Ads by Google X

رواية ضبط و احضار الفصل الرابع عشر 14 - بقلم منال سالم

الصفحة الرئيسية

   

رواية ضبط و احضار الفصل الرابع عشر 14 - بقلم منال سالم

مستعينًا بالحافلات الخاصة بالأكاديمية، أخبر “عمر” كافة الدارسين باستقلالها، تمهيدًا لنقلهم جميعًا للقاعدة الجوية الجديدة، وتحديدًا حيث تتواجد المناطق الخاصة بحظائر الطائرات المختلفة، من أجل الاستعداد لتجربتهم القادمة. ورغم ارتفاع درجة الحرارة، وسخونة الهواء، إلا أنه لم يؤثر أو يقلل من حماس الغالبية العظمى لخوض مثل هذه المغامر المميزة.
في مؤخرة الحافلة، جلست “بسنت” في مقعدها، بجوار النافذة، منكمشة على نفسها، أو الأحرى ملتصقة برفيقتها، رافضة تقبل فكرة تعريض حياتها للخــــطر تحت أي مسمى. كان كل ما يحيط بها هو خلاء شاسع ممتد على جانبي الطريق، فالقاعدة الجوية الجديدة تتواجد في منطقة شبه نائية عن الحضر. حاولت “بهاء” طمأنتها عندما وجدتها شاردة ومتوترة، فأخبرتها في هدوءٍ:
-أكيد مش هننط بجد، ده لازم يكون حد متخصص، واحنا على الله حكايتنا.
تذمرت باحتجاجٍ واضح، وقسمات وجهها مشدودة:
-وهو ده بيهمه حاجة، اللي بيعوزه بيعمله…
التفتت برأسها ناظرة للصحراء الشاسعة التي لا نهاية لها، لتدمدم مُتمة باقي جملتها:
-واحنا حقل التجارب بتاعه.
وضعت “بهاء” يدها على جسدها، وحاولت تهوين الأمر عليها بقولها غير الأكيد:
-خلاص يا “بسبوسة”، إن شاءالله مش هيحصل حاجة.
نظرت إليها الأخيرة بعدم اقتناعٍ من طرف عينها، فأكملت “بهاء” مقترحة عليها وبابتسامة مهتزة:
-ويا ستى لو طلب منك تنطي، اعملي نفسك مغمى عليكي.
باعدت ناظريها عنها، لتعلق بتجهمٍ مزعوج:
-ما هو ده اللي هيحصل، بس بجد مش هزار!
………………………………….
حينما توقفت الحافلات بداخل القاعدة الجوية، كانت الحرارة لا تُطاق، فبدت وكأن الشمس عمودية على رؤوسهم، ساروا بتباطؤٍ وبإرشادٍ من العسكريين المكلفين بتأمين المكان إلى داخل أول مرأبٍ للطائرات. تجمعوا في المنتصف على هيئة هلالٍ، وفضلت “بهاء” و”بسنت” كعادتهما التواجد في الخلفية، لتجنب الصدامات المباشرة مع أي فرد. وقف “عمر” ويداه خلف ظهره في مواجهة الجميع، لم يبتسم وهو يخاطبهم في لهجته الجدية المعتادة:
-في البداية حابب أشكر قادة ورجال القوات الجوية، وخصوصًا سلاح المظلات على مساعدتهم في التدريب بتاعنا النهاردة.
صفق الجميع تقديرًا لهم، ليكمل بعدها في شيءٍ من الثناء:
-هما متأخروش عن دعمنا، وده يدل على تعاونهم الكامل فيما يخص الخدمات المجتمعية، وده معهود منهم.
انتصب أكثر في وقفته الشامخة أثناء سرده:
-زي ما حضراتكم عارفين، احنا هنخوض تجربة جديدة، بعد ما نتعرف الأول على مفهوم عملية الإنزال الجوي.
ثم وجه سؤاله لمن يتطلعون إليه مستفسرًا:
-حد سمع الجملة دي قبل كده؟
تولى أحدهم مهمة الرد، فأجاب بعفويةٍ:
-مش دي اللي بيرموا فيها المساعدات من السماء.
حل تشابك يديه ليشير بإصبعه ناحيته وهو يصحح مفهومه:
-بالظبط، بس نعيد صياغة كلامك بشكل أرقى ونقول إنهم بيلجأوا للنوع ده من عمليات النقل الجوي في حالة وجود نزاعات عسكرية في نطاق دولة معينة، أو كوارث طبيعية بيتعذر خلالها التحرك بسهولة عن طريق البر.
سألته إحدى الشابات وهي تمسك بمفكرةٍ صغيرة في يدها لتدون ملحوظاته الهامة:
-وهل في إنزال جوي خلال الحروب؟ بمعنى ممكن ينفذوا أي عمليات عسكرية منه؟
التفت ناظرًا إليها ليجيبها بإسهاب منظم:
-طبعًا، دي واحدة من استراتيجيات التخطيط العسكري، وبتساعد على السيطرة على مواقع استراتيجية في عمق العدو بأقل خسائر ممكنة، وفي وقت قصير، ده لو قارناها طبعًا بالأساليب التقليدية، التي فيها بنعتمد على استخدام قوات ضخمة لاختراق تحصينات العدو الدفاعية، ودي بدأت من أيام الحرب العالمية التانية.
سرت همهمات متنوعة ما بين الدهشة والتعجب بين الحاضرين، ليستأنف “عمر” حديثه الجاد موضحًا:
-ولازم تبقوا عارفين إن مهام الإنزال الجوي هو عمل مشترك بين القوات الجوية وجنود المظلات.
سأله أحدهم مستفهمًا:
-ومين المسئول عن عمليات الإنزال في حالة المساعدات العاجلة؟
أجابه بملامحه الجدية:
-ممكن نقول قوات حفظ السلام، أو قوات مشتركة مالهاش صلة بالدول المتنازعة، بمعنى أدق قوات على الحياد…
قبل أن يستمر الحوار في نفس الجزئية أخبرهم:
-وأظن إننا اتناقشنا باستفاضة عن ده في محاضرة سابقة.
لم يطل النقاش كثيرًا، وانتقل لشيء آخر، فاستطرد:
-بما إننا في القاعدة الجوية، فلازم نفهم إنه مش زي المطارات المعتادة، لأنه ببساطة خاص بالطائرات العسكرية بمختلف أنواعها.
استخدم بعدها يده في الإشارة حينما تابع وهو يمضي في خطاه للأمام:
-واحنا دلوقت موجودين جوا حظيرة صيانة الطائرات، هناخد جولة في المكان، وهنتعرف من المهندسين المتخصصين على أنواع الطائرات العسكرية، ونعرف بعض المعلومات عن المناورات الجوية.
استوقفه أحدهم متسائلًا في لهجةٍ ممازحة:
-أومال هنجرب القفز بالمظلات امتى؟ ده أنا مجهز نفسي أبقى فيها ولا أيرون مان!
بشفتين مرتعشتين، علقت “بسنت” بخفوتٍ، وفي خوفٍ غريزي:
-مستعجل على عمرك ليه؟!
تطلع “عمر” تجاهه، ليكلمه دون أن يبتسم:
-بعد شوية، هنروح لمكان تاني، هنعرف فيه أساسيات التدريب على القفز بالمظلات، ونعمل محاكاة مبسطة ليه.
نكست “بسنت” رأسها في تحسرٍ، وهي لا تزال تبرطم مع نفسها:
-يدوب نلحق نكتب وصيتنا.
مرة أخرى ربتت “بهاء” على كتفها في ترفقٍ، وحاولت التهوين عليها بقولها:
-هتعدي، ما تقلقيش!
……………………………..
كان الهواء مشبعًا بذرات الرمــال أثناء انتقالهم لمكانٍ آخر، حيث بدا بعيدًا نسبيًا عن مكان استقرارهم الأول. استخدمت “بهاء” غالبية مناشفها الورقية لتجفيف عرقها، بينما حولت “بسنت” ورقة مطوية إلى مروحة صغيرة تحاول بها تحريك الهواء الساخن حول وجهها لترطيبه، ورغم تواجدهم داخل ذلك المرأب، إلا أن الجو كان حارًا وشبه خانق. في تذمرٍ صريح غمغمت “بسنت” وهي تميل بجسدها نحو رفيقتها لتصبح قريبة من أذنها فتتمكن من سماعها:
-احنا جايين نتسلق هنا زي الفراخ قبل ما يخلصوا علينا.
حاولت “بهاء” التهوية بيدها وهي ترد:
-الجو صعب أوي.
تابعت شكواها في عبوسٍ:
-أنا حاسة إن نافوخي بيغلي، وشوية وهيطلع فقاقيع.
زادت عليها في استظرافٍ رغم اكفهرار ملامحها هي الأخرى:
-ده إن ما سحناش هنا!
بدا المرأب مختلفًا في تصميمه عن السابق، وخلا من الطائرات، إلا أنه تضمن مكانًا مغلقًا في نهايته. اجتمع الدارسين على نفس وضعية وقوفهم الأولى، وراح “عمر” يسهب في شرحه لهم:
-طبعًا القفز بالمظلات كان مقتصر زمان على العسكريين فقط، لكن مع الوقت اتحول عن طبيعته التقليدية وأصبح رياضة مشهورة، والمدنيين يقدروا يشاركوا فيها، وكمان بقى وسيلة للترفيه والترويج للسياحة.
سأله أحد الحضور في استفسارٍ جاد:
-الواحد لو عايز يتدرب على الرياضة دي ويبقى محترف فيها المفروض يبدأ من سِن كام؟
جاوبه بعد صمتٍ لحظي:
-متاح التدريب من أي سن، بس القفز نفسه مش قبل 16 سنة تقريبًا.
رد عليه في إعجاب:
-ده كويس جدًا.
إلا أن “عمر” أخبره بما يشبه التوصية:
-بس لازم يكون أثناء الاشتراك في الرياضة دي عندك لياقة بدنية عالية، وطبعًا مضطر تحافظ على ثبات وزنك.
عقب أحدهم في شيءٍ من المزاح:
-يعني ما تدبش في الأكل زي عوايدك.
ضحك الجميع على طرفته، فاستغلت “بسنت” الفرصة لتهمس إلى رفيقتها قائلة:
-ما نقوله إننا تخان وماننفعش في الليلة دي.
طالعتها بنظرة متشككة قبل أن تخبرها:
-يعني إنتي مش شايفة نفسك؟ ده إنتي أرفع مني.
هتفت بتصميمٍ:
-عضمي بيوزن، هي دي حجتي.
انتظر “عمر” للحظاتٍ قبل أن يخاطب الجميع في نبرته الحازمة:
-نسيبنا من الهزار، ونبدأ الجزء العملي.
مرة ثانية تكلم ذلك الشاب محاولًا الاستعلام منه والحصول على مزيد من المعلومات المفيدة:
-سؤال أخير من فضلك، هو التدريب على القفز بالمظلات بيستمر بالتقريب أد إيه.
جاء رده مباشرًا:
-من 4 لـ 6 أسابيع.
تأهب للتحرك نحو المنطقة المغلقة وهو يسألهم:
-جاهزين لمغامرتنا النهاردة؟
اتفقوا ضمنيًا على الرد بحماسٍ:
-أيوه.
من الوراء رفعت “بسنت” كفيها للسماء، وكذلك عينيها لتهمس بتضرعٍ:
-يا رب ينسانا في التدريب ده!
…………………………………….
بالتتابع، وتحديدًا بداخل المنطقة المغلقة، انتظم الجميع في صف مستقيم، الشباب أولًا ثم الشابات، في انتظار الصعود إلى أعلى ذلك الدرج المعدني، والذي ينتهي بمنصةٍ عريضة، يقف عند طرفها القافز، تمهيدًا للوثب بداخل أنبوب طويل محاط بكل جانب بسلك معدني، حيث يضخ الهواء بداخله بقوة عظيمة، تجعل من يتواجد بداخله يطفو بسلاسةٍ، وكأنه يحلق في الفضاء، فيما يشبه محاكاة الطيران الحر، ولضمان سلامة المشاركين، كان يتواجد أحد المحترفين في داخله لإرشاد وتوجيه القافز حتى ينتهي من تجربته.
التعابير الحماسية المنعكسة على كل من يخوض هذه المغامرة التجريبية الصغيرة استحثت الغالبية على مجابهة مخاوفهم، وتقليدهم، للاستمتاع بمزاياها المثيرة. حينما أتى الدور على “بهاء”، صعدت على الدرج بخطواتٍ مرتعشة، ففي داخلها تتصارع رغبتان متناقضتان؛ الأولى في حب المغامرة، والثانية بتجنب المخاطر. توقفت قبل الحافة بمسافة خطوتين، حيث وجدت “عمر” يمد يده بخوذة معدنية لتضعها على رأسها، عاونها على تثبيتها، وطلب منها التقدم تجاه الحافة، فتشبثت بالحاجز المعدني بكلتا يديها، وسارت بخطواتٍ شبه زاحفة، حينما أصبحت في موضعها تحرك خلفها، وسألها:
-جاهزة؟
ارتعشت يديها القابضتين على الحاجز المعدني، وأخبرته بصدقٍ وهي تدير وجهها تجاهه لتنظر إليه بطرف عينها:
-أنا الصراحة مقلقة.
حاول بث الأمان في نفسها بقوله المؤكد، وهذه الابتسامة الصغيرة تزين محياه:
-دي مضمونة، وإنتي شوفتي اللي قبلك لما جربوها اتبسطوا إزاي.
ظهر التردد أكثر عليها، فأضاف لئلا تتراجع:
-صدقيني لما تجربيها بنفسك مش هتندمي.
تطلعت إلى دوامات الهواء الوهمية مليًا قبل أن تسأله:
-على ضمانتك؟
جاء رده على هيئة سؤال، وقد دنا منها أكثر:
-مش إنتي واثقة فيا؟
أصدقته القول حينما جاوبت باقتضاب؛ لكنه عنى الكثير:
-أيوه.
علق مؤكدًا، وهذه النظرة المهتمة تحتل مقلتاه:
-وأنا مش هخذلك.
رغم أن منابع الارتعاد لم تهدأ بداخلها، إلا أنها منحته ثقتها بعد جملته المطمئنة تلك، فاستجمعت شجاعتها الهاربة، واستعدت للقفز .. حينما أصبحت متهيأة سمعته يأمرها من الخلف:
-لما أعد لـ 3 نطي.
قالت باقتضابٍ وهي ترخي يديها عن الحاجز:
-ماشي.
ما إن انتهى من العد، حتى أغمضت “بهاء” عينيها، ودفعت جسدها للأمام، لتقفز بداخل الأنبوب وهي تصرخ عاليًا في فزعٍ، تفاجأت بجسمها يطفو للأعلى وكأنه لا يزن شيئًا، فتوقفت عن الصراخ لتفرد ذراعيها مهللة في ذهولٍ مشوب بالحماس:
-أنا نطيت، أنا عرفت أعملها.
ابتسم في سرورٍ، وقال وهو يصفق لها:
-برافو عليكي.
سرعان ما تبدد الخوف الذي كان يعتريها، وتحول إلى دفقات من الأدرينالين، فغزا كامل خلايا وجعلها في أوج حماسها، لتشعر بمشاعر مختلفة وأكثر عمقًا عن ذي قبل، خاصة وأنه كان موجودًا إلى جوارها.
……………………………………….
استنفرت كافة حواسها حينما أصبح لا مفر من صعودها للأعلى، ورغم تأكيدات “بهاء” لها بأن التجربة مثيرة للغاية، ولا يوجد بها أي تهديد إلا أنها لم تقتنع بسهولة. تسمرت “بسنت” في مكانها، ورفضت التجاوب مع الأوامر، إلى أن جاء إليها “أمير”، فجاورها هاتفًا بإلحاح:
-الدور عليكي يا أستاذة.
ابتلعت ريقًا غير موجودٍ في جوفها، وأخبرته بما يشبه التوسل:
-ما بلاش أنا، اعتبرني نطيط.
ابتسم لها قائلًا:
-ودي تيجي، لازم تجربي بنفسك.
فركت جبينها هاتفة فجــأة، وكأنها تذكرت ما خططت له سابقًا جراء متابعتها لما يدور:
-أنا على فكرة وزني تقيل جدًا، جايز أبوظلكم الجهاز ده، وهو شكله متكلف كتير، حرام الفلوس تضيع.
أشار لها بيده نحو الدرج لتصعد عليه قائلًا بنفس الملامح الباسمة:
-لأ متقلقيش، بيستحمل لحد طن، اتفضلي يالا.
أخبرته مدعية رغبتها في البكاء:
-بص أنا لسه صغيرة وعايزة أفرح بشبابي.
من جديد أكد عليها:
-ما تخافيش، ضغط الهوا هيرفعك.
اعترضت عليه بتوجسٍ كبير:
-وافرض على حظي، وأنا عارفاه كويس، نحس وفقر، الكهربا فصلت، وهوب أروح نازلة على جدور رقبتي تتكسر، ساعتها حد هينفعني؟
لم يستطع إخفاء ابتسامته المستمتعة بردات فعلها الطبيعية، وقال بثباتٍ:
-أنا موجود وهلحقك!
لوت ثغرها مرددة بعبوسٍ:
-كله بيطلع بؤ في الآخر، وساعة الجد ما بنلاقيش حد.
بالكاد كبح ضحكته ليقول متصنعًا الجدية:
-والله ما تقلقي!
آنئذ رفعت بصرها للأعلى متمتمة:
-منك لله يا “بهاء”، إنتي اللي شورتي عليا بالتدريب ده!
ليخفف من توترها مازحها:
-اعتبريها زي الملاهي، بتغيري جو.
احتجت في حمئةٍ:
-وهو أنا هبلة علشان أرمي نفسي في التهلكة، وأدفع فلوس كمان على ده!
وجد صعوبة في إقناعها بعدم وجود مخاطر مهولة مثلما تعتقد، فما كان منه إلا أن أمرها:
-يالا يا أستاذة، مافيش وقت:
استدارت تنظر إليه بحدةٍ قبل أن ترد بتذمرٍ:
-ما تستعجلنيش، سبني أخد وقتي.
طالعها بنظرة غامضة جعلتها تتوتر، خاصة وهو يخبرها:
-إن كان عليا ممكن أسيبك للصبح، بس سيادة الرائد “عمر” مستني، وده لو صبره خلص، مش بعيد يرميكي من الطيارة، مش المنصة دي.
علقت في تبرمٍ:
-ياختـــــاي، عارفاه، مجنون ويعملها.
مرة أخرى التفتت صاعدة الدرج على مهلٍ، ولسانها يردد:
-استر يا رب.
توقفت في منتصف السكة تقريبًا، لتستدير برأسها متسائلة:
-وأنا هطلع منها إزاي؟
كان “أمير” في إثرها، فجاوبها وقد توقف عن الصعود هو الآخر:
-بنخفف ضغط الهواء بالتدريج لحد ما تنزلي لتحت خالص، وساعتها بتقدري تقفي على رجلك، وتخرجي من باب جانبي.
عاودت التحديق أمامها، وهي لا تزال تُبدي تذمرها:
-كان عليا بده إيه!
أوصاها من خلفها:
-ما تنسيش تلبسي الخوذة.
ردت عليه بإحباطٍ:
-أل يعني دي اللي هتحوش!
راقبت “بسنت” وقع خطواتها حتى وصلت إلى الحافة، احتاجت لكل طاقاتها لتجمع جأشها، وتقفز؛ لكنها فشلت، ولم تقدر على مغالبة ما يجتاحها من مشاعر رهبة، فقد قيَّد الخوف قدميها، وجعلها أكثر عجزًا عن ذي قبل. التفتت محدقة في “أمير”، وأخبرته بعنادٍ:
-أنا مش هنط، مش عايزة.
من ورائها تحدث “أمير” لإقناعها بالعدول عن رأيها:
-الموضوع مش خطير للدرجادي.
ردت عليه بنبرة شبه منفعلة:
-خلاص نط إنت.
تفهم مخاوفها، وعقب عليها في صوتٍ هادئ:
-ما أنا بعمل كده بس من الهليكوبتر.
أتى تعليقها مرحًا:
-طب إنت سوبر هيرو، أنا مالي؟
من الأسفل لاحظت “بهاء” التردد الكبير الذي كانت عليه رفيقتها، فبدافعٍ من تضامنها معها، انطلقت نحو الدرج لتصعد إليها بعدما سحبت إحدى الخوذات لتضعها على رأسها، ووقفت إلى جوارها تسألها في قلقٍ:
-“بسنت”، مالك؟ احنا كلنا جربنا، وطلعت تحفة فعلًا، وأمان.
نظرت ناحيتها قائلة:
-أنا مش عايزة.
توسلتها برجاءٍ:
-علشان خاطري.
هزت رأسها مبدية رفضها التام:
-لأ، وسقطوني.
ثم خطت متراجعة للخلف، فأسرعت “بهاء” بجذبها من ذراعها لتستوقفها عنوة، التفتت “بسنت” تنظر إليها بتحيرٍ، خاصة وهي تعتذر منها بغرابةٍ:
-مش عايزاكي تزعلي مني.
ظل تعبير الاستغراب مرسومًا على تقاسيمها إلى أن ضمتها رفيقتها إلى صدرها لتحتضنها، قبل أن تقفز بها إلى الأسفل، والأخيرة تصرخ في صدمة فزعة:
-يا لهــــوي!
……………………………………..
غضبت منها لأنها أسقطتها رغمًا عنها بداخل الأنبوب الهوائي، ورغم أنها لم تتعرض للأذى، وكانت مثلما أخبرها الجميع تجربة آمنة ومثيرة، إلا أنها بقيت على ضيقها من رفيقتها، فلم تتوقف عن الندب أو النواح وهي جالسة على مقعد معدني في زاوية المرأب. مسحت “بهاء” برفقٍ على ذراعها كنوعٍ من الاعتذار لها، و”بسنت” لا تزال تلومها:
-بقى إنتي تعملي فيا كده؟
ردت عليها بحذرٍ:
-ما هو محصلش حاجة.
كفكفت دمعها بظهر كفها، وهتفت:
-ده علشان ربنا عالم بيا.
جاء “أمير” ومعه زجاجة بلاستيكية بها مشروب بارد، مد يده بها ناحيتها قائلًا:
-اشربي اللمون ده يهديكي.
أشاحت بوجهها بعيدًا عنه، وهتفت بعنادٍ طفولي:
-مش عايزة حاجة من حد.
خاطبها في لهجةٍ لينة:
-ده ساقع وفريش، خسارة ما يتشربش.
وقتئذ تخلت عن عزوفها المصطنع، ونظرت إليه قائلة بملامحٍ عابسة:
-هشربه علشان الجو حر بس.
ناولها الزجاجة هاتفًا ببسمة لطيفة:
-وماله.
بعد لحظاتٍ جاء إليهم “عمر” وهو شبه يلهث، سأله “أمير” بغموضٍ:
-الدنيا تمام؟
أجابه بعد نفسٍ عميق:
-الحمد لله، كل حاجة ماشية زي ما خططنا ليها.
استحسن كفاءة الأداء مرددًا:
-حلو أوي.
وجه “عمر” إصبعه ناحية الاثنتين مخاطبًا إياهما:
-خدوا نفسكم وارتاحوا، عقبال ما يجي الدور عليكم.
تصلب جسد “بسنت”، وتساءلت والفزع يعاود الزحف نحو تعبيرات وجهها:
-الدور علينا في إيه؟
أعطاها جوابًا مباشرًا:
-جولة بالهليكوبتر.
لحظتها سقطت الزجاجة من يد “بسنت” لتصرخ فجـأة:
-إنتو بتعملوا فينا كده ليه؟
تحولت الأنظار إليها، فتابعت وقد انتفضت واقفة من موضعها:
-أنا بخاف من خيالي، عايزني أطلع أنط من فوق؟ الله الغني!
صحح لها اعتقادها الخاطئ:
-ومين قال إنك هتنطي؟ إنتي هتشوفينا واحنا بنعمل محاكاة لعملية إنزال جوي.
في شيءٍ من المنطقية ردت عليه:
-طب ما أشوفكم وأنا على الأرض، مش هيجرى حاجة.
تضامنت “بهاء” مع مطلب رفيقتها، واقترحت عليه:
-طالما مش حابة تطلع فوق سيبها على الأرض.
أعطاهما نظرة صارمة قبل أن يأمرهما:
-كفاية دلع، واجهزوا.
ثم تركهما ليغادر باستعجالٍ، فتبعه “أمير” وهو يخبرهما:
-أنا رايح معاه.
استدارت “بسنت” لتواجه رفيقتها مدمدمة بغيظٍ:
-هو ده اللي تدريب نسمة مش هنحس بيه؟
بحذرٍ واضح قالت:
-والله أنا زيي زيك.
عادت “بسنت” لتندب حظها في نبرة مالت للنواح:
-كان عليا بده إيه!
احتضنتها “بهاء” في حنوٍ، وقالت وهي تربت على ظهرها:
-خلاص هتعدي زي اللي قبلها!
…………………………………
شعرت أنها ضئيلة جدًا، بل وضعيفة، وخائفة، ومذعورة وهي تراقب من موضع جلوسها قفز هؤلاء الرجال الأشداء من هذه المسافة العالية من فتحة الطائرة الهليكوبتر، واحدًا تلو الآخر في استبسال يدعو للإعجاب الشديد. لن تنكر “بهاء” أن عينيها كانتا لا تران غيره، فراحت تراقبه وهو يملي أوامره على رجاله ليقوموا بإجراء عملية الإنزال الوهمية بكل براعة واحترافية.
حينما غيَّر “عمر” مكانه ليصبح قريبًا من مجموعة الشابات التي كانت ضمنها، حبست “بهاء” أنفاسها، فقد جلس مثنيًا ركبته أمامها تحديدًا، فتوردت بشرتها خجلًا من اقترابه. ركزت معه، وهو يشرح ما يجري بنبرة عالية ليتمكن من سماعه وسط الضجيج الصاخب:
-احنا بنستخدم المروحية دي للتدريب، تقدروا تقولوا عندنا فوق الـ 300 مروحية على مستوى الدولة للتدريب، وفي طبعًا طائرات مقاتلة، واعتراضية، وهجومية، ونقل عسكري، ومهام خاصة.
ثبت نظره عليها، فشعرت باضطراب أكبر في خفقات قلبها، رغم أنه كان يتحدث بلهجته الجادة:
-طبعًا الإنزال الجوي للمساعدات الإنسانية بيختلف، لأننا بنستخدم المظلات مع الطرود الخشبية المقفولة، ولازم المواد اللي ماتكونش معرضة للتلف، لأنها بطبيعة الحال بتقع من ارتفاع شاهق، ومحتاجة طيارين على درجة عالية من الكفاءة والدقة، بحيث يضمنوا إن الطرد هيقع في مكان الإسقاط.
شتت عينيها عنه عندما سألته هذه الشابة المجاورة لها:
-ما ممكن الطرد ماينزلش في مكانه؟
التفت ناظرًا تجاهها وهو يرد:
-ده حقيقي، نسبة الخطأ واردة، لازم نقول ده كمان، بس احنا بنسمي رجال المظلات بإنهم رجال المهام الصعبة.
في شيءٍ من الجراءة اقترحت إحداهن:
-هو احنا ممكن ننط من هنا؟
أجابها بلا ابتسامٍ:
-تقدري مع حد محترف، بس زي ما قولت محتاجة تأهيل قبل ما تخوضي التجربة.
من أبعد نقطة عن فتحة المروحية، صاحت “بسنت” وهي متشبثة بحزام أمانها:
-أنا عايزة أنزل على الأرض.
أدار “عمر” رأسه تجاهها ليخبرها:
-احنا قربنا نخلص الجولة.
من جديد تكلمت إحدى الشابات في ميوعة مستترة:
-بجد يا سيادة الرائد هنفتقدك جدًا بعد التدريب ده، كان حقيقي ممتع بيك.
تعامل مع أسلوبها برسمية، فاقتضب في رده قبل أن يتحرك مبتعدًا:
-شكرًا.
استوقفته إحداهن تسأله في شيءٍ من الوقاحة:
-هو احنا ممكن ناخد رقمك..
منحها نظرة نارية، فعدلت من حديثها:
-قصدنا يعني بحيث نتواصل معاك لو وقفنا في حاجة.
أشار “عمر” إلى أذنه مردفًا:
-معلش مش سامع علشان الدوشة، خلينا نتكلم لما نهبط بأمر الله.
وانتقل بعدها إلى موضع الطيار في الأمام للحديث معه، فأخذت هذه الشابة تتدلل بتنهيدةٍ متشوقة:
-سكر أوي، أنا بحضر التدريب ده علشانه.
ردت عليها أخرى بنفس اللوعة:
-وأنا كمان.
للمرة الأولى شعرت “بهاء” بالغيرة الشديدة جراء حديثهما اللعوب عنه، لم تعد تحتمل هرائهما، فصرخت فيهما بصوت منفعل استغربت نفسها منه:
-ما كفاية كلام بقى، وادعو ربنا نوصل بالسلامة.
نظرت كلتاهما إليها بتعجبٍ، واستطردت إحداهما معقبة بتأففٍ:
-مالها دي!
وقتئذ أدركت أن ثمة شيء فيها انجذب لا إراديًا إليه، ومع ذلك حاولت استنكاره بترديدها بين جنبات نفسها، وهي مطأطأة الرأس، فلا ترى أي واحدة منهن تلك اللمعة المضيئة في مقلتيها:
-امسكي نفسك يا “بيبو”، إنتي مضايقة ليه ……………………………………….. ؟!!!
……………………………………………………

يتبع…
google-playkhamsatmostaqltradent