رواية سدفة الفصل السابع و العشرون 27- بقلم اية شاكر
*إلى تلك المحـ ـاربة الشجاعة التي تقرأ عليها صديقتها هذه الكلمات.
✨✨✨✨✨✨
انتبه محمد لغباء سؤاله فاتسعت ابتسامته وهو يحك جبهته وقال رافعًا حاجبيه بتسائل:
-فعلًا؟!
رمقته بنظرةٍ خاطفة ثم سألته وهي تنفض التراب عن ملابسها:
-إنت… بتعمل إيه هنا؟ و… ومرجعتش مطروح ليه؟!
قال بعد تنهيدة خفيفة:
-عشان يا ستي نقلت شغلي هنا…
-هنا؟! بجد؟!
قالتها بسرور أطل من عينيها وهي تنتصب واقفة وتطالعه بابتسامة أظهرت فرحتها، فأومأ وقال ببسمة:
-بجد.
وحين تلاقت نظراتها مع نظراته، ارتبكت وتجاوزته لتخرج من بوابة البيت، هاتفةً وهي تتحاشى النظر إليه:
-أ… أنا هشتري كابتشينو وأجي… اطلع إنت رائد فوق.
-طيب اعملي حسابي…
قالها بنبرة مرتفعة رافعًا يده كأنه يشير إليها لكنها لم تلتفت فقط اكتفت برفع إبهامها عاليًا ليراه، تأمل مكانها الفارغ هنيهة ثم تنفس الصعداء وصعد الدرج ببطئ وحوارهما يدور بعقله والإبتسامة العذبة عالقة على محياه سُرعان ما تحولت ابتسامته لضحكات خافته حتى وقف أمام الباب، تنحنح متظاهرًا بالجدية قبل أن يطرقه ثم يرن الجرس في هدوء وتؤدة.
بقلم آيه شاكر
استغفروا♥️
★★★★★
-يعني الهمس اللي بينكم ده عشان الشغل؟!
قالتها شيرين بنبرة ساخرة، زاغت نظرات نداء وعادت للخلف خطوتين، نظرت في كل اتجاه إلا نحو رائد الواقف جوارها، فقد كانت شيرين تبدل نظرها بينهما وتخاطبهما بغمزات متهكمة، وسخرية واضحة في نبرة صوتها.
اضطرب رائد هو الأخر وأخذ يرد على كلماتها الساخرة ببسمة خفيفة مضطربة، يكرر ويكرر أن حوارهما لأجل العمل وتقابله شيرين بسخريتها اللطيفة، دار بينهما حوار لم تسمع منه نداء شيء كانت تفكر كيف أن شيرين أساءت فهمهما! تجهمت وغضبت من رائد الذي وضعهما موضع شبهة، ورفعت بصرها حين سمعته يقول بضحك:
-هو في إيه يا ماما؟!
سلطت شيرين بصرها على نداء مرددة بنفاذ صبر:
-برده هيسألني فيه إيه!!
أطرقت نداء مرة أخرى بحرج، بينما تناهى لسمعهم صوت عمرو الذي قال بنبرة مرتفعة وبضحكات ساخرة:
-هيكون فيه إيه!! فيه نظرات من تحت لتحت وريحة الحب بتهفهف في البيت كله…
جحظت عيني رائد غضبًا حين فهم ما يرمي إليه أخوه، قال بحدة وبنبرة مرتفعة:
-خد تعالى…. واد يا عمرو… خد يا عامر تعالى…
أجفل الطفلان وركضا فارين لحيث يجلس يحيى مع وئام، فزم رائد شفتيه وحاول أن يواري ارتباكه خلف صوته الحاد وهو ينادي باسم عمرو وعامر في تهديد ووعيد، وحين طالع والدته وجدها تحدجه بنظرات ثاقبة متفهمة، وهي ترفع حاجبيها عاقدةً ذراعيها أمام صدرها وجوارها نداء الصامته التي أطرقت في خجل مشوب الغضب، فرك رائد عنقه بتوتر ثم هرول رائد لخارج المطبخ وهو ينادي أخويه، في حين رن جرس الباب فهرعت نداء وهمت أن تهرب هي الأخرى وهي تردد:
-دي… أكيد هيام… هـ… هروح أفتحلها.
نظرت شيرين لأثرهما للحظات قبل أن تتسع ابتسامتها وتلهج بالدعاء لهما ولسائر أبنائها…
لا تغفلوا عن ذكر الله وعن الصلاة♥️
★★★★
وبعد ما تفوه به يحيى من حماقات قرر التزام الصمت، فلا داعي للمزيد من الهرتقات التي يندم عليها فور نطقها، ظل يفرك في مجلسه ينظر صوب الباب كل ثانية ينتظر أن يظهر أحد لكنه لم يسمع سوى أصوات ضحكاتهم وكلامهم…
وبعد فترة من الصمت المطبق، حاولت وئام جذبه للكلام، فقالت بحياء:
-ممكن أقولك حاجه لسه محكيتهاش لحد؟
انتبه لها وقال مبتسمًا:
-طبعًا… اتفضلي يا وئام.
قالت:
-أ… أنا امبارح صليت استخاره و… ولما نمت حلمت إن إنت اشتريتلي فستان حلو أوي…
-دا أكيد فستان الخطوبة!
قالها مازحًا وابتسمت فأضاف:
-أنا كمان شوفت رؤية مبشرة… وأتمنى يا وئام أكون الزوج اللي يقدر يسعدك.
-وأنا كمان أتمنى كده…
أردفت بنبرة مرتعشة:
-قصدي اتمنى أكون الزوجه اللي تسعدك…
وأضافت مسرعة وكأنها أدركت فداحة مجمل حديثها:
-دا… دا… لو حصل نصيب…
قال بابتسامة:
-إن شاء الله.
قاطعها اندفاع عمرو وعامر لداخل الغرفة، وقول عامر اللاهث:
-أستحلفك بالله يا شيخ تنقذنا من أبيه…
-عملتوا إيه؟!
أشار له عامر ليقترب إليه فهمس في أذنه:
-تدفع كام وأقولك سر عن رائد…
قال يحيى بنفس الهمس:
-سر تاني يا عمرو؟
-أنا مش عمرو أنا عامر.
قالها عامر بهمس، أخذ يحيى يشاكس عمرو وعامر بابتسامة، وكانت السعادة تُطل من عينيه بعدما ارتاح من قرار وئام، وتأكد من موافقتها عليه.
وكانت وئام تمعن النظر إليه وهو يضحك مع أخويها، تراه بعينها وعقلها يدور في حلقة أخرى مسربًا القلق إلى روحها وهي تسترجع ما قالته وما قاله يحيى، طفقت تأنب نفسها لمَ قالت له عما رأته في منامها الآن! ألم تجد أي كلمات تفتح بها الكلام معه إلا تلك! فماذا سيحدث لو لم يكن من نصيبها! بالطبع سيعتقد أنها كاذبة، أو ربما لم تكن تلك رؤيا كما ظنت وكانت مجرد أضغاث أحلام من عقلها الباطن حين نامت وهي تفكر به!
دلف رائد للغرفة في حين استأذنتهم وئام وخرجت، وهي تمسح وجهها متضجرة من انفلات لسانها بتلك الطريقة! فما قالته كان بمثابة إشارة واضحة لموافقتها عليه، عضت شفتها بحسرة تتمنى لو لم تفعل ليتها صمتت! أخرجها من خضم أفكارها صوت محمد الذي يقف على الباب قبالة نداء، قال:
-هو… رائد موجود؟
أفسحت نداء له الطريق قائلة بتوتر:
-أ… أيوه اتفضل…
توجهت ناحية المطبخ وهي تنادي باضطراب:
-يا… يا… يا طنط…
خرجت شيرين من المطبخ وحين رأت محمد قابلته بالترحاب وأخذته لمجلس رائد ويحيى…
فأشارت وئام لنداء التي أقبلت إليها مبتسمة، وكان وجه وئام يكتسي بالقلق ويتجلى عليه الحيرة بل أن العبوس غشي خلجات وجهها، مسدت نداء على كتفها وقالت:
-إيه اللي حصل؟!
-أنا لونت الدنيا إسود.
جذبتها نداء من يدها صوب غرفتها وهي تسأل:
-تعالي احكيلي حصل إيه وعملتِ إيه؟
وبعد فترة، قضتها وئام تحكي كل ما حدث لنداء التي طفقت تضحك وتسخر منها مما أثار غضب وئام فقالت بحنق:
-تصدقي أنا غلطانه عشان حكيتلك!
توقفت نداء عن الضحك حين أعلن هاتفها الصغير عن اتصال من والدها فاستأذنت وئام وخرجت للشرفة تجيبهما بلهفة وشوق، وبعدما اطمئنت عليهم أوصتها والدتها ألا تشرب الأعشاب كي لا ينقص وزنها زيادة، وأن تتصرف بلباقة وأدب، فكانت تومأ رأسها وترد بالموافقة، وقبل أن تودعها والدتها تناهى اسمعها صوت والدها مخاطبًا والدتها:
-قولتلها تلبس كويس عشان تعجب الواد؟
-اسكت يا رشدي.
قالتها دينا وهي تصر على أسنانها، ثم ودعت نداء وأخذت تجادل زوجها أن يتوقف عن ذلك، وبمجرد انتهاء المكالمة أزاحت نداء الهاتف عن أذنها وأخذت تفكر ألتلك الدرجة يريد والدها تزوجيها من رائد؟! فهي تُجاهد لتصرف نفسها عنه، ووالدها يجاهد ليجذبه إليها!
عزمت أمرها فعندما يأتي والديها ستُبعد نفسها عن كل تلك الشبهات وتسد تلك الفوهة للأبد، ستترك العمل وتبحث عن أخر وتترك الجمعية فذلك الأمر مُنتهي، بل ستقطع علاقتها مع وئام وهيام إن لزم الأمر، فكما تتحكم بشهوتها للطعام ستتحكم بتلك الشهوة والغريزة التي تتلوى داخلها، فلديها إرادة قـ ـوية بشهادة الجميع ولن يتغلب عليها هوى نفسها.
جذب انتباهها خروج رائد من البيت برفقة يحيى ومحمد، كادت أن تدلف للغرفة لولا أن لاحظت رائد الذي يُحاول فتح البوابة التي أغلقها عامر خلفهم، فهدر رائد:
-ماشي يا عمرو والله لأربيك…
رفع رائد رأسه لأعلى فرأى نداء خاطبها:
-معلش خلي حد يجيبلي المفاتيح والموبايل.
-حاضر.
قالتها ودخلت للغرفة، فدنا يحيى من رائد وقال:
-مش شايف إنك مأخدتش خطوه في موضوعك لحد دلوقتي؟
أطلق رائد تنهيدة متألمة وقال:
-أعمل إيه يا يحيى ما إنت شايف الظروف.
-لا يا رائد ملهاش علاقة بالظروف… حاسس إنك متعمد أو…
قطع محمد حوارهما بقوله:
-شاركوني معاكم بتتكلموا في إيه؟
ربت يحيى على كتف محمد وقال:
-رائد يا سيدي معجب ببنت وبشجعه يخطبها…
محمد بحمـ ـاس:
-ريمان صح؟
هز رائد عنقه مستنكرًا وهو يقول:
-ريمان مين! لأ طبعًا.
بتر حديثهم نداء التي فتحت البوابة وهي تصر على أسنانها بغيظ من وئام وهيام اللتان رفضتا النزول بحاجيات رائد، دنا منها رائد وأخذهم من يدها وشكرها، في حين خاطب محمد يحيى:
-هي دي صح؟
أومأ يحيى مؤيدًا ووضع سبابته على فمه مشيرًا له أن يكتم الأمر، فابتسم محمد وأومأ متفهمًا…
وفي السيارة كان يحيى يجلس بالمقعد الأمامي في حين جلس محمد بالمقعد الخلفي متوجهين لبيت فاطمة زوجة ضياء، تنحنح محمد وخاطب رائد:
-هي… هي البنت اللي عندكم دي يا رائد اسمها إيه؟
عدل رائد المرآة ونظر لمحمد عبرها وهو يقول ببعض الحدة:
-أي بنت؟!
تمادى محمد ولكن بنبرة مرتعشة وكأنه يخشى رد فعل رائد، قال:
-مش عارف اسمها… بس الحقيقة إني معجب بشخصيتها.
التفت يحى وطالع محمد الذي غمز له، فاعتدل يحيى كابحًا ابتسامته، لم يعقب رائد فأكمل محمد:
-بنت محترمه و… لطيفه و… وجدعه و… حلوه و… وحاسس إنها معجبه بيا…
-وحسيت إزاي بقا؟
قالها رائد وهو يصر على أسنانه بغيظ فأكمل محمد متخابثًا:
-بتبقى واضحه يا رائد… أصل الراجل مننا بيعرف البنت اللي معجبه بيه… وبيحس بأم عياله من النظرة الاولى…
ابتسم محمد وهو يتذكر هيام وحركاتها وقال بابتسامة وانفعال لطيف:
-مشاعر حلوه بتحس بطعمها لما تشوفها ولما تبعد عنها تحس إن المشاعر دي وقعت منك وغـ ـصب عنك راحتلها… وتبقى عامل زي اللي ضايع منه حاجه وطول الوقت عايز تشوفها عشان تاخد اللي وقع منك… وكأنها بقيت بتكملك…
انتبه من انفعاله وقال بمكر:
-نصك التاني… وبتشم ريحه حلوه كده… ريحة الـ…
صمت محمد يفكر في كلمة يضيفها، فضحك يحيى قائلًا:
-دي أكيد ريحة الحب.
حين سمع محمد لفظ الحب، عاد إليه انفعاله وقال بابتسامة:
-بالظبط… باعتبار ما سيكون فممكن نقول بذرة الحب اتزرعت… مفيش حاجه اسمها حب من أول نظرة… لكن فيه راحه وقبول وإعجاب من أول نظرة… والراحه أهم بكتيـــــر من الحب لأن الراحه هي التربة الخصبة اللي بينمو فيها الحب والرحمة والمودة هي الميه اللي بترويه عشان يكبر.
أومأ رائد وزم شفتيه وهو يقول بحنق حاول اخفاؤه:
-اممممم… كويس.
أكمل محمد متخابثًا:
-أنا بفكر أتقدملها… تفتكر هتوافق عليا يا رائد؟
زم رائد شفتيه وهو يغمغم متهكمًا:
-اممممم… مش بتقول حاسس إنها معجبه بيك؟
مال محمد بجسده نحو رائد وهو يقول بلهفة مصطنعة:
-فعلًا… يعني إنت ممكن تساعدني في الخطوة دي؟
صمت رائد لبرهة ثم التفت وطالع عيني محمد وهو يصر على أسنانه قائلًا:
-امممم… ومالو….
اعتدل محمد في جلسته وقال بابتسامة سخيفة:
-طيب إن شاء الله لما أجي أتقدملها في أقرب وقت يعني هتيجي معايا طبعًا؟
-إن شاء الله.
كان يحيى يبدل نظراته بين محمد ورائد في صمت، اعتقد أن رائد سيُظهر الغيرة أو يزجر محمد أو يبوح له بإعجابه بنداء، لكنه آثر الصمت وادلهمت ملامحه، وهو يقود السيارة في هدوء وسكون، فالتفت يحيى يُطالع محمد الذى لوى فمه متعجبًا من رد فعل رائد الذي لم يتوقعه على الإطلاق!
بقلم آيه شاكر
استغفروا ❤️
★★★★★
كانت نداء ترى محاولات «دعاء» الكثيرة لطلبها، أكثر من خمسة عشر مكالمة فائتة في دقائق معدودة تجاهلتها تمامًا، انتبهت لقول وئام:
-هيام… دعاء بترن عليكِ.
قالتها وئام بينما علامات السخط والضجر والبغض تتمشى بين ملامحها العابسة فقالت هيام:
-هاتي لما أشوفها عايزه إيه؟
خرجت هيام للشرفة وتبعتها وئام، سمعت جملة هيام:
-أيوه نداء قاعده عندنا.
وحين سمعت نداء تلك الجملة، رمقت هيام بنظرة استعادتها سريعًا فلم تحكي لهما عما فعلته دعاء
انخرطت نداء في أفكارها ولم تكترث لتلك المكالمة إطلاقًا فلا يهمها دعاء ولا علي ولا أي شيء في هذه الدنيا سوى نادر الذي تتلهف اللقاء به وتتخيل أنه عاد ويسمعها ويحدثها، كانت تلهج بالدعاء له ولوالديها فهم ثلاث نجوم تزين وتضيء سماء دنياها…
وبعد فترة بعدما أنهت هيام المكالمة وأخذت وئام تُحدثها بعيدًا عن نداء التي تعجبت من ذلك السلوك الغريب لكنها عادت لأفكارها ولعالمها الخاص حيث فتحت دفترها لتكتب بعض الخواطر التي دارت بخلدها، فجذب انتباهها أخر مشهد كتبته في رواياتها تلك الرواية المستمرة إلى ما لا نهاية تقريبًا! وأخيرًا رتبت أفكارها لتكتب عن نفسها وحياتها وتفرغ ما بجعبتها حول رائد وتلك المشاعر الفارغة التي يسميها المراهقات بالحب! كم تمقت تلك المشاعر وتتمنى لو كانت حجرًا ولا تشعر بتلك السخافات، نعم سخافات وستتخلص منها عاجلًا غير آجلًا.
انتشلها من عالمها صوت وئام:
-نداء هو إنتِ… إنتِ تعرفي حد اسمه علي؟
شعرت أن دعاء قصت عليهما قشور الموضوع، فقالت بعد تنهيدة:
-أيوه واحد شغال مع بابا في الورشة… بتسألي ليه؟
-أصل… دعاء كانت بتكلم هيام دلوقتي وبتقولها إنها كانت بتحبه وإنتِ أخدتيه منها وبتقولك إنها مش مسمحاكِ.
أطلقت نداء ضحكة كالزفرة وقالت ساخرة:
-سيبك منها…
أجبق عليهم الصمت ونداء تبدل بصرها بين هيام ووئام اللتان تُطالعنها والفضول يطل من أعينهما وكأنهما تنتظران أن تحكي لهما نداء، فركت نداء عينيها بأصابع يدها ثم زمجرت بغيظ قبل أن تبدأ في سرد ما حدث بالتفصيل…
وعندما انتهت قالت هيام:
-سيبك منها دي تعبانه في دماغها…
قالت وئام باستغراب:
-طيب إنتِ ليه رافضه علي لما بتقولي شاب وسيم وبيحبك؟
-عشان بيشرب سجاير ومعروف عنه في البلد إنه بتاع بنات يعني ماشي مع بنات البلد كلهم… وأنا عايزه زوج متدين وخلوق مش لمجرد إنه بيحبني.
اومأ الإثنتان وخيم عليهن الصمت للحظات، وأرادن نداء تبديل دفة الحوار فقالت وهي تُلوح بدفترها:
-تعرفوا إن أنا بكتب رواية!
أخذت وئام الدفتر من يد نداء وأخذت تقرأ ما به ثم رفعت رأسها عنه وقالت بابتسامة:
-رامي ورائد مهتمين بالكتابه برده… بس دائمًا يقرؤا كتب كتير عشان يعرفوا يكتبوا… وإنتِ محتاجه تقرئي برده عشان تزودي حصيلة اللغة عندك…
قالت هيام:
-فعلًا لأن من يكتب يقرأ مرتين يا دودو…
قالت نداء:
-ما أنا بقرأ بس الحقيقة مش كتير!
صمتن لبرهة قبل أن تقول هيـ ـام بحمـ ـاس:
-طيب إحنا ممكن ندخل أوضة رائد وتختاري كتاب وكل ما تخلصي واحد نرجعه مكانه ونجيب غيره… بس مش دلوقتي عشان هو قافلها…
وبالفعل في اليوم التالي تربصن ودخلن لغرفة رائد، وبمجرد أن فُتح الباب قابلتها رائحة عطره المميز، فأخذت تستنشق منه بانتعاش، وسرعان ما اختارت رواية من بين كتبه، وعادت للغرفة لتقرأ وتقرأ حتى جُذبت وغاصت في بحور تلك الأحرف والكلمات…
مرت الأيام ونداء ببيت رائد ولا جديد سوى أنها تتحاشى رؤيته طوتدعو الله أن يطرده من قلبها، لا تدري لمَ لم تدعو به وتُلح في طلبه وكأن لسانها يُعقد كلما حاولت!
وها قد حل مساء اليوم الأخير الذي ستقضيه ببيت دياب قبل أن تعود لبيتها صباح اليوم التالي.
أنهت الرواية وأغلقت غلافها ثم عادت وفتحتها مجددًا بابتسامة واسعة وهي ترى أنه وكلما قابلها لفظ نداء كان محاطًا بقلب رُسم بحبر أزرق تارة وأحمر تارة أخرى.
تلاشت ابتسامتها حين سمعت صوت رائد الهادر:
-أنا عايز أعرف مين اللي لعب في كتبي… وبعدين الروايه اللي مش لاقيها دي بالذات مش بتاعتي بتاعت محمد ودلوقتي هو عايزها…
رفعت وئام يدها وهي تردد بنبرة مرتعشة:
-أ.. أ.. أنا معرفش… مبقرأش روايات أصلًا…
وفعلت هيام مثلها قائلة:
-ولا أنا! اسأل بقا عمرو وعامر…
وجه رائد نظره لعمرو وعامر تزامنًا مع خروج نداء وبيدها الرواية، لم يراها رائد وأخذ يخاطب إخوته الأربع بغضب عارم والأربعه ينكرون، اتسعت حدقتي هيام حين رأت نداء والكتاب بيدها وأخذت تشير لها لتبتعد ولكن التفت رائد فرآها، صكت هيام وجهها وتبعتها وئام حين أبصر رائد الرواية بيد نداء.
عادت نداء للخلف بخوف ثم مدت يدها بالرواية وهي تقول:
-أ… أسفه.
أخذ رائد الرواية من يدها وهو يُصر على أسنانه بغيظ، ودون أن ينبث بكلمة توجه صوب غرفته وهو يهملج بخطى غاضبة…
نهضت هيام واقفة وأخذت تشير بيدها كما كانت تفعل مرددة بضحك:
-أنا عماله أعملك كده… كده عشان تمشي وإنتِ واقفه زي اللطخ.
ضحك الأربعة حتى نداء شاركتهم الضحكات، فهي سعيدة منذ علمها بنجاح عمـ ـلية أخيها ولا تريد أن تعكر مزاجها بأي شيء…
قال عامر:
-يا بختك هترجعي بيتك وتخلصي من الإنسان العصبي ده…
قال عمرو بضجر:
-مش عارف هو مبيسافرش ليه بدل رامي…
زجرته وئام وهيام كذلك، وتركت نداء متابعة ذلك السجال حين أجابت على هاتفها الذي أضاءت شاشته برقم غير مدون ظانة أنه ربما أحد والديها.
انتظرت لتسمع صوت المتصل فكانت صوت أنثوي ألقى عليها السلام ونادت باسمها أكثر من مرة فأجابت نداء لتتفاجئ بعدها بصوت «علي»:
-بالله عليكِ متقفليش واسمعيني لأخر مرة.
أشارت لوئام وهيام وركضن للغرفة لتفتح مكبر الصوت ويبدأ الحوار:
-مـ… مين معايا؟
-أنا علي… آسف إني خليت أختي الكبيرة ترد عليكِ… بس كنت عايز أطمن إنك هتردي…
نظرت نداء لوئام وهيام وصمتت فأردف:
-نداء أنا هطلب منك لأخر مره تديني فرصه… حتى لو هستناكِ عمري كله أنا موافق وراضي.
-يا علي إنت شاب كويس لكن أنا عند رأيي أنا آسفه متتعبش نفسك وتتعبني معاك في جدال ملهوش لزمة…
قال بنبرة حزينة:
-أفهم من كده إن مفيش أمل تفكري ومفيش أي أمل تحسي بيا وبقلبي…
صمتت وهي تبدل نظرها بين وئام وهيام اللتان شعرتا بالأسى لحالته تلك، قال بحشرجة:
-قوليها يا نداء قوليلي إن عمرك ما هتكوني ليا قوليها يمكن لما أسمعها المره دي تكوي جـ ـرحي وأتعافى منك.
أخذ يحثها أن تنطقها فاستجمعت شجاعتها وقالت:
-انا مش هكون ليك… أنا وإنت مش لبعض… ربنا يرزقك ببنت الحلال اللي تسعدك.
صمت هنيهة ثم قال:
-الوداع يا نداء… أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه وأتمنى تكوني أسعد واحده في الدنيا ومع الإنسان اللي يستاهل قلبك الرقيق…
ألقى السلام عليها لأخر مرة وأجابته، همت أن تغلق المكالمة فسمعت صوت أخته التي خاطبته:
-هات يا علي… مش هسيبك تشرب سجاير تاني دي خامس واحده…
أطلق ضحكة كالزفرة وقال:
-عادي مش عايزها يعني هتكون أغلى عندي من نداء!
أنهت نداء المكالمة في سرعة، وزفرت بحنق، فقالت هيام:
-والله العظيم صعبان عليا…
-أنا عايزه أنام.
قالتها نداء، فقالت وئام:
-يحيى لسه هيجي عشان نتفق على ميعاد الخطوبة خليكِ صاحيه شويه.
دلفت نداء للغرفة واستلقت على الفراش وهي تقول بنعاس زائف:
-لأ أنا بجد عايزه أنام… تصبحوا على خير.
تركتها وئام وهيام وظلت نداء تُطالع سقف الغرفة وهي تفكر في علي، كم شعرت بالشفقة عليه لدرجة أنها وفي لحظة ضعف فكرت أن تهاتفه وتخبره بموافقتها عليه لكنها لم تفعل، فكرت في رائد وكيف أن تلك الرواية التي قرأتها كانت تخص محمد! فهل محمد هو الأخر معجب بها؟! هل هي جميلة لدرجة أن يقع الرجال في غرامها!!! ظلت التساؤلات تمور برأسها حتى غلبها النعاس في النهاية….
رأت في منامها أن «علي» يقف يسارها ورائد يقف بمينها وكلاهما مبتسمًا بسط «علي» يده لها وظلت تُطالعها للحظات ثم تجاهلته وولته ظهرها وبسطت يدها لرائد فسحبه شيء أبعده عنها، عادت تنظر نحو علي وهمت أن تمد يدها إليه فقد ظل باسطًا يده بابتسامة وإذ بغتة تظهر سيدة من الخلف وتردد:
-أنا أمك يا علي… تعالى يا حبيبي هي مش ليك…
وفجأة تجذبه بطن تلك السيدة وتتسع حدقتي علي دهشة مما يحدث! ثم يلوح لنداء قبل أن تبتلعه بطن السيدة بالكامل ويختفي من أمامها.
التفت نداء حولها وطفقت بطن تلك السيدة تجذبها هي الأخرى فصرخت، قاومتها وجاهدت، حتى ظهر رائد من العدم وجذبها إليه بعيدًا عن تلك السيدة، ووقفت السيدة تُطالعهما مرددة:
-لسه دوركم مجاش… روحو العبوا وتكاثروا تفاخروا بس اعرفوا إن مصيركم هنا…
وأشارت لبطنها، فبكت نداء وشددت من قبضتها على ذراع رائد، قبل أن يدوي صوت قارئ بقول الله تعالى:
﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ……﴾
فتحت نداء جفونها وجبينها يتفصد عرقًا وصدرها يعلو ويهبط من شدة الأنفعال بينما قرآن ما قبل أذان الفجر يدوي بالخارج، بالآية التي سمعتها في منامها، كانت وئام مستلقية جوارها وغارقة في النوم، فنهضت نداء متسللة على أطراف أصابعها كي لا توقظها.
ففي ظلام الليل وسكونه قلوب غشيها النعاس وأخرى فزعت من نومها وفرت إلى الله متلهفة للقاء ومشتاقة للدعاء.
وبعد فترة كانت نداء بالشرفة حيث إضاءة القمر الخافتة تغطي الأرض وتحنو على جدران البيوت بلمسات ضوءه الخافت، جلست نداء على سجادة الصلاة رافعةً يديها لأعلى وهي تُلح بالدعاء، كتمت نشيجها كي لا توقظ وئام، فتلك الرؤية قذفت الرعب إلى قلبها، ولا تعلم لمَ خافت على «علي»، أخذت تُحدث ربها:
-أنا مسمحاه يارب… يارب اهديه… يارب هو معمليش حاجه… هو بس قلبه فُتن بيا زي ما قلوبنا كلنا مفتونه بالدنيا… يارب اغفرله واغفرلي… وإن كنت أنا اللي فتنته فاغفرلي يارب…
صمتت قليلًا حين تذكرت الرؤيا ثم دعت لـ علي:
-اللهم أحييه ما دامت الحياة خيرًا له…
شهقت باكية ونطقت عبارة خشيت التفوه، ارتعشت شفتيها وهي تقول:
-وتوفه مادامت الوفاة خيرًا له.
انسابت الدموع على صفحة وجهها، ثم استغفرت وذكرت الله في نفسها حتى هدأت دموعها واختفت رعشة شفتيها، ظلت تقف بالشرفة تتأمل السماء الصافية وتسبح الله في خشوع حتى تناهى لسمعها صوت بوابة البيت يُفتح، فعادت للخلف خطوتين ثم عادت ترى هوية الخارج، فأبصرت دياب الذي يهرول نحو المسجد ليرفع أذان الفجر، وما أن دوى صوت الآذان حتى خرج رائد من البيت، طالعته وهو يتجه نحو المسجد ثم أشاحت بصرها ورددت بابتسامة:
-وشابٌ نشأ في طاعة الله… اللهم بارك.
تنهدت وطالعت السماء داعية راجية:
-اللهم ارزقني زوج صالح وذرية صالحة تشهد لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وتنشر رسالة الإسلام وتذكرك في السر قبل العلن.
-اللهم آمين…
التفتت نداء أثر صوت وئام وابتسمت، اشرئبت وئام برأسها فرأت رائد يهرول للمسجد، عادت تنظر بعيني نداء التي تذبذبت نظراتها في اضطراب، ولم تُعلق وئام على هذا بل قالت بحمـ ـاس:
-يلا نصلي الفجر جماعه… هدخل أصحي هيام…
أومأت نداء بابتسامة خفيفة، في حين دلفت وئام للغرفة…
لا تغفلوا عن الدعاء لإخواننا في فلسـ ❤️ ـطين.
-اللهم ثبت أقدامهم وانصرهم نصر عزيز مقتدر.
★★★★★★★
أمهلته فاطمة عدة أيام ليخرج من حياتهم للأبد، لا تريد رؤيته بأي مكان ولو صدفة، معللة أنه يُذكرها بخيانة زوجها لها، كانت قد تحدثت معه على انفراد وأخبرته أن يظل ذلك الحديث سر بينهما حتى لو لم ينفذه وفي المقابل ستعود هي لبيتها وتعيش حياتها كما كانت فوافق محمد دون تفكير.
أضناه الندم لأنه ترك عمله بمرسى مطروح، تمنى لو يستطيع العوده تحدث مع زملائه ثم مع مديره الذي رفض في البداية ثم أخبره أن يأتي…
قدّم محمد استقالته من العمل الجديد وحزم أمتعته ليعود لمسقط رأسه بعد أن تحدث مع والده وأقنعه بعودته لعمله…
في صباح ينضح بالأمل للبعض ويحمل بين طياته ألمًا لأخرين خرج محمد من بيت والده، أمعن النظر للبيت من أعلى لأسفل وكأنه يودعه ولن يراه مجددًا وهم أن يغادر لولا أنه رأى هيام التي خرجت من بيتها للتو وأشارت إليه ليتوقف، فترك حقيبته وانتظر وصولها…
قالت بلهفة:
-إنت رايح فين؟
تحاشى النظر إليها وحك أنفه وهو يقول بنبرة مرتعشة:
-المدير كلمني ومحتاجني في مطروح.
قالت بحزن وهي تمرر بصرها على حقائبه:
-هتيجي تاني إمته؟
-مـ… مش عارف.
-إنت فيك حاجه أنا ملاحظه إن من لما فاطمه رجعت وإنت متغير… احكيلي زعلتك صح؟ إنت مقدرتش تقعد معاها ما هي ست صعبه هي وعيالها الصبيان وكلنا عارفين ده.
غير محمد دفة الحوار بقوله:
-إنتِ رايحه فين بدري كده؟
-أنا رايحه أشتري فطار… احكيلي الاول مالك؟
لاح على شفتيه شبح ابتسامة صغيرة وقال:
-أنا كده هتأخر يا هيام.
ودون استئذان حملت حقيبة ظهره حيث كان قد وضعها على الأرض وهي تقول:
-يلا هوصلك وتحكيلي في الطريق.
أبت للسير فقال بضجر:
-خدي يا بنتي توصلي مين؟ هو إنتِ ليه محسساني إنك هتوصلي سوسن بنت خالتك! يا ماما الناس هتقول عليك إيه لما يشوفونا مع بعض؟
-ناس مين!!! هو إحنا ماشين في حته مغلقه ولا مؤاخذه؟! بقولك إيه يا محمد لو مش عايز تتأخر يا بابا وعايز شنطتك اللي معايا يبقا الحقني واحكيلي إنما لو عايز تتأخر فأنت حر.
قالتها وأطلقت ساقيها وهي تشد حقيبته على ظهرها، فاضطر أن يتبعها هو الأخر مرددًا بابتسامة:
-مجنـ ـونه والله…
ورغم أنه يعلم بمدى خطأ أن تسير معه مع تلك المشاعر التي يُكنها لها إلا أنه راق له أن ترافقه، عله يسمع حروف اسمه تخرج من بين شفتيها مرة أخرى، وإن تنازل وترك والده، فلن يتنازل عنها سيرتب أموره ويعود ليطلبها من عمه…
سارت جواره وهي تحافظ على مسافة فاصلة بينهما سألته بنزق:
-انطق بقا في ايه؟!
-مفيش يا هيام.
-طيب والله العظيم فيه… هو إنت مش واخد بالك وشك عامل إزاي!!!
-عامل ازاي؟!
توقفت عن السير وأطرقت وهي تقول:
-باين عليك الزعل… احكيلي وأنا والله ما هقول لحد.
-طيب يا ستي هحكيلك…
قالها بعد تنهيدة حارة وأكمل سيره فتبعته، أخذ يحكي ما قالته له فاطمة وكيف قبّل به كي لا يفسد حياة والده فقالت هيام بضجر وانفعال:
-طيب والله كنت حاسه… يا عم سيبك من الست دي! هو إنت فاكرها أصلًا هتتطلق بجد!! يا حبيبي عمرها…
عضت شفتيها حين انتبهت لما نطقت به بعفوية، التفت محمد إليها ثم عاد يطالع الطريق أمامه وقد أدرك أنها ربما ذلة لسان منها، خيم الصمت عليهما إلا من أصوات أبواق السيارات التي تمر جوارهما، داعبت رائحة الطعمية أنفهما فسألته هيام:
-إنت أكيد مفطرتش؟
-أكيد.
-استناني بقا أجيبلك فطار معايا…
سارت خطوتين نحو المطعم فتبعها ومال عليها قائلًا بخفوت:
-إنتِ ليه مصممه تحسسيني إنك ماشيه مع سوسن بنت خالتك…
كتمت ضحكتها وقالت وهي تمد يدها بالنقود:
-طيب خد وهقولك تشتريلنا ايه…
رفع حاجبيه وهو يقول:
-معايا فلوس والله وكفايه بقا…
ضحكت وأخبرته بما تريد فاشتراه وحاولت جاهدة أن تعطيه النقود مبررة أن والدتها ستغضب إن علمت، فقال محمد مبتسمًا:
-اعتبري الفلوس دي مني ليكِ عشان تشتري كابتشينو…
-اقنعتني.
قالتها وهي تضع النقود في جيبها، لاح لهما موقف السيارات من بعيد فخلعت حقيبته وسلمتها له وهي تُطالع عينيه وتقول:
-ابقى طمني عليك لما توصل بالسلامة.
أشاح بصره عنها مرددًا:
-حاضر.
حمل الحقيبة ورمقها بنظرة أخيرة قبل مغادرته فنطقت هيام:
-لا إله إلا الله.
التفت لها وقال:
-محمد رسول الله.
ثم لوح لها وغادر مبتسمًا، وفي طريقها للعودة للبيت شعرت بوخزات الدموع داخل مقلتيها، فلم تكتمها وشهقت باكية ثم جففت دموعها قبل أن تصل لشارعهم.
بقلم آيه شاكر
استغفروا❤️
دلفت هيام للبيت بوجه متجهم وكلما قابلها أحد وسألها عما بها أخبرته لا شيء.
استعدت نداء للرحيل وهي بقمـ ـة الحماس فاليوم سترى أحبتها وستعود حياتها لروتينها السابق الذي تتوق إليه، كانت تتجهز بينما تخبرها وئام أنه تم تحديد خطبتها بعد أسبوع وأن يحيى يريد كتب كتابهما وهي تخشى أن تتسرع في ذلك فهي وإن كان قلبها يميل إليه إلا أن الزواج حياة أخرى ولازالت لا تعرفه وتخشاه، كما أنها لا تعلم هل لديها تلك القـ ـوة التي تمكنها من الزواج الآن أم أنها صغيرة على تلك الخطوة!
أخبرتها نداء أن تُصلي استخارة وتطلب العون من الله، وأخذت تُطمئنها فأومأت وئام وطالعت هيام المتجهمة تسألها عما أصابها؟! فقد كانت شاردة ولا تشاركهما الحوار، فنهضت هيام وتركت الغرفة وهي تقول للمرة التي لا حصر لها أنه لا شيء…
وبعد فترة وصلت نداء لبلدتها، تنفست بارتياح حين رأت بيتها، ارتجل الجميع من السيارة وتبعهم رائد الذي كان يقود السيارة، أخذ الفتيات ينظفن البيت بينما أخذت شيرين تُعد الطعام، ووقف رائد بشرفة المنزل يتحدث عبر هاتفه، قال ممازحًا:
-يا عم هتقدملها النهارده… أنا كلمت بابا وماما وقضي الأمر… أكيد مش هستنى لما الواد محمد يسبقني…
رد يحيى بضحك:
-ربنا يتمملك بخير يارب يا غالي… بس على فكره محمد كان بيهزر بينكشك يعني.
-طيب ما أنا عارف… دا الأستاذ إداني رواية وكل ما يلاقي اسمها يحطلي عليه قلب إبن الإيه ده… عشان أغيير وكده…
-عسل محمد ده…
قالها يحيى ضاحكًا…..
وبعد فترة من الضحك والمزاح الذي لم ينقطع بين رائد ويحيى وبين الفتيات بالداخل تناهى لسمعهم صوت يصدر من المسجد القريب:
«إنا لله وإنا إليه راجعون توفى إلى رحمة الله تعالى المرحوم بإذن الله علي محمود عبد الغفور…»
كذبت نداء سمعها وأقنعت نفسها أنه ربما تشابه أسماء خرجت للشرفة حيث يقف رائد فرمقها بنظرة استعادها سريعًا، استندت نداء على سور شرفتها وأرهفت السمع لينقر نفس الإسم طبلة أذنها، اشرئبت برأسها لترى جارتها كبيرة السن تبكي وتصيح باسمه وهي تقول:
-يا حبيبي يا علي يا حبيبي… مين اللي هيسأل عليا ويجيبلي حاجه حلوه كل يوم يا علي… طيب مين هيديني وردة كل ما يلاقيني زعلانه…
شعرت نداء بأن الأرض تهتز من تحتها، أتحققت رؤيتها؟! إذًا فبطن السيدة هي الأرض كما فسرتها وخافت من تفسيرها! قد قال لها بالأمس الوداع! فهل كان يشعر! أكان يقصد الوداع حقًا!!!
سمعت النساء يحدثن بعضن:
-بيقولك صلي الفجر ودخل نام وحاولوا يصحوه من النوم مقامش…
-لا حول ولا قوة إلا بالله.
-كلنا لـ آدم وآدم من تراب… إنا لله وإنا إليه راجعون.
وضعت نداء يدها على قلبها الصريع، وأغلقت جفونها بألم…
فسألها رائد:
-نداء… في إيه إنتِ تعرفيه؟
التفتت نداء وطالعته وهي تردد بانهـ ـيار وشدوه وصورة علي لا تفارق مخيلتها:
-علي مات يا رائد… امبارح ودعني والنهارده مات…
رائد بصدمة:
-علي مين!؟ تقصدي اللي كان شغال هنا؟
لم تجبه وأخذت تردد بحشرجة:
-مات بسببي… كلامي كوى جرحه زي ما كان عايز بس معرفش يعافى فـ… مـ ـات.
أشارت لنفسها والدموع تهطل من مقلتيها هاتفةً بانفعال:
-علي مات بسببي أنا… أنا السبب…
حاول رائد تهدئتها بقوله:
-اهدي يا نداء محدش بيمـ ـوت بسبب حد! دا أجل ومكتوب.
هزت رأسها في استهانة وهي تردد بحشرجة وحسرة:
-مـ ـات بسببي… بسببي أنا عارفه…
قالتها وقد غمرها الحزن وأخذت الدموع تهطل من عينيها بغزارة، نادى رائد والدته ووئام وبصره مسلط على نداء، فقد.كان مكتوف الأيدي يتابع انهيارها ولا يقوى على الاقتراب.
شعرت نداء وكأن الأرض تميد بها فأغلقت جفونها وتىنح جسدها للخلف قبل أن تهوى أرضًا، فزغ رائد وقبل أن يصطدم رأسها بالطاولة الخشبية، وضع يده أسفله في سرعة مناديًا بأعلى صوته:
-يا وئـــــام…. يا مـــــامــــا.
تزامنًا مع وقوف السيارة أمام البيت وخروج رشدي منها مع دينا حاملًا ابنه الصغير بسعادة كبيرة…
★★★★
فتحت نداء جفونها فأبصرت والدتها ووالدها ونادر ووئام ورائد وشيرين ودياب وعلي! رأته بينهم الجميع يحاوطونها، فتسائلت بفرحة:
-عـ… علي عايش؟ طلع تشابه أسماء صح؟
وعندما اعتدلت جالسة وبدلت نظرها بين الوجوه لم يكن علي بينهم! فشهقت باكية وأخذ الجميع يهدئها، حتى أن والدها شعر أنها كانت تحبه! لفرط انهـ ـيارها!
همس رائد لوالدته ألا تتحدث بخصوص خطبته من نداء كما فعل مع والده…
★★★★★
وبعد هذا اليوم توالى مرور الأيام تقدم رائد لخطبة نداء فرفضته دون أن تجلس معه وكرر المحاولة عدة مرات على مدار عام وهي تصر على رفضها وكأنها تريد تذوق ما فعلته مع علي، وكأنها تعاقب قلبها على انجذابه لرائد وبغضه لـ علي، معلله لوالديها أنها لا تريد الزواج الآن! كانت تنتظر أن يتزوج رائد من أخرى لتتذوق كـ ـسـ ـرة الفؤاد التي أذاقتها لعلي، لعل ضميرها يرتاح ولو قليل…
خُطبت وئام ليحيى وأجلت كتب الكتاب ليوم الزفاف كان حفل الخطبة هادئًا بحضور العائلة فقط ودون تكلف ولم تحضره نداء التي أصبح تعاملها معهما سطحيًا ودائمًا منزوية على حالها تذهب للجامعة لحالها وتعود لحالها حتى دعاء لم تقترب منها…
لم يُحدث محمد هيام منذ أخر لقاء وكانت تعرف أخباره بالصدفة من رائد أو والدها وأخر شيء وصل إليها أنه سافر لأخته ورامي ليعمل بإيطاليا، كما أوشكت ريم أن تضع مولودها الأول وستعود قريبًا مع رامي للوطن…
أما نداء فقد انتكست أصبحت تصلي فروضها فقط وبثقل شديد، وعلى مدار عام كانت تأكل خلاله أي طعام بلا فائدة؛ مشروبات غازية، حلوى، ووجبات سريعة مما جعل وزنها يزيد بشكل ملحوظ لكنه ظل في النطاق المثالي وزادها ذلك جاذبية.
في البداية لم تكن تأكل حُبًا بالطعام لكن مع توالي الأيام ازداد نهمها وشغفها للأكل وكأنها تعاقب حالها أو تلهي نفسها علها تنسى «علي» لكنه ظل شوكة حياتها، يقتحم مخيلتها دائمًا، وكلما وقفت في شرفتها شعرت أنه ربما يختلس النظر إليها الآن! تتذكره حين أعطاها وردة، وحين تقدم لخطبتها وما يُهشم فؤادها هو نبرته المهزومة، في أخر مكالمةوكلما تذكرت حوارهما ذاك لاح طيفه أمام بصرها وهو يقول: «الوداع» فتبكي.
وفي هذا اليوم كانت تأكل رقائق البطاطس المقلية باستمتاع وتستعذب سماع الأغاني التي تحكي مأساة الحياة، فدخلت والدتها للغرفة وقالت:
-رائد بره… والمره دي هتقابليه غصـ ـب عنك مش برضاكِ.
-يا ماما لو سمحتِ أنا مش….
بتر عبارتها والدها الذي ظهر خلف والدتها وقال:
-من غير اعتراض يا نداء… البسي عشان تقابليه….
تركها والديها فوثبت من فراشها وأكلت البطاطس دفعة واحدة ثم خرجت للمرحاض لتفرغ ما بمعدتها كانت قد اعتادت على ذلك الفعل منذ شهرين فبعدما لاحظت زيادة وزنها أنبها ضميرها، فأصبحت تأكل كثيرًا ثم تدخل للمرحاض وتضع اصبعها بفمها لتتقيء كل ما أكلته قبل هضمه…
★★★★
وفي غرفة الضيافة
قال دياب:
-إن شاء الله كتب كتاب وئام يوم الخميس هتنورونا طبعًا…
-أكيد إحنا مش محتاجين عزومه يا عقيد.
قالها رشدي مربتًا على فخذ دياب تزامنًا مع دخول نداء للغرفة مع والدتها…
سلمت نداء عليهم جميعًا عدا رائد الذي لم تنظر نحوه، تركوهم بمفردهم فتحدث رائد بسخرية لطيفة:
-ازيك يا طنط ويا عمو ومفيش إزيك يا رائد للدرجه دي متضايقه مني؟
رمقته بنظرة سريعة كانت كفيلة أن تعرف أن مظهره تغير لا تدري ما الذي تغير به لكنه تغير عن أخر لقاء بينهما، ران بينهما صمت خفيف قطعه رائد بقوله:
-ممكن أعرف سبب رفضك ليه؟
تنهدت بعمق وقالت دون أن تنظر نحوه:
-لأننا مش مناسبين لبعض… مفيش كفاءه… إنت طويل وأنا….
قاطعها ضحكاته وهو يقول:
-هو ده السبب؟!
ظلت ملامحها جامدة مما دفعه لكبح ضحكاته، كان يجلس مقابله ولكن المسافة بعيدة فاقترب قليلًا ثم قال بجدية:
-ارفعي عينك يا نداء بصي في عيني وقولي إنك رفضاني…
أطلق ضحكة كالزفرة مرددًا:
-متقلقيش مش حرام لأننا في رؤيه شرعية…
لم تبدي أي رد فعل فتنهد بعمق واستطرد:
-بصي في عيني وقوليلي إنك رفضاني وأوعدك إني هنسحب من حياتك بهدوء.
كان يُحدق بملامحها المدلهمة، فلم تحرك ساكنًا لكنه كان هدوء ظاهري بينما قلبها يرتعد خلف أضلعها، فلو نظرت لعينيه لثانية واحدة ستخبره بكل ما يدور بجعبتها، ستخبره أنها تنتقم من نفسها، ستبوح بكل شيء! أغلقت عينيها بألم، فحثها رائد على رفع عينيها بقوله:
-نداء أنا مستني…
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية سدفة ) اسم الرواية