رواية لا يليق بك إلا العشق الفصل السابع والعشرون 27 - بقلم سماح نجيب
٢٧– " نُدوب لا تندمل "
تعالت دقات قلبها بخوف وهى تستدير لصاحب الصوت ، فهى تخشى مجئ زوجها الآن ورؤية ذلك الشاب الوسيم ، وهى تعلم مدى غيرته الشديدة ، من حديثها مع أحد خاصة إذا كان شاباً أو رجلاً، فمن أين جاء ذلك المغرور؟ الذى لم يكن سوى شاباً يدرس بالولايات المتحدة الأمريكية ، أثناء إقامتها ودراستها هناك ، ولكنه يكبرها بعامين ، فكان الشاب العابث والأشهر بالجامعة ، وكم من مرة حاول إستمالتها ، ولكنها قابلت كل محاولاته بالرفض القاطع ، ولكن لم تنقطع مضايقاته لها ، إلا بعد عودتها لمصر ، ولكنها لم تعلم بشأن عودته ، فهى تعلم أن عائلته تقيم بأمريكا منذ سنوات طوال
فأزدردت لعابها وهى تقول بتوجس :
– عمرو
تبسم عمرو فقال وهو يرمقها من رأسها لأخمص قدميها كعادته دائماً :
– أفتكرتك نستينى يا حياء ، أنا لما شوفتك مصدقتش أنك أنتى إلا لما قربت وأتأكدت أنك نفسها حياء البنت اللى دايماً كانت تقولى لاء وكأنك مكنتيش تعرفى غيرها
ألتفتت حياء برأسها لتطمأن على سلامة سجود ، فقالت ببرود متحاشية النظر إليه :
– فى حد ينسى كابوسه برضه ، أنت كنت مكرهنى فى عيشتي ومع أن حاولت كذا مرة أنك تبعد عنى بس كنت مصمم على المشاكل
قضم عمرو شفته السفلى وهو يقول بخباثة :
– أصل الصراحة كنتى عجبانى أوى يا حياء
ألتفتت له برأسها وهى تقول بغضب عارم:
– أحسنلك تمشى دلوقتى قبل جوزى ما ييجى وهخليه يعرف شغله معاك
لم يتزحزح من مكانه قيد أنملة ، بل ظل ينظر لها فقال متسائلاً :
– أووه معقولة أتجوزتى ومين اللى قدر يقنعك بالجواز يا حياء
نفخت بضيق ، فتلك ليست مفاجئة سارة ، أن تتقابل معه وخاصة الآن ، وراسل على وشك الوصول ، ولكن ربما خدمتها الصدفة ، بمجئ شابين أخرين ، وجذبا ذراعى عمرو لإكمال تجولهم ، ولكنه ظل يلتفت إليها من حين لآخر
زفرت براحة بعد إبتعاده ، ولكن لم يكد عمرو يبتعد حتى وجدت ميس تناديها ، فتعاظم الخوف بداخلها ، بدون أن تعلم له سبب ، سوى أنها خشيت أن تكون ميس رأتها وهى تتحدث مع عمرو وتظن بها الظنون ، ولكن أطمأنت قليلاً من رؤية ملامح وجهها الهادئة ، التى لا تنم على شئ
فلم تعلم ميس هل من الحكمة أن تنادى حياء أم أنه تصرف آخر من تصرفاتها الهوجاء بالآونة الأخيرة ؟ فهى بمجرد أن رآتها هنا ، لم تمنع لسانها من أن تناديها بإلحاح ، فهى بأوج غضبها منذ شعورها بميل جدها للتصديق على رفض راسل لنادر ، فكأنما أرادت مواجهتها بمفردها ، لعلها ترسخ بعقلها أن محاولاتها هى وزوجها لن تأتى بثمارها من التفريق بينها وبين من رآته أنه ملك عليها قلبها وعقلها
ولكن على الرغم مما يعتمل بصدرها من غضب ، إلا أنها حاولت أن تضفى على صوتها نبرة هادئة ، لعل ذلك يأتى بالنتائج المرغوبة
فتبسمت إبتسامة مصطنعة برعت فى رسمها على شفتيها وهى تقول بهدوء :
– أخبارك إيه يا حياء
إلتفتت إليها حياء، بعد أن شعرت بأن القشعريرة سارت بداخل أوردتها كوخز الأشواك ، فهى لا تنكر خوفها من مواجهة ميس بمفردها ، فلا تعلم سر رهبتها وخوفها بعد سماع صوتها ، مع أنه لا يوجد ما يثير الريبة ، فهى أولاً وأخيراً فتاة مثلها وبالأخص تكون إبنة شقيق زوجها ، فالعادات والأعراف تقتضى من ميس إحترامها كإحترامها لعمها ، ولكن الأمور بينها وبين راسل ليست على ما يرام ، فربما تخشى هى جفاءها معها مثلما حدث بذلك اليوم بالقصر
رسمت حياء إبتسامة أنيقة على شفتيها المكتنزتين وهى تقول بهدوء مماثل :
– الحمد لله يا ميس أخبارك أنتى إيه ، إن شاء الله تكونى بخير وكويسة وبخصوص اللى حصل فى اليوم إياه فا أنا ....
رفعت ميس يدها دلالة على أنها لا تريد سماع أى مبررات لما حدث ، فهى لديها ما تقوله وسترحل سريعاً ، فأخذت نفساً عميقاً قبل أن تقول بما يشبه الأمر ولكن حاولت مزجه باللطف :
– حياء أنا عارفة بخصوص أن نادر كان خطيبك قبل كده ، بس مش معنى أن محصلش نصيب وأتجوزتوا يبقى خلاص نادر وحش أو مش كويس ، أنا شيفاه إنسان محترم وكويس فمتحاوليش أنتى وراسل تبوظوا الجوازة ماشى علشان مش عايزة يبقى بينى وبينكم عداوة
– ها وإيه تانى يا دكتورة ميس ، هاتى اللى عندك كله كلى أذان صاغية
قالها راسل وهو يعقد ذراعيه أمام صدره ويقف خلفها
جالت عين ميس بكل مكان ، لعلها تبحث عن مخرج أو مهرب ، فهى لم تضع بحسبانها مجيئه الآن ، فهى حتى عاجزة عن الإستدارة إليه ومواجهته
لاتعلم لما شعرت حياء بالشفقة عليها ، وهى تراها تحاول الفرار ولكن قدميها تعجز عن مساندتها ، فهى أختبرت ذلك الشعور معه مراراً ، ولا تعلم أيضاً لما أنتابتها رغبة قوية فى الضحك ، فمن أين يظهر هو فجأة ؟ ويرهب من حوله ، ولكنها حاولت تقديم المساعدة لها قدرت إستطاعتها
فربتت على ذراعها ، وأشارت له بعيناها من أن يتحلى بالحلم والصبر :
– ميس أفضل حاجة أقعدى مع عمك وأفهمى وجهة نظره ولو مش حابة وجودى هروح أشترى بقية الحاجة اللى محتجاها وخلى سجود معاكم
أرادت تنفيذ ما قالته ، فقبل أن تتجاوزه ، قبض على كفها بين كفه العريض ، فنظرت أولاً لأصابعه التى تلمست ظاهر يدها بحنو ، فرفعت رأسها تنظر بوجهه الوسيم ، فكان أول ما تلقته منه أنفاس دافئة لفحت وجنتيها ، من شدة قربه منها ، فلو كانا بمفردهما ، لكانت بادرت بتطويق عنقه ، وترسل عيناها رسائل بليغة وفصيحة من أنها تريد عناقه
فقضى همسه على ما تبقى لديها من قدرة على التفكير :
– خليكى هنا متبعديش عن عينى لا أنتى ولا سجود
حركت رأسها بإصرار من أنها لن تذهب لأى مكان ، فألتفت لميس قائلاً بحنان ربما أفتقد تقديمه لها بالأيام الماضية :
– تعالى يا حبيبتى ربنا يهديكى خلينا نقعد ونتكلم زى الناس العاقلين ، دا أنتى حتى دكتورة ومثقفة وعارفة أن الحوار بينا عمره ما كان فيه تسلط منى عليكى مع أن املك السلطة دى بحكم أن عمك بس بالرغم من كده علاقتنا كانت علاقة أخوة وصداقة أكتر من علاقة واحد ببنت أخوه ولا نسيتى يا ميس
لو وصفت شعورها بإفتقادها لوجوده معها ، فلن تصدق هى نفسها ، بالرغم من عنادها بأنها لا تريد تلك العلاقة بينهما ، إلا من داخلها مازالت كما هى تفرح برعايته وإهتمامه بما يخصها ، مثلما أعتادت منه دائماً
فغمغمت بصوت خفيض :
– ماشى
سبقتهما بمشيتها ، ريثما يأتى راسل بسجود وزوجته ، فمال على حياء وهو يقول بإبتسامة :
– مش قولتلك أنا أعرف أصلح أمورى معاها إزاى وإن محدش يعرفها قدى
بادلته الإبتسامة وهى تقول بإعجاب :
– أنت الصراحة تقدر تأثر على أى حد عندك كاريزما رهيبة خلتنى أقع فى حبك بكل سهولة
فهو يريد الانتهاء من الحديث مع ميس أولاً ، ليستطيع بعد ذلك أن يجعلها تعيد على مسامعه ما قالته الآن ، فبأحد المطاعم وعلى مقاعد إحدى الطاولات الشاغرة ، كان كل منهم يتأخذ مكانه ، فميس جالسة كمن تجلس على جمر محترق ، فهى تخشى مجئ نادر الآن ، وهم من تواعدا بالمقابلة هنا بأحد المطاعم الموجودة بذاك المول التجارى الضخم ، ضمن مخطط وضعاه سوياً ، بتغيير مكان مقابلتهما ، حتى لا يثيران ريبة أحد ، فهما أتفقا أيضاً على أن يتم الزواج السرى بينهما بعد ثلاثة أيام فقط ، وذلك رغبة من نادر بتدبير أموره أولاً وتجهيز تلك الشقة ، التى سيسكناها سوياً بعد زواجهما ، فلتنتهى من الحديث مع راسل سريعاً وتذهب ، وبذلك لن تجعل نفسها محل الشك ، فبإمكانها إرسال رسالة عبر الهاتف ، تخبره بشأن تأخرها قليلاً ، ولكنها حتماً ستوافيه بذلك المكان المتفق عليه
____
باليوم التالى بمشفى الرحمة الخاص براسل ، كانت تلك هي المرة الأولى ، التى تسمعه يناديها بإسمها ، منذ وقوع ذلك الحادث المرير ، الذى أدى لغفوته بغيبوبة ، لم يفيق من أثرها إلا اليوم ، فأنحنت إليه وهى دامعة العينين بسعادة ،من رؤيته يفتح عيناه ويغلقهما عدة مرات ، كأنه لن يعتاد الضوء بسهولة ، فالله وحده هو الأعلم ، كيف مرت الأيام الفائتة ؟ فهى كانت تخشى أنهيار ثباتها بين لحظة وأخرى
فأن يأتيها خبر وفاة والديها دفعة واحدة ، ولم تكن الوفاة طبيعية ، بل نتاج القتل العمد ، وأن تصبح بين ليلة وضحاها مسئولة عن أشقاءها الصغار المتمثلين بصبيين أحدهما لم يتجاوز الرابعة عشر والأخر لم يتخطى العاشرة ، عوضاً عن قلقها وخوفها على زوجها الماكث بالمشفى بين الحياة والموت ، فكل ذلك كأنه جبال من الهموم ألقيت على كاهلها ، ويجب عليها إثبات قدرتها على تحمل المسئولية الملقاة على عاتقها
– وحيد حبيبى حمد الله على السلامة
قالتها هبة وعيناها تذرف من الدموع أمرها وأسعدها ، تحمل نقيضين وشعوران متغايران ، فكم تود هى الآن أن تلقى برأسها على صدره وتبكى بمرارة على ما لاقته مؤخراً
ببطئ أقترب وحيد بكفه من يدها المستندة على طرف فِراشه ، فحط به عليها ، ليعلم لما هى هكذا ، ترتدى ثياب سوداء ، ووجهها شاحباً وعيناها منتفخة من أثر البكاء، كأنها لم تكف عنه منذ أيام
فخرج صوته ضعيفها متسائلاً:
– مالك يا هبة حصل إيه وليه عاملة كده كنتى خايفة عليا
أمتنت هبة لوجود مقعد بالغرفة ، لتريح قدميها من الوقوف ، أو ربما لتمنع سقوطها مغشياً عليها ، نتاج لتلك الأحداث المؤسفة التى توالت على رأسها تباعاً
فأخذت يده بين كفيها وهى تقبلها بعبراتها قبل شفتيها ، لعله يعلم كيف كان حالها أثناء غيابه عنها ، فحاولت الابتسام من بين فيضان دموعها ، الذى يأبى أن ينحسر عن عينيها
فتحشرج صوتها وهى تقول بغصة مريرة :
– أكيد كنت خايفة عليك يا وحيد ومش بس كده أنا كنت بموت فى كل ثانية وأنا شيفاك كده فى الغيبوبة وحالتك كانت خطيرة ، بس مش ده بس اللى حصل بابا وماما ماتوا يا وحيد
رفع وحيد رأسه عن الوسادة ، كرد فعل طبيعى بعد سماعه ذلك النبأ الخاص بوالديها ، فهو على يقين أنه هنا بالمشفى إثر تخطيطهما للتخلص منه ، حتى لا يفتضح أمرهما ، ولكن أراد الله أن ينجيه ويرده لزوجته ، فى حين أنهما هما من رحلا عن الدنيا
فغمغم بعدم تصديق :
– مماتوا ! ماتوا إزاى يا هبة
قصت هبة له كل ما علمته بشأن ذلك الحادث ، مثلما أخبرها الضابط ، الذى أرسل بطلبها من أجل إستلام الجثمانين ، فهى لم تنسى ذلك اليوم ، عندما وجدت رجلاً يقف على باب شقتها ويخبرها بضرورة الذهاب لقسم الشرطة ومنه ذهبت للمشفى ، التى تم إيداع بها والديها ، فهى ممتنة لذلك المحامى الكهل ، الذى كان سابقاً المحامى الخاص بخالها عرفان ، فهو ساعدها حتى تمت إجراءات الدفن والعزاء وكل ما يتعلق بتلك الأمور
أغمض وحيد عيناها وسرعان ما فتحهما ثانية وهو يقول بأسف :
– الله يرحمهم ويغفرلهم
حاولت هبة تفريغ زفراتها التى علقت برئتيها ، حتى كادت تشعر بالإختناق الوشيك ، فقالت بهدوء :
– أنا كلمت المحامى ينقل نص الأملاك بإسم حياء يا وحيد ، هى برضه أتأذت بسببهم ، فهحاول أرد ولو جزء بسيط ليها من اللى شافته منهم
اماء وحيد برأسه موافقاً ، فأولاً وأخيراً هى وأشقاءها ورثة قسمت وشكرى ، ولا يحق له التدخل بتلك الأمور ، فيكفى أنه الله أراد أن يعود للعالم بمعجزة إلهية ، فمن كان بمثل حالته ، لم يتنبأ أحد من الأطباء بنجاته إلا بإرادة من الله ومعجزة
– اللى أنتى شيفاه صح يا هبة إعمليه
قال وحيد عبارته بإبتسامة هادئة ، حاول من خلالها إظهار إعجابه الشديد بتفكيرها ورغبتها بأن تخفف عن غيرها ما عناه جراء طمع أبويها
فقالت وهى تربت على كتفه بحنان :
– أنا أهم حاجة عندى أنك ترجع ليا بالسلامة يا وحيد ويمكن باللى عايزة أعمله ده ربنا حب يكافئنى وخلاك فوقت من الغيبوبة وإن شاء الله تخرج من هنا وأنت كويس ، أنا هسيبك دلوقتى وهرجعلك تانى علشان عندى ميعاد مع المحامى هاخد منه الأوراق وهروح لبيت جوز حياء علشان أقابلها وأديها الورق اللى يثبت أنها هتملك نص أملاك خالى الله يرحمه مش هتأخر عليك يا حبيبى
أخذت هبة حقيبتها وخرجت من الغرفة ، ومنها إلى الخارج ، حيث ينتظرها سائق تلك السيارة ، التى كانت لوالدتها سابقاً ، فهى عادت لمنزل خالها ثانية ، حتى تستطيع رعاية شقيقيها ، فقاد السائق السيارة حتى وصل للمكتب الخاص بالمحامى ، وبعد إستلامها الأوراق منه ، طلبت من السائق إيصالها لمنزل زوج حياء بعد أن هاتفتها تخبرها بشأن قدومها إليها وأنها تريدها بأمر هام على وجه السرعة
ففى حديقة المنزل ، أستقبلت حياء هبة بحفاوة وترحيب ، فهى بعد علمها بما حدث لقسمت وشكرى ، لم تنسى الذهاب إليها وتقديم المواساة لها على مصابها الأليم ، بل ورافقها راسل أيضاً ، الذى لا تعلم ما أصابه منذ سماعه ذلك النبأ ، فهو كأن أحد ضربه بقوة على رأسه ، ولا تعلم لما يشعر بكل هذا السوء من أجل وفاتهما ، ولم تنسى إبداء غرابتها لموقفه ، ولكنه إستطاع صرف تفكيرها عن الأمر كالمعتاد
فبعد رفض هبة الدخول للمنزل وفضلت الجلوس بالحديقة ، وجدت راسل عائداً من الخارج ، فجلس برفقتهما ليعلم سر مجيئها لمنزله ، ولما تركت زوجها بعد إفاقته من تلك الغيبوبة
فأخرجت هبة الأوراق من حقيبتها وناولتها لحياء وهى تقول بإبتسامة :
– خدى الورق ده يا حياء
أخذت حياء الورق من يدها ، ولم تفقه شيئاً ، فنظرت له وقالت بغرابة :
–ورق إيه ده يا هبة وأعمل بيه إيه أنا مش فاهمة حاجة
عقد راسل حاجبيه هو الاخر ، فى إنتظار أن تقدم هبة تفسيرها لما تفعله ، فبعد علمهما بشأن ما تحويه تلك الأوراق ، فضل الصمت ويرى رد حياء على ما سمعته
فتلقائياً نظرت حياء له ، كأنها بإنتظاره أن يقدم لها يد العون والمساعدة بإتخاذ القرار المناسب ، ولكنها علمت أنه لن يبدى رأيه بهذا الأمر ، بل سيتركها تتخذ قرارها بمفردها
– لاء يا هبة أنا مش عايزة حاجة ، شرعاً الفلوس دى مش من حقى ، وأنا جوزى مش مخلينى محتاجة حاجة الحمد لله
قالتها حياء وهى تعيد إليها الأوراق ثانية ، فأبدت هبة غرابتها من رفضها لقبول ذلك العرض المغرى ، فألحت عليها بالقبول ، ولكن جاءها نفس الرد والرفض منها
لم تخفى هبة إعجابها الشديد بتفكير حياء ، التى تمنعت عن أخذ حق تراه أنه ليس حقها ، مع أنها تملك قانوناً ما يخولها الحصول على أكثر ما عرضته هبة ، فبعد أخذها واجب الضيافة كاملاً رحلت من المنزل ، مع أخذها وعداً منها بأنها إذا أرادت شيئاً لا تتردد فى المجئ إليها ، وستوفر لها كل ما تحتاجه
فبعد رحيل هبة ، طالعها راسل بصمت لم يدوم كثيراً ، بل تبدد بسؤاله الهادئ :
– هو أنتى رفضتى عرضها ليه يا حياء مع أن أى حد هيشوف أنه عرض مغرى جداً أنه يمتلك كل ده
تبسمت له حياء وقالت بحب بعد أن مطت شفتيها بلطافة:
– رفضته علشان أنا مش محتاجة حاجة الحمد لله ، فأنت وجودك فى حياتى يغنينى ويكفينى يا حبيبى ويخلينى أحس أن أنا أكتر واحدة محظوظة فى الدنيا دى بوجودى معاك أنت وبنتنا يا راسل
تعصف بكيانه من مجرد لفظها لإسمه بمحبة ، فرد قائلاً بتلهف لقول ما لديه ، وما أرسله قلبه للسانه لينطق به :
– أنتى نبض قلب راسل ودقاته يا حياء ، راسل مبقاش ينفع يعيش فى الدنيا دى من غيرك ، البعد عنك هيبقى بمثابة الموت بالظبط ، إن كنت حبيت قبل كده بعينيا ، فأنتى أول واحدة أحبها بقلبى قبل عينيا
كيف أصبحت تملك زمام قلبه هكذا ؟
سأل ذاته بحيرة ، فمال بجزعه العلوى إليها قليلاً ، وأخذ يديها بين كفيه ، فضغط فمه على باطن راحتيها وهو يقبلهما ، جعلها تأخذ أنفاسها بصعوبة ، فأنفرجت شفتيها ، لتسمح بمرور ذلك الهواء الدافئ الجاثم بصدرها ، فلو أحتبسته أكثر من ذلك ستشعر بالإختناق
فقلبه بمحراب العشق لم يكن سوى خاشعاً راكعاً ومتضرعاً ، مستجدياً أن تمنحه الأمل ، بأنه إذا خطى بخطواته فى درب الهوى ، يجدها تنتظره بنهايته ، واعدة إياه بجنة الحب ، فورودها تنبت من بسمتها ، و ظلالها من سوداء شعرها ، ونهر من الخمر يسكن بين جفنيها ، سيغترف منه حتى يثمل قلبه ، فتلك الثمار الناضجة بوجنتيها ، تغوى نفسه بقطفها ، فهى كقطعة من الحلوى ، التى أبدع الخالق بصنعها ، فحماها من أيد المتطفلين ، حتى جاء هو لينعم بمذاق عشقها
____
وضعت شعرها خلف أذنيها ، وهى تتنقل بالمطبخ ، كأنها بدوامة ومتاهة ، فهى تنظر بالهاتف لتستمع لوصفة الطعام ، لتسرع بتنفيذ ما سمعته ، فهى لا تعلم أن مهام المنزل شاقة هكذا ، وهى من كانت تصحو من نومها ، وتجد الخادمة واضعة لها ما تحتاجه ، حتى خُفيها اللذان كانت ترتديهما بقدميها ، ولكن أن ترتدى مريول المطبخ ، الذى كان عبارة عن لوحة بوهيمية من بقع الطعام المتناثر من الأوانى والقدور الموضوعة على الموقد ،لم يكن ذلك ضمن مخططاتها يوماً ، فهى تلقى بالخضراوات فى الأنية ، وتقفز بخطواتها للخلف حتى لا يطالها الرزاز المتطاير منها
فلم تفعل شيئاً كالمطلوب منها بالوصفة ، فلم هو يصر على أن تفعل كل هذا ، وهى التى لم تعتاد على الإتيان بكوب ماء لنفسها
– إيه العك اللى أنا عملته ده
نظرت للطعام الذى أعدته ، فتجعدت جبهتها بشعور الإشمئزاز ، فلو رآى كرم ذلك لن يمرر الأمر مرور الكرام ، بل سيسمعها ما يعكر صفو مزاجها ، ولكنها فكرت بحيلة تمكنها من أن تنفذ بجلدها من كلماته القاسية ، فبحثت بهاتفها عن رقم أحد المطاعم الفارهة ، الخاصة بتوصيل الطعام للمنزل ، فهى ستوصى بكل الأكلات التى طلبها منها كرم أن تعدها من أجل الغداء
فبعد أن أخبرتهم بشأن مطلبها أغلقت الهاتف ، ووضعته بجيبها وهى تبتسم :
– الأكل هييجى وهحطه فى الأطباق وأقوله أن أنا اللى جبت الوصفة من على الموبايل ومش هيعرف حاجة يا سلام على أفكارى
أسرعت بالتخلص مما أعدته من طعام ، ولم يمضى وقتاً طويلاً ، حتى سمعت رنين هاتفها ، فالشاب الذى يحمل الطعام إليها أخطأ بالعنوان عدة مرات ، فحاولت قدر إمكانها وصف الحى ، الذى تقع به تلك البناية التى تسكنها ، فظلت تحدثه حتى سمعت رنين جرس الباب ، فأسرعت بفتح الباب وتناولت الطعام من الشاب الذى أتى به ، وأعطته المال اللازم ، فالشاب لم يخفى غرابته ، أن فتاة كهذة تسكن بهذا الحى ، بل تطلب طعامها من أفخر المطاعم وأشهرها ولكن ما يهمه هو الحصول على النقود ، فوضعها بجيبه ورحل
حملت هند أكياس الطعام للمطبخ ، وأسرعت بتفريغها بالأطباق اللازمة ، وأخفت كل ما يمكن أن يستدل عليه كرم ويعلم أنها لم تطهو الطعام بنفسها
– كده كله تمام هروح أخد شاور ريحتى بقت مقززة
أنهت عبارتها وهى تسرع بالذهاب للغرفة ، فأخرجت ثياب نظيفة وولجت للمرحاض ، لم يكن برفاهية مرحاضها ، ولكن كان يفى بالغرض من حصولها على حمام دافئ ، تمحى به تلك الروائح التى علقت بها ، فالجو حار وخانق بالمطبخ الصغير ، وكم من مرة تجمعت حبات العرق على جبينها ، وكانت تسرع بمسحها بظاهر يدها ، أما الآن فهى تفوح منها رائحة طيبة أرضت غرورها كأنثى كانت مثال يحتذى به للجمال والأناقة
بسماع باب الشقة يفتح ، أسرعت بإرتداء ثيابها ، التى حرصت أن تكون محتشمة قدر الإمكان ، حتى لا تثار مشكلات بينهما ، أو ...
خشيت التفكير بالإحتمال الأخر ، الذى جعل وجنتيها تلتهب بمجرد أن جال بخاطرها إقدام كرم على مغازلتها مرة أخرى ، كتلك المرة التى سلبتها كل حصونها ، التى شيدتها حفاظاً على كبرياءها أمامه ، وأن تظل بنظره تلك الفتاة المعتدة بجمالها وغرورها
– كرم جه برا
حاولت ترطيب شفتيها بلسانها ، التى أصابها الجفاف فجأة بعد سماعه يناديها بصوت القوى ،الذى أثار رجفة بعمودها الفقرى ، فبضعة أيام تحصى على اليد الواحدة ، جعلتها ترهبه وتخشى غضبه ، كأنها طفلة صغيرة تخشى التأنيب والتقريع من أبيها ، فوالدها كان حريصاً على تقديم الأفضل لها من مأكل ومشرب وملبس ، ووالدتها كانت تغدقها بحنانها الذى لاحد له بحكم أنها إبنتها الوحيدة والمدللة ، والتى لم يشأ الله لها بأن تنجب غيرها ، فهى لم تعرف معنى الخوف من أحد بإمكانه تأديبها على أخطأها وأفعالها قبل أن ترى ذلك الجانب الأخر المتمرد من إبن خالتها ، الذى كان دائماً يتحلى بالخجل والقناعة وعدم إقدامه على الإساءة إليها
– نعم سمعتك بتنادى عليا عايز تتغدا أحط الأكل على السفرة
قالتها هند بلباقة وهى قادمة من الغرفة بعد أن صففت خصيلاتها الرطبة ، ولكن لم يكن لديها الوقت الكافى لتصفيفها بالطريقة التى أعتادتها ، فتجعدت بعض خصيلاتها على جبهتها ، مما أعطاها مظهراً لم يعتاد رؤيته
فبعد أن أكتفت رماديته من التطلع إليها رد بصوت خالى من أى شعور يمكن أن تستدل منه على أثر هدوءها المفاجئ لديه :
– ماشى حطيه على ما أتوضى وأصلى
تركها وذهب لغرفته ، بينما هى ظلت تفكر ، فإن كان هو متديناً بطبعه ، فلما سمح لنفسه بأن يتزوج فتاة مثلها ، ربما يراها البعض متبجحة بثيابها السافرة ، والتحرر الذى تتبعه منهجاً وسلوكاً، ولكنها لم تتعمق بالتفكير فى الأمر ، بل ذهبت للمطبخ ، وبدأت بنقل الأطباق لمائدة الطعام
فبعد إنتهاءه من صلاته ، خرج للصالة وجدها تنتظره بالمقعد المقابل ، فسحب المقعد ولم يخفى دهشته من رؤية الأطباق المتراصة على مائدة الطعام ، فمتى وكيف إستطاعت طهو كل هذا الطعام ؟ أخذ الملعقة وبدأ يتناول طعامه بهدوء ولم يبدى إعتراضاً أو ملاحظة
فتبسمت لرؤيته هادئاً فأرادت أن تبادر هى بالحديث فقالت بثقة لم تعلم من أين أتتها بتلك اللحظة:
– إيه رأيك فى الأكل حلو مش كده
– ودفعتى فيه كام ده بقى يا هند
قالها كرم بغتة ، فعلق الطعام بحلقها ، وظلت تسعل بشدة ،كمن ستبلغ روحها حلقها بين ثانية وأخرى ، فهى ظنت أنه لن يكتشف حيلتها ، ولكن هى من صور لها عقلها السخيف ، أن أمر كهذا سيمر بسلام
دمعت عيناها وهى تتجرع كوب الماء ، الذى ناوله إياها بهدوء ، فنزعت الكلمات من فمها بجهد مرير وهى تقول بصوت خفيض نتيجة إصابة أحبالها الصوتية بالألم من سعالها المستمر :
– إنت عرفت إزاى
تبسم كرم بسخرية وقال بتهكم واضح:
– على أساس أن أنا طفل أول ما تقوليلى أنك عملتى الأكل ده لوحدك هصدقك ، دا أنتى مبتعرفيش تسلقى البيض ، هصدق أنك عاملة الأصناف دى كلها ، مش عارف ليه مصرة تستخفى بيا وبعقلى يا هند
صوت جرس الباب ، كأنه حبل نجاة تمسكت بطرفه ، ليضمن سلامتها من الخروج من مشادة كلامية ، لن تستطيع التكهن إلى أى مدى يمكن أن تصل بهما ، فأسرعت بفتح الباب فوجدت أبويها يقفان أمام الشقة
فأرتمت هند بين ذراعى والدتها وقالت وعيناها تدمعان بعد رؤيتهما :
– ماما وحشتينى أوى أنتى وبابا
أنفجرت هند بالبكاء على كتف أبيها ، بعد أخذ دوره فى إحتضانها ، فهى حتى لم تستطيع رؤية ما أحضراه معهما من أجلها
فأقترب كرم للترحيب بقدومهما وهو يشير لهما بالدخول:
– أتفضلى يا خالتو أتفضل ياعمى
– يزيد فضلك يا حبيبى
قالتها خالته وهى تأخذ بيد هند وهما يدلفان سوياً لغرفة المعيشة ، فلاحظت هند وجود إمرأة معهما ، ولكنها لا تعلم من تكون ؟
فنظرت لوالدتها وهى تقول بتساؤل :
– مين دى يا ماما
رد أبيها عوضاً عن والدتها فأشار للمرأة بالتقدم :
– دى شغالة علشان تخدمكم
لم يستسيغ كرم ما سمعه من والد زوجته ، فهو لايضع بمخططه الإستفادة من رفاهية زواجه من إبنة خالته ، فهو لا يريد سوى أن يشفى غليل قلبه المعتل بعشقها ، لعله يبرأ من ذلك الهاجس ، الذى لا يريد أن يفارقه ، فحتماً هو يريد نزع كل شعور وعاطفة تخصها بقلبه ، فيكفى أنه كلما نظر بوجهها ، يتذكر ما رآه بذلك الفيديو المشئوم ، فثيابها السافرة التى كانت ترتديها ، ولم تكن تختلف كثيراً عن ثيابها المعتادة ، وتمايلها على أنغام الموسيقى أمام شاب غريب ، كأنثى بارعة بفنون الإغواء ، ساهم كل هذا بزيادة وقود النيران بقلبه ، فلو لم يكن يخشى ما يمكن أن يحدث له ، ربما كان أقدم على قتلها بكل أريحية وبدون وخز بالضمير
– معلش يا عمى سامحنى أنا مقبلش أن يكون فى حد غريب فى بيتى حتى لو كانت شغالة وأنا كمان إمكانياتى متسمحش أن أدفعلها مرتبها
قال كرم ما لديه بهدوء ، يتأجج خلفه بركان ثائر من الأفكار المستاءة
فتبسم والد زوجته وقال بهدوء ونية حسنة :
– ولا يهمك يا أبنى أنت مش مطلوب منك حاجة أنا اللى هدفعلها مرتبها
– لاء طبعاً أنا مقبلش ده على كرامتى أن أهل مراتى يصرفوا عليا
صاح بها كرم بإعتراض على ما سمعه منه ، فتبادلت خالته النظرات مع زوجها ، الذى لم يخفى إعجابه برد فعل زوج إبنته
فحاولت خالته تخفيف حدة التوتر فقالت باسمة :
– خلاص يا كرم متزعلش نفسك أعمل اللى يريحك يا حبيبى
أرادت هند أن تحتج على ما قاله ، ولكنها أبتلعت كلماتها بحلقها ثانية ، فما تراه بوجه أبيها وأمها ، جعلها تعلم أن إحتجاجها لن يجدى نفعاً ، ففضلت إرجاء الأمر حتى ذهابهما
فبعد مرور ساعتين كاملتين ذهب والديها ، وصارت وجهها لوجه مع زوجها ، فظلا يتبادلان النظرات بينهما بصمت ثقيل
حتى خرجت هى عن صمتها وقالت بإحتجاج :
– أنت ليه رفضت موضوع الشغالة ، أنت شايف أهو أن مش عارفة أعمل حاجة فى البيت إيه لازمته العند
رفع كرم قدميه على المنضدة الصغيرة أمامه ، وأستند بظهره للأريكة وهو يقول بصوت كالصقيع :
– لا عند ولا حاجة الموضوع أن مش هقدر ادفعلها مرتبها فى مثل بيقول على قد لحافك مد رجليك سمعتى عنه
أهتاجت هند من بروده ورده الجاف ، فعندما حاولت أن تجادله ، داهمها غثيان مفاجئ ، فوضعت يدها على فمها ، فلم تنتظر ثانية أخرى ، بل ركضت للمرحاض وأفرغت ما بجوفها ، حتى شعرت بألم ببطنها ، فظلت منحنية ريثما تنتهى من تقيئها المفاجئ
فسمعت صوته خلفها قائلاً بإهتمام :
– مالك فى إيه
أقتربت من صنبور الماء ، ففتحته لتتناثر المياه الفاترة منه ، فأغترفت منها تغسل وجهها وفمها ، وبعد إنتهاءها نظرت له بعينان زائغتان ولم تقول سوى عبارة قصيرة ، قبل أن يتهاوى جسدها بين ساعديه :
– كرم ألحقنى
ألقت بثقل جسدها على صدره ، فلم يسعه سوى أن يتلقاها بين ذراعيه ، فحملها من المرحاض حتى وصل بها للغرفة ووضعها بالفراش ، فربت على وجهها عدة مرات ، لعلها تفيق من إغماءها ، فذهب للغرفة الأخرى يبحث عن قنينة عطره ، فربما بإستنشاقها رائحة العطر ، ستستعيد وعيها المفقود ، فبعد أن أستعادت وعيها ، واتتها الرغبة فى القئ ثانية ، فأسرع بجلب سلة المهملات ، وقربها منها حتى فرغت مما تفعله ، فعادت وأستلقت على الفراش ، وهى تشعر بأن قواها منهكة للغاية ، فمالت برأسها لليمين ونظرت إليه ، فما قرأته بعيناه هو ما جال بخاطرها وتخشى التمعن بالتفكير به أو التصريح عنه ، فتلك الأعراض كم من مرة رأتها وسمعت عنها
فهل من الممكن أن ما أصابها ناتج عن وجود مصيبة أخرى كنتيجة لأفعالها الطائشة ، فبديهياً وضعت يداها على بطنها ، وهى تسأل بقرارة نفسها بخوف
هل هى تحمل بأحشاءها الآن طفلاً ؟
____
جعلت غرفة النوم رأساً على عقب فى سبيل إيجاد إجابات لتلك الألغاز والغموض ، الذى يحاوط زوجها ، فهو لم يبدى رغبته أو نيته فى إخبارها شئ يخصه ، ولكنها كأى إنسان طبيعى ، تأكلها الفضول لمعرفة ولو شئ يسير عن ماضيه بصغره ، ففكرت بالذهاب لغرفة مكتبه ، فالمنزل ساكناً ولا أحد هنا سواها هى والخادمة ، فوفاء ذهبت لمتجرها ، والصغيرة بروضتها ، وراسل ذهب باكراً لمشفاه ، طلبت من الخادمة إعادة ترتيب غرفة النوم ، وذهبت هى للبحث بغرفة المكتب ، بدأت بالبحث بكل مكان بالغرفة ، فقبل أن تزفر بيأس من عدم حصولها على شئ ، وجدت حقيبة تم وضعها بعناية بصندوق خشبى كبير بأحد أركان الغرفة ، فأخرجت الحقيبة وجلست على الأرض ، فأخرجت صوراً فوتوغرافية قديمة ، وورق به رسومات طفولية ، وألعاب صغيرة ، فربما كانت تخص راسل بصغره
– ياترى هلاقى فى الصور دى صورة لأمه
نظرت حياء للصور تباعاً ، حتى توقفت أمام صورة جعلت مقلتيها تتسع بدهشةٍ ، فبالصورة وفاء بصباها وهى تقف بجوار فتاة أخرى لا يستطيع أحد تفريقهما نظراً للشبه الشديد بينهما ، فهما تؤأمتان ، ولكن الفتاة الاخرى ما يميزها عن وفاء ، وجود شامة سمراء صغيرة بأحد جانبى أنفها ، فهل تلك هى والدة زوجها الحقيقية ، ولكن أين هى الآن ؟
– حياااء
صرخ بها راسل بصوت جهورى أفزعها ، جعلها تنتفض وترتعش وهى تفترش الأرض ، فنظرت صوب الباب ، فوجدته يقف يرغى ويزبد من الغضب ، فلما هو عاد بهذا الوقت ؟
فتركت غضبه منها جانباً وسألته :
– هو أنت رجعت بدرى أوى كده ليه
بحركة غاضبة ، أقترب منها وأنحنى يلملم كل ما أخرجته من الحقيبة ، فرد قائلاً بإستياء :
– كنت ناسى الورق بتاع شركة الأدوات الطبية اللى بتعامل معاها وجيت أخده ، أنتى ايه اللى خلاكى تفتشى فى حاجتى يا حياء
بعد أن أعاد كل شئ بالحقيبة ، ووضعها بالصندوق ثانية ، نهضت من مكانها ووقفت أمامه ولكنها ردت بتحدى :
– كنت عايزة أعرف أنت مين بالظبط كل شوية أكتشف عنك حاجة معرفهاش أولها أنك مش راسل صفى الدين وأنك ابن رياض النعمانى وبعد كده أن ماما وفاء مش مامتك وأن مامتك واحدة تانية أيوة أنا عرفت ده من يوم ما باباك كان هنا وأنت شكلك مش عايز تحكيلى على حاجة فقولت أدور أنا على إجابات تريح فضولى
قبض على فكها وأحنى رأسها للخلف ونظر فى عينيها بهيمنة :
– مش كل الفضول حلو يا حياء ، يعنى محاولتك تعرفى عنى كل حاجة ممكن تأذيكى
شعرت بألم من قسوة أصابعه القابضة على فكها ، فأزاحتها وهى تقول بإصرار :
– وايه سبب الأذى أنت ناسى إن مراتك وإن بحبك ومستعدة أشاركك كل وجعك ليه مصر تخلى فى حاجز بينى وبينك
وضعت يديها على صدره ، وتألقت عيناها ببريق من شأنه أن يجعله يتخلى عن تصلبه ورأيه المتعنت بأن لا يشاركها ماضيه ، فهو حاول إرجاء الأمر كثيراً ، ولكن ربما هى محقة فهى زوجته بالأخير ويحق لها معرفة كل شئ
فرفع كفيه ووضعهما على راحتيها ، وهو يقول بهدوء لايستطيع أحد إعادته إليه بسهولة سواها هى وصغيرته :
– بكرة إن شاء الله يا حياء هحكيلك على كل حاجة
لم يزد كلمة أخرى ، بل أخذ الأوراق التى عاد من أجلها ، وخرج من المنزل ، فتمنت أن يكون صادقاً بقوله ويبوح لها بما يعذبه ويألم قلبه
فوقت الظهيرة باليوم التالى ، إستلمت حياء حقيبة تحوى ثوباً باللون الأبيض يشبه ثياب الأميرات مرفق معه رسالة لها خطها راسل بيده
" باليل ألبسى الفستان وتعالى على المبنى اللى فى الجنينة لو عايزة تعرفى كل حاجة شغلاكى هستناكى الساعة ٨ متتأخريش "
ضمت الرسالة لصدرها وهى تبتسم ، فتأملت ما أرفقه مع الثوب بإنبهار ، فهذا ما حلمت به ، رفعت الثوب بين يديها ، بعد أن طوت الرسالة بعناية ، فوقفت آمام المرآة ، واضعة الثوب عليها ، فدارت حول نفسها بسعادة ، فربما الليلة سينجلى ويتحطم كل حصن بناه زوجها حول نفسه ، مانعاً إياها من أن تتوغل بداخل غياهب أسراره ، فهى تريده أن يخرج من تلك المتاهة ، التى تجزم أنه مازال تائهاً بين أرجاءها ، رغم ما يبديه من قوة وبأس على تحمل الصعاب
مر الوقت سريعاً ، حتى حل المساء ، فوفاء أخبرتها بشأن أخذها لسجود والذهاب للمبيت بشقة إسعاد ، وكأن راسل أراد إخلاء المنزل من أجلهما ، فوفاء لم تنكر سعادتها ، بأن راسل قرر أخيراً كشف أوراقه كاملة أمام زوجته ، فلعل القادم يكون أفضل من أجله
– ياخبر دا الوقت خلاص مبقاش فاضل كتير
أنهت عبارتها وركضت للمرحاض ، أغتسلت وخرجت وبدأت بإرتداء ثيابها
فصوت حذاءها على الأرضية المرصوفة ، بذلك الممر الفاصل بين المنزل وبين وجهتها الذاهبة إليها ، كانت دقات قلبها أشد صخباً عنه ، شبكت يديها ببعضهما البعض ، وقفازايها المصنوعان من الحرير يصلان لمرفقيها ، وثوبها الأبيض المماثل للون قفازيها يصدر حفيفاً حول كاحليها ، تلملم خصيلاتها بمشبك بلون الماس ،ما عدا خصلتان متمردتان حول وجهها ، وشفتيها بلون الورد مدعاة للغواية ، قبل أن تصل وضعت إحدى يديها على صدرها ، تحاول أن تنظم أنفاسها ، كمن أوشكت على دخول حلبة للمصارعة
– أخيراً جيتى
هاتان الكلمتان الصادرتان منه بصوته الرجولى ، الذى ساهم مع الظروف المحيطة بها وجعلها تزدرد لعابها أكثر من مرة ، جعلتها تخشى التحرك من مكانها ، ولكن لم يمهلها فرصة فأخذها من يدها كالمسحورة ، حتى وقفا بمنتصف الغرفة
تأملت هيئته جيداً ، بداية من حذاءه الأسود اللامع ، صعوداً ببنطاله الأسود الضيق ، الملتصق بساقيه ، مروراً بقميصه الأبيض المفتوح أسفل عنقه وعليه صديرى بلون أسود ، حقاً فهو وسيم ، وتلك ليست المرة الأولى التى تقر بذلك
أخذت نفساً عميقاً وقالت :
– أيوة جيت علشان زهقت من لعبة الغموض وحابة أعرف كل حاجة عايزة أعرف هى تبقى مين ، وراحت فين وليه أنت مكنتش عايزنى أفتش وراك
لم يكن رده عليها سوى أن أطاح بيدها اليسار بخفة ، حتى حطت على كتفه ، بينما يدها اليمنى تلقاها بنعومة بين كفه العريض ، بينما يده الأخرى تحتضن قدها الرشيق
فتبسم لها وهو يقول بصوت متهدج:
– خلينا الأول نرقص رقص الفالس اللى كان نفسك فيها ومع كل خطوة هجاوبك على سؤال من أسألتك
إنسابت الموسيقى الناعمة ، وذراعها ممدود بمحاذاة ذراعه ، وكفها على كتفه ، جعلها بالبداية تدور حول نفسها ، وثوبها يضرب ساقيه كالسياط ، بصوت من لهيب الشوق ، تعود بين يديه ، وترحل منساقة بأشواق العودة إلى يديه من جديد ، فما أجمل التمايل بين ذراعيه بتلك الرقصة الناعمة والملكية ، فهو ماهر بأداء الخطوات ، تتبع هى خطواته بإبتسامة نبتت على شفتيها ، من تحقيق حلمها ، كمن تناست لما هى هنا الآن بالأساس ، فكم ترغب هى بتلك اللحظة أن لا تتذكر شئ
ولكن تلك الكلمات التى أنسابت من بين شفتيه ، جعلتها تتصنم بوقفتها وهو يقول :
– كنتى عايزة تعرفى هى مين اللى تبقى أمى، تبقى اللى شوفتيها فى الصورة مع خالتى "وفاء" ، أيوة أنا أمى الحقيقية تؤام خالتى وفاء وإسمها "وفية"
أنتهت المعزوفة الموسيقية ، فصارت وجهها لوجه معه ، فى إنتظار إكماله بقية حديثه ، وإخبارها القصة كاملة ، فما كان منه، سوى أن أخذها من يدها وأتجه صوب تلك الوسائد ، التى أعدها كمتكأ على الأرض بجوار المدفأة التى تراصت بها أكوام من الخشب ، لإضفاء لمسة جمالية على الغرفة ، كأنها بأحد العصور الكلاسيكية ، فكأن الليلة عادت بالزمن لعهد وزمن أخر ، فكأنه أراد أن تقضى ليلتهما كسندريلا ، ولكنها لن تتركه إذا دقت الساعة وأعلنت أن الليل أنتصف
– أقعدى يا حياء علشان نكمل كلامنا
آمرها راسل بلطف ، فجلست حياء وثوبها يشبه بستان ورود بيضاء من حولها ، فجلس مقابل لها ، ورأته يسحب تلك الحقيبة ، التى سبق لها ووجدت بها صور ورسوم وألعاب ، فبدأ بإخراج إحدى الصور التى تفردت بها والدته وهى تحمل صغير لا يتعدى العام من عمره ، فمن المؤكد أن ذلك الصغير هو راسل
نظر فى الصورة ، وتبسم بألم قبل أن يناولها إياها ليبدء سرد القصة كاملة منذ البداية :
– أنا هحكيلك كل اللى ماما وفاء قالتهولى وكمان اللى عيشته ، جدى عوض الله يرحمه مكنش عنده إلا بنتين وفاء ووفية سابتهمله مراته وماتت وهم عمرهم ٣ سنين ، كانت وفاء أكبر من وفية بخمس دقايق بس ، بس بالرغم من كده كانت كأنها أم تانية لأختها ، البنتين كبروا لحد ما وصلوا ١٨ سنة ، خالتى وفاء حبت جارهم صفى الدين العطار ، وخطبها واتجوزوا ، بس أمى رفضت أنها تتجوز فى السن ده وفضلت أنها تكمل تعليمها وتدخل الجامعة ، وفعلاً خلصت تعليمها ، فجدى عوض كان شغال ساعى فى شركة رياض النعمانى ، طلب منه يشغل بنته فى الشركة ووافق رياض النعمانى ، كان فى الوقت ده عنده حوالى ٤٤ سنة وكانت مراته الاولانية وأم وجدى أخويا أتوفت من سنتين بعد ما جالها مرض خطير ، وربنا أراد أنها تموت ، أمى أشتغلت فى الشركة ، و كانت من النوع العاطفى شوية ، حبت رياض النعمانى ومعملتش أعتبار لفرق السن الكبير اللى بينهم ، ولا للفرق الاجتماعى ، بدأ ياخد باله من إعجابها وحبها ليه ، فعرض عليها الجواز فى السر ، وافقت واتجوزوا من غير ما حد يعرف ، لحد ما جه اليوم اللى أمى حملت فيا وأنكشف سرها ، قبل ما جدى عوض يعرف أنها متجوزة رياض النعمانى ، جتله جلطة ودخل المستشفى من صدمته من اللى بنته عملته ، وبعدها بكام يوم مات ، مكانش قدام أمى حل غير أن لازم رياض النعمانى يعلن جوازه ويعترف أن اللى فى بطنها إبنه ، الموضوع أتعقد زيادة فخالتى وفاء وجوزها حاولوا يساعدوها بكل طريقة علشان تثبت حقها ، فصفى الدين راح لرياض النعمانى وقاله لو ما أعلنش جوازه من وفية ، هيفضحه فى إسكندرية كلها والناس تعرف هو عمل إيه ، طبعا عيلة النعمانى طول عمرها أسياد البلد فخاف أن يحصل مشاكل ويتهز إسمه وسمعته ، فأعلن جوازه من أمى ، وأخدها عاشت فى قصر النعمانى ، لحد ما أتولدت أنا ، ودى كانت بداية العذاب ليا ولأمى ، طبعاً محدش أتقبل أن إزاى بنت الساعى تبقى مرات كبير عيلة النعمانى ، وخصوصاً عاصم وسوزانا لأن مرات رياض النعمانى الاولانية كانت برضه خالتهم أخت أمهم ، فمتقبلوش أن أمى تاخد مكانها وتبقى مرات عمهم ، لأن معروف أن عيلة النعمانى نسبهم دايماً من الأكابر اللى زيهم ، كانت أمى معظم الوقت تاخدنى وتروح لخالتى وفاء ، كانت بتهرب من المعاملة الجافة وكمان قلة الاهتمام من جوزها ، لأن من ساعة ما دخلت القصر وهو كان جوز ليها بالاسم بس ، وانا مجرد شايل إسمه ، حبيت الحى الفقير أكتر من قصر أبويا ، فى الوقت ده كانت أم ولاء مخلفة بنتها الكبيرة أشجان ، وكانت بتشتغل وساعات كانت تسيبها مع خالتى وفاء على ماترجع ، فأنا وهى رضعنا من أمى ، وأوقات لما أمى كانت بتسيبنى لوحدى عند خالتى وفاء ، كانت خالتى بترضعنى من طنط إسعاد لو موجودة ، كبرت لحد ما بقى عندى ٧ سنين ، ومش لاقى تفسير أن ليه الراجل اللى مفروض أبويا مش بيعاملنى زى ما بيعامل وجدى وعاصم وسوزانا ، الوحيد اللى كان كويس معايا انا وأمى هو وجدى ، حتى مرة قولتله هو أنت تبقى بابا وهو يبقى جدى ، فضحك وقالى لاء أنا أخوك الكبير وهو يبقى أبونا أحنا الاتنين ، وحاول يفهمنى أنه رياض النعمانى بيحبنى بس هو بس الشغل اللى واخده ، حاولت أتقرب منه علشان أحس بحبه ليا ، بس مكنتش باخد منه غير القسوة فى الرد ، أنا أفتكر مرة رجعت من المدرسة كنت اخدت جايزة على رسمة رسمتها هى دى
قال راسل وسحب ورقة من الرسومات وناولها إياها ، وهو يبتسم بمرارة ويكمل حديثه :
– كان فى ناس معاه فى الصالون فدخلت وأنا فرحان علشان أوريه الرسمة والجايزة هب فيا وقالى متدخلش عليا كده تانى ، خرجت وانا بعيط جه وجدى كالعادة يطيب خاطرى ، فضلت الأيام تمر زى ماهى مفيش تغيير ، كنت بستنى اليوم اللى أمى تاخدنى فيه عند خالتى وفاء كأنه يوم العيد ، وأن هخرج من القصر ، اللى كنت عايش فيه زى المسجون ، بقى عندى ١٠ سنين وكل يوم أشوف أمى بتدبل زى الوردة وهى مستنية أن جوزها يحس بيها أو بيا ، جه يوم وقفت قدام باب أوضة رياض النعمانى وسمعته بيتخانق مع أمى وقالها أنتى ملكيش حاجة عندى غير أنك تعيشى فى مستوى مكنتيش تحلمى بيه وأنه عمره ما هيتقبلها زوجة وان اللى حصل بينهم كانت غلطة ونزوة وندم عليها ، وقالها أنتى وإبنك ملكوش مكان فى حياتى غير انكم شايلين إسمى بس وأنه بيكرهنا ، جريت على أوضتى وأنا بعيط لما سمعته بيقول كده ، تانى يوم أمى أتخانقت مع سوزانا اللى عايرتها بأصلها ، فأمى ضربتها بالقلم ، قامت بينهم خناقة ، فالوقت ده كان رياض النعمانى وعاصم ووجدى راجعين من الشغل ، لما شافها بتتخانق مع بنت اخوه زعقلها وقالها إزاى تمد إيدها عليها وعاصم كمان ادخل فى الموضوع ووجدى حاول أن الموضوع ميكبرش بس كلمة رياض النعمانى ليها ، قضت على كل حاجة لما قالها متعليش صوتك يابنت الساعى ، أمى خرجت تجرى من القصر وخرجت أجرى وراها ، مكنتش شايفة قدامها ولا سمعانى وأنا بنادى عليها وبعيط ، وصلت للشارع وبرضه كانت بتجرى زى ما يكون فى وحش بيجرى وراها ، لحد ما قابلتها عربية وخبطتها ووقعت غرقانة فى دمها
أغمض عينيه كأنه يعتصرها ،كأنه بتذكره لجسد والدته الغارق بدماءها ، أثار الخوف به ، فوضعت حياء يدها على يده وشدت عليها ، فسمعت صوته وهو يغمغم بأسى وحزن :
– ماتت بعد ما قالتلى روح لخالتك وفاء متقعدش فى القصر ده تانى ، وماتت وسبتنى ، حاولت أهرب من البيت وأروح لخالتى وفاء ، كان بيرجعنى ويحبسنى فى البيت ، بس الحاجة اللى كانت بتهون عليا وجود وجدى جمبى ، لحد ما أتقتل وجدى ، مكنتش طايق أقعد تانى فى القصر ، طبعا حاول يمنعنى هددته أنه لو ما سابينش أخرج من القصر هنتحر وبكده يبقى خسر ولاده الاتنين ، خاف أن انفذ تهديدى ، فسابنى اخرج من القصر ، روحت عيشت مع خالتى وفاء وجوزها ، ربنا مأرادش أنهم يخلفوا ، فأعتبرونى أبنهم من لحمهم ودمهم ، وربونى وعلمونى وعلى الرغم من أن كان رياض النعمانى بيبعتلى فلوس علشان تعليمى ، إلا أن صفى الدين العطار كان بيرفض وهو اللى صرف على تعليمى وربنا فتحها عليه بقى عنده محل عطارة كبير واشترى البيت ده وبنالى المستشفى لأنه كان حابب أن أبقى دكتور جراح ، وسافرنى أنجلترا أكمل تعليمى ، بس للأسف على ما خلصت كان مات صفى الدين وملحقش يشوفنى وأنا بدير المستشفى اللى وصانى أن يكون فيها جزء خاص بالأطفال الأيتام ، فضلت عايش فى البيت ده مع أن رياض النعمانى حاول بدل المرة ألف أنه يرجعنى بس أنا اللى برفض ، مش عايز أبقى مجرد سد خانة فى حياته ، فعلشان كده محدش يعرف أن ابن رياض النعمانى إلا القليل ، لأن إستخدمت إسم جوز خالتى وفاء ، لأن كنت بعتبره أنه هو اللى كان أبويا فعلاً ، وبقيت أعاند معاه فى كل حاجة ، حتى تصدقى فى جوازتى من صوفيا ، لما لقيته رافض الموضوع علشان كان عايز يجوزنى واحدة تانية ، عاندت معاه واتجوزتها ، بس المشكلة أن بجوازى من صوفيا إديته فرصة أنه يأنبنى على غلطى وخصوصاً أن هو اللى رجعنى من إيطاليا بعد ما كنت محبوس هناك
قطبت حياء حاجبيها وهى تقول بتساؤل :
– رجعك إزاى مش كنت بتقول أنك كنت فى سجن مشدد هناك
شعر بإختناق مفاجئ ، فوضع يده على عنقه ، وتحسس سخونة جلده ، من فوران دماءه ، فتلك الجلسة وما رافقها من تفتيش بماضيه وإخبارها بما حدث ، ليس بالشئ الهين بالنسبة له ، فهو أعطاها فقط الخطوط العريضة لأوضاعه الماضية ، لكنه لم يكن على إستعداد بشرح أدق التفاصيل ، فيكفى أنها علمت جوهر القصة
ضم شفتيه وسرعان ما تجاوزت الكلمات من بينهما :
– فى واحد وعدته أن لو وصل رسالة لأهلى أن أنا موجود فى المكان ده هديله مبلغ مالى كبير لأن قولتله أن أهلى ناس أغنيا جدا ، فوافق ووصل لخالتى وفاء وعرفها اللى حصلى هناك وهى اللى راحت قالت لرياض النعمانى فجه إيطاليا وطبعاً معاه جيش محامين وقلب الدنيا لحد ما قدروا يوصلوا لقاتل صوفيا الحقيقى واللى طلع أنه جوزها اللى كانت بتنصب معاه ، أعترف أنه قتلها علشان كان عايز يهرب بالفلوس اللى جمعوها مع واحدة تانية كان يعرفها ولما صوفيا عرفت أتخانقوا قتلها ولبسنى أنا التهمة علشان يطلع منها
رآت أنه من الأفضل أن يكف عن الحديث ، فنظراته الزائغة بكل مكان ، لم تكن سوى مؤشر على أنه لن يكون بإستطاعته أن يقول شئ أخر ، فيكفى ما سمعته منه ، ويكفيها نكأ لجراحه لهذا الحد ، فجذبته من ذراعه ، حتى ماله بجذعه العلوى تجاهها ، فوضعت رأسه على ساقيها ، وتمدد بباقى جسده على الوسائد ، فغرق وجهه بين طيات ثوبها ، يحاول منع تسرب عبراته من مقلتيه ، فلم تفعل شئ سوى أنها ظلت تمسد على شعره بحنان ، فأثار ندوب جسده ، التى طالما رأتها جلية بصدره وظهره ، تعلم أن ندوب قلبه أشد ألماً عنها ، ولن يبرأ منها بسهولة
_____
تجرع ما بكأسه دفعه واحدة ،
باقى البارت السابع والعشرين
تجرع ما بكأسه دفعه واحدة ، فالمشروب اللاذع ربما تسبب له بالشعور بإحتراق جوفه ، ولكنه لا يبالى ، فلا شعور أقسى من ذلك الذى يشعر به بقلبه ، فكأنما يعاد الزمن مرة أخرى ، بتفاصيل دقيقة ، فالأختلاف أن أضلاع ذلك المثلث ، صاروا الأن كباراً ، وليسوا بمقتبل أعمارهم ، ولكنه توقف لحظة عند تلك الخاطرة ، فترك مكانه ونظر بالمرآة الكبيرة ، المثبتة على أحد الجدران ، ولم تكن سوى مرآة من أصل أربعة ، كل واحدة تحتل جدار من جدران الغرفة ، فكما كان يطلق عليها دائماً ، غرفة "مرايا الذكريات "
كأنه أختزن بكل مرآة عدة ذكريات ، ويأتى إليها وقت حاجته لتذكرها ، ولكن مرآة الحاضر أظهرت له كم قسى عليه الزمن وعلى ملامح وجهه ، التى كانت بالماضى تحمل بعض الوسامة ، ولم تكن صارخة كوسامة " عاصم النعمانى "
فالآن تأمل نفسه جيداً ، فشعره بدأ اللون الأسمر ينحسر عنه تدريجياً وأحتل مكانه اللون الأبيض ، وظهور بعض التجاعيد حول عينيه وفمه ، فعلى الرغم من أنه المشيب لم ينال منه النصيب الأكبر ، إلا أن يستطيع كل من ينظر إليه يعلم أنه تخطى الخمسون عاماً، فقبل أن يتمعن فواز أكثر بشأن ما فعله الزمن به ، سمع صوت طرق باب الغرفة ، وولج على أثره أحد رجاله يخبره بشأن مجئ ضيف له
فخرج من الغرفة ووصل لغرفة المعيشة ، فتلاحما حاجبيه الكثيفين وهو يقول بغرابةِ :
– عمرو ! أنت جيت أمتى ؟ وهى أمك سابتك تيجى إسكندرية إزاى
تبسم عمرو وهو يقول بسخرية :
– ماما متعرفش أن أنا هنا فى إسكندرية ، هى مفكرة أن أنا فى باريس دلوقتى ، بس لقيتك واحشنى فجيت أشوفك يا بابا
___
•تابع الفصل التالي "رواية لا يليق بك إلا العشق" اضغط على اسم الرواية