رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الفصل السابع 7 - بقلم مريم غريب
الفصل السابع _ ما يجذبني إليك _ :
أنهى ما تبقّى من فنجان قهوته الداكنة في جرعةً واحدة.. قبل أن ينهض عن مكتبه أخيرًا ليلحق بمدراء أقسام شركته بغرفة الاجتماعات.. إلا إن الدخول المفاجئ لابن عمه جعله يرتد إلى مقعده ثانيةً ..
ركضت سكرتيرته الخاصة وراء “صالح البحيري” تحاول منعه من اقتحام المكتب و هي تقول له :
-يا صالح بيه قلت لك هاديله خبر !
لكن فات الأوان ..
لقد صار أمام “عثمان” بالفعل ..
ترفع السكرتيرة يديها في استجداءٍ حتى يعرف رئيسها بأنها حاولت منع الأخير من الدخول هكذا ..
يومئ “عثمان” برأسه مخاطبًا سكرتيرته :
-أوكي يا رشا.. ممكن تستني برا 5 دقايق
اتأكدي إن أفراد الـBoard كلهم في الـMeeting Room
أنا مش هتأخر.
أطاعته “رشا” على الفور و أنسحبت في صمت ..
ابتسم “عثمان” ببساطة و هو يتطلّع إلى ابن عمه.. لقد مضى وقت طويل منذ رآه أخر مرة.. ربما عام و بضعة أشهر.. مع ذلك لم يطرأ عليه تغييرٌ كبير.. باستثناء قصّة شعره الخفيفة التي أعطته مظهرًا أكثر نضجًا من المعتاد …
-أهلًا يا صالح ! .. رحّب “عثمان” به :
-أخيرًا جيت يا راجل.. ده أنا كنت مفكرك نسيتنا
هي القاهرة بتنسّي الأهل كمان ؟
لا يرد “صالح” على مباردة ابن عمه المعاتبة.. ينظر إليه عابسًا و هو يقول بحدة واضحة :
-أنا سايب شغلي كله.. وقفت حياتي كلها بالمعنى الحرفي يا عثمان و سمعت كلامك
و أديني هنا أهو واقف قصادك.. فين صفيّة بقى ؟
لو روحت القصر دلوقتي هالاقيها ؟؟
يشير “عثمان” بيده نحو أحد المقعدين أمامه و هو يتحدّث إليه بهدوء :
-طيب أقعد يا صالح.. واقف ليه ؟
أقعد و إديني فرصة أتكلم معاك.
على مضض شديد.. أذعن “صالح” لطلب “عثمان” و جلس قبالته زامًا فمه ..
لم يمهله الوقت الكافي لبدء حديثه.. ليباغته على الفور باقتضابٍ :
-فهمني إيه إللي بيحصل.. عشان انت لو ماعندكش شك في ذكائي
هاتفهم إن تصرفات أختك دي مافيش راجل يقبلها على نفسه
و لو انت حقّاني مش هاتقول غير كده !!
تنهد “عثمان” بصبر قائلًا :
-ممكن تهدا شوية ؟
اهدا و اسمعني.. لو سمحت ماتقاطعنيش
أنا مستحيل أسمعك و انت بتتكلم بالأسلوب ده !
يضغط “صالح” شفتيه بقوة مجبرًا نفسه على الانصياع ..
ليسحب “عثمان” نفسًا عميقًا.. و يمد جسده للأمام قليلًا و هو يقول بصوته الهادئ :
-بص يا صالح.. أنا طبعًا معاك إن أختي غلطت.. في حاجة واحدة بس
و هي إنها سافرت منغير ما تاخد موافقتك.. بس آخر معلوماتي منها شخصيًا إن أساسًا علاقتكوا بقت متوترة جدًا في الفترة الأخيرة.. أنا ماعرفش تفاصيل و مش مهتم أعرف
طالما أختي ماجتش بارادتها و طلبت مني أتدخل يبقى عمري ما هاتحشر بينكوا.. العقل هنا بيقول.. ما دامت صافي مصممة فجأة إنها عايزة تسيبك.. و دي في نظري مشكلة كبيرة جدًا لو هاحط نفسي مكانك.. هاتفرّغ تمامًا عشان أحلّها.. لأن عيلتي دايمًا بتيجي في المقام الأول.. انت جاي عصبي و غضبان عشان سيبت شغلك و ده حقك
لكن من حق صافي كمان إنها تعترض على أسلوب أو سلوك فيك مش مريحها
و لأني عارفك كويس و فاهم طبعك العنيد.. مش قادر ألومها أوي.. و حط في اعتبارك إني لسا ماعرفش أسبابها ..
أثار حديث “عثمان” حفيظة “صالح” كليًا.. ليصيح باستهجانٍ :
-انت بتبرر لها إيه ؟ أنا مش فاهمك بجد
دي سافرت من ورايا.. و فوق كده بمنتهى البرود باعتالي مسدج و بتطلب الطلاق
انت سامعني ؟؟؟
صفية عايزاني أطلقها !!!
يستعين “عثمان” بكل قوته حتى يبقى هادئًا في مواجهة ابن عمه.. يشبّك أصابع يديه فوق سطح المكتب معًا و هو يرد عليه بذات الهدوء :
-أنا عاذرك و الله.. و ماقولتش إنها ماغلطتش.. بس غلطها هايفضل نسبي بالنسبة لي
أنا لسا ماعرفش دوافعها زي ما قلت لك يا صالح ..
تخبّط “صالح” بمكانه و هو يزمجر بعصبية متزايدة :
-انت بتنصرها عليا و انت بتعترف انها غلطانة !!!!
هز “عثمان” كتفه بحركة خفيفة و قال :
-دي أختي يا صالح أكيد هانصرها عليك
ماتتخيّلش لحظة إني ممكن أجي عليها لأي سبب.. لو حصل و اضطريت أخد صف حد فيكوا أكيد هاكون في صفها هي.. و هاتلاقيني أنا إللي في وشك أصلًا.
ارتفع حاجبيّ “صالح” باستنكارٍ و عجز عن الرد لوهلةٍ.. إلا إن “عثمان” لم يسمح له بالتحدث أكثر.. فقاطعه قبل أن يفتح فاهه قائلًا بسأم :
-بقولك إيه يا صالح.. الكلام ده سابق لأوانه.. و بعدين انت عارف إن صافي سافرت مع فريال هانم.. انت عارف إن امي تعبانة نفسيًا و محتاجة كلنا ندعمها و ناخد بالنا منها
صافي ماسافرتش تتفسح.. و لو انت ذكي كفاية هاتعرف إنها ماطلبتش الطلاق غير بعد المشكلة إللي حصلت في البيت.. فكر كده هاتفهم ببساطة إنها هي كمان جايز جدًا تكون حالتها النفسية مش مظبوطة.. ماتبقاش اندفاعي.. و الأهم
ماتبقاش أناني و مابتفكرش غير في نفسك !!
يصمت “عثمان” عند هذا الحد محدقًا بغضب إلى ابن عمه ..
بينما يزداد الأخير إجفالًا.. لا ينكر أن كلمات “عثمان” هزّته حتى النخاع.. لدرجة أنها تركته معقود اللسان تمامًا ..
زفر “عثمان” بنفاذ صبر و هو يلقي نظرة إلى ساعة معصمه قائلًا بصوتٍ أجش :
-انا اتأخرت على الـMeeting.. و أصلًا ده مش مكان نناقش فيه داخلياتنا ..
ثم هب واقفًا و هو يجمع أدواته و أوراقه الهامّة بحقيبته الخاصّة مستطردًا :
-امشي يا صالح.. روح على القصر و شوف بنتك
أكيد وحشتك زي ما انت واحشها.. و اشوفك الليلة دي على العشا ان شاء الله
و أهي فرصة تقابل شمس.
عقد “صالح” حاجبيه متسائلًا :
-شمس مين ؟
هتف “عثمان” مجاوبًا إيّاه و هو يمر من جواره إلى الخارج :
-شمس يحيى البحيري.. بنت عمك !
هكذا تركه “عثمان” على صدمة أعتى من سابقيها و ولّى إلى عمله غير مباليًا …
**
مرّ أربعة و عشرين ساعة منذ أن خرج “نبيل الألفي” من بيت أبيها مطرودًا من قِبلها ..
و ها هو بكل صفاقة و تبّجح يتصل بها و كأنه لم يسمعها جيدًا عندما أخبرته بألا يحاول الاقتراب منها.. و إنها لن تتوانى عن التصدّي له بنفسها مستغنية عن حماية أبيها أو حتى أخيها ..
إلا إنه لم يفهم كما ترى ..
لم تخاله قد بهذه الوقاحة.. رغم إنها هي التي منحته عن نفسها تلك الصورة الوضيعة.. هي و من أجل أن توضح له حقيقتها حتى لا يجرؤ على المساس بها.. حتى ترى بعينيه النفور منها فلا يعد يرغب بالتحدث إليها أو حتى رؤيتها ..
لم يحدث ما أرادت.. بل العكس تمامًا.. حين فاجأها بطلبه.. بل عرضه بتقديم خدماتٍ خاصّة بالفراش.. إن هي وافقت على إقامة علاقة سريّة معه بدلًا من الذهاب إلى الغرباء.. كانت وجهة نظره أنه هو الأولى بها ..
النذل.. الحقير ..
كزّت “مايا” على أسنانها و هي تلتقط هاتفها من فوق طاولة صغيرة بزاوية جانبية هنا.. بصالة “الجيم” المترفة.. جففت جبينها المتعرّق بمنشفة صغيرة و علّقتها على كتفها العاري.. ثم فتحت الخط و ردت بنزقٍ :
-أنا ماشوفتش في برودك و لا بجاحتك بصراحة
هو أنا مش طردتك من بيت أبويا امبارح يا بني آدم انت ؟
انت إيه ؟ ماعندكش دم
ماعندكش كـرااامة ؟؟؟
جاء صوت “نبيل” هادئًا رصينًا بطريقة من شأنها أن تفقدها عقلها :
-مايا.. أعتقد دي مش طريقة مهذبة تكلميني بيها
حبيبتي احنا لازم نبني علاقتنا على الاحترام المتبادل
ده بغض النظر طبعًا عن إن العلاقة اللي هاتربط بينّا هاتكون من جوا بعيدة تمامًا عن أي احترام !
كان بإمكانها سماع نبرة الخبث في كلماته الأخيرة ..
ما أجج نيران غضبها أكثر و هي ترد عليه بخشونة :
-ده في أحلامك.. انت لو أخر راجل على الأرض كلها
مش هاطّول مني شعرة يا إللي اسمك نبيل الألفي !!
-ده رهان ممكن أخده عليكي لما نوصل لمرحلة معيّنة في علاقتنا.. و صدقيني ده قريب أوي
انتي عجبتيني يا مايا و دخلتي دماغي.. و أنا مش هاسيبك.
-خليك عايش في الأوهام.. أنا مش بطيقك و من أول يوم.
-مش مهم تطيقيني.. احنا الاتنين هانعمل علاقة ليها أهداف محددة
علاقة محصورة في سرير يا مايا.. تحبي أوضح أكتر ؟
أعتقد ده إللي كنتي بتسعي وراه مش صح ؟
تبًا له ..
إنه حقًا لا ينطق بكلمة لا تهدف إلا لإثارة غضبها.. لعله محقًا.. و لعلها مريضة إلى هذا الحد لتسعى وراء غرائز حيوانية بحتة ..
لكنها عندما تفكر بمشاركة هذا الجانب الفاسق منها معه.. لا تقبله.. لا تقبله أبدًا و لا تعرف سببًا مقنعًا لذلك ..
لأن “نبيل الألفي” رجل لا يُقاوم.. رجل تتمناه أجمل النساء و أرفعهن مقامًا و ثراءً.. إنه حتى من ذلك النوع الذي ترضى أيّ امرأة بإقامة علاقة عابرة معه لأن كل شيء به غير قابل للتقيّيم ..
إنه مثالي.. وسيم.. جذّاب.. راجح العقل.. و ذو شخصية فريدة ..
لماذا تمتنع في حين أنه يجمع بين كل هذه الصفات ؟
اغراء التفكير دفعها للحظة أن تتخيّل نفسها بين أحضانه.. أن تتخيّل علاقة خاصّة معه ..
أقشعرّت و ارتعدت بعنفٍ من حسيّة الشعور.. مغري.. خطير.. معذّب …
-مش هايحصل ! .. هسّت “مايا” تحت أنفاسها الثقيلة
سمعته يضحك بطريقة مؤذية لمشاعرها الهشّة في الحقيقة.. ثم يقول :
-صدقيني يا مايا.. هايحصل
القصة محتاجة مقابلة كمان بيني و بينك و هاقنعك.. لكن عمومًا أنا مش بتصل دلوقتي عشان أكلمك في الموضوع ده.. الموضوع ده بالذات ماينفعش نناقشه على التلفيون.
استشاطت غيظًا منه و سألته من بين أسنانها :
-إنجز.. عايز مني إيه ؟؟
تريّث للحظة.. قبل أن يخبرها بهدوء :
-مبروك.. ورقة طلاقك وصلت
أنا ماسكها في إيدي في اللحظة إللي بكلّمك فيها دلوقتي.. تحبي أبعتها لك مع حسين ؟
و لا أخليها معايا لحد ما أشوفك ؟
لم تعد قادرة على تحمل الضغط الذي يمارسه عليها أكثر.. و أخر ما كانت بحاجة إلى سماعه سخريته منها.. أو أيّ خبر يشير إلى زواجها المخزي و طلاقها الذي لا يقل عنه خزيًا ..
لا شعوريًا وجدت نفسها تغلق الخط بوجهه.. ثم تعبث بهاتفها حتى وضعت رقمه على قائمة الحظر ..
أفلتت منها صرخة منفعلة و هي تضرب الأرض بقدمها كالأطفال ..
و لم تحسب بنفس اللحظة إنها كانت محطّ نظرات رواد الصالة الرياضية قاطبةً.. كانت صرختها البائسة و اليائسة وحدها كفيلة بتوقيفهم لثوانٍ عمّا يفعلون !
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية كرسي لا يتسع لسلطانك) اسم الرواية