رواية في حي الزمالك الفصل السابع و الثلاثون 37 - بقلم ايمان عادل
عَزَاء🤎✨🦋
“حاضر يا بابا من عنيا.”
قالت ميرال ومن ثم غادرت الطاولة وذهبت لإحضار المياه وهي في طريقها إلى الداخل كادت أن تصطدم بأنس الذي غادر دورة المياه للتو، وقفت هي في موضعها بصدمة وتوقعت أن يبتعد هو لكنه لم يفعل بل ظل ينظر إليها بأعين غائمة لثوانٍ قبل أن يُغلق عسليتاه ويختل توازنه ومن ثم يسقط ارضًا…
“يلاهوي! أنس!!” صاحت ميرال التي أحتضنت رأس أنس وجزء من نصفه العلوي بين ذراعيها كي تحمي رأسه من الإصطدام لكن باقي جسده قد ارتطم بالأرضية بقوة..
“حد يلحقني!!” هرول الجميع نحو ميرال نتيجة لصراخها والصوت المُرتفع الذي تسبب فيه سقوط أنس، جاء رحيم وأفنان ووالدها مهرولين نحو ميرال والتي كان أنس بي ذراعيها ولولا أنهم يعرفون ميرال جيدًا وكون أنس فاقدًا للوعي لأساء الجميع فهم المشهد.
“أيه اللي حصل؟” سأل رحيم بفزع فور رؤيته لصديقه الفاقد للوعي بين ذراعي ميرال، نظرت نحوه ميرال بأعين دامعه وهي تُجيبه بتلعثم:
“معرفش.. معرفش هو وقع فجاءة كده.. هو عايش طيب ولا أيه؟”
“رحيم هو حصله كده قبل كده؟” سألت أفنان ليُجيبها رحيم بثبات نسبي:
“مش عارف.. ميرال معلش ابعدي كده..” أمسك رحيم بأنس بدلًا من ميرال التي استقامت وذهبت لتقف إلى جانب أفنان.. بدأ رحيم في ضرب أنس ضربات خفيفة على وجهه بأيدي مُرتشعة في محاولة منه لجعله يسترد وعيه لكنه لم يستجيب، تنهد رحيم ثم صاح قائلًا:
“بابي.. تعالى شيل أنس معايا.”
في خلال دقائق كان رحيم في داخل السيارة برفقة والده وأنس الفاقد للوعي ووالد أفنان بعد أن تركوا الفتيات على أحر من جمر في المنزل، قاد والد رحيم السيارة بينما جلس رحيم في المقعد الخلفية وقد أسند رأس أنس على قدمه وأخذ يضغط على أنفه ضغطات قوية ولم يستغرق الأمر سوى بضع ثوانٍ قبل أن يستجيب أنس ويفتح عيناه ببطء ثم يُعاود إغلاقهم مجددًا.
“أنس أنت شايفني؟ طب لو سامعني حاول تفتح عينك.” سأل رحيم وبالفعل استجاب أنس لمطلبه وحاول أن يفتح عيناه مجددًا.
“بسرعة شوية يا بابي من فضلك!” طلب رحيم من والده الإسراع وهو يشعر بقلبه على وشك أن يغادر قفصه الصدري من شدة قلقه على صديقه، لطالما كان أنس مُهملًا في صحته وقد وبخه رحيم عدة مرات بسبب ذلك وبالرغم من توقع رحيم لحدوث ذلك يومًا ما إلا أنه شعر بالهلع والإستياء في الوقت ذاته.
بعد مدة ليست بطويلة توقفت السيارة أمام أحدى المستشفيات الخاصة، استغرق الطبيب بضع دقائق بالداخل بينما كان رحيم ينتظر في الخارج وقد توقع بالفعل ما سيقوله الطبيب لكنه أراد أن يطمئن.
“خير يا دكتور؟ طمنا من فضلك.” استفسر والد أفنان فور رؤيته للطبيب يُغادر الحجرة حيث وُضع أنس، أقترب رحيم من الطبيب كذلك والذي أردف بإيجاز:
“المريض ضغطه كان عالي جدًا اتخطى ال ٢٠٠ وده اللي سببله الإغماء، أحنا علقناله محاليل والمفروض أن ضغطه هينزل وأنا برضوا هكتبله على أدوية للضغط ياريت يلتزم بيها وطبعًا لازم يتابع مع دكتور.”
“تمام شكرًا لحضرتك.” تمتم رحيم وهو يُعيد خصلات شعره نحو الخلف بقوة بينما يزفر بضيق، هناك شيئًا خاطئ يحدث مع صديقه الوحيد وهو لم ينتبه لإنشغاله بالإحتفال مع أفنان، ياله من شخصًا أناني وأحمق! سب رحيم نفسه قبل أن يستأذن الطبيب في رؤية أنس.
دلف رحيم إلى داخل الحجرة ليرى صديقه النائم على الفراش بينما اتصل بذراعه محاليل طبية، سحب رحيم الكرسي الذي وضع في الحجرة وقربه من السرير.. انتبه أنس لوجود رحيم فقام بفتح عيناه وحاول الجلوس لكن رحيم ربت على كتفه وهو يُردف:
“خليك زي ما أنت متتعبش نفسك.”
“أنا بقيت كويس.”
“أيه اللي حصل يا أنس؟ أنت فيك حاجة مش مضبوطة.” سأله رحيم بهدوء على عكس مشاعره القلقة المضطربة، قلب أنس عيناه بتملل وهو يُجيبه ساخرًا:
“لا لماح أوي اسم الله عليك.”
“يا ابني هو أنت مبتعرفش تتكلم زي الناس المحترمة؟ قولي في أيه؟”
“مفيش، فريد مات.” نبس أنس بهدوء شديد قبل أن يبدأ في نوبة من الضحك الهستيري.. طالعه رحيم بنظرات هادئة وهو ينتظر أن يفرغ أنس من نوبة الضحك خاصته كي يُخبره أن ذلك النوع من المزاح غير مقبول، بعد مرور دقيقة تقريبًا توقف أنس عن الضحك وهو يفرك عيناه التي امتلأت بالدموع من فرط الضحك.
“بتبصلي كده ليه؟” سأل أنس وهو يُطالع رحيم الذي تجمد الدم في عروقه، نظر رحيم نحو أنس لبرهة قبل أن يسأل بتقطع وبنبرة مُرتعشة:
“أنس.. هو أنت.. بتتكلم جد؟ أنس؟”
“هي الحاجات دي فيها هزار؟ جاله جلطة ومات من تلات ساعات كده.. جاله جلطة بعد ما عرف أني حبسته ورفعت عليه قواضي.. أنت ساكت ليه؟” كان أنس يتحدث بثبات شديد وهو ينظر إلى داخل أعين رحيم، لم يُعلق رحيم على حديث أنس بل استقام من مقعده وجذب أنس في عناقًا قوي وفي تلك اللحظة انفجر أنس في البكاء وهو يُردف بصوت مبحوح:
“أنا بكرهه يا رحيم.. بكرهه.. أنا.. أنا مبسوط أنه مات! لا.. أنا مش مبسوط.” كانت الشهقات تتخلل حديث أنس المُبعثر، شدد رحيم على العناق أكثر وهو يلعن نفسه أسفل أنفاسه، كيف لم يلاحظ اضطراب أنس من بعد اجراءه لتلك المكالمة، كيف كان أناني للدرجة التي جعلته لم ينتبه قط لصديقه.
“أنا جنبك يا أنس.. أنا جنبك..”
“أروى.. أروى هتفرح أوي..”
“ششش! بس يا أنس كفاية.”
مرت بضع دقائق من الصمت وقد سكن أنس قليلًا وانتظمت أنفاسه داخل أحضان رحيم، ابتعد الأخير قليلًا حينما أدرك أن أنس قد غفى.. وضع رأسه على الوسادة وعدل من نومته قبل أن يُغادر الحجرة، كان والده ووالد أفنان ينتظرون في الخارج على أحر من جمر ينتظرون خروج رحيم كي يطمئنهم على صحة أنس.
تقدم رحيم منهم بخطوات بطيئة وقد غلفت الصدمة والحُزن تعابير وجهه، كان حامد قد جلس على أحدى الكراسي إلى جانب والد أفنان لكنه استقام فور رؤيته لتعابير وجه رحيم.. اقترب رحيم بهدوء وهو يُردف:
“بابي.. Uncle فريد.. تعيش أنت..”
“لا حول ولا قوة إلا بالله.. إنا لله وإنا إليه راجعون.” تمتم والد أفنان بحزن شديد بالرغم من عدم معرفته لوالد أنس لكنه انسان وقد رحل عن عالمنا.
“لا إله إلا الله.. ده حصل أمتى الكلام ده؟ ازاي محدش يبلغني؟!”
“أنا لسه عارف من أنس دلوقتي.. هو ده السبب اللي تعبه ووصله للحالة دي.” قال رحيم وهو يتحاشى النظر نحوهم حيث كانت الدموع قد تجمعت داخل عيناه تأثرًا بوضع صديقه، ساد الصمت البرهة قبل أن يعاود والده السؤال مجددًا:
“طيب هو فين فريد دلوقتي؟ هيتدفن أمتى وأيه الإجراءات اللي المفروض تتم؟”
“أنا مش عارف أي حاجة وأنس نام.”
“نام؟” سأل حامد بتعجب ليتنهد رحيم قبل أن يُجيبه بنبرة خالية من الحياة:
“اه، تأثير الخبر مكنش هين عليه يا بابي، على العموم أنا هكلم المُحامي بتاع أنس وأخليه يشوف النظام أيه.”
“تمام.”
“أنا أسف جدًا يا عمو عاللي حصل ده وأن حضرتك اضطريت تيجي معانا هنا وكده.. بس الظروف..”
“على أيه يا ابني بس؟ ده قضاء ربنا أهم حاجة أن أنس يقوم بالسلامة وتخلصوا الإجراءات المطلوبة.”
“إن شاء الله.. أنا هكلم السواق يوصل حضرتك للبيت.”
“مفيش داعي أنا هعرف اروح لوحدي.”
“لا لا مش هينفع.” أصر رحيم على موقفه وبالفعل جعل السائق يحضر لإيصال والد أفنان إلى المنزل بينما بقي هو في المستشفى برفقة والده وهما يفكرون فيما عليهم فعله في الخطوات التالية.
بالعودة إلى منزل أفنان وقبل وصول والدهم، جلست ميرال على الأريكة في صدمة وتوتر كلما تذكرت ما حدث قبل قليل وجلست إلى جوارها أفنان التي بادلتها نفس الشعور وإن كان شعور ميرال يختلف لأنها رأت ما حدث لأنس أمام عيناها.
“يعني أنا مش فاهمة برضوا أيه اللي حصل؟ يعني أنتي لاقيتيه عالأرض وبعدين خدتيه في حضنك ولا أيه؟ ولا هو مثلًا أشتكى من حاجة في الأول؟”
“تاني يا أفنان؟ هنعيد نفس القصة من أولها تاني؟ قولتلك أنا كنت رايحة.. كنت رايحة اجيب حاجة.. لاقيته خارج في وشي فجاءة من الحمام بصلي ثانيتين قبل ما يقع من طوله فجاءة.. وأنا كنت قريبة منه يعني فحاولت ألحقه بسرعة عشان دماغه متتخبطش في الأرض.”
سردت ميرال ما حدث للمرة العاشرة تقريبًا وفي كل مرة يزداد خجلها مما حدث، وكانت أفنان تعلم ذلك جيدًا ولم تتوقف عن مضايقتها حيث علقت أفنان على حديثها قائلة:
“يا حنينة!”
“أفنان أنتي شايفة الموضوع يستحمل هزار أو استظراف يعني؟”
“أنا مقولتش حاجة على فكرة، أنتي اتصرفتي تصرف طبيعي وتلقائي جدًا.. هو مكنش صح يعني اللي حصل أكيد بس أنتي مكنش قصدك حاجة غلط.”
“ايوا طبعًا مكنش قصدي.. مريم.. بت يا مريم!” صاحت ميرال على غير العادة حينما انتبهت لوجود مريم والتي بالطبع ستنقل كل ما حدث الآن لأخيها، جاءت مريم والتي كانت تتناول الطعام في المطبخ وهي تسأل بقلق:
“في حاجة ولا أيه؟”
“أوعي تقولي لنوح عاللي حصل! هو أصلًا محصلش حاجة يعني.. بس أصل نوح هيعملي حوار.”
“قصدك عالكتكوت اللي فطس مننا ده؟ لا متقلقيش.” علقت مريم ساخرة لتقلب ميرال عيناها بتملل وهي تُتمتم:
“طيب..”
بعد مرور مدة من الوقت تسلل إلى أذن أفنان صوت خطوات والدها المميزة لتقفز من موضعها لتفتح الباب من قبل أن يطرقه.
“حمدلله عالسلامة يا بابا.. ها طمني أيه اللي حصل؟”
“يا بنتي أدي أبوكي فرصة ياخد نفسه ويرتاح من السلم.” وبختها والدتها لتتنهد أفنان وهي تبدأ حديثها بصوتٍ مسموع ثم تنهيه بهنس مُردفة:
“حاضر يا ماما.. ها يا بابا قولي.”
“مفيش يا دكتورة ضغطه كان عالي جدًا وهو اللي سببله الإغماء كده.”
“طب وأيه اللي رفعله ضغطه أوي كده؟”
“أصل.. والد أنس في ذمة الله.. الخبر جاله وهو معانا النهاردة..”
“لا حول ولا قوة إلا بالله..”
“يعني باباه مات وهو فضل عادي قاعد معانا وبيكمل شراء الشبكة؟ لا وراجع يتعشى عادي؟ غريبة دي..” تسألت ميرال بحيرة لتنظر نحوها أفنان بنظرات تأييد قبل أن تُعلق بنبرة لا تخلو من السخرية:
“تصدقي يا ميرال أول مرة تقولي حاجة صح في حياتك.”
“الله أعلى وأعلم بقى ممكن من الصدمة مقدرش يدي رد فعل على طول.. يمكن مكنش عايز ينكد على رحيم ويبوظ اليوم.”
“حتى لو يا عمو مش منطق برضوا.” أردفت مريم لتُعلق أفنان مؤيدة لحديثها قائلة:
“أكيد في حاجة غلط..”
“ملناش دعوة بقى.. عمتًا أحنا هنروح وهنعمل الواجب وهنعزي ميخصناش حاجة أكتر من كده.”
“طيب بابا هو ينفع ابقى أكلم رحيم اطمن عليهم؟”
“ينفع، بس بلاش رغي واستعباط ها.”
“حاضر يا بابا.” أردفت أفنان بآدب وهدوء وبمجرد أن دلف والدها إلى حجرته قفزت في موضعها بحماس لأن والدها سمح لها اخيرًا بمهاتفه رحيم وهذه المرة هي لن تفعل ذلك سرًا.
“خليكوا هنا بقى هدخل أتكلم في التليفون وأجيلكوا.”
“ماشي يا ستي الله يسهلك.” قالت مريم بمزاح وهي تغمز بإحدى عينيها لتنظر نحوها أفنان بإزدراء وهي تُردف ساخرة:
“ما هو النبر ده اللي جايبنا ورا.. الراجل مات ياستي.”
أغلقت أفنان باب الحجرة وسط ضحكات مريم وميرال، ذهبت لتتمدد على السرير ومن ثم هاتفت رحيم والذي أجاب على الفور وقبل أن ينبس بحرف سبقته أفنان وهي تطمئن عليه بلهفة:
“أيه يا رحيم طمني عليكوا أنتوا تمام؟ اه صحيح البقاء لله.”
“ونعم بالله، أنس كويس.. نايم يعني.. وأنا وبابي بنشوف أيه الإجراءات المطلوبة.”
“أيه ده أنا عطلتك ولا أيه؟ أنا أسفة خلاص روح شوف اللي وراك.”
“لا ولا يهمك.. تمام هخلص وهكلمك.. Uncle أحمد وصل صح؟”
“اه وصل من شوية.”
“تمام حمدلله على سلامته.” أنهت أفنان المُكالمة سريعًا فمؤكد أن رحيم منشغلًا بإنها ما يعجز صديقه عن إنجازه نظرًا لصدمته بوفاة والده وحالته الصحية المتوعكة حاليًا.
في صباح اليوم التالي أخذت ميرال تبحث عن شيء مناسب لترتديه أثناء ذهابها إلى العمل وفي الوقت ذاته تُريد ثوبًا أنيق خاصة وأن نوح ينوي زيارتهم اليوم هو وخالتها، بعد تفكير طويل قررت ميرال ارتداء الثوب ذاته من ليلة أمس.. أمسكت ميرال بالثوب وهي تتفحص كونه نظيف ومن ثم قربته من أنفها لكي تستنشق رائحته، مرت بضع ثوانٍ وهي في ذهول شديد من الرائحة.. فتلك الرائحة لا تخصها بل بمعنى أدق هنالك رائحة عطرٍ آخر اختلطت بخاصتها.. عطر رجولي ثقيل؛ رائحة عطر أنس على سبيل المثال!!!
“يا نهار أبيض عليا وعلى سنيني! أفنان أصحي كده..” صاحت ميرال وهي تُحرك جسد أفنان بخفة لتُقظها.
“صباح الخير يا ميرال.. في أيه بتندبي ليه عالصبح؟”
“شمي ريحة الفستان دي كده!” أخذت أفنان الثوب بأعين نصف مغلقة وقربته من أنفها ثم أردفت:
“مالها؟ ما ريحته جميلة أهو.”
“جميلة أيه بس! ديه ريحة اسمه أيه ده اللي كان مع رحيم!”
“وريني كده.. اه صح، هي الريحة لحقت تلزق فيكي في الثانيتين دول؟”
“مش عارفة أيه ده؟!! اعمل أيه أنا دلوقتي متأخرة عالزفت الشغل ومش لاقيه حاجة تانية ألبسها..”
“ألبسيه وخلاص وحطي برفان من بتاعنا يا ميرال، وبعدين ما هو ورحيم كانوا مستحمين بالبرفان تقريبًا أما جيوبنا الأنفية كانت بتصوت إمبارح.”
“طيب افرضي حد شمها وعلق.”
“في أيه يا ميرال الأوڤر ده؟ الريحة مش نفاذة للدرجة يعني.”
“طيب خلاص.” تمتمت ميرال وفي الوقت ذاته دلفت مريم إلى الحجرة وهي تسير بأعين ناعسة وعقل يعمل بنصف كفاءة.
“كويس أنك صحيتني عشان أكلم رحيم أشوفهم هيعملوا أيه في الدفنة وكده.. وهشوف بابا لو رايح يعني هروح معاه.”
“ما شاء الله يا أفنان على حظك، أنا أعرف لما واحدة بتتخطب جديد خطيبها بياخدها مثلًا أول فرح بيجي في العيلة بعدها.. بياخدها تجمع عائلي.. لكن أول مرة أشوف واحدة بتروح مع خطيبها عزاء.”
“ما بلاش سخافة ما أنتي عندك نوح أهو معندوش حالة وفاة بس معيشك في كآبة وقرف من ساعة ما اتخطبتوا.”
“أفنان أنتي ملاحظة أنك بتتكلمي عن أخويا ولا الموضوع مش واصلك؟” أقتحمت مريم الحوار وهي تسأل بإستنكار لتُطالعها أفنان بسخرية وهي تسأل في المُقابل:
“طب أنا راضية ذمتك أخوكي ده حد يرتبط بيه؟”
“بصراحة لا.”
“أهو شوفتي.”
“دمكوا تقيل أوي على فكرة أنتوا الإتنين، يلا أنا هنزل بقى عشان متأخرش.”
وهنا انتهى الحوار بمغادرة ميرال للحجرة وعودة مريم للنوم بينما بقيت أفنان جالسة في حجرتها كما هي لكن سرعان ما تذكرت أن رحيم قد ترك عُلبة ‘الشبكة’ خاصتها هنا حينما حدث ما حدث.. توجهت أفنان نحو الخارج لتُحضر العلبة الفاخرة، فتحتها ببطء وحذر وهي تتأمل ما في داخلها.. ذلك الخاتم اللامع الذي سيربطها برحيم إلى الأبد، لقد بدى الخاتم جميلًا لكن لا شيء أجمل منه في الواقع وكل ما يأتي من طرفه يكتسب بعضًا من جماله.
“بتعملي أيه يا أفنان؟”
“بسم الله الرحمن الرحيم خضتيني يا ماما!”
“خضتك ده أيه ما أنا بتكلم عادي أنتي اللي سرحانة.”
“بتفرج عالشبكة اللي رحيم نسيها هنا..”
“كويس عشان لما خالتك وعمتك وجدتك يجو يتفرجوا عليها.”
“بصي.. اعملي اللي أنتي عايزاه أنا معنديش طاقة أجادل بصراحة، أنا هروح احضر الفطار.” أردفت أفنان في هدوء تام غير معتاد فبعد الأحداث الغريبة من ليلة أمس لا طاقة لها للشجار.
بعد مرور ساعة آخرى وبالإنتقال إلى المستشفى فتح رحيم عيناه ببطء شديد وبمجرد أن حاول أن يتحرك أحتل جسده الألم في مواضع متفرقة من جسده فالنوم على تلك الأريكة غير مُريح بتاتًا.
“أنس! أنت رايح فين؟”
“رايح استلم الجثمان.. كلمتهم عشان يجهزوا المدفن، عايز كل حاجة تخلص بسرعة.”
“طيب أروى.. هنقول لأروى؟”
“لا طبعًا.. حالتها متسمحش بخبر زي ده ولو أنه مش هيفرق معاها كتير لكن ظروفها الصحية تحتم عليا أني أخبي عليها في الوقت الحالي.”
“طيب.. مامتك يا أنس عرفت؟”
“مش مهتم أعرف بس أكيد الخبر وصلها.”
كان أنس يتحدث بجمود.. نظرات عيناها شاردة خالية من الحياة وكأنه إنسان آلي وليس بشري من لحمًا ودم أو ربما كان أقرب إلى الجثة الخالية من الروح.. نظر نحوه رحيم بآسى شديد.. لا يُصدق كيف تبدل الحال بصديقه من السعادة الغامرة بالأمس إلى هذا الوضع المُحزن الآن.
بالرغم من أن رحيم يثق تمامًا في مدى كُره أنس لوالده إلا أن الأمر لا يزال صادمًا خاصة وأن سبب الوفاة يتعلق بأنس وشقيقته بشكلًا غير مُباشر.
“أتكتب في التقرير الطبي سبب الوفاة؟”
“جلطة، مستحملش أني رفعت عليه قضية وحبسته.. كان فاكر أني هسيبه حُر طليق وهو كان هيموتني أنا وأختي البجح.”
“أنس! الميت له حرمه!” وبخه رحيم بإندفاع لينظر نحوه أنس بطرف عيناه قبل أن يُعلق على جملته ببرود تام قائلًا بإستنكار:
“والعايش ملوش؟ عالعموم بلاش نتكلم في حاجة دلوقتي يا رحيم، معنديش أي طاقة.”
“عندك حق.. أظن المفروض نتحرك دلوقتي هيبقى قدامنا يوم طويل.”
“جدًا، وياريت تكلم المحامي عايزين نعمل إعلام وراثة في أسرع وقت.” كان رحيم ينظر إلى أنس بحيرة وحزن شديد، فهو لا يُصدق أن أحدهم قد علم منذ وقتًا قصير بأن والده قد توفى يهتم كثيرًا بإجراءات الميراث.. بالطبع هو حقه تمامًا لكن من المفترض أن يكون الحزن قد أخذ منه نصيبًا لا بأس به لكن نظرًا لوضع أنس وعلاقته بوالده فالأمر منطقيًا تمامًا.
“اللي أنت عايزه كله هنعمله، المهم هي مامتك وصلها الخبر؟”
“أكيد وصلها وزمانها جايه تنوح وتصدعني بإني السبب.” قال أنس وهو يتجه إلى خارج الحجرة لكنه سمع تأفف رحيم لذا توقف واستدار ليواجه رحيم وهو يُردف بنفاذ صبر:
“لو مش عاجبك كلامي ممكن تمشي على فكرة.”
“عاجبني ومفتحتش بوقي على فكرة، يلا خلينا نمشي.” اختار رحيم عدم الجدال فهو يعلم أن أنس ليه في وعيه تمامًا وغير مدركًا لما يقوله ويفعله.
بعد مدة ليست بطويلة وصل رحيم برفقة أنس ووالده إلى المستشفى حيث يوجد جثمان والده، كان أنس يسير بثبات شديد حتى وصلا إلى المكان حيث يُحفظ الموتى قبل أخذهم لدفنهم.
“المحامي مستني عشان تخلص تصاريح الدفن.”
“عايز اشوفه الأول..”
“هدخل معاك.”
“لا، محتاج أكون لوحدي من فضلك.. استناني برا.”
اومئ رحيم بإستسلام قبل أن يُربت على كتف صديقه ثم يغادر تاركًا إياه وحيدًا داخل المشرحة، بمجرد أن دلف إلى الداخل شعر بإنقباض شديد في قلبه.. كانت المشرحة باردة للغاية تمامًا كمشاعر أنس تجاه والده.. جاء الممرض ليُخرج الجثمان كي يراه أنس.. رجفة قوية اجتاحت سائر بدنه تسببت في انتشار شُعيرات جسده، تسارعن نبضات قلبه حينما اخرج الممُرض الجثمان، طلب منه أنس أن يتركه وحيدًا لبعض الوقت لكن الأخير أخبره بأن ذلك غير مسموح لكنه سيكتفي بالوقوف بعيدًا بالقرب من الباب.
بأنامل مُرتعشة وباردة كالثلج تمامًا كتعابير وجه أنس ابعد الملاءة البيضاء عن وجه أبيه لينكشف له.. ذلك الوجه الذي يُشبه خاصته عدا من بعض التجاعيد، الخصلات البُنية ذاتها لكن الفارق أنها اختلطت ببعض الشيبه، يتأمل أنس ملامح الرجل الذي تسبب في تعاسته منذ اليوم الأول وقد نمت على ثغره ابتسامة ساخرة ونظرات لا تخلو من الشماتة ربما؟ لم تكن تلك الخصلة من خصال أنس قط لكنه لا يدري لماذا خالج ذلك الشعور صدره..
تحسس بيده وجه ويد الجسد الخالي من الروح المُمدد أمامه وكاد أنس أن يفتح ثغره للتفوه ببعض الكلمات الذي كانت حبيسه صدره لوقتًا طويل لكن الكلمات حُشرت في فمه كخناجر طاعنه فلم يصدر منه سوى صوت أقرب للحشرجة قبل أن يشعر بحرارة في عينيه تليها عبرات دافئة تنهمر على وجهه وهو يتمتم بضعف:
“كان نفسي تبقى أب كويس.. كان نفسي أكون زعلان عليك دلوقتي مش شمتان فيك.. شايف يا فريد شايف ازاي أنا بقيت قوي دلوقتي وقادر أعمل فيك اللي أنا عاوزه وأنت مجرد جثة.. جثة من غير روح متقدرش حتى تاخد نفس! كل الناس بيحسوا أن ضهرهم اتكسر لما أبوهم بيموت لكن أنا الوحيد اللي حاسس أني اتحررت؛ اتحررت من سجن أنت حبستني فيه سنين!”
كان أنس يتحدث من بين شهقاته، لا يستطيع كبح نفسه الآن عن البوح بكل ما يجول في خاطره وكل ما يشعر به، أخذ نفس عميق وهو يكفكف دموعه بعنف قبل أن يُتابع:
“دلوقتي أنت هتمشي وهنرتاح من قرفك ومشاكلك، ومراتك.. أمي هرميها في المصحة اللي كانت فيها من سنين وكل الفلوس هتبقى ليا أنا وأروى هنتمتع بيها وهشتغل وهكبر وحقق كل اللي نفسي فيه وهساعد الناس وهعمل كل حاجة كويسة منعتني منها، وأنت مش هتلاقي حتى اللي يترحم عليك!”
كان أنس يبصق كلماته تلك والتي لم يقوى يومًا على قولها بصوتٍ مسموع، فلو فعل لم يكن والده ليتردد في تحطيم فكه أو قطع لسانه فلقد كان مخبولًا، وبالرغم من قسوة حديث أنس إلا أن ذلك لم يمنع كونه يشعر بالحزن والإنكسار.. فهو لم يعرف يومًا معنى الأبوة وحتى عند موته لم يستطع أنس أن يشعر بالآسى سوى لكونه لم يحظَ بأبٍ جيد يومًا فليس حزنه يتعلق بفريد لشخصه، ألقى أنس نظرة أخيرة عليه قبل أن يُغطي وجهه بالملاءة البيضاء للمرة الأخيرة قبل أن يهمس:
“مع السلامة يا.. بابا.”
كان رحيم ينتظر أنس في الخارج على أحر من جمر وكما توقع لقد جاء أنس بزوج من الأعين المُحمرة والخصلات المبعثرة.. سحبه رحيم في عناق قوي لكن أنس لم يبكي لكن في الوقت ذاته لم يفصل العناق فهو بحاجة إلى الدعم النفسي، بعد مدة كافية فصل رحيم العناق وهو يُردف:
“يلا عشان نخلص الإجراءات.. لسه اليوم طويل، هنصلي الجنازة وبعدها ندفن وبعدين العزاء بليل.”
“عايز العزاء في قاعة كبيرة، حاجة تليق بفريد.”
“بابي ضبط الموضوع متقلقش خالص، المهم بس مش عايزين نتأخر عشان متسبش أروى لوحدها هي دلوقتي بقت مدركة للوضع حواليها.”
“حاضر.”
قطع الصمت السائد صوت هاتف رحيم وقد كان المتصل والده، أجاب رحيم على الفور وقد كانت المكالمة عبارة عن جملة واحده أو هي أقرب إلى الأمر:
“خد أنس واتحركوا من عندك بسرعة، مرات فريد عرفت بالخبر وهي على وصول.” كانت الرسالة واضحة تمامًا، لم ينبس رحيم بحرفًا واحد وأغلق الخط قبل أن يأخذ أنس للتحرك من أمام المشرحة.
بعد مدة لا بأس بها من الوقت كان كل شيء قد تم على أكمل وجه، رافقهم والد أفنان لأداء صلاة الجنازة وما يلي ذلك ثم عاد إلى المنزل بعد أن اتفق معهم على العودة في المساء برفقة ابنته لأداء واجب العزاء، حاول رحيم إقناع أنس بالعودة إلى المنزل أو الفندق للحصول على قسط من الراحة لكنه رفض وانتهى به الأمر وقد غفى على المقعد الخلفي في سيارة والد رحيم.
في ذلك الوقت هاتفت أفنان رحيم وكانت الساعة تقريبًا الخامسة والنصف وكانت المحادثة كالآتي:
“ازيك يا رحيم أنت كويس؟ وأنس عامل أيه دلوقتي؟”
“أحنا كويسين الحمدلله، أنس نايم في العربية برا وأنا قاعد في Cafe بشرب قهوة.”
“ربنا يعينكوا والله أكيد مُرهقين أوي.. ده أنتوا محتاجين تناموا سنة بعد كل ده.”
“إن شاء الله هنام ونستريح ونعمل كل حاجة نفسنا فيها بس اليوم ده يخلص على خير.”
“إن شاء الله.”
“أفي أنا بجد أسف.. كان نفسي نحتفل باليوم بطريقة أحسن من كده لكن أنس بيه كان له رأي تاني و Uncle فريد طبعًا منقدرش نقول حاجة ده أمر الله.” أردف رحيم بحرج لتبتسم أفنان من لُطفة وتُعلق على حديثه قائلة:
“مش مهم كل ده قدر يعني، المهم أنه كويس دلوقتي.. وبعدين لو اليوم كان مشي حلو كان هيبقى في حاجة غريبة أصل أنا مينفعش يعدي عليا يوم كويس من أوله لآخره.”
“الأيام الحلوة جاية كتير إن شاء الله Don’t worry ‘لا تقلقِ’.”
“إن شاء الله المهم بس أنك متسيبش أنس خالص في الظروف ديه.”
“لا اسيبه أيه بس ده أخويا شِقي زي ما بيقول.” تفوه رحيم محاولًا تقليد نبرة أنس لتنفجر أفنان ضاحكة دون إرادة منها قبل أن تُردف بنبرة مرحة نسبيًا:
“بجد أنس ده سرسج أوي معرفش أنتوا الأتنين صحاب ازاي بصراحة بس جدع.”
“سرسجي دي يعني صايع صح؟” سأل رحيم بنبرة طفلًا صغير مازال يتعلم الكلام لتعاود أفنان الضحك وهي تؤكد حديثه قائلة:
“اه، صايع.. بيئة.. شوارعي حاجة في الرينچ ده.”
“عادي، الفكرة بس إن أنس بيتعامل مع كل الناس وكل الطبقات وكان بينزل يسهر في الشارع مُشرد يعني لكن أنا مامي عمرها ما كانت بتوافق أني اعمل كده.”
“أنت فعلًا مختلف أوي عن كل الشباب اللي شوفتهم في حياتي، أنا عمتًا مليش اختلاط بالجنس الآخر غير بابا ونوح بس تقريبًا وابن عمتي اللي مشوفتوش يجي من خمس ست سنين كده بس عمتًا الولاد اللي كنت بشوفهم في الدروس والجامعة مختلفين خالص عنك.” تحدثت أفنان بصدقٍ شديد وقد شعرت بالسعادة تغمر قلبها لأنها أصبح بإمكانها التحدث مع رحيم بإريحية أكثر دون إخفاء الأمر عن والديها.
“ودي حاجة حلوة ولا وحشة؟”
“حلوة، يا عم الحج أي حاجة منك حلوة بس الفكرة إنها مختلفة.. أكيد الناس بتحكم عليك وبتسخف عليك عشان طريقتك.”
“مش عارف متعرضتش لمواقف زي دي كتير عمتًا يعني ال community اللي أنا فيها معظمها أجانب أو عرب متربيين برا فمعظمهم شبهي.”
“قولتلي، يلا خير خير.. أنا هقوم بقى عشان اجهز وهقابلك في العزاء إن شاء الله.”
“يااه مكان Romantic ‘رومانسي’ جدًا.” تمتم رحيم ساخرًا لتُجيبه هي ايضًا بالسخرية ذاتها في بداية حديثة لكنها أنهته بعبارة. وإن كانت ساخرة ولكن نبرتها كانت حادة قليلًا:
“أهو اللي موجود، ويلا اقفل بقى وكفاية نحنحة ده احنا عندنا حالة وفاة اتقِ الله!”
“صح أنا أسف، خدي بالك من نفسك.”
“وأنت كمان، مع السلامة.”
أنهت أفنان المكالمة مع رحيم واستقامت من مقعدها واتجهت نحو خزانة الملابس، طالعتها ميرال ببعض الإرهاق وهي تسألها:
“بتعملي أيه يا أفنان؟”
“بشوف حاجة سوداء ألبسها عشان أروح العزاء.”
“أجي معاكي؟”
“هو فسحة؟ ولا أقولك تعالي معايا أنا معرفش حد هناك وهبقى قاعدة لوحدي.”
“طيب أوعي بقى من عند الدولاب وأنا هطلع حاجة نلبسها.” قالت ميرال لتنفذ أفنان ما قالته وتبتعد.
بعد ساعة تقريبًا كانت تجلس أفنان وشقيقتها ووالدها داخل السيارة التي أرسلها رحيم من أجلهم لتوصلهم إلى المسجد حيث العزاء، ابتسمت أفنان ابتسامة صغيرة لتلك الفكرة.. فكرة أن رحيم يتذكرها ويهتم بشأنها حتى في أصعب الأوقات وأكثر ضغطًا، فابالرغم من انشغاله مع أنس والتجهيزات إلا أنه لم ينسى أفنان.
“البقاء لله.” تمتمت أفنان فور رؤيتها لرحيم وأنس الواقفين في الخارج لإستقبال القادمين لأداء العزاء، قامت أفنان بالتعزية وتلتها ميرال.. كانت ميرال تنظر بمزيج من الشفقة والآسى نحو أنس الذي وقف كالجماد وأي شخصًا آخر كان ليقول أنه انسان بارد المشاعر لا يهمه فراق والده لكن لسببٍ مجهول شعرت هي بكم الحزن والهم الذي غلف قلبه هي لا تعرفه جيدًا لكنها تتمنى لو بإمكانها التخفيف من حزنه ومن حزن جميع من تعرض للفقد.
توجهت أفنان برفقة ميرال للجلوس في القاعة المخصصة للنساء، انبهرت أفنان من هيئة النساء هناك.. بعضهم يضعون مساحيق التجميل ويرتدون ثياب سوداء اللون لكنها تليق أكثر بالذهب إلى حفل أو قضاء أمسية لطيفة وليس الذهاب لتقضيه واجب العزاء.
“أيه المجتمع ده؟” سألت أفنان ميرال ساخرة وهي تحاول تجنب حقيقة أن الجميع يحدقون بهم بتعجب فلقد بدت هيئتهم مُختلفة كثيرًا عن من حولهم وكأنهم مخلوقات فضائية.
“أڤ.. Hello ‘مرحبًا’.” اخترق صوت أنثوي رقيق مسامع أفنان ومن اسم التدليل المُستخدم استطاعت أفنان توقع صاحبة الصوت ومن سواها؟ ميا.
“ميا! ليكي واحشة والله.. أنتي تعرفي أنس؟”
“بس يا أفنان وطي صوتك أيه الفضايح دي!” وبخت ميرال أفنان وهي تضربها بخفة لتتجاهلها أفنان وتذهب للترحيب بميا وضمها.
“أعرفه أيه بس؟ He is my best friend ‘إنه صديقي المُقرب’.”
“أيه ده بجد؟ طب وكنتِ تعرفي المرحوم؟”
“أجل بكل تأكيد ‘Yes of course’.”
قاطع الهدوء السائد في المكان عدا من صوت قراءة القرآن العذب صوت بكاء هو أقرب للنواح قادم من جهه المكان المُخصص للنساء، انتفض أنس بإستياء شديد فهو لا يكره شيء في حياته أكثر من العويل والنحيب.
“في أيه مين اللي بيصوت كده؟”
“فريد مات يا أنس!! أنت اللي موته حرام عليك!” صرخت والدة أنس التي ظهرت من اللامكان والتي اتضح أنها صاحبة صوت البكاء المُرتفع، جذبت أنس من ثيابه بقوة لينظر نحوها هو بجمود تام وهو يحاول إبعاد يدها بهدوء تحت أنظار الجميع.
“أنا عمري ما هسامحك! أنت السبب أني جوزي وحبيبي يروح مني.. منك لله!!!”
“متسامحنيش.”
“فين أختك تيجي تشوف اللي بتعمله؟ فين بنتي ولا هتاخدها مني هي كمان؟”
“خلاص خلاص اهدي يا طنط.. وحدي الله.” تمتمت ميرال بتوتر شديد وهي تحاول بمساعدة أفنان وميا إبعاد والدة أنس عنه.
“لا إله إلا الله.. منك لله يا أنس.. منك لله.”
كان أنس يراقب ما يحدث بتحفذ شديد وكاد أن يفقد أعصابه وينقض على والدته بعنف كما يفتك الوخش بفريسته لولا أن تدخل رحيم وقام بإبعاده من المكان كله، أجبره رحيم على السير بعيدًا حتى وصلا إلى خارج المسجد.
“اهدأ يا أنس..She’s mentally ill and you know it ‘إنها مريضة نفسيًا وأنت تعلم ذلك’ متاخدش على كلامها.”
“جايه تفضحني في العزاء وسط الناس! بتدعي عليا.. بتدعي عليا أنا؟! أنا مخي مش قادر يستوعب المهزلة دي.” صاح أنس مستنكرًا فعلتها ليحاول رحيم تهدأته مُردفًا:
“خلاص بقى أفنان وميرال خدوها بعيد، خلي اليوم يعدي على خير وبعدين صفوا حسابكوا سوا.”
“ماشي، معاك سيجارة؟” سأل أنس بنفاذ صبر ليحمحم رحيم وهو يُشيح بنظرة بعيدًا عن رحيم قبل أن يهمس:
“لا.. أصل أفنان مش بتحب التدخين.”
“ولا بلاش… استغفر الله العظيم يارب، امشي من وشي يا رحيم لو سمحت.”
بعد مرور ساعة تقريبًا وبعد أن هدأت الأجواء، حان موعد رحيل أفنان.. أشارت إلى رحيم بهدوء ليتبعها نحو الخارج ويودعها هي ووالدها وميرال والذان ذهبا إلى السيارة بينما وقفت أفنان تثرثر مع رحيم لثوانٍ قليلة.
“أفي أنا أسف طبعًا أننا مش عارفين نعرف الناس بموضوع قراءة الفاتحة دلوقتي.. الوضع حساس طبعًا، I am so sorry.. promise i will make it up to you ‘أنا أعتذر بشدة، لكن أعدكِ سأعوضكِ عن ذلك’.”
“يا رحيم بجد مفيش داعي للإعتذار خالص وبعدين كده كده أنا قربت ابدأ امتحانات وهبقى مشغولة أوي ومفيش وقت للإحتفال اساسًا.. أنا بس هعرف خالتو وتيتة وكده بس لحد ما نحدد الخطوبة إن شاء الله.”
“إن شاء الله يا حبيبي.” شعرت أفنان بنبضات قلبها تتضاعف حينما قال هو لفظة ‘حبيبي’، شعرت بوجنتها تشتعل حمرة وحاولة تغير مجرى الحديث..
وبعد مرور بضع دقائق وتبادل العبارات القصيرة ودع رحيم أفنان وهو ينظر نحوها بمزيج من الحب والإرهاق فهو لم يحصل على قسط كافي من النوم منذ أن وصلهما الخبر.. كانت أفنان تنظر نحوه بحنان وهي تتمنى لو بإمكانها أن تُخفف عنه آلمه لكن كلاهما لم يُدركا وجود تلك المرآة الشقراء داخل السيارة على الجانب الآخر من الطريق وهي تراقبهما بسخط شديد، فكيف لفتاها الوحيد أن ينوي الزواج من فتاة كتلك؟!!
لقد وصلت والدة رحيم إلى ساحة المعركة ولكن لحسن الحظ لقد تحركت السيارة التي تحوي بداخلها أفنان ووالدها وشقيقتها قبل أن تُهاجمهم والدة رحيم بسُم لسانها.
“أهلًا بحضرتك يا مامي.”
“ازاي محدش يبلغني بخبر زي ده؟” بعبارات لائمة وبعربية قد سحقها القطار وبخته والدته، زفر رحيم بإرهاق شديد وهو يُجيبها بآدبه المعتاد:
“عشان كل حاجة حصلت بسرعة يا مامي، وبعدين خلاص حضرتك عرفتي وجيتِ.. على فكرة مامت أنس هنا.”
“تمام.”
فور عودة أفنان وميرال المنزل هاتف نوح ميرال بعد أن علم بالأحداث كلها عن طريق شقيقته مريم التي عادت إلى المنزل في صباح اليوم، لم تكن تعلم مريم بذهاب ميرال إلى العزاء برفقة أفنان ووالدها ولكنها توقعت ذلك ونقلت توقعها إلى نوح.
“أيه يا ميرال بكلمك من بدري مش بتردي عليا ليه إن شاء الله؟”
“أيه ده في أيه متعصب عليه؟ كنت برا البيت والتليفون كان صوته واطي.” سألته ميرال بنبرة حنونة في محاولة منها لإمتصاص غضبه لكن الأمر لم يزيده سوى غضبًا فوق غضبه وهو يسألها بحنق:
“كنتِ في عزاء أبو الواد الصايع ده صح؟”
“أولًا هو مش صايع، ثانيًا اه كنت في العزاء مع بابا وأفنان فين المشكلة؟”
“فين المشكلة؟ أنتي بجد بتسألي؟ أنتي تروحي العزاء ده بتاع أيه يعني إن شاء الله؟ قريبك ولا صاحبك ولا أخوكي وأنا معرفش؟”
“هو أيه الأسلوب اللي بتتكلم بيه ده يا نوح؟ أنا عمري ما حد قالي أنت رايحة فين وجايه منين غير بابا ومحدش ليه الحق اصلًا، وأنا بقولك كنت مع بابا وأفنان هو أنا كنت لوحدي يعني؟”
“ياستي أنا خايف عليكي وغيران عليكي وهو ده أسلوبي لو مش عاجبك خلاص!”
“يا نوح بطل تتكلم بالإسلوب ده من فضلك..” تحدثت ميرال ببعض الإنفعال بينما شعرت أنها على وشك البكاء فنوح يوبخها بنبرة حادة وهي لم تُخطئ في أي شيء وكل ذلك الشجار لمجرد ذهابها فماذا إن علم بما حدث مع أنس.. انقضت أفنان على ميرال لتسحب منها الهاتف وتُحدث نوح بدلًا منها، أمسكت أفنان الهاتف وسألت نوح بنبرة مُشمئزة مُستنكرة:
“أنت يالا عامل غاغة ليه ومصدعنا؟ عايز تتقمص اتقمص وغور في داهية مش ناقصين!”
“أنتي ازاي تتكلمي…” لم تدعه أفنان يُنهي جملته وأنهت المكالمة ثم نظرت نحو ميرال بعتاب وهي تُردف:
“أنا مش عارفة المفروض أقول أيه، أنتي هيجي يوم وهتتعبي من قرفه وهتُدركي إن الحب مش كل حاجة وأتمنى أن اليوم ده يجي قريب وميبقاش فات الآوان.” تحدثت أفنان بهدوء شديد وحاولت قدر الإمكان انتقاء كلماتها فهي لا تُريد جرح مشاعر شقيقتها في النهاية، يكفي ما فعله بها ذلك الأخرق.. أنهت أفنان جملتها وغادرت الحجرة تاركه ميرال تنفرد بحزنها ودموعها المُنهمرة.
في منطقة بعيدة نسبيًا وبعد مرور مدة زمنية ليست بقصيرة عاد أنس ورحيم إلى الفندق فلقد فضل رحيم تجنب والدته تمامًا فهو لم ينم منذ ليلة أمس ولا طاقة له للشجار، تمدد أنس بثيابه كاملة على السرير وألقى رحيم بجسده إلى جانبه، أغمض أنس عيناه بإرهاق شديد وهو يشعر بآلم شديد يجتاح رأسه وكأن أحدهم قد حطم رأسه بمطرقة معدنية، كان الصمت يُغلف المكان قبل أن يقطعه أنس وهو يسأل رحيم:
“هو أيه اللي حصل عند أفنان في البيت؟ أنا مش فاكر حاجة.. آخر حاجة فاكرها أني كنت في الحمام وخرجت لاقيت أخت أفنان في وشي.”
“لاقيتها في وشك وبس؟” سأل رحيم وهو يحاول كتم ضحكاته ليطالعه أنس بحنق وهو يسأله:
“اه وبس.. أيه اللي بيضحك يعني مش فاهم؟”
“أنس هو literally ‘حرفيًا’ أنت كنت واقع في حضن البنت، قابلتها في وشك أيه بس.”
“بنت مين؟!” سأل أنس وهو ينتفض بإنتباه شديد ويقترب من رحيم ليكون في مواجهته.
“أكيد مش أفنان يعني، أنا قصدي ميرال.. ميرال أخت أفنان.” نبس رحيم بتوتر قبل أن يصيح أنس بصدمة:
“يا خبر أسود!!!” قال أنس وهو يستقيم من السرير كمن لُدغ من حية وهو يضرب كفيه ببعضهم البعض بينما يسب أسفل أنفاسه، ألم يجد شخصًا أفضل ليفقد الوعي في أحضانه بدلًا من الفتاة التي يشعر بالإنجذاب نحوها؟! ما نوع التعويذة السحرية التي أُلقيت عليه لينال كل هذا الحظ السيء.
“في أيه اهدأ ما أنت كنت تعبان هو أنت كنت قاصد يعني؟ وبعدين هي لحقتك عشان كانت خايفة راسك تتفتح لو اتخبطت في الأرض.”
“كانت سابتها تتفتح أحسن!!! ياربي عالإحراج.. أودي وشي منها فين بعد كده؟!”
“وأنت هتشوفها تاني فين أصلًا؟ آخرك يعني هتشوفها في الخطوبة وابقى اعمل نفسك مش واخد بالك منها.”
“لا طبعًا مش هينفع أيه قلة الذوق دي؟ صحيح أنت هتعمل الخطوبة أمتى؟” سأل أنس ليُصدم رحيم من سؤاله الأخير.. فلقد كان رحيم ينوي تأجيل الخطبة لمدة كافية بسبب ما حدث، ظل رحيم صامتًا لبرهة لينظر نحوه أنس بتعجب منتظرًا رده.
“مش عارف.. Probably after 3 months or maybe more, I don’t know ‘في الغالب بعد ثلاثة أشهر أو ربما أكثر من ذلك، لا أدري’.”
“أنت أكيد مش ناوي تأجل عشان موضوع فريد صح؟ ملكش دعوة بيا ولا بيه.”
“مش هينفع يا أنس.. قبل ما تتخانق معايا كده كده أنا مستني أفنان تخلص الترم ده وبعدها نعمل ال Engagement party ‘حفلة الخطبة’ في الاجازة.”
“تمام يا رحيم على راحتك.”
مر شهرًا ونصف على ليلة العزاء تلك.. لم ترى أفنان رحيم سوى مرة واحدة في زيارة إلى منزلهم لم تستمر أكثر من ساعة ونصف حيث جاء بناءًا على طلب والدها كي يأخذ ‘الشبكة’ ويبقيها في حوزته.. مازال أنس يحاول التعافي من تلك الليلة ومن الأحداث الصعبة التي مر بها، بدأت حالة أروى في التحسن التدريجي وبدأت في جلسات العلاج الطبيعي كي تسترد قدرتها على التحرك مجددًا ومازال أنس لم يُعلمها بوفاة والدهما أو خروج والدتها من مستشفى الأمراض النفسية والعقلية.
عاود رحيم الإختفاء النسبي خاصته مجددًا لكن أفنان لم تملك الرفاهية للشجار فلقد كانت منشغلة في اختبارات الجامعة والتي حرص نوح على جعلها أكثر صعوبة بقدر الإمكان وفي الوقت ذاته كان حريصًا على أن يبتاع الكثير من الأشياء من أجل عش الزوجيه الخاص به هو وميرال بالرغم من أنه قد اتفق مع والدها في السابق أن يقوموا بتجهيز المنزل على مهل إلا أنه بعد خبر ارتباط أفنان صار في موضوع المنافسة مع رحيم.
في صباح اليوم الأخير لإختبارات أفنان، استيقظت هي بحماس مفرط بالرغم من عدم حصولها على قسطٍ من الراحة سوى لثلاثة ساعات ونصف تقريبًا، فلقد قضت الليل بأكمله في المذاكرة.. لم يكن حماسها مقتصر على كونها ستُنهي اختباراتها اخيرًا بعد شهور من العذاب بل لأن رحيم كان سيقضي اليوم في منزلهم وسيتناولون الغداء سويًا.
في تمام الحادية عشر أنهت أفنان الإختبار واتجهت مباشرة إلى المنزل كي تساعد والدتها في تجهيز الغداء والتأكد من نظافة المنزل ولكن في طريقها استوقفها رسالة وصلت إلى هاتفها وكان محتواها كالتالي:
“هل تظنين حقًا أنه يُحبكِ وأنه يُخبركِ بكل شيء؟ إذًا عليكِ أن تسأليه عن محادثتنا ليلة أمس”Do you really think that he loves you and that he tells you everything? Then you should ask him about our conversation last night’.”
يتبع..
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية في حي الزمالك) اسم الرواية