رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الفصل الثامن 8 - بقلم مريم غريب
الفصل الثامن _ لا تحلمي به _ :
ترك بقيّة دموعه تسيل بلا أدنى تحفظٍ أمام شريكه الأصغر سنًا ..
بعد أن أبقاه على اطلاع تام بما دار بينه و بين ابنته خلال المكالمة الهاتفية.. ما إن تأكد “نبيل” من إغلاق الخط.. سحب “حسين عزام” محرمًا ورقيًا و كفكف دموعه عن وجنتاه الهرِمتان ..
إلتزم “نبيل” الصمت مانحًا إيّاه دقيقة ليستجمع نفسه من جديد.. ثم قال بهدوء واضعًا هاتفه فوق سطح المكتب الزجاجي :
-أنا آسف يا حسين.. آسف إني اضطريتك تسمع المكالمة دي
بس كان لازم أعمل كده عشان تتأكد من كل كلمة قولتهالك.. عشان تصدق إللي مايا قالته بلسانها لما كنت معاها في بيتك.
هز “حسين” رأسه قائلًا بصوتٍ متحشرج :
-أنا مصدقك يا نبيل.. و منغير ما أسمع أي حاجة
ثقتي فيكي كبيرة أوي.
رمقه “نبيل” بنظرات مشفقة.. تؤذيه رؤية الرجل الذي أنقذ حياته من الضياع في وقتٍ ما يبدو مكسورًا إلى هذا الحد.. و بسبب أقرب الناس إليه ..
بسبب ابنته ..
لم يتحمل “نبيل” الصمت أكثر و قال بجمود :
-طيب أنا مش هاقعد اتفرج عليك كده يا حسين.. إيه مالك ؟
انت طول عمرك راجل قوي.. هاتخلّي أزمة زي دي تكسرك ؟
أنا معاك إنها مشكلة حساسة.. بس بفكرك.. بنتك كانت متجوزة على سنة الله و رسوله
ماعملتش حاجة غلط.
تطلّع “حسين” إليه بنظرة ملؤها الإذلال و هو يقول :
-بنتي حطت رجليها على أول الطريق يا نبيل.. انت مافهمتش كلامها ؟
الجواز الرسمي إللي بتصبرني بيه ده مجرد شكليات.. و من بعده مايا هاتدوس في السكة الشمال دي و محدش هايقدر يوقفها.
قطب “نبيل”.. اخشوشن صوته و هو يباغته بنزعةٍ غاضبة :
-يعني إيه محدش هايقدر يوقفها ؟
انت أبوها.. انت ليك سلطة كاملة عليها !!
أطلّ العجز من عينيّ “حسين عزام” لأول مرة بحياته و هو يقرّ بخزي مرير :
-أنا فقدت السلطة دي من زمان أوي يا نبيل.. من يوم ما صحيت فجأة مش طايق مراتي و ولادي
ماكنتش طايقهم بجد.. و حسيت إني كارههم.. تخيّل ؟
أب بيكره ولاده.. ماكنتش لاقي مبرر و لا تفسير لإحساسي.. و كنت مخنوق لدرجة إني ماترددتش و أنا بحضر شنطة السفر و بتحجج بالشغل عشان أسيبهم و أسيب البلد كلها و أجي هنا هربان
أنا اتخلّيت عنهم يا نبيل.. جايز مراتي تستاهل إللي عملته و أكتر.. لكن ولادي
سيف ابني الكبير كان لسا في المدرسة.. و مايا كانت يدوب بدأت تتعلّم الكلام.. و مالك.. كان لسا حتة لحمة حمرا
أنا رميت ولادي.. أنا بغيابي عنهم.. بجهلي عن حقيقة إن ليهم أم زي راجية.. اتسببت في ضياع التلاتة.. سيف أول واحد فيهم ضاع.. لما بدأت أتقرّب منهم و أرجع بلدي
مالحقتهوش.. مات.. مات منغير ما أعرفه و لا يعرفني زي أي أب و ابنه
أنا السبب في موت ابني يا نبيل.. و أنا بردو السبب في إن مالك يتسجن
و الأكيد إني بردو السبب في سوء أخلاق بنتي.. صدقني و أنا على استعداد أقسم لك.. لو مايا عملت أكتر من كده.. لو وصلت للقاع.. أنا عمري ما هاجرؤ.. إني ألومها
فات الأوان يا نبيل.. فات الأوان !
اعترافات “حسين” التي مرّت على أذنيّ “نبيل” للتو كانت بمثابة صدمة له ..
بغض الطرف عن إنها ليست المرة الأولى التي ينفتح “حسين” بالحديث الشخصي أمامه إلى هذه الدرجة.. لكن المعلومات الجديدة.. إنها حساسة للغاية.. حتى إن أثرها ينعكس الآن على الرجل الذي قارب السبعين من عمره ..
أنفاسه ثقيلة و كأنه يكافح من أجل التنفس.. عيناه تغلّفها طبقة سميكة من الدموع.. إنه لا يرى الحسرة فقط في ملامحه.. بل عذابًا يفوق احتماله ..
يمسك “نبيل” نفسه عن إطلاق غضبه.. لأن الغضب لن يفيد صديقه الآن.. بل العكس تمامًا.. ربما يسوء وضعه و يتفاقم.. ربما ينتكس مجددًا و تعاوده ذات الأزمة الصحيّة التي كادت تقتله منذ خمسة أعوام.. تحديدًا بعد مكالمة هاتفية أجراها مع أرملة ابنه البِكر ..
المرأة تزوجت من ابن خالتها و انتقلت معه هي و ابنتها للعيش بإحدى المدن الأوروبية.. لم يمانع “حسين” انتقالها بحفيدته.. و لم يفكر و لو لمرة بالتنازع معها لكي يحصل على “لمى”.. الذكرى الوحيدة التي تبقّت من “سيف” ..
لكن يبدو أن أمها.. “إيمان” لم تنسى بعد ما جرى لها على أيدي كلًا من ولديه.. “سيف” و “مالك”.. حتى “راجية” نفسها ..
لقد حصل على رقم هاتفها.. تحدث إليها بمنتهى الود و الرفق.. أعرب ببساطةٍ عن رغبته بالتواصل مع حفيدته.. و بشوقه الكبير لرؤيتها و قضاء العطلة برفقتها ..
لكنه بوغت في الحال بثورة اندلعت من فاه “إيمان”.. كانت تصرخ فعليًا على الطرف الآخر و هي تبلغه بقسوة بأن صغيرتها لم تعد تنتمي إليه.. لم تعد فردًا من أسرته اللعينة.. و إنه مهما فعل لن يتمكن من أخذها أو حتى رؤيتها لأنها و بدعم من زوجها الثري واسع النفوذ لن تدّخر جهدًا من أيّ نوع لتوفي بوعدها هذا ..
كسرت “إيمان” قلبه حين اختتمت المكالمة جاعلة ابنتها تعلن قرب الهاتف و بصوتٍ واضح بأنها لا تريد أيّ صلة تربطها أو تذكرها بعائلة أبيها.. لا تريدهم في حياتها أبدًا ..
لا يزال “نبيل” يذكر ذلك اليوم.. عندما هرعت إليه سكرتيرة “حسين” تبلغه بتدهور حالة رئيسها المفاجئ.. ركض “نبيل” إليه على الفور.. و قد بدا كأنه في النزع الأخير حرفيًا ..
لم يشعر بنفسه إلا حاملًا إيّاه بمعاونة بعض الموظفون و أفراد الأمن.. نقله إلى المشفى بسرعة حيث تلقّى العناية الطبيّة الفائقة بشكلٍ فوري.. لم يكن هناك سواه.. كان “نبيل” فقط كل من يملك “حسين عزام” في هذا الوقت الذي أضحى فيه عاجزًا.. أكثر عرضةً للكسر و المرض ..
و هو لا يمانع أبدًا أن يكون له الابن الذي فقده.. الابن الكبير الذي سيحمل عنه كل الصعاب و المشقّة.. أجل.. هذا أقل ما يدين به “نبيل” لهذا الرجل.. بل الأقل …
-مافيش حل غير إنك تسمحلي أكمل إللي بدأته معاها يا حسين !
نظر “حسين” إليه بتعبيرٍ مشوّش و سأله :
-تقصد إيه ؟
احتفظ “نبيل” بوجهٍ جاد إزاء شريكه و هو يقول :
-أقصد إني هاقلب اللعبة و هاخلّيها بجد.. أنا بطلب منك إيد مايا
جوزهالي.. و أنا بوعدك بمجرد ما تبقى مراتي مش هاتشيل همها.. أنا هاتكفّل بيها.
يظن “نبيل” أن كلماته أربكت “حسين”.. بل زعزعت ثباته و هو يردد مشدوهًا :
-نبيل.. انت بتتكلم جد ؟
انت حقيقي عايز تتجوز بنتي ؟
حتى بعد إللي عرفته عنها !؟؟
أومأ “نبيل” قائلًا بحزم :
-أيوة يا حسين عايز أتجوزها.. لو موافق و عندك ثقة فيا هابدأ خطتي معاها من بكرة.
أظهر “حسين” قبوله في الحال و هو يقول بتلهّف :
-أنا موافق.. طبعًا موافق يا نبيل.. قلت لك ثقتي فيك مالهاش حدود
و بعدين ده أكتر من إللي بحلم بيه لبنتي.. إنها تتجوز راجل زيك.. و انت تحديدًا.. أنا واثق و متأكد إنك هاتصونها و هاتحافظ عليها و الهم هاتحميها من نفسها !
و أكمل لمجرد الفضول :
-بس قولّي.. خطة إيه إللي بتفكر فيها ؟
يتقلّص فك “نبيل”.. لكن دون ذلك تبقى ملامحه بلا تعبير و هو يقول بغموض :
-أنا عايزك تطمن
كفاية بس تكون على علم بجوازنا و مفوّضني في كل التصرفات معاها
أنا مش طالب منك أكتر من كده !!
**
يُصدر هاتفها نغمة ورود رسالة جديدة أثناء جلوسها بالمقعد الخلفي لسيارة زوجها الخاصّة ..
كان قد بعث لها بالسائق ليحضرها إليه بمقر عمله.. و ها هي هنا بالفعل منذ عشرة دقائق تقريبًا.. ما إن وصلت حتى بعثت له برسالة ..
و الآن هو يرد عليها أخيرًا ..
فتحت “سمر” هاتفها على المحادثة بينهما و حدقّت في نصه …
عثمان : إنزلي من العربية يا بيبي و ادخلي مبنى الشركة هاقبلك في اللوبي بعد خمس دقايق بالظبط و هانخرج سوا.
تنهدت “سمر” بشيء من التوتر.. لكنها لم تجد بدًا من الامتثال لطلبه.. أعادت الهاتف إلى حقيبة يدها الصغيرة.. ثم همّت بالخروج من السيارة ..
إلا إنها و قبل أن تمد يدها للمقبض.. وجدت السائق الشاب و قد ظهر فجأة بالجوار فاتحًا لها باب السيارة ..
مررت “سمر” إليه ابتسامةٍ عذبة تشكره.. ثم ترجلت من السيارة و انتصبت واقفة بمكانها للحظاتٍ.. ترمق الصرح التجاري بانهبارٍ غير مستوعبة بأن كل هذا يعود لرجل يفترض أنه زوجها ..
هذا الرجل الذي يمتلك كل شيء حرفيًا.. الثراء.. السلطة و النفوذ.. و الوسامة الخشنة التي تخوّله الاستحواذ على قلوب أجمل النساء و الفتيات أيضًا إن أراد ..
لكنه لا يريد سواها هي.. و هذا ما أوضحه أكثر من مرة.. لماذا هي ؟
السؤال الذي لم تجد له إجابة مقنعة.. إذ إنها أقل منه بكل شيء.. المستوى المادي.. و التعليمي.. و الفرق الطبقي ..
كيف أحبّها ؟.. ما المميز الذي جذبه إليها ؟.. لماذا هي ؟
لماذا ؟
بلغت “سمر” بوابة الشركة التي فتحت إلكترونيًا ما إن اقتربت منها.. استقبلها فرديّ الأمن بابتسامة و تحيّات حارّة أكدت لها بأنها معروفة هنا.. و إن هذه لم تكن زيارتها الأولى لمقر عمل زوجها ..
كانت متوترة بما يكفي من نظرات الجميع إليها.. رغم إنها لم تكن ملفتة بثيابها.. فقد حرصت على ارتداء شيء بسيط لا يوحي لزوجها بأي أمل أو حتى رضا عمّا حدث بينهما ليلة الأمس ..
هذا الثوب السماوي الفضفاض الذي إنساب بنعومةٍ حول قوامها الرشيق.. يتوّسطه حزام ذهبي رفيع حدد قطر خصرها الدقيق.. و الحجاب الأبيض الصغير حول وجهها الخالي من مساحيق التجميل.. كانت تعرف حقيقة إنها جميلة ..
ملامحها الطفولية و خضرة عينيها التي ورثتها هي و أخويها عن أمهم.. كلها مزايا تذكر جيدًا كم كانت محط أنظار الرجال بسببها.. و حتى غيّرة و حسد النساء.. كانت “سمر” أجمل فتاة مرّت على الحيّ الشعبي الذي ترعرعت به.. كانت مطمع ..
لذلك هي في شوق و فضول شديدين لمعرفة كيف ربطتها تلك العلاقة غير الأخلاقية مع زوجها في البادئ.. و كيف استسلمت له ..
كيف مكّنته من نفسها !؟؟؟
-اتفضلي يافندم.. تحبي أساعدك في حاجة ؟
إلتفتت “سمر” نحو الصوت.. كان شابًا ربما جاوز الثلاثين بعام أو عامين.. على قدر من الجاذبية.. بدا كأنه يعمل هنا بالشركة ..
تطلّعت “سمر” إليه مقطبة و هي تقول بلهجةٍ رسمية :
-شكرًا.. أنا مستنية حد هنا.
كادت تستدير عنه لتجلس بصالون القاعة المفتوحة.. لكنه استوقفها معترضًا طريقها و هو يقول :
-لو حضرتك تقوليلي بس محتاجة إيه.. على فكرة أنا أقدر أساعدك بجد
جرّبيني !
تأكدت “سمر” من حدسها المبدئي بأن هذا الشاب لعوب.. ظهر على هيئته و أسلوبه العابث ..
عقدت “سمر” حاجبيها مرددة بلهجةٍ غاضبة :
-ما قلت لك شكرًا.. انت مابتفهمش ؟؟
رفع الشاب حاجبه شاملًا إيّاها بنظرةٍ وقحة و هو يقول :
-أنا لو مش بفهم ماكنتش جيت أول ما شوفتك داخلة من بابا الشركة و وقفت أتكلم معاكي و أحاول أطوّل على أد ما أقدر.. اسمحيلي أقولك.. انتي حلوة أوي
مش بس حلوة.. انتي جذابة جدًا حتى و انتي لابسة هدوم مش مبيّنة من جسمك شِبر
ممكن أخد رقمك ؟
جرأته أثارت غضبها بشدة.. و كادت ترد عليه ردًا عنيفًا.. لو أن سمعت الصوت المميّز جدًا.. ينبعث من ورائها مباشرةً.. هادئًا.. خطير :
-انت قبل ما تعاكس مراتي .. سألت مين جوزها ؟
**
كان مزاجها طيبٌ.. على عكس ما توقّعت “شمس”.. لا زالت لا تصدق بأنها ترى أمها في هذه اللحظة أمامها ..
لقد فاجأتها اليوم عندما اتصلت بها و أبلغتها بوصولها.. بل وقوفها أمام قصر “البحيري”.. تشكر الله بأن أخيها لم يكن موجودًا.. و إلا كانت مشكلة كبيرة لتحدث لو أنه صادف ضرّة أمه ..
لم تفكر “شمس” مرتين و هي تلحق بها عند البوابة.. و بدون مقدمات طلبت منها الذهاب إلى مطعم شهير كانتا من رواده خلال المرات القليلة التي زارتا فيها الإسكندرية بعد الهجرة إلى “لندن” ..
تجلسا قبالة بعضهما بركنٍ منزوٍ بالمطعم ذو الوجهات الزجاحية.. و لا تستطيع “شمس” رغم كل شيء أن تشيح بناظريها عن أمها.. لا يمكنها إنكار شوقها إليها.. إنها لم تغيب طويلًا على أيّة حال.. لكنها لم تفارقها منذ ولادتها.. لذلك حتى لو غابت عنها ليومٍ واحد فهي تشعر بخواء و حنين كبيرين ..
أمها الفاتنة.. الجميلة.. لا زالت يانعة مثل زهرة ربيعية.. و لكنها ازدادت نضجًا.. و لعلها فقدت عفويتها بفقدان أبيها.. “يحيى البحيري” رغم كل مساوئه إلا إنه كان الداعم الوحيد.. و مصدر القوة التي اكتسبتها “رحمة” على مر السنين.. حتى و هو يستنزفها من جهةٍ أخرى.. كانت و مازالت بفضله عالية المقام.. لا تُمس …
-وحشتيني يا مامي !
ترفع “رحمة” عينيها الناعستين بالفطرة نحو ابنتها.. في نفس الوقت تستلّ أخيرًا علبة بلاتينية صغيرة من حقيبتها.. تفتحها و تسحب منها سيجارة رفيعة بنكهة “البطيخ”.. تدسها بين شفاهها المكتنزة.. ثم تشعلها بوّلاعةٍ ذهبية تذكر إنها قدمت إليها كهدية من إحدى صديقاتها العربيات بالحيّ الإنجليزي الراقي ..
سحبت “رحمة” نفسًا عميقًا من سيجارتها و نفثته لأعلى دون أن تشيح ببصرها عن صغيرتها.. بينما تعبس “شمس” قائلة بعتاب :
-مامي.. انتي مش وعدتيني إنك هاتبطلي تدخين ؟
لم تكن “رحمة” مدخنة شرهة بارادتها حقًا.. كما إن لم يكن لديها أيّ ميول لتجربة كهذه.. لكنها رغمًا عنها وجدت نفسها تتقبّلها ..
بعد وفاة “يحيى” مباشرةً.. كان التدخين بالنسة إليها نوع من أنواع التمرد.. استعادة شيء من الثقة بنفسها و التي حرص “يحيى” طوال سنوات زواجهما ألا يمنحها إيّاها ..
موته حطّمها.. هذا حقيقي و لا شك به.. لكنه أعطاها فرصة أيضًا لتعيش حياة طبيعية بدونه.. حياة تكون فيها هي صاحبة القرار ..
لكن أتراها نجحت حتى الآن !؟
رفرفرت “رحمة” بأهدابها مرارًا في حركة تنم عن عصبية مبطنة.. و قالت بهدوء :
-أنا بطلت فعلًا.. ده نوع أهبل مش بيعمل حاجة
عشان أبطل تدخين لازم أسيبه بالتدريج مش مرة واحدة يا شمس.
يأتي النادل في هذه اللحظة.. يضع الأطباق و المشروبات أمامهما.. و يرص أدوات الطعام بترتيب.. ثم يغادر محافظًا على ابتسامته ..
تغمض “رحمة” عينيها و هي تستنشق بانتشاء رائحة طبقها المخصوص.. حساء فواكه البحر بإضافة حليب جوز الهند.. لم يكن السر في طبخه.. بل ميزة إنه تم استخراجه من مياه الإسكندرية.. مسقط رأسها ..
لم تقاوم “رحمة” الاغراء و سحقت سيجارتها بالمنفضة في الحال.. لتشرع بتناول صحنها على الفور ..
ابتسمت “شمس” و هي تراها بهذه الحيوية.. فضلت أن تراقبها لأنها حقًا لا تشعر بالرغبة في الطعام.. و قد أحسّت “رحمة” بها بمرور الوقت ..
تطلّعت إليها متسائلة :
-مش بتاكلي ليه ؟
لوّحت “شمس” بيدها في الهواء و قالت :
-مش حاسة إني جعانة.. أنا هقعد أبص لك كده لحد ما تخلّصي
كُلي انتي يا مامي.
تحدق “رحمة” فيها بينما تلوك الطعام بفمها.. تراها “شمس” و هي تضع شوكتها من يدها على الطاولة.. و تمد يدها إلى كأس المياه لتتجرّع نصفه مرةً واحدة ..
تأكدت “رحمة” بأن فمها خالي تمامًا من الطعام.. أزاحت صحنها جانبًا و عقفت يديها فوق الطاولة.. ثم استهلّت حديثها بروّية :
-انتي لو مفكراني جاية هنا عشان أقضي معاكي وقت لطيف
نخرج و نتفسح زي كل مرة.. و بعدين نرجع.. تبقي غلطانة يا شمس.. احنا هانرجع لندن انهاردة.. قبل الصبح ما يطلع هانكون مشينا من هنا !
بقيت “شمس” مسالمة للغاية و هي تستقبل كلمات أمها.. ثم ردت عليها بتهذيبٍ لا يخلو من الحزم :
-مامي.. أنا مش هارجع معاكي لندن
أنا هافضل هنا.. مع أخويا.. مع عثمان.
تلمح “شمس” أصابع أمها ترتعش و هي تقبض لا شعوريًا على الشرشف الناعم للطاولة.. أرادت أن تستطرد كلامها.. إلا إن “رحمة” سبقتها متمتمة بغضب بارد :
-وصل بيكي الحال للدرجة دي صح ؟
إنك تفضّلي أخ عمرك ما شوفتيه و لا عرفتيه على أمك.. عليا أنا يا شمس !!
هزت “شمس” رأسها نافية ادعائها و هي تقول بسرعة :
-لأ.. لأ طبعًا
أنا مستحيل أفضّل أي شخص عليكي يا مامي.. خليكي واثقة إنك لو في مقارنة مع أي حد مهما كانت مكانته في حياتي.. أنا مش هختار حد غيرك.. بليز افهميني ..
هتفت “رحمة” من بين أسنانها :
-أفهم إيـه ؟
أفهم انك كسرتي وصيّة أبوكي ؟ .. أفهم إنك رجعتي برجليكي للبلد إللي فيها ناس مستنيين تظهري عشان يئذوكي ؟ .. ده إللي عايزاني أفهمه !؟؟
كان في كلماتها الأخيرة تلميحًا صريح إلى “رامز الأمير”.. ما دفعها للرد فورًا :
-مامي رامز عمره ما حاول يئذيني.. أنا كل مرة بفهمّك إني وافقت امضي على العقد العرفي بارادتي.. و هو ماطلبش مني حاجة في المقابل.. انتي بس لما صارحتك بكده اترعبتي و صممتي إننا نمشي.. لكن هو حتى لما رجعت ماكنش بيهددني زي ما انتي فاكرة.. رامز مش وحش يا مامي.
ارتسم الذعر على ملامح “رحمة” و هي تسألها :
-انتي.. انتي قابلتيه ؟
ردي عليا يا شمس.. عملّك حاجة ؟ .. آذاكي أنطقـي !!!
تاففت “شمس” بضيق قائلة :
-إهدي يا مامي.. قلت لك رامز مش وحش للدرجة إللي انتي متخيّلاها
أيوة قابلته و مافيش أي مشاكل بيني و بينه
قوليلي أطمنك إزاي من ناحيته ؟؟
رحمة بغلظةٍ : مش هاتقدري تطمنيني.. ده إنسان حقير و مش ممكن آمن عليكي معاه.
لم تتقبّل “شمس” قرارات أمها و قالت مصممة على قرارها هي :
-و أنا بحبه يا مامي.. أنا بحب رامز الأمير و هاتجوزه
لأن ببساطة جوازي منه مش هايضرك و لا هايضر أي حد.. أنا بحبه.. بحبه و مقدرش أكون لحد غيره.. لازم تفهميني في كده و ماتحلميش إني ممكن أسيبه
أنا مش هقبل أتجوز و لا أدخل في أي علاقة مع راجل تاني و أسلّمه نفسي و قلبي و أنا مش بحبه و مش قابلاه.. رامز و بس إللي في قلبي.. و أنا مش هاسيبه عشان خوفك إللي مالوش أي مبرر.
ران الصمت بينهما.. إلا من ضجيج الناس حولهما.. لم تقطع “رحمة” التواصل البصري الجامد مع ابنتها.. إلا حين داهمها شعورٌ مفاجئ بالغثيان ..
انقبضت بلحظةٍ مصدرة آهة مكتومة.. لطالما يحدث لها ذلك كلّما تعرّضت لضغطٍ ما ..
و عرفت “شمس” ما تمر به على الفور.. لتسألها بقلق و هي تهم بالقيام :
-مامي انتي كويسة ؟
جمدتها “رحمة” بمكانها باشارة من يدها و قالت بصوتٍ أقرب للأنين و هي تتراجع بمقعدها :
-خليكي.. أنا هاروح التويليت.. دقايق و راجعة !
و قامت “رحمة” من فورها متجهة إلى ممر جانبي يفضي إلى كابينة الحمام ..
حاولت “شمس” تهدئة قلقها.. فانخرطت بتقليب محتويات صحنها تارة.. و العبث بهاتفها الذي لم يرده مكالمة أو رسالة من الشخص المرتقب حتى الآن ..
هذا الاكتشاف جعل القلق يراودها بشكلٍ أكبر ..
لكنها لم تفكر كثيرًا.. و فجأة شعرت بشخص يندس إلى جوارها في مقعدٍ إضافي.. و قبل أن تدير رأسها لتستطلع هويته.. سمعت صوته الذي تعرفه جيدًا :
-الغدا على مامي.. و الحلو عليا يا روحي !
علقت شهقة ملتاعة بحلق “شمس”.. بينما تستقر عيناها عليه في هذه اللحظة.. إنه.. هو.. “رامز”.. وسيمٌ و غضوب كما لم تره من قبل.. رغم إنه يبتسم ..
باعدت بين شفتاها لتقول شيئًا.. لكنه قاطعها رافعًا حاجبه :
-من سكات هاتقومي تخرجي معايا دلوقتي.. أو أقسم بالله
أمك هاتكون حديث البلد كلها لسنين قدام من إللي هاعمله فيها لو رجعت و شوفتها قصادي تاني !!!
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية كرسي لا يتسع لسلطانك) اسم الرواية