رواية ضبط و احضار الفصل الثالث عشر 13 - بقلم منال سالم
لولا أنه لم يرغب في إحزان زوجة شقيقه الأكبر لما كلف نفسه عناء الحضور، وتجنب كعهده التواجد في مثل هذه المناسبات الاجتماعية المليئة بذوات الأقنعة، وممن تتجملن فقط لاستدراج الزوج المثالي لاصطياده. ظل “عمر” يعبث برابطة عنقه الداكنة التي تقيده، فقد كان مضطرًا لارتدائها مع بدلته الكحلية وقميصه الأسود. بدا لافتًا للأنظار في هيئته تلك، فاستطاع بطرف عينه أن يلمح كيف تنظر الفتيات إليه بانبهارٍ وإعجاب، ترفع عن النظر إليهن، وواصل تجوله في قاعة الأفراح إلى أن لمحها تجلس بجوار إحداهن.
تسمر في مكانه مندهشًا، وفمه قد افتر إلى حدٍ ما تعبيرًا عن صدمته لرؤيتها، كان آخر ما يُمكن تصوره أن يلتقي بها هنا! خفق قلبه بخفقانٍ غريب لم يعتد عليه، ومع ذلك كان مسرورًا لمعايشة هذا الشعور المشوق بالرغبة، لاحظ حينما أمعن فيها كيف تبدو متحفظة، بجانب كونها متجهمة، فاقترب أكثر منها ليصل إليه ما يدور بينهما، احتقن صدره عندما وجد تلك التي تجالسها تفرط في الإساءة إليها، أغاظه هذا كثيرًا، وعجز عن كبح جماح نفسه، خاصة وهي تلومها عن عمدٍ في عزوفها عن الزواج، وامتناعها عن التسرع في اختيار شريك الحياة المثالي وكأن في ذلك إثمًا لا يُغتفر. غريزيًا اندفع تجاه مائدتها لينطق بلا ندمٍ:
-يا ريت توافق بيا أنا!
آنئذ اعترت الصدمة الكبيرة كلتيهما، فنظرتا إليه بذهول ودهشة، لم يعبأ بتبعات تصريحه، وواصل الكلام كما لو كان ما فاه به منطقيًا:
-حقيقي مش هلاقي حد زيها.
توهج وجه “بهاء” بحمرةٍ خجلة للغاية، في بادئ الأمر حملقت فيه بتوترٍ خجل، إلى أن أدركت أنه يفعل ذلك ببساطة ليرد لها اعتبارها، ويحفظ لها كرامتها المهانة، فالتزمت الصمت لتجاريه في كذبته الواهمة، ريثما تنصرف هذه السمجة، فتعتذر له لاحقًا عن توريطه في شأنٍ لا يخصه. نهضت “ماهيتاب” من مقعدها لتنظر إليه بعينين ذاهلتين، حركت لسانها لتسأله مستفهمة، وموجة من الفضول العارم تجتاحها:
-إنت مين؟
حول ناظريه عنها، ليوحي لها أنها لا تهمه، وتطلع عن عمدٍ إلى “بهاء” التي كانت لا تزال على حالها المدهوش، مما أغاظ “ماهيتاب” أكثر واستفزها، فاستطردت في شيءٍ من الاتهام:
-إنت تبع العيلة؟ ولا حد ماشي معاها؟
نبرتها اللئيمة المملوءة بالتهم الباطلة كانت مرفوضة على كل الأصعدة، فتحفز محذرًا إياها:
-ماسمحلكيش تغلطي فيها بأي شكل…
حدقت فيه بنظرة محتدة، فتابع محافظًا على وتيرة هدوئه:
-وعلشان أريحك، أنا عارف عم “سليمان”، تربطني بيه وبعيلته صداقة قديمة، ما ظنش إنه يهمك تعرفي أصلها.
يبدو أن حضوره كان معينًا لها بشكلٍ لم تتخيله، التفتت “بهاء” للجانب باحثة عن زوجة عمها لتؤكد عليها صدق روايته؛ لكن للغرابة لم تجدها ماكثة بجوارها، ربما نهضت لتُحادث أحدهم أثناء حوارها مع “ماهيتاب” ولم تنتبه لها، حقًا شعرت بالارتباك لغيابها، ومع ذلك نهضت من مقعدها لترحب به في شيءٍ من التبجيل:
-منور يا سيادة الرائد.
قصدت التصريح بهويته لتعطي أهمية أكبر لمكانته الاجتماعية والوظيفية، ونجح ذلك في إشعار “ماهيتاب” بالغيظ، فاستثيرت، وكزت على أسنانها مدمدمة:
-رائد!
تصنع “عمر” الابتسام بسخافةٍ ليخبرها:
-أيوه، وقريب هبقى مقدم إن شاءالله.
كان مستمتعًا للغاية بإغاظتها، وزاد من ذلك بسؤاله الماكر الموجه إلى “بهاء” تحديدًا:
-مش ناوية ترضي بيا بقى؟!
فاجأها مجددًا بجراءته التي لم تعهدها منه، فردت بتلعثمٍ، وقد تضاعفت الحُمرة الساخنة في وجنتيها:
-أنا آ…
تعمد مقاطعتها قبل أن تكمل جملتها الأولى ليوجه حديثه إلى “ماهيتاب” في شيءٍ من الازدراء:
-خلينا نتكلم في ده بعدين، مايصحش نناقش أمور خاصة كده على الملأ، وقصاد الغُرب!
اشتاطت نظرات الأخيرة على الفور، وازداد شعورها بالمهانة حينما أتم عبارته بسخريةٍ مستفزة لها:
-ممكن تدينا مساحتنا يا مدام.
انفجرت صائحة فيه بتعصبٍ، وعروقها تنتفض في جبهتها:
-مدام مين؟ أنا لسه آنسة!!!
رمقها بنظرة فاحصة قبل أن يعلق بتأففٍ:
-ليهم حق!
احتقنت عيناها بشدة، وضغطت على أسنانها تتوعده:
-إنت بتقول إيه!
استمر في مضايقتها بكلامه اللاذع:
-أنا من رأيي ماتسمعيش للناس اللي نفوسها غلاوية كتير، بيدوا طاقة سلبية وحشة.
راحت تصيح في حمئة:
-إنت آ…
قاطعها عن قصد مشيرًا بذقنه إلى الأمام:
-تقريبًا في حد بينادي عليكي هناك، روحيله خلينا نتكلم براحتنا شوية.
لم تستطع تحمل سخافته أكثر من ذلك، فاندفعت مغادرة في انفعالٍ، وكأن هناك سحب من الدخان تتصاعد من أذنيها. تابعتها “بهاء” حتى اختفت وسط الحشد، وهمهمت في تلبكٍ:
-شكلها اتحرج أوي.
رد بغير اكتراثٍ:
-مش فارق
أجالت بنظرها على ما يحيط بها في توتر ممزوجٍ بالخجل، وسألته مجددًا في لهجةٍ مالت للرسمية:
-صحيح حضرتك بتعمل إيه هنا؟
منحها ابتسامة عذبة قبل أن يطلب منها، وهو يطالعها بنظرة متألقة:
-بلاش الرسميات دي هنا، خلينا نتكلم عادي..
ثم أشار لها بيده لتجلس:
-اتفضلي ارتاحي.
استجابت له، وعادت للاستقرار في مقعدها، ليتخذ هو نفس الموضع الذي كانت تجلس عليه تلك السخيفة، فيبدو أكثر قربًا منها. شبكت “بهاء” يديها معًا، وتحاشت النظر إليه؛ لكنها أنصتت إليه وهو يخاطبها:
-وردًا على سؤالك، العروسة قريبتنا.
لم تحبذ المراوغة في الحديث معه، لذلك اندفعت نحو جوهر الموضوع مباشرةً، فسألته بترددٍ طفيف، دون أن تنظر ناحيته:
-إنت سمعت.. اللي اتقال من بدري؟
بعد تنهيدة سريعة أجاب:
-للأسف أيوه.
الآن تأكدت كليًا مما تفقه له ذهنها منذ البداية، فجمعت قدرًا من جأشها، واستطردت في صوتٍ شبه لاهث؛ لكنه مهتز، كأنما تعطيه مبرراته لئلا يتمادى في متابعة تمثيليته الوهمية:
-بص هي طول عمرها كده، دمها تقيل، ولسانها أطول منها، فمتخدش في بالك منها، وأنا فاهمة إنت اضطريت تتصرف كده ليه قصادها، وهنسى اللي اتقال كأنه محصلش، فاطمن أنا…
رفع يده أمام وجهها ليجبرها على بتر عبارتها، وأكمل عنها باسمًا:
-سيبك منها، دي واحدة ماتهمنيش.
هزت رأسها بإيماءة خفيفة، فأضاف بعينين لامعتين، وكأنه يتغزل بها:
-تعرفي إنتي شكلك حلو أوي على فكرة.
انتفض شيء ما بداخلها، جعل رعدة غريبة تسري في كامل بدنها، كانت مرتبكة للغاية من طريقته الودية معها، فهي لم تألفه على هذه الحالة المهتمة .. قبل أن تسيء تفسير عبارته، أوضح لها “عمر” بلجلجة محسوسة في نبرته:
-اللي أقصده إنك طول عمرك حلوة، بس النهاردة بزيادة شوية.
ابتلعت ريقها، وردت باقتضابٍ وهي تطرق رأسها:
-شكرًا.
استمر في مدحها بكلماته التي جمعت بين الغزل العفيف والمزاح:
-حتى ذوقك في اختيار الألوان حلو، والميك آب كمان، شكلك طبيعي مش شبه حلاوة المولد.
عفويًا انطلقت منها ضحكة سعيدة، فابتسم لرؤية ملامحها الصافية تتلألأ تحت ابتساماتها الجميلة، فعلق بحبورٍ:
-أيوه كده اضحكي.
بدا رائق المزاج للغاية معها، إلى أن لمح عمها قادمًا من على بعدٍ، فتلبك على الفور، وانتفض قائمًا لتحيته بتعابيرٍ تبدلت في لمح البصر للجدية:
-عم “سليمان”!
بمجرد أن سمعت “بهاء” اسم عمها، هبت واقفة هي الأخرى، وتطلعت إلى حيث ينظر، لتجد عمها يتجاوزها ليقترب من “عمر” الذي مد يده لمصافحته قائلًا بلباقةٍ:
-إزي حضرتك؟
ابتسم له ابتسامة عريضة، ورحب به في حرارةٍ:
-أهلًا بالغالي، أنا مش مصدق إني شايفك قصادي، ده احنا حظنا حلو…
ثم طلب منه وهو يشير بيده:
-اتفضل اقعد.
جالسه قائلًا بأدبٍ:
-شكرًا على ذوقك.
انتقلت “بهاء” للجلوس على مقعدٍ آخر، تاركة عمها يحظى بمكانها، في حين تساءل “سليمان” مستعلمًا:
-إنت هنا من بدري ولا إيه؟
جاء رد “عمر” مرتبًا:
-لسه جاي، وقابلت آنسة “بهاء”، فقولت أرحب بيها.
هز رأسه معقبًا:
-طب كويس، أنا لسه شايف “عامر” وبناته، ما شاء كبروا، عقبال ما نفرح بيك إن شاءالله.
حافظ على ثبات بسمته وهو يرد:
-ربنا يكرم.
في شكلٍ روتيني تساءل عمها:
-“بهاء” عاملة معاك إيه؟
جاوبه بإعجابٍ لم يخفه:
-دي ممتازة، لسه بشكر فيها.
حرر زفرة ارتياحٍ قبل أن يخاطبه مستخدمًا يده في التلويح:
-الحمد لله، لو تعباك قولي، وأنا أشد عليها.
اتسعت ابتسامته نسبيًا وهو يُشيد بها:
-لأ إزاي، دي من المميزين عندي.
بعدما انتهت “فادية” من الترحيب بمعارفها، عادت إلى مائدتها لتتفاجأ بوجود “عمر” جالسًا عليها، تهللت أساريرها، وراحت ترحب به بألفةٍ متعاظمة:
-أهلًا بيك يا سيادة الرائد.
رد بتهذيبٍ وقد نهض من مقعده:
-إزي حضرتك، بس بلاش الرسميات دي.
أشارت له ليجلس، وانتقلت للمقعد الآخر المجاور له لتستقر عليه قائلة بمحبةٍ:
-على رأيك، ده احنا يعتبر عيلة واحدة…
ثم سلطت نظرها على “بهاء” لتسألها في عبثية جعلتها ترتبك للغاية:
-ولا إيه يا “بيبو”؟!!
…………………………………………
في وسط كل هذا الصخب، لم يضجر “عمر” من الجلوس برفقة عائلة “سليمان”، كان مستمتعًا للغاية من استعادة بعض ذكريات الماضي بالحديث عن الراحلين ومواقفهم المميزة، وفي غمرة حديثه ذاك رأى شقيقه مقبلًا عليه، فلوح له بيده ليقترب الأخير أكثر، ويقول في مكرٍ بعدما وقف مجاورًا لمقعد “بهاء”:
-ليك حق تفضل قاعد مع الحبايب هنا.
نهض “سليمان” للترحيب به قائلًا، وهو يشير بكف يده إليه:
-اتفضل يا “عامر” يا ابني، ده مكانك.
رد مجاملًا، وبابتسامة تكاد تمتد من الأذن للأذن:
-ربنا يخليك لينا يا عم “سليمان”.
رحبت به “فادية” هي الأخرى:
-أخبارك إيه؟
أجابها بنفس ابتسامته المتسعة:
-أنا تمام الحمد لله.
ثم وجه سؤاله لهذه الشابة الخجولة:
-عاملة إيه يا “بهاء”؟
ردت مبتسمة وعلى استحياء:
-الحمدلله.
لمح الساعة الذكية التي ترتديها في معصمها، فعلق بشكلٍ تلقائيٍ صريح، وموجهًا حديثه إلى شقيقه:
-حلوة الساعة دي، مش هي اللي كنت موصي “سلمى” عليها؟!
ثم غمز له بطرف عينه متابعًا:
-كده أنا فهمت إنت ليه كنت مستعجل عليها أوي!
تلبك “عمر” من طريقته المكشوفة لفضح أمره، وأردف:
-وإنت عامل إيه؟ مش تشوف بناتك.
أعطاه ابتسامة مغيظة له قبل أن يرد بنفس الأسلوب العابث:
-مع أمهم، خلينا احنا هنا مع القمر.
كلمته “فادية” في ودية:
-مكوناش نعرف إن العروسة قريبتكم.
تحدث إليها بعبارةٍ موحية:
-الدنيا صغيرة، ولسه هتصغر كمان لما نلم الشمل.
لحظتها نهض “عمر” من مقعده ليتجه إليه، جذبه من ذراعه قائلًا بحرجٍ واضح:
-طيب يا “عامر” تعالى نشوف “سلمى”، شكلها عايزانا.
قاومه شقيقه الأكبر إلى حدٍ ما ليشاكسه، واستطرد:
-منورين.
استمر في شده مرددًا:
-يالا يا “عامر”.
بمجرد أن ابتعد الاثنان عن المائدة حتى نهضت “فادية” من مكانها لتنتقل إلى جوار “بهاء”، مالت عليها متسائلة في خبثٍ:
-ابن حلال أوي، ولا إيه يا “بيبو”؟
لم تنظر إليها، وحولت وجهها للناحية الأخرى هاتفة في خجلٍ، وهي تستند بيدها على خدها المشتعل بسخونته:
-أيوه.
……………………………………….
بأي حالٍ من الأحوال لم تكن لتمرر أبدًا ليلتها هذه دون أن تعطي ملخصًا لرفيقتها المقربة عما دار في حفل الزفاف، كانت “بسنت” متلهفة لمعرفة كل شيء، وبأدق التفاصيل عن كل شاردة وواردة جرت، في نبرة متحمسة مشوبة بالذهول صرخت “بسنت” هاتفيًا:
-بتهزري، كل ده حصل؟!!
أكدت لها وهي تلف خصلة من شعرها حول إصبعها:
-أيوه، أنا لحد دلوقتي مصدومة.
تنهدت قائلة في ندمٍ:
-يا ريتني جيت معاكي، كنت اتفرجت عليه…
ما لبث أن تحولت نبرتها مرة أخرى للحماس وهي تخبرها:
-بس مش قولتلك شكله ميال ناحيتك.
تصنعت “بهاء” الجدية، وقالت:
-ما تكبريش الموضوع.
ردت عليها مؤكدة:
-مكانش أخوه الكبير لمح بده.
بررت كلماته قائلة:
-مجرد مجاملة.
في شيءٍ من اليقين خابرتها:
-عمومًا الأيام هتبين نيته إيه ناحيتك.
لم تعقب “بهاء” وظلت صامتة، لتضيف رفيقتها بتشوقٍ:
-وأنا واثقة إنه هيكون خير بأمر الله.
…………………………………….
كان مستغرقًا في مراجعة كافة الأوراق الموجودة على سطح مكتبه، وكتابة التقييمات الخاصة بالدارسين، ليحدد بعدها الجزء المتبقي من تدريبه الاستثنائي، تصلب “عمر” في جلسته عندما اندفع “أنس” بعصبيته وضيقه مقتحمًا عليه غرفته، ليقف أمامه متسائلًا في استنكارٍ شديد:
-إيه اللي سمعته ده؟
كان على علمٍ تام بسبب مجيئه، فخاطبه بهدوءٍ:
-زي ما وصلك يا “أنس”!
تم إخطاره –وبشكلٍ رسمي- في وقتٍ سابق بعدم الحاجة إلى استمرار مشاركته في التدريب، وبالتالي اقترح اسمه للترشيح في متابعة تدريب جديد سيبدأ لاحقًا، ليستفزه إقصائه المريب كثيرًا، فلم يستطع تجاوز الأمر، وأخذ يسأله في استهجانٍ حانق:
-بالبساطة دي بتستبعدني من التدريب؟
رد عليه في هدوءٍ استفزه:
-إنت عندك كورسات تانية هتبدأ، كفاءتك هتكون أحسن فيها، وهتكون على راحتك كمان!
اندلع بداخل “أنس” المزيد من الغضب، ولم يتمكن من ضبط انفعالاته الهائجة، ليسأله بلا مقدماتٍ، ونبرته تشي بالاتهام والإهانة:
-إنت عامل كل ده علشان البت إياها؟
أصبح صوت “عمر” أكثر جدية قبل الحزم وهو ينذره:
-“أنس”، ماتدخلهاش في الموضوع.
صاح مستنكرًا بشدة:
-أومال تسميه إيه؟
غلف الجمود ملامحه ونبرته أيضًا عندما أجابه:
-التدريب ده قرب ينتهي، ووجودك فيه مالوش لازمة، فالأفضل تستثمر جهودك في حاجات تانية.
ما زال على استنكاره منه، فغمغم بتذمرٍ:
-هي بقت كده؟
تجاهله، ولم يوله أدنى اهتمام، فتابع في حقدٍ:
-أنا عايزك بس تفتكر إن البت دي مش سهلة، وقعت في الأول بيني وبين صاحبتها علشان توصلي، ولما معرفتش لفت ودارت عليك، وإنت شربت مقلبها.
وقتها تحفز “عمر” في جلسته، واخشوشنت نبرته بدرجةٍ كبيرة وهو يحذره:
-“أنس” إنت مصدق نفسك؟!
ضيق نظراته متسائلًا:
-قصدك إيه؟
نهض من مقعده ليوضح له بنبرة جاهد أن تبدو هادئة:
-أنا أكتر واحد عارف إنت بتعمل إيه ومن زمان، ومفرقش معاك أي بنت مشيت معاها، ولا حتى ضحكت عليها، لأنك واخد الحكاية من باب التسلية واللعب، فمتجيش النهاردة تقنعني إنك كنت دايب في هوى صاحبتها.
صاح محتجًا عليه:
-أنا مقبلش حد يستغفلني!
رد عليه محاولًا المحافظة على ثبات رنة صوته:
-فين الاستغفال بالظبط؟ من ناحية “بهاء”؟ وهي مالها بيك؟ فكر بالعقل شوية هتلاقي نفسك وقعت ضحية مقلب جديد!
كظم غيظه مرغمًا، وقال في نبرة غير مريحة بالمرة:
-ماشي يا باشا، الكلام خلص.
توجس خيفة من ردة فعله الغامضة، فكرر عليه إنذاره الصارم:
-“أنس”! أنا بحذرك ملكش دعوة بـ “بهاء”، هي بقت تخصني.
أعطاه نظرة مفاداها أنه لن يمرر الأمر مهما حدث، رغم نطقه بالعكس:
-تمام، وصلت الرسالة!
راقبه وهو ينصرف على نفس الوتيرة المندفعة التي جاء بها، ليعاود الجلوس على مقعده مرددًا في رجاءٍ:
-على الله تكون اقتنعت!
…………………………………………
لا تعرف إلى أي مدى قد تغير ما بداخلها منذ هذه الليلة التي تمنى فيها مجازًا أن ترضى عنه، وتقبل أن تكون زوجته، كم ودَّت لو صار تقاربهما حقيقيًا وصادقًا! لكنها أحلام حالمة نتجت عن أمنيات خيالها الواهم، وإن كانت الشواهد تؤكد اهتمامه الزائد بها.
زين وجهها ابتسامة مشرقة، كانت مختلفة كليًا عن أي وقتٍ مضى، حينما جاءت إلى الأكاديمية، بحثت عنه بقلبها قبل عينيها، وحينما رأته ابتهجت من أعماقها، ولم تتمكن من إخفاء تعابير السرور من على قسماتها. حاولت “بهاء” التمتع برؤيته خلسة، حينما ينظر للآخرين، فتطيل من التحديق فيه دون أن يمسك بها، وعندما ينظر إليها تتلبك وترتبك، وتباعد نظراتها في خجلٍ، كأنما قبض عليها بالجرم المشهود.
ظلت “بسنت” تتابع ما يدور بينهما في مرح، وبنفس أسلوبها المرح استطردت تشاكس رفيقتها:
-هنشوف النهاردة فراشات الحب طايرة حواليكم.
همست “بهاء” مقضبة أحد حاجبيها:
-“بسنت”، بلاش أفورة، ده تدريب عادي.
ابتسمت في استمتاعٍ وهي تُمازحها أكثر:
-أيوه، افضلي قولي كده لحد ما أشوفكم سوا على الكُوشة!
لمحته يتحرك في الأرجاء، وعلى مسافة تقترب منهما، فلكزت رفيقتها لتحذرها:
-طيب اسكتي علشان هو جاي علينا.
وكأن في مراقبته تسلية عظيمة، راحت “بسنت” تتابع بتحمسٍ إيماءاته الخفية، فأبصرت كيف يتطلع إلى رفيقتها بشغفٍ، فمالت ناحيتها مرة ثانية تؤكد لها:
-عينه مش شايفة غيرك يا قلبي.
عفويًا التقطت عيناها نظرته المهتمة بها، فخفضت من مقلتيها متمتمة بتحرجٍ خجل:
-هتفضحينا على الفاضي!
على مسافة لا تبدو بعيدة عنها اختطف “عمر” نظرة سريعة تجاهها، قبل أن يحول عينيه عنها مخاطبًا الجميع:
-طبعًا اللي فاضل في تدريبنا يعتبر مش كتير، يدوب حاجات بسيطة، وأتمنى تكون التجربة كانت مثمرة ليكم.
رد عليه أحدهم مُثنيًا على مجهوداته:
-شكرًا يا سيادة الرائد على تعبك معانا، حقيقي استفدنا كتير منه.
تابع مبتسمًا في غموض:
-أنا فضلت يكون آخر جزء فيه نوع من التجربة والمغامرة، أكتر منه تعلم.
لم تسترح “بسنت” لطريقته في التمهيد لما هم مقبلون عليه، فاستطردت تسأل رفيقتها بقلقٍ وارتياب:
-هيعمل فينا إيه المرادي؟
انتظرت بترقب تصريحه، ليُعلم الجميع:
-مطلوب من حضراتكم تستعدوا علشان هنتحرك دلوقتي على المطار.
في نبرة ممازحة سأله أحدهم:
-إيه هنروح المالديف؟
ارتفعت رنات الضحك في المكان، وتولى آخر الرد بطرافةٍ:
-مش للدرجادي، هما مش مبذرين أوي.
انتظر “عمر” إلى أن هدأ الدارسين، وأخبرهم مبتسمًا في انتشاء:
-احنا هنعمل حاجة أحسن من كده، هنجرب القفز بالمظلات!
استنفرت في التو “بسنت”، وهمهمت بملامحٍ مالت للشحوب:
-هو اللي سمعته ده صح؟
أومأت “بهاء” برأسها، وهي تبدو مذهولة لاختياره ذلك الأمر:
-أيوه.
في صوتٍ مرتعش راحت “بسنت” تكرر:
-احنا هنط من فوق؟
حاولت “بهاء” إبقاء رفيقتها ساكنة؛ لكن الأخيرة كانت قد بدأت تغرق في نوبة من الهلع، فأصبح صوتها مفزوعًا وهي تتساءل:
-هو بيعمل فينا كده ليه؟
أمسكت بها من يدها تشد عليها هامسة:
-اهدي يا “بسنت”!
غرائز الخوف تحفزت للغاية بداخلها، فاستمرت تردد برفضٍ:
-طب أنا مش مستغنية عن عمري، أنط ليه؟
حاولت طمأنتها بقولها غير الأكيد:
-أكيد هنتفرج بس.
كزت على أسنانها قائلة بفزعٍ:
-هو ده بتاع فُرجة؟!
لم تعرف “بهاء” بماذا تخبرها، فهي مثلها ليست على علمٍ تام بأساليبه العجيبة التي ينتهجها معهم بحجة إكسابهم المزيد من الخبرات العملية لتوسيع آفاق عقلهم. تنبهت لرفيقتها التي أخذت تنوح في لهجةٍ كانت أقرب للرثاء عن المزح:
-كده احنا روحنا هتصعد لبارئها ……………………………. !!
يتبع…
- يتبع الفصل التالي اضغط على (رواية ضبط و احضار) اسم الرواية