رواية بيت البنات الفصل الرابع عشر 14 - بقلم امل صالح
الرابع_عشر
- عصام سعيد الزهراني؟! أنت متأكد يا حضرة الظابط؟!
كانت تتحدث بنبرة عالية ولهجة غاضبة، ودت لو أن ذلك الحقير أمامها لتخرج كل ما بجعبتها بوجهه، غضب لا مثيل له وكأن شياطين العالم بأسره تتراقص أمام عينيها.
عقد الظابط مصطفى حاجبيه وهو لا يفهم سبب تلك اللكنة التي تتحدث به وأجاب وهو ينظر لذلك التقرير فوق مكتبه: أيوة متأكد، إحنا قدرنا من كاميرات المراقبة اللي حوالين المكان نجيب رقم لوحة الموتوسكيل اللي البلطجية ركبوه، ولما قبضنا عليهم اعترفوا عليه من أول قلم وحاليًا بعت العساكر للعنوان اللي قالوا إنه بيته.
ضغطت بيدها على الهاتف فوق أذنها، تنفست بغضب وهي تنهي المكالمة معه بسرعة بينما تلتفت حولها بحثًا عن أفراد عائلتها: تمام أنا دقايق وهكون في القسم يا حضرة الظابط..
عضت جنى على شفتها بغيظ وهي تتوعد داخلها لعصام الذي دمر حلمها في لمح البصر، كانت كثيرًا ما تخبره عن أمور عملها وكيف أرادت أن ينمو هذا العمل وكيف تمنت أن تصبح ذات شأن في هذا المجال المحبب.
ظن أن تلك نقطة ضعفها وأنه بفعلته تلك سيحطمها ولكن هيهات هيهات ما يريد، لن تجعله يرى ذلك الحزن المرتسم بعينيها، لن تريه سوى قوةٍ حتى لو كانت مُصطنعة.
ولجت الغرفة الخاصة بزوجة عمها حيث الجميع يلتفون حولها، فتحت الباب بهدوء واقتربت لتقف بجوار ندى التي تطلع لمنة بإعصار من الأحاسيس والمشاعر المتناقضة؛ فبعضها غاضب من ما فعلت بها وبعائلتها وبعضها الآخر مشفق عليها.
كانت تستلقي بسكون على الفراش الطبي يلف رأسها شاشٌ أبيض بعد أن قام الطبيب بخياطة ذلك الجرح الذي صنعته برأسها، مَن ينظر لها لن يصدق أن تلك السيدة فعلت هذا بشقيق زوجها وعائلته!
لكزت جنى ندى بذراعها فانتبهت لها الأخيرة ولوجودها فأشارت لها للآخر؛ كانت خائفة من الحديث مع والدها بشأن مكتبها وما حدث بها وأمر بلاغها، خافت منه كثيرًا بعد رد فعله الأخير ورغم أنها لم تظهر ذلك الخوف بوقتها إلا أنه يبقى والدها وتبقى له هيبته الخاصة.
وقفتا خارج غرفة منة التي بقى بداخلها الرجال، تنهدت جنى وبدأت تقص عليها ما حدث منذ الصباح بداية من تلك المكالمة التي أخبرتها فيها جميلة أن المكتب تدمر مرورًا بذهابها هي وبسنت لقسم الشرطة وحتى النهاية بتلك المكالمة من قسم الشرطة التي انتهت منذ دقائق.
وكانت ندى تستمع لها بدهشة تتصاعد كلما تابعت الأخرى حديثها، لا تصدق أن كل هذا حدث في يومين والأسوء أن تلك المسكينة أمامها تحملت الأمر بمفردها.
ما إن انتهت جنى حتى تطلعت ندى لها مردفة بحدة: كل ده يا جنى لوحدِك؟؟ ليه كده يا جنى فين أهلِك وسندِك من حاجة كبيرة زي دي! إزاي تفسخي خطوبتِك وتخشي أقسام ومفيش حد يعرف!!
تحاشت جنى النظر لها وأجابت بجمود وملامح لم يتبين بها ما تشعر به: بسملة وجنى وماما عارفين الحاجات دي كلها، أنتِ وبابا بس اللي ماتعرفوش.
تطلعت لها ندى بعدم تصديق لذلك الرد البارد ثم قالت: المفروض بابا أول واحد يكون عارف بحاجة زي دي، ليه محكتيش ليه، ليه مخدتيش رأينا كلنا وفهمتينا الوضع؟ جنى إحنا أهلِك!
إبتسمت جنى بسخرية وألم: كلكم اللي هو مين معلش؟؟ آخد رأي مين بالظبط؟؟
فردت ذراعيها للأمام وتحدثت بصوت مختنق جاهدت كي لا تظهر تلك النبرة الباكية به: أنتِ مثلًا؟؟ بظروفِك وحالتِك اللي مصممة تسيبي نفسك ليها ومش بتحاولي حتى بربع جنيه إنك تعدي المشكلة اللي أنتِ فيها وتقفي على رجلِك من تاني! ولا أخواتِك الصغيرين اللي في وسط إمتحانات ويا عالم هيعملوا ايه في الكام مادة الفاضلين وسط الظروف اللي إحنا فيها دي..
تركت الحرية لتلك الدموع لتسري فوق خديها وهي تتابع وقد اكتفت من ذلك الحمل الذي أثقل كاهلها، تحملت فوق طاقتها والآن فقط أحست بهذا الثقل: ماما اللي مش شايفة غيرِك لدرجة إني ساعات بحسها ناسية وجودي أنا وباقي أخواتِك، بتسيب كل اللي في ايدها لو كحيتي حتى ويولع بقى البيت باللي فيه..
أشارت على نفسها وتابعت بنبرة منخفضة بإحترام للمرضى ولمن حولها: أنا مقدرة اللي حصلِك زمان ومعنديش اعتراض إنها تعاملك كده وأحسن بس على الأقل ماتهمّش وجود الباقي! عارفة إنها بتحبنا كلنا ولو حصل اي ظرف لواحدة فينا هي أول واحدة هتبقى جنبنا بس بالمقارنة بيكِ وباللي بتعمله معاكِ فإحنا ولا حاجة!
سقطت الدموع من عينها وتابعت هي لا تبالي لها: شوفتها في عيون أخواتِك كتير وبالذات بسملة، شوفت غيرتهم منك ومن معاملة ماما ليكِ، حاولت ألمح كتير بس هي مش واخدة بالها وصدقيني دا بيخلق جفا بينكم على الفاضي..
ابتسمت بوجع من بين بكائها: أنا مبقاش فارق معايا، أيوة زمان كنت بركز معاكِ ومع معاملتها ليكِ ولما شوفت إن مفيش أمل إن الوضع ده يتغير اتعودت بس هما لأ ... ياما بتعدي عليهم أيام بيكونوا فيها محتاجين لماما ولكلام منها يطمنها وفي كل مرة مش بيلاقوها وبضطر آخد مكانها..
رفعت كتفيها: أنا عارفة إن أنا مش كفاية ليهم ولا عمري هكون زي الأم، بس بحاول احسسهم إن في حد موجود لو احتاجوه..
نظرت لندى الصامتة واسترسلت: عمرك شوفتي حد من اخواتك بيفضفض لماما؟؟ عمرك شوفتي حد منهم جه ياخد رأيها في حاجة؟؟ من كتر ما شافوا عدم اهتمامها ليهم مبقوش يتكلموا في اي حاجة تخصهم! سننا ده سن مليان مغامرات واحداث بنحب نتكلم عنها، مليان مشاكل وبلاوي بيواجهوها دلوقتي لوحدهم..
عادت تبتسم بتهكم: ولا بابا، اللي مع أول موقف أو مشكلة تواجهنا ما بيصدق يفكرنا إن خلفته للبنات كانت أكبر مصيبة حلت عليه، يفضل يدينا حنية وحب وبمجرد ما يتكلم وقت عصبيته كأنه بيسرق مننا الحنية والحب دول..
نظرت لندى مرة أخرى وتابعت بقسوة ونبرة مهددة: عمري ما حسيت بحبه ولا حنتيه بسبب كلامه اللي بيرميه في عصبيته، الناس شايفة الحج توفيق الراجل الطيب اللي مربي بناته ومشبعهم حنان وميعرفوش كلام الراجل الطيب اللي يسم البدن، كلامه النهاردة كفيل ينسيني أي لحظة حلوة عشتها معاه..
التفت توليها ظهرها تغمض عينيها والدمع يفيفض منهما بينما الأخرى متخشبة في محلها كالتمثال، لا تصدق كل ما سمعته، لا تصدق أن شقيقتها تخبئ كل هذا بقلبها.
دقيقة مرت وهما على هذا الحال، لم تتحرك أي منهما تجاه الأخرى وكأن تلك المواجهة تسببت ببناء حائط كبيرة بينهما، فجوة كبيرة وضعت في المنتصف بين كليهما.
رفعت ندى عينها الحمراء تطلع لظهر جنى التي تهتز من البكاء، رغم كل ما قالته ورغم كل هذا الحديث إلا أنها لازالت تخفي الكثير، هذا واضح!
حاولت ندى كثيرًا أن تقترب منها ولكن كلما فعلت وتقدمت خطوة تعودها مرة أخرى للخلف وكأن شيئًا يجذبها لتقف ثابتة في مكانها.
تنهدت جنى وخرج منها عدة شهقات متتالية تعلن عن انتهائها من البكاء وهدوئها التام، مسحت وجهها بقوة ورسمت البرود مرة أخرى على وجهها قبل أن تلتفت لتدخل غرفة زوجة عمها "منة".
لا تصدق هي الأخرى أن كل هذا خرج منها، كان قلبها ممتلئًا بالكثير والكثير ورغم ما قالته منذ قليل إلا أنها لم تشعر بتلك الراحة التي ظنت أنها ستشعر بها ما إن تتحدث، ظنت أن قلبها سيستكين ولكنها لم تشعر ولو ببعض الراحة، وكأن همومها زادت همًا.!
دقيقتان تقريبًا وخرجت رفقة إبن عمها الكبير "طارق" الذي طلبت منه الذهاب معها لأحد الأماكن فوافق على الفور رغم جهله بماهية هذا المكان، وقفت أمام ندى التي لم تتمالك نفسها وجلست على المقعد المجاور للغرفة تنظر أرضًا بتيهة وحيرة.
- أنا قولت لبابا إنك عارفة أنا راحة فين، ياريت تفهميه زي ما قولتلك عشان أنا هخلي طارق يروحني بعد ما أرجع من القسم.
- القسم!!
ردد "طارق" من بعدها بتعجب وصدمة فتحركت دون أن تتفوه بكلمة إضافية وهو خلفها يلحق بها بسرعة: قسم ايه يا جنى، حصل حاجة ولا إيه؟؟
هبطت سلالم المشفى المؤدية للخارج وهي ترد عليه دون أن تتوقف عن السير: معلش يا طارق هفهمك في الطريق عـ...
بترت حديثها عندما استمعت لنداء سامر من الخلف فتوقفت وكذلك طارق، التفت تنظر له بإستغراب فتحدث متسائلًا وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة وبدى وكأنه ركض من الغرفة لهنا: راحة عشان حوار المكتب بتاعِك؟؟
اومأت فأومأ هو الآخر بالإيجاب وهو يخرج مفاتيح السيارة: خلاص اشطا أنا جاي معاكم.
رفع طارق حاجبيه وتوسعت عينه وهو ينظر له بدهشة: أنت عارف؟؟
إبتسم سامر وهو يضغط الزر في المفتاح بيديه فاصدرت السيارة صوتًا دلالة على فتحها، أجاب وهو يفتح الباب ويصعد: هفهمك في الطريق.
لحقت جنى بسامر وبقى طارق المسكين فوق السلمة ما قبل الأخيرة ينظر حوله بعدم فهم وحيرة وقد انطبق عليه ذلك المثل الشعبي (الأطرش في الزفة)، فأصدر سامر صوت من بوق السيارة جعله يسرع ليجلس في المقعد المجاور له بالأمام..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حالُها تلك اللحظات التي مرت عليها بعد تلقي تلك الرسائل تشبه حالَ الغريق الذي امتدت له يد العون أخيرًا بعد أن كان على وشك الموت ليخرج رأسه من الماء فتلتقط رئتيه الهواء بقوة حتى يظن أنه وأخيرًا نجى
ولكن..
عادت الأمواج من الخلف لتلتهمه وتعيده مرة أخرى للأعماق وكأنه تعذبه بذلك الهواء الذي تنفسه، هكذا كان حالها، كانت بسملة الغريق ومَجد هو يد العون وكانت الأمواج هي ذلك الفاسق عمر..
بعد أن ظنت أنها نجت من موضوع عمر وأن مجد سيستر عليها ولن يخبر والدها جاءت تلك الصور لتحطم ظنونها..
تطلعت بسنت لتلك الصور التي أرسلها الرقم المجهول لها وهي تشعر بإنحلال جسدها، حاولت الوقوف كثيرًا ولكن دون جدوى وكأن قدميها صارتا كالهلام.
امتلئت عيناها بالدموع وهي لا تصدق ما فعله ذلك الذي كانت تظنه حبيبًا، مَن دللها ووعدها بالسعادة دائمًا وفي كل الأوقات، مَن وعدها بعدم التخلي عنها ولو انطبقت السماء على الأرض.
أين الوعود وأين صدق حديثه؟؟
نظرت للصورة الأولى حيث كان يجلس عمر ذاك وهي تجلس فوق قدميه تحيطه ورأسها على صدره، الثانية كانت أيضًا مصطنعة وقد كانا يتشابكان أصابع الايد معًا.
كانت جميعها صور مفبركة صنعها هاوٍ لهذا المجال ولتلك الأمور لا أكثر، فلو رأى طفل تلك الصور لعرف فورًا انها ليست سوى مجرد قص ولصق!
ولكن في حالتها لم ترى هذا، فقط رأت والدها وهو ينهال عليها ضربًا موبخًا إياها بينما يتوعد لها، ورغم أنه لم يسبق وضرب توفيق أيًا من بناته ولكن عند هذا الأمر وسيخرج بالتأكيد عن طور هدوئه!
أخيرًا استطاعت الوقوف، بأيد مرتعشة وجسد لم يختلف حاله كثيرًا التطقت هاتفها وهي تعلم أنه وحده مَن سينقذها من ذلك المأزق.
كان مجد قد خرج رفقة البقية من غرفة زوجة عمه ليتفقوا على ما سيفعلونه بشأنها وعندما أنار هاتفه بإسمها ابتعد عنهما ليجيب بإستغراب: ألو!
جاءه صوتها المختنق والناتج عن بكائها المكتوم: مَـ ... مَجد...
وانفجرت في البكاء دون أن يرد حتى، انتفض قلبه وجزع بسبب بكائها الذي لا يعلم سببه، ابتعد أكثر وهو يتحدث بقلق وخوف: في ايه يا بسملة! بتعيطي كده ليه؟!!
ارتفع صوتها دون أن تدري، ولم تجب سوى بثلاث كلمات لم ترح قلبه ولو بقدر صغير: الحقني يا مَجد..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبالشرفة تجلس بسنت ونرمين، كان الصمت يحوم بالمكان ويملئه، لا يسمع سوى صوت صراصير الحقل بالشارع وصوت أنفاسهما المنتظمة..
- أنا عارفة إنك مش طيقاني..
توسعت عيني بسنت لحديثها المُفاجئ والتفت تنظر لها تجيبها بسرعة وهي تتمنى ألا تظن بها هذا: ليه يا نرمين بتقولي كده؟! أنتِ زيك زي اخواتي بالظبط.
ابتسمت نرمين بسخرية وتابعت دون أن تنظر لها: كلكم مش طايقني مش بس أنتِ، على طول كنت في جنب لوحدي ودلوقتي بقيت منبوذة أنا وامي..
لم تعرف بسنت بماذا تجيبها خصوصا عندما ذكرت والدتها، لن تنكر نرمين أنها لم تعد تطيق زوجة عمها منة أو حتى تطيق ذكراها لكن تلك الماكثة أمامها لا ذنب لها بما فعلته والدتها.
تنهدت نرمين تجيبها: على طول كنا كلنا بنحاول ندخلك دايرتنا، أنا واخواتي وولاد عمنا حامد مفيش حد فينا محاولش، دايمًا كنا بنجيلك إحنا الأول ومفيش مرة تجمعنا فيها إلا وحاولنا نخليكِ تنضمي لينا وفي كل مرة كنتِ بترفضي!
ربتت بسنت بلطف على كتفها وتابعت بصدق: عمرِك ما هتكوني منبوذة، أنتِ بنت عمنا واختنا واللي عملته طنط أنتِ ملكيش دعوة بيه، هنتجمع تاني وهنجيلك نتحايل عليكِ تيجي معانا وهترفضي وهنفضل نزن عليكِ...
ابتسمت بمرح وهي تختم: مش هنحل عنك غير وأنتِ معانا.
ابتسمت نرمين وهبطت دموعها بصمت لثواني قبل أن تتحدث بصوت متحشرج وبكاء: بابا اتجوز على ماما برة يا بسنت.
نظرت لها وتابعت وشفتيها ترتجف: مرجعش من السفر الست سنين اللي فاته عشان متجوز عليها..
•تابع الفصل التالي "رواية بيت البنات" اضغط على اسم الرواية