!
…………………………………………
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية ضبط و احضار) اسم الرواية