رواية في حي الزمالك الفصل الثالث و الاربعون 43 - بقلم ايمان عادل
نِقَاشٌ عَقْلَانِيٌّ 🦋✨🤎
“أنس منزل ستوري.”
“يعني هما في المستشفى ولا البيت ولا في أيه فهميني؟” سألت أفنان برعب حقيقي وهي تبحث عن شيء لترتديه بينما أجابتها ميرال ببعض الهدوء:
“أنس كلم بابا وقاله إن الحالة مش خطيرة أوي وأنه رجع البيت بس في نفس الوقت تعبان جدًا.”
“يعني مش خطيرة ولا تعبان جدًا؟ يالهوي عليا! طب اطلبي عربية بسرعة.. هتلاقي location ‘الموقع الجغرافي’ متسجل عندك عالأبلكيشن.”
“حاضر ألبسي أنتِ بس.”
في خلال عشرة دقائق كانت أفنان قد بدلت ثيابها وفي انتظار السيارة، داخل السيارة أمسكت أفنان بهاتفها وهي تتفحص الحالة التي نشرها أنس والتي بالفعل كانت تحوي صورة ليد رحيم وقد وُضع فيها أحدى المغذيات التي تصل عن طريق الأوردة ‘كنولا’
ذهب ثلاثتهم إلى منزل رحيم، كانت والد رحيم، ميا، وأنس في استقبالهم عند وصولهم إلى المنزل، بمجرد رؤية أنس لأفنان صاح في وجهها بنبرة درامية قائلًا:
“اطلعي شوفي الواد واللي حصله بسببك! حسبي الله ونعم الوكيل فيكي يا شيخة!”
“أنس! معلش يا أفنان متزعليش منه، اتفضلوا أوضة رحيم فوق.” وبخه والد رحيم، تجاهلت أفنان ما يقوله وانتظرت أن يُرشدها أحدهم هي ووالدها إلى حجرة رحيم بينما تركت ميرال في الطابق السفلي.
“رحيم! رحيم حصلك أيه؟”
سألت أفنان بفزع فور رؤيتها لجسد رحيم الممدد على سريره المكسو باللون الأسود، جسده كان مُغطى بالكامل فيما عدا يده التي وُضع عليها ‘الكانولا’، كان وجهه شاحب للغاية والإرهاق باديًا عليه بوضوح، بمجرد أن صاحت أفنان بقلق فتح رحيم عيناه ببطء شديد وبفزع فور رؤيتها تبكي ليسألها بقلق:
“أفي؟ مالك يا حبيبي في ايه؟”
“رحيم أنت كويس؟ قولي أيه اللي حصل؟” سألته أفنان وهي تضمه بلهفة ليضمها هو في المقابل دون أن يفهم ما الخطب، يوجه نظره نحو أنس ووالد أفنان بحيرة لكنه لم يفهم ايضًا.
“اهدي بس.. أنا مش فاهم حاجة؟”
“أنتَ اللي مش فاهم؟ أنا اللي جاية عايزه افهم عملت الحادثة ازاي؟”
سألت أفنان وهي تفحص رحيم بدقة بحثًا عن أي إصابة بينما طالعها هو بحيرة شديدة قبل أن يسألها بعدم فهم مُردفًا:
“حادثة أيه؟ أنا معملتش حادثة.. أنا عندي تسمم.. مين اللي قالك حادثة؟”
“تسمم؟ تسمم أيه؟” سألت أفنان بحيرة ليتبادل رحيم النظرات مع أنس ويسود الصمت لبرهة..
بالعودة إلى الوراء ليلة واحدة.. بعد أن غادر رحيم منزل أفنان غاضبًا بعد ما حدث، هاتفه أنس وعلم بأن هناك شجارًا دار بين أفنان ورحيم لذا قرر أن يأخذ رحيم لتناول العشاء في الخارج لعل ذلك يساعده في تحسين نفسيته السيئة.
“أنس بقالنا ساعة بنلف بالعربية، فين ال restaurant ‘المطعم’ اللي بتقول عليه ده؟”
سأل رحيم بنفاذ صبر فهو يقود بحثًا عن ذلك المكان المزعوم منذ نصف ساعة، استغرق أنس دقيقة وهو ينظر حوله في كل مكان من خلال الشرفة بينما يقول:
“ثواني بس.. هو كان واقف هنا.”
“واقف هنا ازاي يعني؟ هو ال restaurant ‘المطعم’ ده في مركب بتتحرك في النيل ولا أيه؟”
سأل رحيم بحيرة لكونهم بالقرب من أحد الأماكن المُطلة على نهر النيل، تأفف رحيم بحنق لتأخر أنس في الإجابة عن سؤاله وكاد أن يسب أنس لكن الأخير قاطعة وهو يُردف بحماس:
“بس هنا أهو.”
“هنا أيه؟ أنتَ بتهزر أكيد صح؟”
“بهزر أيه يا راجل بس، أحنا دلوقتي هننزل ناكل بقى من العربية دي وبعدها هتنسى أفنان واللي جابوا أفنان والصنف كله عمتًا، احتمال تنسى أنتَ مين.”
“لا طبعًا مستحيل أكل من الأكل ده! ده الراجل مش لابس جلوفز يا أنس!”
أعترض رحيم على اقتراح أنس ونبرته لا تخلو من التقزز، اتسعت أعين أنس وهو يضع يده أعلى فم رحيم بينما يُردف الآتي ساخرًا:
“بص اسكت جلوفز أيه؟ هيفتكرك بتشتمه يسطا! بس يا عم عزت عايزين أيه خمستاشر كبده وعشرين سدق بس في السريع الله يكرمك.”
“أنس هو مصدر اللحمة دي أيه؟” سأل رحيم بإشمئزاز لتضطرب معالم أنس ويسود الصمت لبرهة قبل أن يُجيبه أنس بنبرة ساخرة:
“بص هو في قطط وكلاب حوالين المكان فربنا يستر بقى.”
“أنس أنا حاسس أني مش كويس…”
بالعودة إلى الحاضر انتهى رحيم من سرد ما حدث لأفنان، فبمجرد تناول رحيم لقضمة أو اثنتين من الطعام شعر بآلم شديد في معدته ونتيجة لذلك قام أنس بإخذه إلى المستشفى وهناك قاموا بإجراء ‘غسيل معدة’ من أجله ومن ثم أخذه أنس إلى المنزل كي يحصل على قسطًا من الراحة وقد أمر الطبيب بأن يقوم رحيم ‘بتعليق محاليل’ لتعويض ما فقده، رمقت أفنان أنس بحدة وغيظ شديد.
“يعني يا بني آدم أنتَ مش كفاية إنك جبتله تسمم، كمان بتكدب وكنت هتوقع قلبي!”
وبخت أفنان أنس والتي كادت أن تُعنفه من شدة الغيظ لولا يد رحيم التي امتدت لتُمسك بها، حاول أنس تبرير موقفه ولكن كالمعتاد زاد الطين بلة حينما قال:
“ما أنا ملقتش حل تاني عشان تتكلموا وأنا السبب في الزعل بينكوا أصلًا..”
“ليه أنتَ عملت أيه؟” سألت أفنان لينظر رحيم نحو أنس بنظرة تعني ‘لا تُخبرها’ لكن أنس لم يفهم مقصد رحيم وقام بإخبار أفنان على أي حال ليقوم رحيم بصفع جبهته.
“ما هو بصراحة أنا اللي فتنت وقولت موضوع نوح ده.” اتسعت أعين أفنان وكادت أن تنقض على أنس بشراسة أكثر من المرة السابقة ليفر الأخير هاربًا لولا أن أمسك بها رحيم.
“خلاص يا أفي معلش المسامح كريم.”
“ثواني بس خد هنا.. هو حد كان يعرف الحوار اللي أنتَ عملته ده؟ وبعدين ازاي تنزل ستوري زي دي ما أكيد كله شافها وقلق؟!” سألت أفنان ليُضيق أنس عيناه قبل أن يُعلق على ما قالته ساخرًا:
“ذكية أوي اسم الله عليكي، طبعًا كلهم كانوا عارفين الخطة بابا رحيم، باباكي وميرال وكله اتفق معايا.. وبالنسبة للستوري كنت عامل إن أنتِ وميرال بس اللي تشوفوها يا أم جهل.”
“سيبني يا رحيم.. سيبني أقوم أفشفش دماغه! يا أخي حسبي الله ونعم الوكيل فيك والله عاللي عامله فينا ده! إلا عمرك ما عملت حاجة عدلة في حياتك!”
رفع أنس يده نحو أفنان وهو ‘يشوح لها’ بمعنى ‘يا شيخة روحي’، أشار رحيم بيده لأنس بأن يغرب عن وجهها ومن ثم عاود النظر نحو أفنان وهو يطلب منها الآتي بهدوء:
“سيبك منه يا أفي وتعالي نقعد تحت عايز أتكلم معاكي شوية.”
“نتكلم تحت أيه بس؟! أنتَ قادر تنزل اصلًا؟”
“اه متشغليش بالك.”
أردف رحيم وهو يطلب من والده مساعدته في خلع ‘الكانيولا’ من يده، في خلال بضع دقائق كانت أفنان تجلس أمام رحيم ويفصل بينهم طاولة صغيرة في الحديقة الخلفية للمنزل وبالقرب من حمام السباحة.
“عايز تتكلم في أيه؟ في الخلاف اللي حصل آخر مرة والكلام اللي أنا قولته صح؟” سألته أفنان بإحراج ليرمقها رحيم بحنان قبل أن يُردف بنبرة جادة لا تخلو من اللطف:
“مش عايز أتكلم عن حاجة معينة، أنا بس شايف أننا المفروض نقعد زي الناس المتحضرة والكبيرة وكل واحد يقول اللي بيزعله من التاني.. نحاول نحل المشاكل ولو مفيش حل.. لازم نخلق حلول ونحاول ده لو كنا حقيقي بنحب بعض.”
“معنديش مانع.. ولو أني حاسه إن الكلام في المواضيع دي بيبقى صعب لأنها مواضيع حساسة شوية ولكن لو أنتَ شايف إن ده الحل تمام.”
“تحبي مين فينا اللي يبدأ؟”
“أنتَ.” تمتمت بإندفاع دون ذرة تفكير لتنمو ابتسامة صغيرة على ثغر رحيم، يعتدل في جلسته ممُسكًا معدته بآلم قبل أن يُردف الآتي:
“كنت عارف.. أولًا لازم تكوني عارفة أني بحبك.. بحبك فوق ما تتصوري ولكن الحب مش كافي لإستمرار العلاقة عشان كده عايز اقول حاجة.. أفي أنتِ أوقات كتير بتكوني اندفاعية، مش طول الوقت بتبقى حاجة وحشة ولكن أوقات الموضوع بيفلت منك.. مش بتبقى مدركة بتقولي أيه ولمين، طريقتك مع أختك غير صاحبتك غير مامتك وباباكي وغيري.. وغير زمايلك أو حد ماشي في الشارع.”
“عندك حق..”
“أنا ممكن اتقبل كونك شخصية عصبية وأننا نحاول نخليكي أهدى شوية لكن الغلط وإنك ممكن بدون قصد تقلي أدبك عالطرف التاني أو أنك تعاملي حد بقلة ذوق؛ دي تصرفات مش مقبولة إطلاقًا يا أفي..”
حاول رحيم أن يتحدث بكل صراحة وفي الوقت ذاته كان يحاول قدر الإمكان تجنب جرح مشاعر الجالسة أمامه، لم تُعلق أفنان على ما قاله بل نظرت إلى الأرضية وهي تعبث بأصابعها، تنهد رحيم من تصرفها الطفولي قبل أن يُتابع مُردفًا:
“تاني حاجة هو إنك معترضة على معظم تصرفاتي واللي أنتِ كنتِ عارفة معظمها من قبل ما نرتبط بالمناسبة، أنا عندي استعداد أقلل تعامل مع البنات وأحط حدود بس لازم تكوني مدركة إن الموضوع مش بالسهولة دي! ممكن أحجم علاقتي بمعظم البنات بس ميا بنت خالتي And she is my best friend ‘وهي صديقتي المفضلة’ وكمان أروى.”
“ايوا يا رحيم بس..”
“سيبيني أكمل يا أفي! أنا قولتلك هحاول أحجم علاقتي معاهم وأصلًا بمجرد ما نتجوز أنا هنشغل بالبيت وشغلي وعلاقتي بيهم هتقل تدريجيًا، وبالنسبة لصحابي القدام هحاول أتجنبهم.. تمام كده؟”
حاول رحيم جاهدًا أن يُرضي أفنان وفي الوقت ذاته ألا يكون نذلًا مع أصدقائه، أن يُغير نمط حياته وسلوكياته في التعامل مع من حوله ليس بالأمر الصعب لكنه على أتم الإستعداد أن يحاول بكل طاقته من أجل أفنان ولكن في المقابل يُريد أن تفعل هي المثل من أجله كي يكون الأمر عادلًا ومريحًا بالنسبة إلى الطرفين.
“تمام.. طيب ممكن أقول حاجة بقى؟ أحنا آخر مرة اتخانقنا عشان خبيت عليك موضوع نوح صح؟ مع أنك طول الوقت بتخبي عليا.. مش منطق أنك تخبي عشان مقتنع إن ده للصالح العام وأنا لما اعمل كده تعترض ولا أيه؟ مع أني برضوا خبيت عليك عشان الموضوع ميكبرش وأديك لما عرفت كبرته وزعلت مني.”
“مضبوط عندك حق بس موضوع نوح حساس ومختلف وأنتِ عارفة ده كويس.”
“موضوع نوح حساس وموضوع رفض مامتك ليا مش حساس؟” زم رحيم شفتية وهو يُفكر، هي محقة ولا يملك رد مناسب لما تقوله، ساد الصمت لبرهة بينما يحك رحيم أسفل ذقنه قبل أن يتُمتم:
“ماشي تمام، أيه تاني؟”
“أنت مش صريح يا رحيم هي دي أكبر مشكلة بالنسبالي، بتخبي.. بتلف وتدور.. مش بتعرفني حاجة وأنا عايزاك تشاركني وده مش تفضل منك، أحنا خلاص أتجوزنا يعني لازم تشاركني في كل حاجة حتى لو مش كل حاجة عالأقل ٩٠% من حياتك ولا أنت شايف أيه؟”
صارحت أفنان رحيم بما يُغضبها منه منذ أن عرفته تقريبًا، وكان ما قالته هو مربط الفرس لنصف المشاجرات التي حدثت بينهم، عدم صراحة رحيم.. والتي لم تكن بالصفة التي يمكن تغيرها أو تعديلها بسهولة وكان الدليل على ذلك هو رد رحيم تعقيبًا على حديثها مُردفًا:
“أفنان أنا اتربيت عالخصوصية بدرجة مبالغ فيها، اتربيت إن في حاجات مش بنتناقش فيها وفي مواضيع مش بنفتحها أصلًا، أنا طول عمري طفل وحيد ومليش أخوات.. صحابي القريبين عددهم قليل، مش متعود أشارك حد كل حاجة ولا أحكي كل حاجة.. ده حتى أنس مش كل حاجة يعرفها وإن كان هو أكتر واحد في الدنيا يعرف حاجات عني.”
“طيب ما هو ده مينفعش دلوقتي، اه طبعًا كل واحد ليه خصوصية وفي حاجات لازم الإنسان يحتفظ بيها لنفسه لكن ده لما تكون تخصك لوحدك مش تخصني معاك يا رحيم!”
“تمام أنا هحاول اشتغل عالموضوع ده، وأنتِ حاولي تشتغلي على ردودك وألفاظك يا أفي، أنا مش هقبل اسمع منك كلام يحمل أي نوع من الإهانة.. أنا كرامتي رقم واحد عندي ومش معنى إن عديت الموقف اللي فات إن أنا هسمح بحاجة زي دي تاني.”
“أنا أسفة.. أنا عارفة إن ردي كان سيء أوي أنا بس كنت غيرانة..”
“ده مش مبرر، زي ما الغيرة مكنتش مبرر أني انفعل عليكي بالطريقة اللي حصلت دي.”
“أنا عارفة عشان كده بعتذر.. عارف حتى بابا اتكلم معايا وغلطني وفرحت جدًا لما عرفت أنك مردتش تحكي حاجة ليه عن اللي حصل بينا.”
“ده الطبيعي يا أفي وده النظام اللي ناوي نكمل بيه حياتنا إن شاء الله، اللي يحصل بينا يفضل بينا.. حفاظًا على الحب والخصوصية بتاعتنا، وأنا كمان أسف عشان زعلتك.”
“طب أحنا كده خلاص اتصالحنا يعني؟” سألت أفنان بحماس وسعادة حقيقة سرعان ما أختفت حينما سمعت رد رحيم والذي كان كالتالي:
“هو أحنا كنا متخاصمين أصلًا؟ ده خلاف أحنا أكبر من كده، بس أنا لسه عند نفس الرأي.. أحنا محتاجين نقعد يومين تلاتة منتكلمش، نحاول نصفي ذهننا ونفكر في الكلام اللي اتقال النهاردة.”
“حاضر.. بس.. ماهو أنتَ هتوحشني يا رحيم!” تمتمت أفنان بعد أن قوست شفتيها لتصدر ضحكة قوية من رحيم ومن ثم يضع يده على معدته بآلم ثم يُردف:
“وأنتِ كمان يا أفي، من غير ما تزعلي أنا مش بضحك عليكي أنا بضحك عال reaction ‘رد فعل’ حاسس أني بكلم بنت أختي بجد.”
“بقولك أيه أنا همشي، وأنس ده همسكه أعجنه عالحركة اللي عملها هو وميرال!”
“أنا هتكفل بالموضوع ده don’t worry ‘لا تقلقِ’.” أردف رحيم وهو يضحك بعفوية لتنظر نحوه أفنان وهي ترفع أحدى حاجبيها بينما تسأله:
“يعني اطمن أنك هتهزقه؟”
“بلا أدنى شك.”
“أدنى شك؟ أنتَ كنت بايت في المستشفى ولا في الكُتاب ولا فين؟” سخرت منه أفنان ليضرب رحيم كفيه ببعضهما وهو يتحدث مستنكرًا:
“هو أنا أتكلم عربي مش مفهوم مش عاجب، اتكلم English ‘إنجليزي’ مش عاجب، أتكلم لغة عربية مش عاجب.. تحبي أتكلم معاكي بإيه؟ En français ‘بالفرنسية’.”
“بتروش عليا عشان مثقف؟ على فكرة أنا كنت واخدة الفرنساوي لغة تانية في ثانوية عامة لا وقفلته كمان.”
“أنا تعبت والله.. بجد، بقولك أيه يا أفي قومي روحي.” تمتم رحيم وهو يضحك، تبتسم أفنان في المقابل وهي تسأل داخلها كيف لضحكة رحيم أن تُشعرها بهذا الدفء، كيف لضحكته تلك أن تُضيء العالم من حولها، تجعل الفراشات تُحلق وتنقل لها عدوى الضحك والإبتسام.
بعد رحيل أفنان وتوديع رحيم لها ولوالدها وشقيقتها، جاء أنس ليجلس أمام رحيم بينما يتناول من الفاكهة التي ابتاعها والد رحيم من أجله نظرًا لما أصاب معدته.
“بس أيه رأيك في الحركة الهندي اللي عملتها دي؟ خليتلك أفنان تيجي في ثواني.. أبقى أشكرني بعدين بقى.”
تمتم أنس بثقة زائدة وهو يضحك ليرمقه رحيم بطرف عيناه قبل أن يُمسك بالطاولة مهددًا أنس الذي هرول مبتعدًا عنه، ليُمسك رحيم بزجاجة بلاستيكية ويقذفها على رأس أنس.
فور عودة أفنان إلى المنزل كانت السعادة تغمرها والطمأنينة كذلك، دلفت إلى حجرتها هي وميرال وهي تُردف بسعادة وحماس:
“أنا مبسوطة أوي بكلامي مع رحيم النهاردة.. بغض النظر إننا متصالحناش فعليًا وإن هو لسه شايف إننا محتاجين ناخد فترة هدنة كده من علاقتنا وبغض النظر برضوا عن المقلب السخيف اللي عملتيه مع أنس بس الحمدلله برضوا عرفنا نتكلم ونتفاهم.”
“أممم حلو.” تمتمت ميرال بلا مبالاة، لتعقد أفنان حاجبيها بإستياء وهي تُعلق ساخرة:
“حلو؟ هو أنا بدوقك أكله، أنا بحكيلك حاجة وبتناقش معاكي.”
“ايوا يعني مستنية أقول أيه يا أفنان؟” سألت ميرال بنفاذ صبر لتنتبه أفنان لحدة نبرة ميرال والتي لم تعتاد عليها من شقيقتها لتحاول أفنان الإستفسار عن مشكلتها مُردفة:
“أيه ده في أيه؟ ميرال أنتِ كويسة؟”
“ياااه يا أفنان خدتي بالك أني مش كويسة أخيرًا؟”
“أنتِ بتتكلمي كده ليه؟ بتهزري ولا بتتكلمي جد؟”
“لا بتكلم جد، هو أنتِ مش ملاحظة إن محدش مدي أي أهمية للي حصل بيني وبين نوح؟ محدش واخد باله أنا مجروحة ازاي؟ كله انشغل في كتب الكتاب بتاعك وخناقاتك الهايفة مع رحيم ومحدش خد باله مني!”
صُعقت أفنان من كلمات ميرال القاسية وإن كانت مُحقة لكن أفنان لم تتوقع قط أن تجري محادثة كتلك بينها وبين شقيقتها، شعور بالخزي أصاب أفنان وقررت أن تعتذر على الفور لعل ذلك يشفع لها عند ميرال، صدرت الكلمات من أفنان مُبعثرة.. حاولت تكوين جملة مفيدة لكنها فشلت في ذلك..
“أنا.. أنا أسفة أنا مش عارفة..” ضحكت ميرال ساخرة من جملة أفنان قبل أن تقاطعها بحدة وبنبرة أشبه بالصراخ قائلة:
“أسفة على أيه ولا أيه يا أفنان؟ الغلط مش غلطك لوحدك.. ماما نفسها مهتمة بمشاعر نوح أكتر مني! بابا مركز معاكي ومع جوازتك أكتر.. وأنتِ مشغولة مع رحيم وأنا فين طيب يا أفنان؟ محدش خد باله أني مثلت أني تخطيت الموضوع ودوست على قلبي عشان أعرف أفرحلك؟ عشان أبقى أخت كويسة ومثالية.. بس أنا مش مثالية يا أفنان، أنا انسانة عادية ومن حقي أزعل بس أنتوا سلبتوا مني الحق ده!”
اختلط الدمع بحديث ميرال وشاركتها شقيقتها البكاء، حاولت أفنان أن تقترب من شقيقتها كي تضمها لكن ميرال ابتعدت عنها على الفور لتحاول أفنان الإقتراب مجددًا وهي تهمس:
“أنا بجد أسفة أوي يا ميرال، حقك عليا والله أنا انسانة أنانية أنتِ عندك حق.. متزعليش مني..”
لم تُعلق ميرال على ما قالته أفنان بل تجاهلت حديثها تمامًا، ابتعدت عن أفنان وذهبت لإحضار منديلًا ورقيًا من أعلى الكمود بينما تُردف بجمود عكس نبرتها السابقة قائلة:
“أنا هروح لدكتورة نفسية يا أفنان، الدكتورة اللي أنس بيتابع معاها.. بس مش هروح معاه طبعًا كل واحد ليه ميعاد هو بس هيعرفها أني رايحة، وحتى أنس مش عايزة اتكلم معاه كلامي معاه غلط..”
“اعملي اللي يريحك واللي تشوفيه صح يا حبيبتي.”
“من النهاردة هعمل كده، متشغليش بالك.. بس صحيح يا أفنان.. أخواتك وعائلتك ممكن يستحملوا حاجات في شخصيتك وعيوب الغريب ميقدرش يستحملها.. وبعيدًا عن إن رحيم رسميًا بقى جوزك بس اجتماعيًا وشخصيًا هو لسه غريب.”
بصقت ميرال كلماتها وحينما سمعت أفنان الجملة الأخيرة شعرت وكأن أحدهم قام بسكب حاوية مياه باردة فوق رأسها، رحيم لن يتحملها؟ رحيم ما يزال غريبًا عنها؟ لأول مرة تشعر أفنان بسوء شخصيتها إلى هذا الحد.. حرصها الزائد وخوفها الدائم من أن تُجرح مشاعرها حولها إلى مسخ لا يهتم بمشاعر غيره.. هي الآن تفعل الشيء ذاته الذي كرهت نوح من أجله.. رحيم لن يتحمل ذلك طويلًا، ميرال لن تفعل، ولا أصدقائها وحتى والديها قد يصيبهم التعب والكلل منها.. ما الحل إذًا كي لا يحدث ذلك؟! هكذا كانت تتسأل بتعابير وجه هادئة على عكس العاصفة التي بداخلها.
في صباح اليوم التالي استيقظت أفنان قرب الساعة الحادية عشرة للذهاب إلى الجامعة ولم تجد ميرال في سريرها، غادرت حجرتها لتجد المنزل فارغ لا وجود لا أحد.. كان طعام الفطور موضوعًا على الطاولة وبجانبه ورقة صغيرة كُتب فيها الآتي:
“صباح الخير يا أفنان، أنا روحت اقعد مع خالتك شوية، أبوكي في الشغل وهيخلص ويروح لجدتك، ميرال هتخلص شغل ورايحة مشوار.”
قرأت أفنان الورقة بتملل وكادت أن تجلس لتناول الفطور ثم شعرت بأن لا شهية لها لتناول الفطور وحيدة لذا قامت بإعداد شطيرة أو اثنتين لتتناولهم في الجامعة، بدلت ثيابها وكانت على وشك إرسال رسالة لرحيم لتخبره بما تنوي فعله في يومها لكن سرعان ما تذكرت أمر البُعد المؤقت لتزفر بضيق وتغادر المنزل على الفور.
كان اليوم بطيئًا مملًا، حديثها مع ميرال من ليلة أمس مازال يشغل بالها.. العديد من التجارب في الجامعة والوقوف في المعمل لساعات طويلة، يوم يمر بدون سماع صوت رحيم ولا عناق والدها الدافئ ومزاح والدتها في الصباح، لا يمكن لليوم أن يُصبح أسوء من ذلك أليس كذلك؟
“مساء الخير يا دكاترة، أنا هكمل السكشن معاكوا بدل دكتورة أسماء.. أظن كلكوا عارفين أنا مين فا مش هنضيع وقت في التعارف، كل واحد يقف قدام الرقم بتاعه عشان نبدأ شغل.”
أطلقت أفنان سبة بصوتٍ منخفض، ألم يجدوا شخصًا آخر ليقوم بتدريسهم غير نوح! ذلك الوغد الذي ساهم بنسبة كبيرة في تدمير حياتها ونفسيتها!
تنهدت أفنان بقلة حيلة وهي تدعو بداخلها ألا يجعل منها أضحوكة أمام الجميع كما كان يفعل في السابق لكن على عكس توقعاتها هو لم ينبس بحرفٍ واحد معها، لم يقوم بتوجيه أي كلمة لها بل ولم يرفع عيناه لتقابل خاصتها، انتهت أفنان من دوامها في الجامعة وعادت أدراجها إلى المنزل.
أما عن ميرال فبمجرد انتهاء دوامها في العمل استقلت سيارة متجهة إلى عنوان الطبيبة الذي منحها إياه أنس سابقًا قبل أن تتوقف عن التحدث إليه، وفي طريقها إلى هناك وجدت رسالة من أنس محتواها الآتي:
“أنا مش عارف مش عايزة تكلميني ليه.. عمومًا هتلاقي حجز بإسمك عند الدكتورة والفلوس مدفوعة ولما تخلصي هتلاقي عربية تحت العيادة ده رقمها *** هتوصلك لحد البيت.” ابتسامة صغيرة نمت على وجهها وهي تقرأ الرسالة لكنها لم تُجب عليها.
بعد مدة ليست بطويلة توقفت السيارة أمام ‘الفيلا’ المقصودة، دلفت ميرال إلى داخل المكان وهي تشعر بتوتر شديد لا تدري سببه لكن ربما لأنها لم تقوم بزيارة طبيب نفسي من قبل وربما لكون زيارة الطبيب النفسي ليس بالأمر المنتشر في مجتمعنا، والذي لا يعترف بالمرض النفسي بل يُطلق على المصابين بأمراض نفسيية لقب ‘مجانين/مجازيب’.
“مساء الخير.. كان في حجز بإسم ميرال أحمد.”
“اه يا فندم، استريحي خمس دقائق وهدخلك للدكتورة.”
“تقدري تتفضلي.” أومئت ميرال للفتاة وشكرتها ومن ثم توجهت إلى الداخل، كانت تتأمل المكان بعيناها سريعًا لم تستطع ملاحظة الكثير سوى أن المكان غاية في الفخامة وأن ألوان الأثاث الحوائط مُريحة للعين والنفس.
“مساء الخير..”
“مساء النور اتفضلي يا.. أستاذة ميرال مش كده؟”
“مضبوط..”
“اتفضلي استريحي.. ها تحبي نبدأ منين؟” تحدثت الطبيب بلطفها المعتاد، منحتها ميرال ابتسامة صغيرة وهي تسألها بتوتر:
“لازم وأنا صغيرة وكده؟ مش عارفة أنا أول مرة أجي لدكتورة نفسية.. ده أصلًا كان اقتراح أنس، هو، أنس يعتبر أخو جوز أختي يعني وأنا كنت بمر بأزمة عاطفية كده وهو اقترح أني أجي هنا.. لولاه مكنتش عمري هفكر أجي..”
شعرت الطبيب بميل ميرال للتحدث عن الأحداث الحديثة نسبيًا في حياتها، لذا قررت أن تسألها عن علاقتها بأنس وشعورها تجاهه ولكن بطريقة غير مباشرة.
“يعني علاقتك بأنس محدودة؟ مش صحاب أو كده؟”
“لا مش بالضبط.. أحنا اتقابلنا كام مرة بحكم ترتيبات جواز أختي ودردشنا كام مرة بس أنا مرتحتش للموضوع.. كمان أفنان أختي بتقولي إني مش مستعدة ادخل في علاقة وإن انجذابي لأنس هو مجرد وهم لأني خارجة من علاقة فاشلة.. بس أنا أصلًا مش منجذبة لأنس هما فاهمين غلط..”
“كويس جدًا إنك مدركة إنك مش مستعدة للدخول في علاقة حب دلوقتي، طيب حابة تتكلمي عن التجربة دي؟” كانت تسأل الطبيبة ميرال بينما تقوم بتدوين بعض الملاحظات في الدفتر الصغير الموضوع أمامها.
“هي عادي خطوبة.. اتخطبت لأبن خالتي ومتربين مع بعض وأنا بحبه من زمان.. كنا قربنا نتجوز بس حصل خلاف.. أصله طلع بيحب أختي، عايز يتجوزني عشان يفضل قريب منها..”
“طب وده غير نظرتك نحو أختك؟ ولا خلاكي مدركة إن ملهاش ذنب؟”
“أنا عارفة إن ملهاش ذنب.. بس حسيت بالغيرة مش هنكر..”
“والغيرة دي عشان موضوع خطيبك بس ولا طول عمرك حاسة بالغيرة تجاه أفنان؟”
“لا، طول عمري عادي وشايفة إن كله بيعاملني زي أفنان.. الفرق بس إن أفنان دمها خفيف وبتهزر وبتتكلم لكن أنا طبعي هادي فكانت بتاكل الجو يعني.. وعمري ما كنت بتضايق بس الفترة الأخيرة..”
“طيب وده كان بيزعلك؟ إنها بتلفت الأنظار؟”
“أوقات.. بس أنا عمتًا مش بركز في الحاجات دي لحد أما حد نبهني..”
“مين الحد ده؟”
“خطيبي.. قصدي خطيبي سابقًا، نوح كان دايمًا يقولي هو ليه عمو أحمد مهتم بأفنان أكتر منك؟ ليه شكله مبسوط عشانها أكتر ما هو مبسوط عشانك؟ ليه أفنان بتكلم رحيم أكتر ما أحنا بنتكلم؟ أكيد هيعملوا فرح أحلى من بتاعنا.. كلام من النوع ده..”
“وأنتِ شايفة إن كلامه حقيقي؟”
“مش قادرة أحدد إن كان كلامه حقيقي وأنا مكنتش شايفة ولا هو اللي وهمني بكده.. بابا أقرب لأفنان مني، وأنا أقرب لماما منها يمكن عشان تشابه الطباع والتفكير بيني أنا وماما.. بس نوح شككني في نفسي وفيهم..”
” طب وأنتِ اتكلمتي مع أفنان في اللي مضايقك؟”
“اه.. امبارح قولتلها إنها مش بتهتم بمشاعري.. مش بيفرق معاهم زعلي، هي اتضايقت أوي وأنا حسيت بالذنب..”
“مشكلتك يا ميرال إن دايمًا عندك شعور بالذنب وبالدونية كمان، شايفة إن من حق الناس تزعلك عادي، شايفة إنك تستحقي أقل من غيرك.. حتى لما خطيبك اتقدملك كنتِ منبهرة ومش متخيلة إنه ممكن يقبل أنه يتجوزك مع إن ده مش حقيقي، أنتِ تستحقي شخص أحسن منه.. بس الأهم من الشخص ده ومن أي حد تاني هو إنك تعرفي قيمة نفسك.. أنتِ انسانة جميلة وناجحة في شغلك ومتربية كويس لازم تعرفي قيمة نفسك وتحبيها ولما تعملي كده كل الناس هتحب وهتعرف قيمتك في المقابل.”
كان حديث الطبيبة صادق تمامًا، كل ما ينقص ميرال هو بعض الثقة واحترام الذات، أن تقتنع أن لها حقوق كما تُنفذ هي واجباتها بل وتُقدمها على طبق من ذهب للجميع، ابتسمت ميرال وهي تشكر الطبيبة على حديثها اللطيفة وتعدها بزيارة آخرى عن قريب، رحلت ميرال من العيادة وهي تشعر بتحسن بنسبة لا بأس بها ولكن بالرغم من الحديث الذي دار بينها وبين الطبيبة إلا أنه الشعور بالذنب قظ خالجها فلقد كانت قاسية للغاية مع أفنان ليلة أمس.. كان بإمكانها أن تقوم بإيصال الفكرة ذاتها ولكن بكلمات أكثر رقة ربما..
أثناء عودة ميرال إلى المنزل قررت أن تبتاع بضع كيلوهات من الفاكهة التي تحبها هي وأفنان على سبيل إصلاح ما حدث بالأمس، في طريقها نحو باب المنزل استوقفها صوت أحدهم يُنادي بإسمها قائلًا:
“ميرال.. ميرال.. عاملة أيه؟”
توقفت ميرال كصنم حينما أدركت من يكون صاحب الصوت، ألتفتت ببطء نحو مصدر الصوت لترتسم ملامح الدهشة والإمتعاض في الوقت ذاته بينما تسأل بإستنكار:
“نوح؟ أنتَ أيه اللي جابك هنا؟ قصدي يعني مطلعتش ليه تطمن على خالتك وجوزها أيه اللي موقفك في الشارع؟”
“أنا كنت.. يعني كنت عايز اتكلم معاكي شوية.. وأصلًا خالتو مش فوق.. خالتو عندنا في البيت.”
“نتكلم في أيه؟ مبقاش في حاجة نتكلم فيها، وبعدين أما أنتَ عارف إن مفيش حد فوق جاي ليه؟”
“أنا بس كنت عايز أعتذرلك عن اللي حصل مش أكتر.. صدقيني..” تمتم نوح بإحراج شديد وهو يحك مؤخرة عنقه بيده لتُطلق ميرال ضحكة ساخرة عالية قبل أن تعلو وجهها نظرات الإزدراء وهي تُردف:
“تعتذرلي؟ يااه يا نوح أنتَ لسه فاكر؟ وبعدين تعتذرلي على أيه ولا أيه؟ هو أنت دوست على رجلي ولا طرفت عيني؟ أنت كنت بتضحك عليا مفهمني أنك بتحبني وأنت جنبي عشان بتحب أختي! بتختار كل حاجة على ذوقها وبتتلغبط في اسمي وبتقولي يا أفنان، ده غير طبعًا الزعيق والتريقة وقلة القيمة..”
“أنا عارف إني انسان سيء جدًا.. سيء كلمة قليلة، بس أنا يا ميرال بجد مفتقد وجودك أوي.. لما بعدتي عني أدركت إن عمر ما حد اهتم بيا ولا حبني زيك.”
“قول كده يا نوح، مش أنا اللي وحشاك، أنت وحشاك إحساس إنك محبوب ومقبول عشان ترضي غرورك مش وحشك ميرال نفسها.. امشي يا نوح امشي بعد إذنك ومتضيعش حبة الود وصلة الرحم اللي بينا من فضلك.”
“حاضر.. همشي..طيب قبل أما امشي هسألك سؤال وتجاوبيني من فضلك.”
“اتفضل يا نوح.”
“هو في حاجة بينك وبين اللي اسمه أنس ده؟” سأل نوح بنبرة تفوح منها الغيرة ربما، عقدت ميرال ذراعيها أمام صدرها وهي تسأله مستنكرة:
“أفندم؟ أنت مالك أصلًا؟”
“ما هو مش معقول برضوا تكوني لسه سايباني معداش غير كام شهر وتحبي واحد تاني!”
“دي حاجة متخصكش يا نوح! ارتبط بأنس ارتبط بغيرة أنا حرة، ولا أنتَ فاكر أني هبكي على الأطلال بقى ومش هتجوز من بعدك؟”
“أنا أسف.. أنا ماشي.. سلام.” أردف نوح بإنكسار وهو يرحل مبتعدًا عن ناظري ميرال، تنهدت ميرال تنهيدة طويلة قبل أن تدلف إلى مدخل البيت.
في مساء اليوم التالي وبينما يتناول رحيم الطعام برفقة والديه بهدوء سأله والده التالي:
“رحيم أخبار بيتك أنتَ وأفنان أيه؟”
سأل والد رحيم أثناء تناولهم الطعام ليبتلع رحيم ما يأكله ومن ثم يجيب قائلًا:
“الحمدلله يا بابي، شغالين بس ببطء شوية لأن أفي عندها امتحانات الفترة دي.. تخلص ونشوف باقي الحاجة اللي ناقصة.”
“وهي الكليات العلمية امتحاناتها بتخلص، عالعموم مش مشكلة أنتوا لسه معاكوا وقت يعني.”
“لو مستعجلين أوي ممكن تقعدوا معانا هنا.” صدرت هذه الجملة من والدة رحيم ليسعل رحيم بقوة، ومن ثم يحمحم بينما يُردف:
“معاكوا؟ نقعد مع مين يا مامي لا طبعًا!”
“ليه؟ القصر مش من مقام أفنان هانم ولا أيه؟” سألت والدة رحيم ساخرة قبل أن يحمحم رحيم ثم يُعلق على حديث والدته موضحًا وجهة نظره بأدب قدر الإمكان:
“لا طبعًا يا مامي حضرتك عارفة إن ده مش قصدي، أنا قصدي إني عايز privacy ‘خصوصية’ ليا أنا ومراتي.. مش معقول أبقى عايز استقل وأكون أسرة لنفسي.. أقوم رايح اعيش مع أهلي.. مش منطق يعني.”
“وده رأيك أنتَ لوحدك ولا رأيها هي كمان؟”
“أنا وأفي رأينا واحد في حاجة زي كده، الموضوع ملوش علاقة بحضرتك أنتِ وبابي.. لو كانت أفنان طلبت حاجة مشابهة كنت هرفض برضوا.” أجاب رحيم على سؤال والدته، كانت والدته تستمع إلى رده بهدوء حتى نبس بجملته الأخيرة لتضع الملعقة بعنف على الطاولة وهي تُردف مستنكرة:
“طبيعي ترفض! أومال هتروح تعيش معاهم في الحارة يعني؟”
“لا حضرتك فهمتيني غلط، أنا قصدي إننا نبقى ساكنين قريب من أهلها حتى لو في قصر، عشان كده أنا حبيت بيت التجمع.. استقلال وهدوء وفي نفس الوقت لو في أي حاجة بالعربية نكون عندكوا أو عند أسرتها.”
“أنتَ موافقه عالكلام ده يا حامد؟” سألت والدة أفنان في محاولة منها لجعل زوجها في صفها لكن محاولتها لم تنجح لأنه وكالمعتاد كان في صف رحيم، فوالد رحيم لن يوافق على أي شيء يُزعج رحيم ولن يرفض أي شيء قد يسعده طالما أن الأمر ليس فيه أي ضرر.
“ايڤ حبيبتي سيبي الولد على راحته، رحيم كبر ومن حقه يستقل.. وبعدين اشمعنا في الجواز عايزاه يقعد معاكي مع إنك كنتِ مشجعة استقلاله جدًا لما كان في England ‘انجلترا’.”
“الوضع اتغير وهنا غير هناك، وبعدين أنا من حقي اتطمن على ابني وأكون واثقة إنها قادرة تسعده.”
“مامي لو أفنان مش هتعرف تسعدني ولا أنا هعرف أسعدها مكنتش هفكر للحظة أني ارتبط بيها.”
“وبعدين يا ايڤ عايزاهم يقعدوا معانا ازاي وأنتِ شخصيًا مكنتيش بتتحملي نقعد في بيت العائلة مع عائلتي أكتر من تلات أيام.”
“على فكرة يا حامد محدش مخلي الولد Stubborn ‘عنيد’ كده غيرك!”
“مش جايب العند من حد غريب يا مامي صدقيني.” أردف رحيم ممازحًا وهو يحاول كتم ضحكاته كي لا يُثير غضب والدته أكثر.
بعد مرور بضع أيام استيقظ رحيم من نومه وقد شعر بتحسن كبير قرر أن يذهب لمقابلة أفنان أو بالأحرى أن يُفاجئها.
أما عن أفنان فبمجرد انتهاء دوامها في الجامعة جلست تُثرثر قليلًا مع زملائها قبل أن تغادر.
“بقولكوا أيه أنا هروح بقى عشان مصدعة ورجلي ورمت من الوقفة طول اليوم.”
“ماشي يا ست أفنان كل مرة نقول هنخرج بعد الكلية بتهربي مننا، خطيبك مستنيكي ولا أيه؟”
“يا ستي مش بهرب ولا حاجة وبعدين قولتلك مية مرة أنا مش مخطوبة أنا مكتوب كتابي.”
“خلاص ياستي هتدخلي الدبلة في عيني، وبقولك أيه خدي بالك وأنتِ ماشية لأن حالات الخطف كترت والتحرش كمان.”
“حاضر متقلقيش.. ربنا يستر ويحفظنا جميعًا.” أردفت أفنان قبل أن تلوح للجميع وتودعهم ثم تتجه نحو الخارج متجاهلة نوح القادم عكس اتجاهها، كان ينوي إلقاء التحية لكن حينما أشاحت بنظرها بعيدًا عنه تراجع عن فكرته تلك وهو يسب نفسه داخليًا.
“بقولك يا آنسة.. مش القمر في صيدلة؟ ممكن تقسيلي الضغط؟”
همس رحيم بنبرة لعوب بالقرب من أفنان والتي كادت أن تلتفت وتضربه بصندوق الأدوات الثقيلة خاصتها لكن رحيم انتبه لحركتها وابتعد سريعًا وهو يصيح بفزع مُردفًا:
“أفي!!! ده أنا! منك لله يا أنس أنتَ واقتراحاتك اللي زي الزفت دي..” أخذ رحيم يسب اقتراح أنس بأن يفاجئ أفنان بتلك الطريقة وأن يقوم بمغازلتها بتلك الطريقة المُبتذلة!
“أنتَ مش هتبطل الحركات دي بقى؟ ولو كنت شوهت وشك الحلو ده دلوقتي كنت هتبقى مبسوط؟” سألته أفنان بحنق وهي تضربه بخفة في كتفه ليُمسك يدها بلطف ويُقبلها قبل أن يسألها بذات النبرة اللعوب:
“وشي حلو؟ بجد؟”
“يا رحيم مش وقته… استغفر الله العظيم يارب، سيب ايدي يا عم احنا في الشارع.”
“اه صح، بس أيه ده أنا جوزك على فكرة؟”
“لا ما هو الناس اللي في الشارع متعرفش، وبعدين أيه جوزي يعني؟ أحنا لسه معملناش فرح.”
“طب بمناسبة الفرح بقى.. بقولك أيه، اتفضلي.”
أردف رحيم بلطف وهو يُخرج دعوة زفاف من جيب بذلته الرسمية، تُمسك أفنان ببطاقة الدعوة الفاخرة ذات التصميم المميز وهي تسأل رحيم بسخرية:
“دعوة فرحنا دي ولا أيه؟”
“أنتِ عبيطة يا أفي؟! دعوة فرحنا ازاي يعني؟ لا ياستي أحنا معزومين على فرح وأنا بصراحة متحمس أوي أني اروح معاكي مع إني في العادة يعني مش بحب أوي جو الأفراح.”
“بغض النظر عن كلمة عبيطة، بس أنا مبسوطة أوي أننا هنروح، تقريبًا من الأسباب القليلة جدًا اللي كان نفسي ارتبط عشانها هو أننا نروح مناسبات مع بعض وكده.”
“أديني حققتلك أمنيتك أهو، أي أؤامر تانية؟” سألها رحيم بمزاح وهو يقوم بفتح باب السيارة من أجلها، تدلف إلى الداخل بينما تُتمتم بنبرة لطيفة:
“ميؤمرش عليك ظالم يا حبيبي، بس هو فرح مين مقولتليش؟”
“ها؟ لازم؟” سأل رحيم بتوتر لتتحول أفنان إلى ‘دراكولا’ بلا مقدمات وهي تسأله بحدة:
“ولا! أحنا مش اتفقنا منخبيش على بعض حاجة تاني؟”
“أيه ده أنا اتفقت؟ مش فاكر..”
“والله؟”
“خلاص خلاص.. طيب هتسمعي اللي هقوله في هدوء ولا هتفرجي علينا الناس؟”
“أنا يا حبيبي بفرج علينا الناس؟ عيب والله.. قول قول ميهمكش حاجة.”
“دي بنت من عائلة كبيرة أوي، مامتها تبقى صاحبة مامي وكانت مامي عايزاني اتجوزها.. المهم يعني أنها دلوقتي هتتجوز مهندس أعرفه ابن رجل أعمال برضوا.”
“ودي اسمها أيه الآنسة دي إن شاء الله؟”
“مش فاكر بصي في ال invitation ‘الدعوة’، أنا كل اللي فاكرة إن مامتها اسمها بثينة.”
“بثينة؟ اسم قديم بس فخم تحسهم طالعين من قصر فعلًا، المهم أنا مش عارفة هلبس أيه في الفرح.. يا خبر أبيض ده بعد بكرة هلحق اضبط طقم أمتى؟”
“ودي تفوتني برضوا يا أفي بذمتك؟ أنا كلمت باباكي واستأذنت منه أننا نتغدى مع بعض ونروح نشوف dress ‘فستان’ ليكي و Suit ‘بذلة’ ليا، أيه رأيك بقى؟”
“بجد؟ يالهوي أنا بحبك أوي بجد ربنا يخليك ليا!”
أردفت أفنان بحماس شديد وهي تصفق بكلتا يديها كالأطفال، لم يُعلق رحيم بل فضل أن يصمت ويتأمل كتلة الجمال واللطافة الجالسة إلى جانبه داخل السيارة، كيف لها أن تكون بهذا السحر؟ كيف لها أن تجعل السعادة تغمر قلبه لتلك الدرجة؟ كيف لإبتسامتها الحُلوة تلك أن تجعل الفراشات تُحلق والأزهار تتفتح والعصافير تُغرد؟ كيف لها أن تجعله يغوص في بحار العشق إلى تلك الدرجة.. على ما يبدو أن أفنان حقًا تُشكل خطرًا كبيرًا على قلب رحيم..
______________________________
(تذكره: اللهم اجعل وفاتي في صلاتي بين سجدة وتسبيح وركوع واجعل آخر كلامي في حياتي قول الشهادة في خشوع.)
يتبع..
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية في حي الزمالك) اسم الرواية