Ads by Google X

رواية ضبط و احضار الفصل السادس عشر 16 - بقلم منال سالم

الصفحة الرئيسية

   

رواية ضبط و احضار الفصل السادس عشر 16 - بقلم منال سالم

أبلا داعٍ وجدت نفسها متورطة في فضيحة غريبة، فحملقت بعينين تترقرق فيهما العبرات إلى “أنس” الذي بدا منتشيًا على الأخير لرؤيتها على هذه الحالة المشينة. ابتسم لها بتشفٍ، وراحت نظرة متباهية تتراقص في عينيه، لم تعرف ما الذي اقترفته في حقه ليعاملها بمثل هذا السوء! حتى أثناء مشاجرتها مع “عمر” لم تمسه بأي ضرر. دون أن تفكر مرتين، أخبرت “بهاء” رفيقتها في صوتٍ مختنق بعدما تراجعت خطوتين للخلف:
-أنا ماشية.
أيدتها “بسنت” في رغبتها المنطقية هاتفة:
-وأنا جاية معاكي.
انسحبت كلتاهما في خجلٍ وعلى الفور، وكافة الأعين –بجانب ألسن النميمة- تتابعهما حتى خرجتا من قاعة الاحتفال تتسابقان في خطواتهما المهرولة.
في تلك الأثناء ظلت نظرات “عمر” النارية مصوبة تجاه رفيق السوء، لم يأتِ في مخيلته أن يُقدم على مثل هذه الفعلة الطائشة دون أن يكترث لتبعات جريرته، اندفع تجاهه ليلومه في حنقٍ مبرر:
-إنت عملت كده ليه؟
ببرود مغيظ أجابه:
-بخدمك يا صاحبي، بدل ما الســــكينة سرقاك!
لولا أنه يمثل المظهر العام للانضباط العسكري أمام كافة الضيوف الحاضرين لهذا الاحتفال، لأذاقه من اللكمات ما أعاد تشكيل ملامحه كليًا. كز “عمر” على أسنانه مدمدمًا في غضبٍ بالرغم من خفوت نبرته:
-إنت لا يمكن تكون صاحبي، استحالة أقبل إنك تكون بالأخلاق دي.
زفر على مهلٍ متحدثًا بأسلوبٍ شبه فج:
-يا باشا إنت مضحوك عليك من حتت بنت ماتسواش، عملاك كوبري علشان تحقق غرضها، وتلاقي العريس اللقطة اللي هيتجوزها.
بأنفاسٍ حارة محتدة سأله، وهو يكافح للسيطرة على أعصابه:
-وده يفرق معاك فيه إيه؟ هو إنت المضرور؟
على نفس الوتيرة الباردة السقيمة خاطبه:
-احنا أصحاب، ومش بت (…) زي دي هتخسرنا بعض.
بالكاد منع نفسه من الانقضاض عليه، والإمساك به من ياقته، فضم أصابع يده في قبضة مشدودة هاتفًا بنبرة مغلولة من بين أسنانه المضغوطة:
-اخرس، ماتجيبش سيرتها بحرف!
رفع “أنس” كفه المبسوط ليضعه على كتفه قائلًا في صوت هادئ مستفز:
-اسمع مني ..
توقف في منتصف جملته عندما جاء القائد متحفزًا ليقوم بتوبيخ الاثنين:
-إيه اللي بيحصل هنا؟ وإيه المهزلة دي؟
حاول “أنس” اختلاق الأعذار، فاستطرد بعد حمحمة سريعة:
-يا فندم الحكاية وما فيها…
قاطعه بلهجته الصارمة، وكف يده مرفوع أمام وجهه:
-مش عايز أسمع مبررات، الكل متحول على التحقيق، واللي غلط هيتحاسب مهما كان مين!
نكس “عمر” رأسه في حرجٍ، فتابع القائد أوامره الصارمة عليهما:
-اتفضلوا معايا على المكتب.
………………………………………
خفضت وجهها في خجلٍ طاغٍ على كل قسماتها وهي تهرول راكضة في الرواق باحثة عن أقرب مخرج لتغادر الأكاديمية في الحال، وشعورها بالخزي متعمق فيها. لم تتوقع على أي حال أن تتعرض لذلك الموقف المبتذل، فإهانة كتلك ستجعل الجميع يلوكون سمعتها كالعلكة. مضت “بسنت” معها، وواصلت اللحاق بها وهي تستجديها برجاءٍ، مستشعرة قلة الحيلة المستحوذة عليها لعدم تمكنها من ردع ذلك السمج وإلزامه حده:
-ماتعيطيش يا “بيبو”، قلبي بيتقطع علشانك.
حينما أصبحت بعيدة عن الأعين المراقبة لها، تركت العنان لدموعها الحبيسة لتنساب على وجنتيها، وهي تشتكي إليها في قهرٍ:
-أنا مش عارفة هو بيعمل فيا كده ليه؟
ردت عليها “بسنت” بضيقٍ، وقد دفعت الباب الزجاجي لتصبح خارج المبنى:
-ده إنسان حقود، قلبه أسود.
كفكفت “بهاء” بمنديلها الورقي ما بلل وجهها، واستمرت تقول في أسى:
-أنا ما عمريش اتعرضتله بحاجة، وحتى مشكلتي مكانتش معاه أصلًا، وهو طول الوقت حاططني في دماغه.
في شيءٍ من الحيرة رددت “بسنت”:
-تصرفه ده أكيد وراه حاجة، ومسيرنا هنعرفها.
تنفست “بهاء” بعمقٍ لتخنق نوبة البكاء المسيطرة عليها، فحاوطتها رفيقتها من كتفيها لتستحثها على السير معها خارج أسوار الأكاديمية وهي تخاطبها بنبرة ودودة متعاطفة:
-ولا تزعلي يا حبيبتي، أنا معاكي.
مشت كلتاهما على الرصيف، و”بسنت” لا تزال تتحدث:
-وصدقيني “عمر” مش هيسكتله.
بفعلته المشينة تلك سلبها ثقتها في غيرها، فراحت “بهاء” تقول في تشككٍ مفهومٍ أسبابه:
-الله أعلم، ما جايز يكون متفق معاه.
في الحال دافعت عنه صديقتها نافية عنه أي تهمة باطلة:
-دي مش أخلاقه .. استحالة!
قالت بغير تصديقٍ، والحزن يكسو تقاسيمها المتجهمة:
-مافيش حاجة مضمونة في الزمن ده.
بدا وكأن يومها السعيد قد تحول إلى ذكرى تعيسة مؤسفة، مهما سعت بشتى الطرق لطمر تفاصيلها، ستظل تؤرقها كلما تذكرت ما مرت به خلالها.
……………………………………….
بعد تقريعٍ، وتوبيخ، وتحذيرٍ قاسٍ، غــــادر “عمر” مكتب قائده باحثًا عنها، والقلق يعتريه، ظنَّ في البداية أنها توجهت للحمام لتختبئ به؛ لكن العاملة المرابطة عند الباب أخبرته بعدم تواجد أي شابة بالداخل تحمل مواصفاتها، فانصرف مسرعًا نحو المرأب ليفتش عنها هناك. لم يجد سيارة “بسنت” ضمن السيارات المركونة، فنفخ في انزعاجٍ، واتجه إلى خاصته ليستقلها. استوقفه “أمير” قبل أن يصعد إليها متسائلًا بصوتٍ شبه لاهث:
-مافيش حد منهم كان جوا، أنا فضلت موجود جوا القاعة.
رد عليه باستياءٍ واضح في نبرته، وأيضًا تعابير وجهه:
-العربية بتاعة صاحبتها مش موجودة أصلًا.
لوى “أمير” ثغره معقبًا:
-أكيد بعد اللي حاصل ده لازم تمشي.
كور “عمر” قبضته ضاربًا بعصبية جانب سيارته وهو يهدر بتوعدٍ:
-مش هفوتهالك يا “أنس”!
سلط رفيقه نظرته المستفهمة عليه وهو يسأله:
-هتعمل إيه؟
تجاهل الرد تحديدًا على هذا السؤال، وقال في عزمٍ وهو يفتح باب سيارته:
-الأول لازم أروح أوضح سوء التفاهم ده، واتصرف بطريقتي معاها.
تساءل “أمير” في اهتمامٍ:
-تحب أجي معاك؟
أخبره بعينين تتطلعان إليه بغموضٍ غريب:
-المشوار ده بالذات لازم أبقى فيه لواحدي.
استقر بعدها جالسًا خلف عجلة القيادة، ليضغط على دواسة البنزين منطلقًا بالسيارة في إثرها، وهو يأمل أن يتمكن من محو آثار تلك الذكرى بإظهار نواياه الجادة ناحيتها.
……………………………………….
تصاعدت أبخرة الطعام المطهو من القدور الموضوعة على الموقد، فأمسكت “فادية” بالملعقة لتتذوق الحساء الذي أعدته، ابتسمت لنفسها في تفاخرٍ لنجاحها في تطبيق الوصفة الجديدة ببراعةٍ، وراحت تتفقد باقي الأصناف بكل همةٍ ونشاط. انتبهت لرنين هاتفها المحمول، فجففت يدها الرطبة في مريلة المطبخ، والتقطته من على الطاولة الرخامية، لتتفاجأ بـ “بهاء” تعتذر لها عن القدوم وتناول طعام الغداء معهما. استغربت لعزوفها، وسألتها في توجسٍ:
-أوعي تكوني عيانة ومش عايزة تخضينا عليكي؟!
جاء صوتها مهمومًا:
-لا والله، بس أنا فعلًا ماليش نفس.
سكتت لهنيهةٍ قبل أن تقترح عليها بنبرة أمومية حانية:
-طب لما عمك يجي أكلمك علشان تتغدي معانا؟
استمرت على رفضها قائلة:
-مافيش داعي، أنا هغير هدومي وأنام.
تساءلت في اندهاشٍ مشوب بالحيرة:
-وماتناميش ليه عندنا؟ لازم تفضلي لواحدك يعني؟
كانت “بهاء” فاقدة للرغبة في الجدال أو النقاش حول أي شيء، لهذا أنهت معها المكالمة فـــجــأة:
-معلش يا طنط، سلام دلوقتي.
تعجبت “فادية” أكثر لتصرفها المتجافي، وتساءلت مع نفسها في حيرةٍ:
-هو إيه بس اللي جرالها؟ دي كانت نازلة الصبح ومزاجها عال العال!
تركت هاتفها جانبًا واتجهت إلى الموقد وهي تقول في عزمٍ:
-أما يجي “سليمان” هبعته عندها يشوف مالها.
…………………………………………
بعد مكالمة زوجة عمها، كان حلقها بالغ الجفاف، فاتجهت إلى المطبخ، وارتوت بكأسين كاملين من المياه الباردة، تركت الزجاجة الفارغة في الحوض لتعيد ملئها لاحقًا بمياه الفلتر. لم يتوقف عقلها المشحون عن التفكير للحظةٍ، حاولت التظاهر بأن شيئًا لم يحدث، وعادت للجلوس في الصالة، أمسكت مرة ثانية بهاتفها المحمول تقلب فيه؛ لكن للأسف عجت صفحات التواصل الخاصة بالدارسين في الأكاديمية بعشرات التعليقات الفضولية المناقشة لما حدث. ألقته في عصبيةٍ على الأريكة بجانبها، وهمهمت في حمئةٍ:
-حسبي الله ونعم الوكيل.
وجدت رســالة صوتية من رفيقتها “ميرا”، فلم تبدُ مهتمة بمعرفة فحواها، ورددت بتأففٍ:
-مش وقتك خالص.
هاتفتها “بسنت” للمرة الرابعة على التوالي، ومع ذلك تجاهلت اتصالاتها المتكررة لتتجه بتثاقلٍ نحو الحمام، فقامت بملءٍ المغطس بالمياه، بعدما سكبت فيه كمية لا بأس بها من سائل الاستحمام. تنهدت بإرهاقٍ قبل أن تُحادث نفسها:
-مافيش غير دش مياه سخنة ينسي الواحد كل همومه!
إلحاح رنين الهاتف أجبر “بهاء” على العودة إلى صالة المنزل، دون أن يشتم أنفها هذه الرائحة الغريبة المنبعثة بداخل الحمام، فقد بدا وكأن هناك عطب ما بأنابيب الغاز، فأخذ يتسرب منه، ناشرًا رائحته المميزة في المكان.
التقطت “بهاء” هاتفها من على الأريكة، كانت مرغمة على الإجابة عليها، وإلا لما تركتها لشأنها، فردت على مضضٍ دون مقدماتٍ:
-“بسنت”، أنا هكلمك بعدين، سيبني على راحتي، أوكي.
هتفت الأخيرة بتعجلٍ قبل أن تغلق الخط مباشرة:
-ماشي، بس عايزة أقولك على حاجة كده في السريع.
لم تكن مهتمة بالأمر، فأفصحت عن ذلك وهي تجلس على مسند الأريكة:
-مش عايزة أعرف.
بلا تمهيد نزعت فتيل قنبلتها المدوية بقولها الصادم:
-“ميرا” ورا اللي حصلك؟
انتفضت واقفة لتهتف مذهولة:
-نعم؟
أكدت لها بشيءٍ من الإسهاب:
-أيوه، أنا عرفت من واحدة من شلتنا إنها اتفقت مع “أنس” يعملوا المقلب ده فيكي علشان يضايقوكي في الحفلة.
ارتفعت وتيرة الغضب في نبرتها وهي تسألها مستنكرة:
-وعلشان إيه كل ده؟
جاء تعقيبها مزعوجًا مثلها:
-بصراحة أنا مصدومة فيها.
إحساسها بالغيظ قهرها أكثر، فلم تستطع كبح شعورها الحقد تجاهها، فراحت تتوعدها بحــــرقةٍ:
-وأنا مش هفوتهالها، مش كل مرة تعمل مصيبة، وأنا أساعدها تخرج منها، وفي الآخر تيجي على دماغي.
في نوعٍ من الندم تحدثت إليها:
-الواحد مش عارف يقول إيه، مكونتش أتخيل إنها كده، ده احنا عِشرة عمر معاها.
ثم انتقلت لسؤالها في حذرٍ:
-صحيح إنتي قريتي اللي على الجروبات؟
بعد زفرة سريعة اقتضبت في الرد:
-أيوه.
حاولت التهوين عليها بإخبارها:
-أنا عرفت إن القائد مش هيفوت اللي حصل على خير.
قالت بعبوسٍ:
-والمفروض أتبسط؟ وأبقى بكده خدت حقي؟
علقت عليها في الحال:
-مقصدش، بس احنا نقول الحمد لله إن ده حصل في آخر يوم، وأنه آ…
ظهر التردد في كلماتها الأخيرة، فبدت وكأنها لا تجد المناسب من العبارات لتخفف من ضيقها، على عكسها أكملت “بهاء” ما عجزت رفيقتها عن إتمامها بصياحها:
-وإلا كانوا عايروني للصبح، مش ده اللي عايزة تقوليه؟
ردت عليها بنبرة شبه مهتزة:
-مش كده، بس يعني…
قاطعتها في حدةٍ:
-مش محتاجة تبرري يا “بسنت”، أنا مش هسكت عن حقي.
رجتها في خيفةٍ:
-طب إهدي، وخلينا نتكلم تاني لما تروقي شوية.
اختتمت معها المكالمة وهي تمرر أصابعها المشدودة في شعرها، سارت عائدة إلى الحمام وهي تدمدم بانفعالٍ:
-بقى يطلع منك كل ده يا “ميرا”؟
آنئذ زكم أنفها الرائحة الغريبة للغاز المتسرب من سخانها، فانتابها القلق، وتساءلت وهي تفتش عن مكان انبعاثه به:
-ده جاي منين؟
كحركة تلقائية اتجهت نحو نافذة الحمام لتفتحها، لتقوم بتهوية المكان من الرائحة الخانقة؛ لكنها لم تنتبه للأرض الزلقة التي تناثرت بها فقاقيع صابون سائل الاستحمام، فانزلقت قدمها، ولم تتمكن من الحفاظ على اتزانها، لتسقط أرضًا صارخة بفزعٍ، ورأسها قد ارتطم بحافة الحوض الغليظة، ففقدت وعيها في الحال.
……………………………………
احتاج لبعض الوقت حتى يتمكن من استعادة هدوئه، وترتيب أفكار رأسه، قبل أن يترجل من سيارته، قاصدًا مقابلتها في منزل عمها بحضوره، وطلب خطبتها رسميًا. لم يعبأ إن كان مجيئه بدون موعد، أو أنه تجاوز خطة شقيقه في التودد أولًا إليها و(جس نبضها) كما أخبره، ليتأكد من انجذابها إليه، أو حتى ارتدائه لملابس مناسبة، نسى كل شيء بعد الذي صار، وأصبح عاقدًا العزم على ألا يدع اليوم يمرق دون أن تتأكد من صدق مشاعره نحوها.
لم يكن “عمر” بحاجة لسؤال أحدهم عن منزل عمها، صعد إليه بسهولة وفي وقتٍ وجيز، ليقرع الجرس بعدها منتظرًا بتأهبٍ قيامها بفتحه، تذكر المرة اليتيمة التي رآها فيها هنا، وكانت تحمل في يدها كيس القمامة معتقدة أنه حارس البناية، وقد جاء لأخذه منها. ابتسم بشكلٍ عفوي، وردد في مرحٍ مع نفسه وبلا صوتٍ:
-الظاهر كان معروف إني هشيل الزبـــــــالة في الآخر!
تصلب في وقفته عندما فتحت “فادية” الباب لتجده قبالتها، طالعته بنظرة مدهوشة قبل أن تُحرك شفتيها لتلاحقه بأسئلتها، وهذا التعبير المدهوش يحتل كامل وجهها:
-سيادة الرائد؟ خير؟ جاي عندنا ليه؟ في حاجة حصلت؟
استقبل اندهاشها بهدوءٍ، فسألها بأدبٍ:
-عم “سليمان” موجود؟
أجابته بحاجبين معقودين:
-لأ، بس هو في الطريق.
ابتلع ريقه متابعًا بقليلٍ من التردد:
-طب “بهاء” .. آ.. قصدي الآنسة “بهاء” موجودة؟
هزت رأسها قائلة وهي تشير بإصبعها للأمام:
-أيوه، بس في شقتها!
تلقائيًا اتجه برأسه إلى حيث أشارت مرددًا في استغرابٍ:
-شقتها؟
أوضحت له بابتسامة عريضة:
-هي ساكنة قصادنا، يعني معظم الوقت معانا، بس ساعات بتفضل في بيتها لو هي مضايقة ولا مخنوقة ولا حاجة شاغلة دماغها.
في التو رجح سبب عزلتها الحالية هو ما تعرضت له من موقف محرج، فطلب منها برجاءٍ محسوس في نبرته:
-طب أنا عايز أتكلم معاها ضروري في مسألة مهمة.
فسرت “فادية” اهتمامه بشأنها بشيء آخر تحبذ تمام حدوثه في المستقبل القريب، لهذا لم تمانع على الإطلاق طلبه، وحركت رأسها هاتفة بحماسٍ:
-حاضر.
اتجهت ناحية باب منزلها لتدق عليه، ويدها الأخرى تقرع الجرس، قبل أن تصيح في صوتٍ مرتفع:
-“بهاء” افتحي يا حبيبتي.
لم تتلقَ أي استجابة منها، فتصنعت الضحك، واستدارت برأسها نصف استدارة لتتحجج له:
-أصلها كانت جاية تعبانة، فاحتمال تكون نامت ومش سامعة الباب.
حملق فيها بنظرة مستريبة، فأضافت وهي تستخدم يدها في الإشارة:
-أنا عندي المفتاح بتاع شقتها، استنى هجيبه من الدرج وأرجعلك.
قال مومئًا برأسه:
-يا ريت.
انتظر ذهابها ليبدأ في الطرق على الباب مناديًا:
-آنسة “بهاء”، لو سمحتي افتحي.
تريث للحظاتٍ وهو يتساءل مع نفسه:
-مش معقولة مطنشاني!
راوده هاجس مزعج باحتمالية اعتقادها في تورطه في هذا المقلب السخيف، فانتفضت أوصاله، وراح يدق على الباب مكملًا ندائه القلق:
-آنسة “بهاء”، من فضلك افتحي، لازم أكلمك وأفهمك اللي حصل.
عادت إليه “فادية” وهي ترسم على ثغرها تلك الابتسامة السخيفة، تعللت مجددًا بمزيدٍ من الأعذار:
-ممكن تكون نايمة، ما هي بتتعب معاكو على الآخر.
أخبرها بجديةٍ:
-احنا خلصنا تدريب.
شعرت بالحرج الطفيف من توضيحه، وقالت:
-على البركة يا رب.
قامت “فادية” بفتح الباب في تلكؤ وهي تستمر في مخاطبته بوديةٍ، كأنما تسترسل في محاسنها:
-تعرف يا سيادة الرائد، ولا ليك عليا حلفان، “بهاء” دي متربية على إيدي، تربية زمان المحترمة، حاجة معدتش في منها دلوقت.
رد من خلفها:
-ما أنا عارف.
ضحكت بتكلفٍ قبل أن تقول:
-أصيل ..
ثم تنهدت رافعة بصرها للسماء وهي تدعو المولى في سريرتها:
-يا رب يبختلك معاه يا “بيبو”.
ما إن ولجت إلى الداخل حتى اشتمت تلك الرائحة المكتومة، تحرجت من إهمال “بهاء” لتهوية منزلها جيدًا، وقالت وهي تشير بيدها ليجلس:
-اتفضل استناها هنا، وأنا هخش أشوفها جوا.
سار تجاه أقرب أريكة مرددًا في طاعة، وعيناه تتابعان حركتها:
-تمام.
التقط أنفه نفس الرائحة الغريبة؛ لكنه على عكس مُضيفته استطاع أن يتبين ماهيتها، فهب واقفًا ليقول بتوجسٍ وهو يطوف ببصره في الأرجاء:
-في ريحة غاز في المكان!
بلا استئذان اتجه نحو النافذة الموجودة بصالة المنزل ليقوم بفتحها أولًا، قبل أن يبحث عن مصدر هذه الرائحة النفاذة. تسمر في مكانه مفزوعًا عندما سمع صوت “فادية” يصرخ مستغيثًا:
-يا نصيبتي، “بهــــــاء”!
في التو اندفع نحو الداخل ليجدها تستنجد به رغم السعال الذي أصابها فجأة:
-الحقني يا سيادة الرائد.
أرشدته إلى الحمام، فانخفضت عيناه على الأرضية ليجد “بهاء” راقدة عليها بلا حراكٍ، انقبض قلبه في ذعرٍ كبير، وقال مطمئنًا إياها، إن لم يكن نفسه أولًا:
-إن شاءالله هتبقى كويسة.
لف ساعده حول أنفه ليمنع رائحة الغاز من اقتحام رئتيه، وأمرها في صوتٍ جاد:
-في تسريب غاز في الشقة، اقفلي المحبس لو في المطبخ، واطلبي طوارئ الغاز أوام.
هزت رأسها هاتفة في طاعة:
-حاضر.
انطلق صوبها متخذًا حذره في خطواته على الأرضية الزلقة التي أصبحت غارقة في المياه، سعل رغمًا عنه من الرائحة الخانقة، ومد إصبعيه ليتحسس النبض في عرق رقبتها، أحس بقدرٍ من الارتياح لكونه لا يزال يشعر بنبضها، ثم ألقى نظرة تفقدية سريعة عليها، ليجد بقعة من الدماء المتجلطة عند مؤخرة عنقها. قذف قلبه في ارتياعٍ أكبر، وجاهد ليبدو هادئًا، قادرًا على التعامل بحنكة مع أزمتها. في التو مرر ذراعيه أسفل جسدها ليحملها نحو الخارج، ونظراته القلقة تطوف على وجهها الساكن.
ضمها إلى صدره وهو يخشى من أعمق أعماقه احتمالية فقدانها، اندفع بخطواته المتعجلة إلى خارج شقتها ليشرح في عجالة للجيران الذين تجمعوا سبب المشكلة الخطيرة، وكيفية التعامل معها بشكل أولي ريثما تأتي النجدة لإنقاذهم.
تولى المسئول عن إدارة شئون البناية متابعة الأمر، في حين هبط “عمر” الدرجات وهو يحملها متجهًا بها إلى سيارته، لتتبعه “فادية” وهي تضع الهاتف على أذنها لتتصل بزوجها لتعلمه بالأمر.
استخدم “عمر” يده بصعوبةٍ في فتح الباب الخلفي لسيارته، وأمر “فادية” بالجلوس أولًا قبل أن يريح جسد “بهاء” عليها، ليطلب منها بعد ذلك في صوت حازم رغم سمة القلق الظاهرة فيه:
-امسكيها كويس، وخدي بالك من راسها.
-يا لهوي، دي دماغها اتفتحت.
-ربنا يستر وما يجرالهاش حاجة.
أخذ يردد في صوتٍ لاهث، آملًا ألا يصيبها مكروه:
-إن شاء الله هتبقى بخير، إن شاء الله.
صفق الباب، وانطلق راكبًا خلف عجلة القيادة، ليندفع بسيارته عبر الطرقات والمسالك المختلفة ليصل بها في أقرب وقتٍ إلى المشفى العسكري، فالثانية الواحدة قد تكلفها حياتها.
……………………………………………
لم يتوقف عن الضغط على بوق السيارة أثناء انحرافه بين المركبات المتحركة هنا وهناك محاولًا المرور بينهم لتجاوز الزحام الخانق، نظر “عمر” بين الحين والآخر عبر انعكاس مرآته الأمامية إلى “بهاء” مراقبًا ما يطرأ على وجهها من تغييرات حيوية، لاذ بالصمت مضطرًا رغم أنين “فادية” وندبها المتواصل، كل ما طمح فيه أن تمضي تلك اللحظات العصبية على خير، ويصل بها إلى بر الأمان.
عند منطقة استقبال الطوارئ، صاح “عمر” مناديًا على من بالمشفى ليساعدوه في حملها ووضعها على الناقلة لفحصها في الحال، تدخل الفريق الطبي المكلف باستقبال حالات المرضى العاجلة، وتولوا رعايتها طالبين منه الانتظار بالخارج. فتوقف في موضعه مقاومًا شعوره بالعجز، ليجد “فادية” من ورائه تبكي في حزنٍ:
-نجيها يا رب من اللي هي فيه، دي يتيمة ومالهاش حد يا رب.
وكأن ما به من طاقة صمود قد تبخرت دفعة واحدة، فبحث عن أقرب مقعد ليجلس عليه، شاعرًا بهذه الغصة المؤلمة في صدره. رفع “عمر” عينيه اللامعتين بدمعات خفية إلى السماء مناجيًا بلا صوتٍ:
-يا رب احفظها لي، يــــا رب!
…………………………………………..
دارت كل الاحتمالات المخيفة في رأسه؛ لكن ما لبث أن سكنت جميعًا كأنها لم تكن عندما جاء الطبيب ليطمئنهم على حالتها، حتى إصابة رأسها لم تشكل أي خطورة عليها، وقتئذ تنفس “عمر” الصعداء، وأحس بموجة من الارتياح تغمره، فابتسم لأول مرة في حبورٍ لكونه قد أتى في اللحظة المناسبة، وإلا لتطورت الأمور الأسوأ، واختلف السيناريو عن الوضع الراهن، وهذا ما لم يرغب في التفكير فيه.
بعد برهةٍ سُمح لهم بالدخول لغرفتها التي تمكث بها لتفقدها، فأسرعت “فادية” لتسبقهم، واندفعت تجاه فراشها لتميل عليها وتحتضنها وهي تخاطبها في نبرتها الحانية:
-حمدلله على السلامة يا حبيبتي.
رفعت “بهاء” ذراعها لتضمها قائلة بصوتٍ خافت:
-الله يسلمك.
أجهشت زوجة عمها بالبكاء تأثرًا، فاستنكرت الأخيرة رهافة مشاعرها، وطلبت منها:
-أنا كويسة، بلاش تعيطي علشان خاطري.
ردت عليها بصوتها الباكي:
-مش بإيدي والله، كنت خايفة لتروحي مننا.
قالت مبتسمة في وداعةٍ:
-أنا الحمد لله أحسن.
لحظتها وقف “عمر” عند أعتاب الغرفة مترددًا في الدخول، فاستغلت “فادية” الفرصة لتمتدح حُسن معروفه، فهتفت في تفاخرٍ:
-ربنا يكرمه سيادة الرائد، ده لولا إنه جه علشانك ولا كنا درينا باللي حصلك.
اندهشت “بهاء” من الأمر، ورمقته بنظرة خاطفة متسائلة في صوتٍ بالكاد كان مسموعًا ومعبرًا عن حيرتها:
-جاي علشاني؟
أضافت زوجة عمها بمزيد من الإثناء على مجهوداته العظيمة:
-ده ما سبناش للحظة، وهو اللي شالك، وجابك لهنا، ووصى عليكي كل الناس.
نظرت إليه “بهاء” مجددًا في خجلٍ، وأردفت:
-شكرًا على تعبك معايا.
تقدم ناحية فراشها معلقًا بابتسامة عذبة:
-ما تقوليش كده، المهم عندي إنك بخير.
نطق بكلماته تلك وهو يرمقها بهذه النظرة الشغوفة، تلك التي لم تستطع إنكار صدقها، شعرت وكأنها نفذت إليها كتيار كهربي، فسرى في بدنها رعدة خفيفة جعلتها ترتبك أكثر، وتشعر باندفاع الدماء في عروقها لتضفي على وجهها سخونة عجيبة. ما زاد من شعورها بالتلبك والحرج مجيء عمها ليقول في ارتياحٍ:
-الحمد لله مشكلة الغاز كمان اتحلت، مأمور العمارة طمني.
ردت عليه زوجته باستحسانٍ:
-خير يا رب.
ظن “عمر” رغم ما حدث أن الظرف مناسب لمفاتحتهم فيما يرغب فيه، لهذا دون ترتيب، توجه بحديثه إلى عمها مستطردًا:
-عم “سليمان” أنا عايزك في موضوع.
سأله بتوجسٍ:
-خير يا ابني؟
تنحنح قائلًا في نبرة اتخذت طابعًا جديًا:
-من غير لف ولا دوران، ولا تذويق للكلام، أنا عاوز أخطب الآنسة “بهاء”.
حلت الصدمة على ثلاثتهم، فحملقوا فيه مندهشين، لتفيق “فادية” أولًا من صدمتها مهللة بصياحٍ مبتهج:
-يا ألف مبروك.
تدارك “سليمان” نفسه، وقال متعللًا:
-بس الظرف مش مناسب يا ابني، ولا حتى المكان.
رد عليه بإصرارٍ، وعيناه تختطفان نظرة سريعة تجاه “بهاء” الخجلى:
-مش فارقة يا عم “سليمان”، المهم عندي إنك توافق.
قال بعدما حك طرف ذقنه:
-رأيي أنا مش مهم، هي اللي هتتخطب مش أنا.
لحظتها توجه “عمر” بسؤاله إليها مخاطبًا إياها برسميةٍ عجيبة:
-قولتي إيه يا آنسة “بهاء”؟
النظرات المرتكزة عليها جعلتها تشعر بعدم الراحة، فحاولت المناص من الرد المباشر، وأشارت إلى هيئتها مرددة في لمحة من السخرية:
-طب أرد أقول إيه وأنا بالمنظر ده؟
ضحكت “فادية” معلقة بلطافةٍ وهي تلكزها في جانب ذراعها برفقٍ:
-قولي أه، وريحيه، إنتي ماشوفتيش كان قلقان عليكي إزاي!
انتظر على أحرٍ من الجمر سماع جوابها، فلم تبخل عليه بمنحه ما يثلج صدره، ويروي ظمأ نفسه التواقة لما يُسعدها، فقالت على استحياءٍ، وبوجه متضرج في حمرته:
-وأنا موافقة.
بمجرد أن فاهت بتلك الكلمات الموجزة المعبرة عن قبولها بخطبته، حتى قفز قلبه طربًا، وابتهجت أساريره، حتى عينيه انبعثت منهما نظرة فرح متألقة، بينما أطلق “فادية” دفعة متلاحقة من الزغاريد المسرورة، كأنما تتواجد في قاعة أفراح لا في غرفة بالمشفى، ليضرب بعدها “سليمان” كفه بالآخر مرددًا في تعجبٍ:
-عشنا وشوفنا، جوازات آخر زمن ………………………………. !!
…………………….

يتبع…
google-playkhamsatmostaqltradent