رواية ضبط و احضار الفصل الثاني عشر 12 - بقلم منال سالم
لم يطرأ على بالها أن تصبح وحدها هي محور اهتمامه، برغم اتخاذه لموقفًا صارمًا مع الجميع، كانت استثناء عن الآخرين. استطاعت “بهاء” من هذه المسافة القريبة أن تراه عن كثب، كانت ملامحه الرجولية مشبعة بلمحات من الوسامة والقوة، تلك التي تجذب أي فتاة للوقوع في حبائل الحب المغرية، ومع ذلك لم يستغل ما يملك من سِمات محببة للأنثى لاستدراجهن أو خداعهن.
وجدته يجبر رأسها على الانحناء للأسفل، فتجاوبت معه، لتنفلت منها شهقة موجوعة عندما زادت ضغطته على أعلى أنفها، فراحت تطلب منه:
-بالراحة شوية.
رد عليها بهدوءٍ:
-معلش، لازم كده، علشان نوقف النزيف.
أخبرته رغم شعورها بالألم:
-أنا أعرف إن اللي بينزف بيرجعوا راسه لورا.
صحح لها معلوماتها بنبرته الجادة:
-ده غلط، ممكن يعمل مشكلة في الدماغ، الأصح نميل الراس لقدام.
استمع كلاهما إلى صوت “أمير” الصادح من بعيد:
-التلج أهوو.
استدار إليه “عمر”، فوجد رفيقه قد وضع قطع الثلج الصغيرة بداخل منديل قماشي أحضره من المطعم، أخذه منه، والتفت ناظرًا إلى “بهاء” ليخاطبها في لهجة جمعت بين الاهتمام والجدية:
-أنا عارف إن الموضوع متعب، بس استحملي.
شجعتها “بسنت” على تحمل الوجع قائلة بتعاطفٍ:
-“بيبو”، إنتي أدها يا حبيبتي.
قام “عمر” بوضع الثلج الملفوف في القماش على أعلى أنفها، ومرره على الجانبين، لتشعر ببرودة قارصة على جانبي أنفها، تأوهت من الألم، وقاومت قدر استطاعتها، ليسألها “أمير” كنوعٍ من الإلهاء لها:
-ده حصلك قبل كده؟
أجابته وقد تجعدت قسماتها من إحساسها المتعاظم بمزيجٍ من البرودة والألم:
-لأ، أول مرة.
بعد دقيقتين تقريبًا، أبعد “عمر” ثيابه عن أنفها لينظر إلى موضع النزف، فوجده قد توقف، شعر بالارتياح لاستجابتها لمحاولة إسعافه الأولى، واقترح عليها وهو يعطي ملابسه لرفيقه ليحتفظ بها:
-في عيادة هنا قريبة في النادي، ممكن نروح عندها نخلي الدكتور يبص عليكي.
شاركته نفس الشعور بالراحة، وردت معترضة بحذرٍ:
-ممكن تكون قافلة، والموضوع مش خطير، أنا هشوف حد متخصص وآ…
قاطعها قبل أن تنهي كلامها بتصميمٍ غير قابل للنقاش:
-ماينفعش نطنش، لازم نطمن.
مالت “بسنت” على رفيقتها هاتفة:
-بيتهيألي نسمع الكلام يا “بيبو”.
أيدها “أمير” أيضًا بقوله:
-وده رأيي برضوه.
لم تجد بدًا من الاستمرار في المعارضة أو الرفض، فأطاعت أمره، وسارت مجاورة لرفيقتها، ومن أمامهما سار الصديقان وهما يتهامسان بحديثٍ غير مسموعٍ لهما.
……………………………………….
بعدما انتهى من فحصها ظاهريًا، انتزع الطبيب المناوب في العيادة الطبية الملحقة بنادي الرماية القفازات من يديه، ليلقيها في صندوق القمامة الصغير الملاصق لسرير الكشف، والتفت مخاطبًا مريضته القلقة بهدوءٍ واضح:
-متقلقيش يا آنسة، مافيش خلاص نزيف.
سأله “عمر” بخوفٍ جاهد لإخفائه:
-كان سببه إيه يا دكتور؟
في تلك الأثناء، نهضت “بهاء” عن السرير بمساعدة رفيقتها، واتجهت معها نحو الأريكة الجلدية الموجودة في زاوية الغرفة، لتجلس الاثنتان عليها، والطبيب يتحدث مفسرًا حالتها بناءً على ما لاحظه:
-في الأغلب ارتفاع الضغط، ونصيحتي إنها تروح لحد متخصص في الأوعية الدموية بحيث تطمن أكتر.
ردت عليه “بهاء” من موضع جلوسها، وهي تتحسس بمنديل ورقي فتحتي أنفها:
-أوكي، هشوف هعمل إيه.
كانت ممتنة لأنها لم تعد تنزف، بينما هتفت “بسنت” فجــــأة في نزقٍ:
-كله أكيد من اللي اسمه “أنس”!
تحولت كل الأنظار ناحيتها، فتابعت ببرطمة مزعوجة للغاية:
-بني آدم مستفز، مستقصدنا في الرايحة والجاية.
رأت “بهاء” كيف تضرج وجه “عمر” بحُمرة حانقة، فأدركت أنه أصبح يضمر سوءًا لذلك السمج، لهذا حاولت تخفيف وطأة الأمر تجنبًا للمشاكل بترديدها المحايد:
-خلاص يا “بسنت” مافيش داعي، دي حاجة عادية وارد تحصل في أي وقت.
وكأنها لم تعد تكترث بتبعات لسانها، حيث كانت لا تزال على سجيتها وهي تفوه بتعصبٍ ملحوظ:
-لأ، هو السبب، إنتي ما شوفتيش هو حاططنا في دماغه إزاي، واحنا مالناش دعوة بيه، ناقص يخلص علينا.
شعر “عمر” بتأنيب الضمير لأنه لم يتمكن من حماية من هم تحت إمرته مثلما من المفترض أن يفعل، فأخبرها بعزمٍ، وعيناه غائمتان للغاية:
-أنا هتعامل معاه بطريقتي.
لم تبالِ “بسنت” إن نال حقًا ذلك الوغـــد التقريع أو حتى الإقصــاء من التدريب، المهم ألا يترصد لهما من جديد، وضعت يدها على كف رفيقتها تسألها بلطافةٍ:
-إنتي أحسن دلوقت يا “بيبو”؟
أجابتها وهي تهز رأسها إيجابًا:
-الحمدلله…
ثم جالت ببصرها على البقية لتقول بحرجٍ:
-دوشتكم معايا.
رد عليها “أمير” بشيءٍ من اللباقة:
-متقوليش كده، تعبك راحة.
كانت على وشك النهوض من مكانها؛ لكن “عمر” أشار لها بالجلوس آمرًا:
-استنوني هنا شوية.
استغرب “أمير” لطلبه المريب، وسأله مستفسرًا:
-رايح فين؟
لم يجبه، وأمره في لهجةٍ حازمة:
-خليك معاهم يا “أمير”.
رغم حيرته المعكوسة على تعابير وجهه إلا أنه رد بلا جدالٍ:
-حاضر.
انتظر مغادرته ليتجه نحو الطبيب ويتحدث إليه بصوتٍ خفيض، فاستغلت “بسنت” الفرصة لتتساءل في خفوتٍ:
-هو ناوي على إيه؟
هزت “بهاء” كتفيها قائلة:
-مش عارفة!
أرجعت “بسنت” ظهرها للخلف، وهمهمت بفمٍ مقلوب:
-يا خبر بفلوس، كمان كام دقيقة يبقى ببلاش!
…………………………………..
ظلت “بهاء” تنتظر مع رفيقتها في العيادة الطبية لما يقرب من الربع ساعة، والملل قد راح يشق طريقه إليها، وقبل أن تبدأ في اختراع الحجج والأعذار للاستئذان والذهاب عاد إليهم “عمر” وهو يحمل في يده كيسًا بلاستيكيًا، كان قد اشترى ما فيه من معرض المنتجات المحلية المقام بالنادي. مد يده به تجاهها وهو يخاطبها:
-اتفضلي.
غطت تعبيرات وجهها حيرة متعجبة، فقامت من مكانها لتتناوله منه متسائلة:
-إيه ده؟
أجابها بلا ابتسامٍ وهو يشير بعينيه إلى كنزتها:
-بلوزة مكان اللي اتبهدلت، جبتها من المعرض.
تحرجت للغاية من مظهرها الذي فسد، وانعكس تأثير ذلك على تورد بشرتها، تحاشت النظر إليه، وحملقت في رفيقتها التي نهضت بدورها لتنظر بعينين فضوليتين إلى ما ابتاع بداخل الكيس، في حين امتدح “أمير” تصرفه المراعي مثنيًا عليه:
-برافو عليك، بتعرف تتعامل يا باشا مع أي ظرف.
لمعت عيناها بومضةٍ مبتهجة، وشكرته في خجلٍ:
-تعبت نفسك.
رد عليها في رنة صوتٍ هادئة:
-دي حاجة بسيطة.
أخرجت “بسنت” طرف الكنزة الوردي، وأبدت على الفور إعجابها بحُسن اختياره:
-دي شكلها حلو أوي.
زاد شعور “بهاء” بالحرج من تصرفات صديقتها النزقة، وقالت وهي تحتضن الكيس:
-شكرًا على ذوقك.
قال في نفس الصوت الرزين:
-تحت أمرك، في حمام هنا قريب، تقدري تغيري فيه.
استحسنت الفكرة، وردت باقتضابٍ:
-أوكي.
أشار لها بيده بعدئذ:
-أنا هوريكم السكة.
تقدم في خطواته عنها ليفتح باب العيادة لها، وانتظر حتى خرجت، لتتبعها رفيقتها، ومن خلفهما “أمير”، قبل أن يتركاه يرشدهم إلى وجهتهم. التصقت “بسنت” بصديقتها هامسة لها في مكرٍ وسرور:
-شايفة الحنية والاهتمام؟
عضت “بهاء” على شفتها السفلى بارتباكٍ بائن بشكلٍ كبير، لتحذرها بعدها:
-بس بقى لأحسن يسمعونا.
لم تستطع إخفاء ضحكاتها العابثة، وأخذت تردد في مرحٍ واستمتاع:
-يا دلعوا، يا دلعوا!
……………………………………….
كان دقيقًا للدرجة التي جعلته يخمن بشكلٍ صحيح مقاس ثيابها، فحينما ارتدت “بهاء” الكنزة الوردية، تفاجأت بأنها ملائمة تمامًا لحجم جسدها، انبهرت لذلك، وفي نفس الآن تلبكت، فكيف له أن يدرك ما يخصها بسهولة؟ هل حقًا يهتم لشأنها أم أن ذلك شيء عابر يفعله مع كائن من كان؟ لاحظت “بسنت” ما اعترى رفيقتها من وجومٍ وشرود، فسألتها في نبرة مهتمة:
-مش عجباكي ولا إيه؟
أجابتها صراحةً:
-أنا بس مستغربة هو خمن مقاسي إزاي.
في شيءٍ من اللطافة قالت:
-مش القائد بتاعنا، لازم يكون نبيه وأذكى دفعته…
ثم غمزت لها بطرف عينها وهي تتم جملتها:
-وبعدين هو شكله مركز معاكي إنتي وبس.
من جديد تحرجت من ممازحة رفيقتها في هذه المسألة الحرجة، وأنذرتها بغير تساهل:
-بلاش الكلام ده.
ابتسمت في استمتاعٍ وهي تؤكد لها شكوكها:
-بكرة تعرفي إن كان معايا حق، ده إنتي ماشوفتيش كان خايف عليكي إزاي.
لم تبدُ مقتنعة بتفسيراتها، وقالت في إنكارٍ طفيف:
-ما احتمال يعمل كده مع أي واحدة لو كانت مكاني.
أصرت على رأيها مبدية المزيد من الأسباب المنطقية:
-ما ظنش، وخصوصًا إن البدايات بينكم كانت مش ألطف حاجة، يعني كان ممكن يعاملك بطريقة ناشفة، يقرفك ليل نهار في التدريب، لكن احنا ما شوفناش منه حاجة وحشة.
أغمضت عينيها لهنيهة لتنفض عن عقلها تلك الذكرى المسيئة، وهمهمت في ندمٍ:
-ما تفكرنيش باللي حصل، أنا كنت غبية أوي.
تأكدت “بسنت” من مساعدة رفيقتها في ضبط ياقة الكنزة، وتكلمت:
-الحمدلله إنه مابيشلش في نفسه، مكوناش هنسلم.
ألقت “بهاء” نظرة تفقدية أخيرة على هيئتها في انعكاس المرآة، وطوت الكنزة المتسخة، ووضعتها في الكيس البلاستيكي، لتقول:
-أيوه، يالا بينا، بدل ما يكون لسه مستنينا برا.
تحركت الاثنتان بعدها خارج الحمام، لتجدا كِلا الشابين في انتظارهما، فتحدث “عمر” أولًا كنوعٍ من الاقتراح:
-مافيش داعي تجهدوا نفسكم في باقي اليوم، كفاية عليكم كده.
وكأن في حديثه طوق النجاة، رحبت “بسنت” بذلك على الفور، وبحماسٍ كبير:
-أنا بقول كده برضوه.
استطرد “عمر” مستخدمًا يده في الإشارة:
-العربية راكنة قصاد باب النادي، أنا هوصلكم بنفسي.
ابتسمت إليه “بهاء” بشيءٍ من الارتباك، وحاولت الاعتذار منه بتهذيبٍ:
-مافيش داعي تتعب نفسك، حضرتك وراك مسئوليات وآ…
قال مقاطعًا إياها بنبرة حاسمة:
-“أمير” موجود هيظبط كل حاجة.
تكلم “أمير” باسمًا، وبلا أدنى ضيق:
-أيوه، أنا متعود على كده…
ثم وجه كلامه إلى “بهاء” قائلًا:
-المهم إنك تكوني بخير.
ردت عليهما في امتنانٍ مشوبٍ بالخجل:
-شكرًا ليكم بجد، أنا مش عارفة أقولكم إيه.
أخبرها “عمر” بملامحه الجادة:
-ولا حاجة، اتفضلوا من هنا.
تبعته “بهاء” وهي متأبطة لذراع رفيقتها التي كانت تراقب بسعادة غريبة ما يدور في الأجواء من نسمات رقيقة تعلن عن بزوغ حبٍ قريب.
……………………………………..
بمجرد أن وصل الثلاثة إلى البوابة، اعتذرت “بسنت” عن الذهاب معهما، وكانت حجتها منطقية، فقد أتت بسيارتها، ولهذا تحتاج إلى العودة بها إلى منزلها، لهذا تركت رفيقتها تذهب بصحبة “عمر” الذي سَعِد للغاية من حدوث هذه المصادفة، فقد وجدها فرصة طيبة للحديث معها بأريحية، لإذابة حواجز الجليد بينهما، وخلق نوع من الترابط الودي.
-صاحبتك جدعة أوي.
بابتسامةٍ صغيرة مرتبكة علقت “بهاء” عليه:
-جدًا، احنا نعرف بعض من أيام ابتدائي.
جاء تعقيبه مدهوشًا:
-يـــاه، ده من زمان أوي.
تابعت في نبرة فخرٍ:
-احنا يعتبر متربيين سوا.
رد عليها وهو شبه يبتسم:
-أنا عندي زمايل من أيام ابتدائي، بس مش على اتصال أوي، يعني ممكن نتكلم كل فين وفين.
تنحنحت قائلة دون أن تنظر نحوه:
-هو حلو إن الواحد يفضل على تواصل مع أصحابه، ويفتكر معاهم أيام زمان.
هز رأسه مرددًا:
-فعلًا.
أثناء جلوسها معه في السيارة بمفردهما، توقف عند أقرب سوبر ماركت ليشتري منه بعض العصائر وقطع الحلوى، أعطاها ما ابتاع، فاعترضت عليه هاتفة بحرجٍ:
-مالوش لزوم.
تجاهلها، وعاد ليركب خلف المقود مكملًا قيادة السيارة، حاولت التغلب على تلبكها المتزايد، واستطردت تُحادثه دون أن تنظر إليه كعادتها منذ أن استقلتها بجواره:
-عطلتك معايا النهاردة.
قال بعد زفيرٍ مقتضب:
-ما تقوليش كده.
خيم الصمت بينهما مرة ثانية، فقطعه بسؤاله الروتيني:
-عم “سليمان” أخباره إيه؟
ردت “بهاء” بابتسامة صغيرة:
-الحمد لله تمام.
بشكلٍ آلي رد:
-دايمًا يا رب.
بدا وكأنه من الصعب عليه إيجاد المناسب من الكلمات لخلق أي حوارٍ معها، ومع ذلك استطال الحديث بسؤالها المهتم حقًا:
-معدتش فاضل في التدريب كتير، ناوية على إيه بعد كده؟
سكتت للحظة لتفكر في إجابة مناسبة قبل أن تبوح بها:
-لسه مافيش حاجة محددة في دماغي، بس أكيد هدور على شغل.
استطرد في تفاؤلٍ:
-إن شاء الله تلاقي حاجة مناسبة.
أومأت برأسها قائلة:
-يا رب.
حاولت هي الأخرى مجاراته في الحديث، فقالت وهي تجول ببصرها على حركة المرور المحيطة بها:
-الدنيا زحمة أوي النهاردة.
أتى رده عفويًا:
-ده من حظي.
تنبهت لجملته النزقة، فحاولت التعديل عليها بتبريره المذبذب نسبيًا:
-قصدي يعني، الناس كلها بتخرج في نفس التوقيت ده.
حمحمت هاتفة بوجهٍ متورد:
-أيوه، وقت الموظفين.
سألها في اهتمامٍ غريب:
-تحبي تشربي حاجة؟
قالت وهي تشير إلى ما هو موضوع في حجرها:
-ما إنت لسه جايبلي.
ابتسم مضيفًا في حبورٍ:
-علشان تعوضي الدم اللي فقدتيه.
عقبت في امتنانٍ:
-شكرًا، أنا والله كويسة.
في تلقائيةٍ أخبرها، وكأنه يعطيها نصيحة ما:
-أكيد والدك ووالدتك هيقلقوا لما يشوفوا بلوزتك متبهدلة بالشكل ده، حاولي ما تخضيهومش، ووديها لمحل تنضيف الهدوم.
ابتلعت غصة عالقة في حلقها، وقالت ودموعها الرقراقة قد تسربت إلى حدقتيها:
-ماظنش هيقلقوا، هما ماتوا من زمان، الله يرحمهم.
تفاجأ بتصريحها الصادم، فحل على قسمات وجهه ذاك التعبير المدهوش، واعتذر منها بشدةٍ:
-أنا أسف جدًا، مكونتش أعرف.
مسحت بيدها ما تسلل من طرفيها، وقالت باقتضابٍ:
-ولا يهمك.
لعن نفسه بلا صوتٍ، لأنه تسبب في إيذائها برعونة حديثه:
-أنا غـــبي! كان لازم أنطق بكلام زي كده!
تظاهرت أنها مستغرقة في تأمل الطريق، بينما كانت تقاوم قدر استطاعتها عدم الانخراط في نوبة بكاء متأثرة، خاصة وقد ساد الصمت بينهما، ليشعرها بمدى صعوبة تجاوز خطأه غير المقصود. عندما تباطأت سرعة السيارة، استعدت “بهاء” للمغادرة على الفور، استوقفها “عمر” قائلًا وهو ينظر إليها كالمعتذر:
-حمدلله على سلامتك.
قرأت ما احتوته نظرته من ندمٍ وأسف، وردت مبتسمة ابتسامة باهتة:
-الله يسلمك، وشكرًا ليك.
قال وهو يحاول مبادلتها الابتسام:
-سلمي على عم “سليمان”.
حركت رأسها بهزةٍ خفيفة قبل أن تقول:
-حاضر، يوصل.
ظل يتابعها بنظرته المهتمة إلى أن اختفت بداخل بنايتها، لحظتها ضرب بقبضته المتكورة على المقود في عصبيةٍ مكررًا توبيخ نفسه:
-غـــبي! هتقول عني إيه دلوقت؟!
……………………………………
تمنى لو امتلك عصا الزمن السحرية، ليعود بها إلى الوراء، ويمحي تلك اللحظات العابرة من الذاكرة تمامًا، فلا يبقى إلا كل ما هو عذب ولطيف بينهما، فكلما تذكر نزقه المزعج معها كان يركل مقعده في ندمٍ، ربما كانت هذه مرته الرابعة أو الخامسة وهو يفعل ذلك خلال جلوسه على مكتبه بغرفته في منزله، دمدم “عمر” مع نفسه في استياءٍ وهو يطوي كتابه المفتوح أمامه بتعصبٍ وضيق:
-وعامل فيها أبو الذكاء كله، وأنا على الله حكايتي.
اقتحم عليه حجرته شقيقه الأكبر ليسأله بفضولٍ مستفز:
-مالك مكلضم ليه؟
عبس قائلًا بإيجازٍ:
-مافيش!
انضمت إليه السيدة “نهيرة” وهي تحمل صينية بها فنجانين من القهوة، وضعت ما يخص ابنها على سطح مكتبه، وردت باستغرابٍ:
-هو على كده من ساعة ما رجع من برا.
أخذ “عامر” قهوته من والدته معقبًا بدهشةٍ مماثلة لها:
-مع إن القائد بتاعك بيشكر فيك.
انتظر “عمر” انصــراف والدته ليتساءل بفضولٍ حذر:
-بقولك هو إنت تعرف إن أخو عم “سليمان” ميت من زمان؟
نظر إليه في تحيرٍ قبل أن يرد عليه متسائلًا:
-عم “سليمان” مين؟
أخبره بحاجبين معقودين، وملامح متجهمة:
-صاحب أبونا.
وكأن ذاكرته قد تنشطت واستفاقت من سباتها، ليخبره مسترسلًا في الحديث:
-أها، الراجل الطيب ده، أيوه، كان عمل حادثة مع مراته زمان، ربنا يرحمهم…
توقف “عامر” في منتصف كلامه متسائلًا بمكرٍ:
-بس إنت بتسأل ليه؟
حاول التهرب من إجابته برده العائم:
-عادي يعني.
جلس شقيقه الأكبر على طرف مكتبه ليبدو أكثر قربًا منه وهو يستطرد في لؤمٍ، وهذه الابتسامة الماكرة تتراقص على شفتيه:
-ما بنتهم هي اللي قابلناها في الجبانة، المُزة الكيوت، اسمها “بهاء” باين، ما إنت بتدرسلها.
تهرب من نظرته الفاضحة لأمره بقوله:
-أيوه عارفها.
غمز له بطرفه متسائلًا في تسليةٍ:
-طب إيه الحوار؟
تصنع الجدية وهو يرد، مدعيًا كذلك انشغاله في قراءة كتابه الذي عاود فتحه:
-مافيش حوار ولا حاجة، بسأل عادي.
نهض من على سطح مكتبه ليتجه إلى باب غرفته هاتفًا بعد رشفة كبيرة لقهوته:
-ماشي يا سيدي.
مرة أخرى جاءت السيدة “نهيرة” وهي تحمل طبقًا من ثمار الفاكهة المقطعة، وتساءلت:
-مراتك مجاتش معاك ليه يا “عامر”؟
أجابها وهو يعطيها الفنجان الذي انتهى من شربه، ليأخذ الطبق منها:
-ملبوخة مع بنت خالتها العروسة، وإنتي عارفة طلبات العرايس اللي ما بتخلصش!
ردت عليه بتفهمٍ:
-ربنا معاها…
ثم وجهت سؤالها إلى ابنها الأصغر:
-ها جهزت نفسك علشان تحضر معانا يا “عمر”؟
دون أن ينظر تجاهها قال بفتورٍ:
-هشوف ظروفي إيه!
وقتئذ علق عليه “عامر” بشيءٍ من التحذير:
-لأ ضروري تفضي نفسك، بدل ما “سلمى” تزعل، وإنت عارف زعلها عامل إزاي.
رفع “عمر” يده أعلى رأسه ليمررها في شعره متمتمًا:
-ربنا ييسر.
………………………………………..
لم تكن من النوع الذي يحب البهرجة في الثياب خلال الأعراس، ولا حتى الإفراط في مساحيق التجميل، لذا ارتدت على استحياءٍ هذا الفستان الطويل، ذي اللون البنفسجي الباهت، والمصنوع من مزيجٍ من قماش الحرير والدانتيل، ووضعت مقدارًا ضئيلًا مما يزين بشرتها ولا يجعلها تبدو مبالغة في مظهرها. تأكدت “بهاء” أيضًا من تغطية كتفيها بشالٍ من الشيفون، له نفس درجة لون الفستان، وجلست بلا حراكٍ على المائدة المخصصة لعائلتها ملاصقة لمقعد زوجة عمها. كلمتها “فادية” بلهجةٍ شبه معاتبة:
-يا “بيبو” هتفضلي أعدة كده؟
نظرت إليها بلا تعليقٍ، فاستمرت في عتابها المنزعج وهي تطوف ببصرها على المدعوين:
-بصي شوفي البنات حواليكي عمالين يتنططوا إزاي!
بفتورٍ وغير اكتراثٍ ردت:
-أنا مبسوطة كده.
استحثتها على التخلي عن جمودها المغيظ بقولها المشجع:
-دي فرصة حلوة ليكي، جايز تلفتي نظر حد كده ولا كده.
بنفس النبرة غير المبالية عقبت:
-مش عاوزة، ربنا يعميهم عني!
بدت “فادية” ساخطة للغاية عندما همهمت:
-هتفضلي كده عنيدة، ومضيعة كل حاجة حلوة من إيدك.
بالطبع كانت متفهمة لضيق زوجة عمها، فالأخيرة كانت تسعى بشتى الطرق لتزويجها بهذا العريس (اللقطة) والذي تجمعه صلة القرابة مع العائلة؛ لكنها رفضت هذا الارتباط قبل عدة أشهر. تقلص كتفي “بهاء” في توترٍ عندما جاءت قريبة العائلة ذات الطباع السمجة، واللسان السليط، فلم تكن تسلم من سخافاتها المنفرة، ولا من تعليقاتها المسيئة، وكأنها تجد متعة خفية في استحقارها. لم تبتسم لرؤيتها، وبدت جامدة بشكلٍ ملحوظ والأخيرة تكلمها:
-معقولة “بهاء” هانم بنفسها هنا.
بتعبيرٍ واجم ردت عليها:
-إزيك يا “ماهيتاب”!
صححت لها اسمها وهي تجلس بخيلاءٍ على المقعد لتجاورها:
-قولي “ماهي”، مش بحب الاسم ده.
باعدت عينيها عنها قائلة بغير اكتراثٍ:
-براحتك.
في سمةٍ من الغرور أردفت “ماهيتاب”، وكأنها تستنكر وجودها من الأساس:
-تعرفي متوقعتش إني أشوفك النهاردة هنا.
أدارت رأسها ببطءٍ لتحدق فيها متسائلة:
-ليه يعني؟
في نبرة شبه متهكمة ردت:
-مش بعوايدك تحضري أفراح العيلة المتواضعة!
أتى ردها مماثلًا لأسلوبها الساخر:
-أصل هفني الشوق أجي وأتفرج على اللي عاملين فيهم عرايس المولد.
فاجأتها “ماهيتاب” بتعقيبها المهين:
-ولا زعلانة علشان العريس راح منك؟
تحفزت في جلستها، وزوت ما بين حاجبيها مرددة في استهجانٍ:
-وأزعل ليه؟ ربنا يوفقه مع اللي اختارها.
تشكلت ابتسامة شامتة على زاوية فمها حينما منحتها مبررها:
-إنتي مش شايفة وش مرات عمك مقلوب إزاي؟ كانت مستخسراه يروح منها.
لم تكن “بهاء” مسترخية القسمات وهي تخبرها:
-نصيب، وفي العموم أنا مش بفكر في الجواز.
افتعلت الضحك قبل أن تسألها في نبرة هازئة:
-ناوية تعنسي ولا إيه؟
كلماتها كانت لاذعة كالســــوط، ورغم ذلك ظلت على هدوئها وهي ترد عليها بتعقلٍ:
-الحياة مش واقفة على الجواز وبس!
تطلعت إليها “ماهيتاب” بغير اقتناعٍ، ورفعت حاجبها للأعلى بشكلٍ ملحوظ، خاصة و”بهاء” تستفيض في توضيح مفهومها عن المتطلبات الأخرى لتحقيق ما تصبو إليه في حياتها المستقبلية:
-في حاجات تانية أهم، زي الدراسة، والشغل وآ…
قاطعتها في ازدراءٍ وهي تشير بسبابتها:
-ده كلام إنشاء، كل واحدة هتموت وتتجوز، إن شاء الله يكون مين.
انتصبت “بهاء” في جلستها لتخبرها:
-أنا تفكيري مش محدود في الجزئية دي وبس زيك يا .. “ماهي”.
بوقاحةٍ صادمة نعتتها فجـــأة:
-إنتي كدابة، ومعقدة!
تخشبت “بهاء” في جلستها مذهولة، وتدلى فكها للأسفل مرددة باستهجانٍ متعاظم، وعيناها قد اتسعتا بشدة:
-نعم!!!
أجابتها في تشفٍ:
-أيوه، إنتي أكتر واحدة هتموت وتتجوز، بس بتكابر، ليه بقى؟
راحت “بهاء” تتعرق عرقًا باردًا، فمهما كانت قادرة على مجابهة الغير، إلا أنها تقف عاجزة أمام فظاظة لسان هذه الوقحة الدنيئة، بقيت تحدق فيها بعينين متقدتين بغضبها المحموم بداخلها، و”ماهيتاب” تزيد من إساءتها الفجة نحوها:
-علشان مش هتلاقي اللي يتجوزك بحالك ده، وحتى العريس اللي إنتي جاية تتندمي عليه النهاردة، كان بيحمد ربنا إنه لاقى الأحسن منك.
أرجعت الأخيرة ظهرها للخلف، ونظرت إليها في شماتة بعدما جرحتها بنصل عباراتها القاسية، لتنهي كلامها موجهة إصبعها ناحيتها في استحقارٍ كبير:
-نفسي أشوف مين هيرضى يتجوزك!
على غير توقعٍ، ظهر “عمر” في محيطها وكأنه فارسها المغوار، ليهتف بلا ترتيبٍ، وبكلمات لا تعرف إن كانت صادقة، نابعة من قلبه، أما أنها مجرد عبارة مرتبة، لحفظ ماء وجهها، ولملمة كرامتها المبعثرة:
-يا ريت توافق بيا أنا …………………………………. !!
…………………………………
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية ضبط و احضار) اسم الرواية