رواية هجران رحيل الفصل السابع عشر 17 - بقلم شامة الشعراوي
فارقنا قارب تقاذفنته أمواج البحر، وسيظل تائهاً فى غياهب بحر الغربة حتى يعود لمرساه،،
فى وسط مزراعة بسيطة كان يرسل بصره حول قطيع الغنم الذى يرعاه فى اطمئنان، وبين الأرانب التى ترتع وتمرح راقصة على العُشب الأخضر، فهكذا حاله منذ تركه للبيت من عدة أسابيع، جاء العجوز صاحب الشعر الأبيض الذى التقى بيه مجدداً فوق الجبل، وكان يرتدى جلباباً بنياً، قال متسائلاً:
-كيف حالك اليوم يابني؟.
أجابه دون أن ينظر إليه فقال باسماً:
-الحمدلله افضل من الأول.
-أدام الله حمدك، لكن أخبرني هل أعجبتك مزرعتي؟.
تحدث “مراد” بنفس منشرحة:
-طبعاً عجبتني ياعم أيوب ماشاءالله ربنا يزيدك ويباركلك فى رزقك، ثم أضاف بامتنان:
-شكرآ ليك على كرمك الكبير ووقفتك معايا وأيوائك ليا فى بيتك.
-متقولش كدا أنت زي ابني.
-تعرف ياعم أيوب أول مرة شوفتك فيها على الجبل كلامك أثر فيا اوى وغير من نفسي حاجات كتير، وخلاني على يقين أن فرج ربي قريب مهما تعظمات الهموم.
أردف العم “أيوب” وعلى معالم وجهه البهجة فقال:
-مهما واجهت من صعوبات تكاد تهد كيانك تذكر أن قوة الله تغلب كل صعب وتجعله هين وسهل، فوالله معك فكل مراحل حياتك فاطمئن وثق برحمته، وقل ياحى ياقيوم برحمتك أستغيث.
ردد “مراد” قوله، ثم قال بشوق:
-ولادي وحشوني ونفسي أخدهم فى حضني.
-وايه اللى منعك من أنك تشوفهم.
ظهرت عليه أمارت الحزن والحسرة فقال بألم:
-خايف لتشوفني فتتوجع تانى وأنا مش حابب اسبب ليها أى ألم كفاية اللى شافته مني.
أردف العجوز ذو الوجه البشوش فقال بحكمة:
-وليه ماتحولش تراضيها وتصلح الخطأ اللى ارتكبته فى حقها.
تنفس بعمق ثم قال بنبرة متأثرة حزينة:
-مش عارف حاسس بعجز أصل اللى عملته مكنش سهل، أنا ظلمتها واللى عملته سايب ذكرى سيئة عمرها ماهتتمحى.
-ابنى بدالها ذكرى جميلة تنسيكم حزن الماضى وتعيشكم سعادة المستقبل، حاول يابني ولا تيأس، صمت لوهلة ثم أضاف قائلاً:
-تعرف أن الإنسان محتاج لثلاث أشياء حتى يشعر بالسعادة.
علت علامات الاستفهام على وجه “مراد” ثم قال بتسأل:
-وايه هما ؟.
تبسم العجوز وهو يقول:
-أول شئ أنه يكون متسامح مع الحياة ومؤمن بالاقدار السماوية، وثاني شئ يحصل على ما يتمناه إن كان خيراً، وثالث شئ أنه يعيش بجوار من يحب، ساعتها ستحصل على السعادة الحقيقية.
-واللى مايقدرش يحصل على الثلاثة دول يعمل اي؟.
-لايوجد إنسان على وجه الأرض ليس لديه قدرة على تحصيل هؤلاء الأشياء، بل بداخلنا قوة هائلة على تحقيق مانريد، علشان كدا لازم يكون عندك عزيمة وأرادة فى تحقيق ما تتمنى.
ساروا معاً وسط الأرض الزراعية ثم جلسوا على صخرة عالية، فنظر إليه “مراد” مطولاً ثم ألقى عليه سؤاله:
– نفسي أعرف أنت ازاى مسالم بالشكل ده وواخد الأمور ببساطة؟.
استدار إليه بوجهه الذى يملئه التجاعيد التى تشكو قسوة الزمن والظروف عليه، فكل خط من خطوط الزمن على وجهه تحكى قصة عقبة عصيبة مر بها، فقال باسماً:
– لأني أؤمن بوجود الخير فى أى موقف حتى فى المواقف السيئة، لأن على يقين بأن ما يحدث من شر جاء ليحميني من أمور أشد سوءاً وشراً، وأيضاً على يقين بأن الله ما منع مني شئ أحبه إلا ليعطيني ما هو أفضل وخيراً لي.
نكس رأسه حزناً فحبس تلك الدمعة التى وددت أن تلقى بنفسها خارج عيناه، فربت العم “أيوب” على يده، ثم قال بنبرة رافقة ودودة:
-هون على نفسك ولا تنسى بأن لديه حق عليك، وأعلم أن الله سيُرضيك ولكن ليس بالذى تستحقه بل بالذى يراه مناسباً لك.
عمت البهجة والسعادة فى بيت عائلة الألفى، فاليوم زفاف المشاغب “مازن”، فقد تزينت جدران البيت بالورود البيضاء والأنوار المُبهجة.
قفز “مازن” على الفراش مُبتهجاً ثم صاح بسعادة نابعة من قلبهُ:
-وخلاص هتجوز وهبطل ابص ع البنات ااااااااه.
ضحك “هشام” بصوتٍ عالٍ ثم قال بنبرة مارحة:
– بس بس، يأخي تباً لك ولصوتك.
أكمل “مازن” غناءه بنبرة فارحة ويكاد قلبه يقفز من بين أضلعه من فرط سعادته:
-النهاردة فرحي ياجدعان، عايز كله يبقى تمام، لاقيتها ماشية مشيت وراها قلت لازم اعيش معاها.
ثم أشار باصبعه باتجاه شقيقه وهو يقول بمرح:
-عارفين قولتلها ايه؟.
تبسم فاه “أدهم” على هيئته ثم شاركه تلك اللحظة السعيدة وهو يقول باسماً:
-قولتلها ايه؟.
أردف الاخر وهو يرقص على أطراف الفراش:
-بعد إذن سيادتك أنا معجب بسعادتك ممكن أكلم طنط يمكن ربنا يهديني وأكمل نص ديني تراااتتتتتت، وهتجوز هتجوز.
كان “هشام” يحدق به بذهولٍ من هذة الحركات العجيبة الذى يفعلها الآخر، فضرب كف على كف وهو يقول مندهشاً:
-كنت بحسبك خلاص كبرت و عقلت لكن دلوقتى أتاكدت أنك لسه زي ماأنت أهبل.
رد عليه “مازن” وهو يقفز من على الفراش فقال بغرور:
-مش هرد عليك ياحقودى، تدرى ليش.
– ليش ياحنين؟.
-أصل عقبال عندك ياخويا أنا العريس.
أردف “أدهم” بنبرة لعوبة:
– اتدبست ياواد يامازن واللى كان كان وبكرا تقول الله يرحم أيام زمان.
نظر إليه “مازن” وهو يقول مازحاً:
– عارف أنكم عاوزين تبوظه الجوازة وأنا مش هخليكم تنولوا الشرف ده ياكلاب.
ثم أشار باتجاه “هشام” وهو يقول مبتسماً:
-وخصوصاً الواد العانس اللى هناك ده.
افترّ فاه “هشام” بذهولٍ ليقول منصدماً:
-بقى أنا عانس!.
ضحك “مازن” بخفة وهو يحرك رأسه بالإيجاب ثم أكمل لهواً ولعباً حتى يغيظه:
-ورقصني عالطبلة ولا عنتر ولا عبلة، الله اكبر ده احنا اكتر من روميو وجوليييييييت.
صاح “حمزة” الذى كتم أُذنيه، فقال:
-ياربي ياربي، ياريت نخلص وتدخل تتزفت تلبس بدلتك بدل ما أنت عمال تترقص ليا بالبرنس.
نظر إليه “مازن” ليكمل بإغاظة:
-ولاحسن ونعيمة ولا بتوع السيما، نفسي اخدها وأشد ايدها ونروح على البيت، وهتجوز.
جذب عمهِ المنضدة ثم ألقاها عليه، و قال بضيقٍ:
-ماتخلص يازفت هنتاخر على الفرح والمعازيم.
-حاضر متزوقش الله.
وبعد لحظات خرج لهما “مازن” فنظر إليهما بوجه طلق مُشع بالفرح والسرور فقال مبتسماً:
– ايه رايكم انفع ابقى عريس.
أطلق “هشام” صوت تصفيع عالٍ ثم قال مازحاً:
-اوعى يابا البدله هتأكل منك حته.
بينما “أدهم” قال مفتخراً بشقيقه:
-باشا طول عمرك يامازن ايه يابني الحلاوه دى.
ضحك “مازن” بخفة:
– جرا ايه مالك ياعسل أنت وهو هتحسدونى اسم الله عليا من عنيكوا.
أضاف “حمزة” باسماً:
– ياشيخ اتنيل دول بيجملوك مش أكتر قال هيحسدوك قال.
-تعرف ياعمى أنا مش هرد عليك، تدرى ليش.
-ليش ياقلب عمك!.
قفز “مازن” بفرح وقد افترّ ثغره عن ابتسامة عريضة، وقال:
-لان أنا العررررررررريس وندى العروووووسة.
ضحك أبيه على أفعاله المرحة ثم قال:
-ربنا ما يحرمك من الهبل يابني.
تحدث “هشام” بنبرة ضاحكة:
– حرفياً أنا منبهر بنظافة مازن.
-ليه ياسى “هشام” كان حد قالك أني معفن ولا اي.
قاطع حديثه شقيقه الذى جذبه من طرف الثوب وهو يدفعه على المقعد أمام المرآة، ثم قال:
-طب ايه مش هتتنيل تعدل شعرك بدل ماتروح لعروستك منكوش كدا.
نظر إليه “مازن” وهو يقول :
-بص أنا عايز قصة شعر تبهر البت ندى.
-طب اتهد أنت بس وثبت رأسك وأنا هبهركم كلكم.
-ياخوفي يافواز ياخويا لنصدم كلنا.
بينما عند العروسة التى يسودها الإيناس والسرور، برقت عين “رحيل” بومضات البهجة والفرح، فأخذت تنثر الورد الجوري على صديقتها بكل حب وهى تغني بنبرة رقيقة:
-اليوم مافى مثلك اتنين زفافك عندي فرحتين ياحبيبة القلب ويازينة البيت، ياأغلى من الرمش والعين.
شاركت “نور” فى الغناء فأخذت تردد بسعادة:
-انشروا أغلى الروائح وانثروا ماء الزهر، وافرشوا فى دربها أحلى الزهور، أقبلت من صوبكم عروسة بدر البدور.
أكملت “رحيل” وهى تُزغرد بروح محلقة فى أجواء السعادة:
-عروستنا مثل القمر ياأرق من الزهر وياأغلى الناس والبشر.
أقبلت إليهن فقامت بضمهما إلى صدرها لتعبر عن مدى سعادتها بوجودهما بجانبها، وقد تهلّلت أساريرها والتمعت عيناها سروراً.
بعدما رقصوا معاً الرقصة الأولى، أردف “مازن” بمشاعر تفيض فرحاً وحيوية:
-مش كنا روحنا أحسن ياقمر أنتى، الواحد مش عارف يتستفرد بيكى هنا.
-ما تتلم يامازن أنا عايزة افرح فى أى.
تبسم فاه بخفة وهو يقول غامزاً:
-ما هناك كنت هخليك تفرحى أكتر يابت كنت هبسطك وهدلعك صدقينى.
اصتبغ خدها بالاحمرار فقالت بحياء:
– تعرف أنك ماتربتش.
-ولا شوفت ريحة التربية حتى ياختى.
صمت حين رأى “هشام” يمر من امامهُ وهو يحمل بين يده طبق مليئ بالطعام، فناداه هامساً:
-هشام واد ياهشام هات الطبق اللى معاك ده أنا جعان.
حدقت به “ندى” مندهشة فقالت:
-الله يخربيتك اسكت الناس هتسمعك.
أردف الاخر مبالياً فقال:
-أنا جعاااان ياجدعان، ثم ناداهُ مجدداً:
-هشومة ياهشومة أنا جعان يازفت.
وضعت كلتا يديها على فمه لتجعله يصمت قليلاً فهى تشعر بالحرج من حديثه، فقالت بضيقٍ:
-حرام عليك فضحتني المعازيم يقولوا علينا ايه دلوقتى.
وقف “هشام” مقابله وهو يخرج لسانه بإغاظة فقال ساخراً:
-بصوا شوفوا مزاميزو حالته بقت تقطع القلب وتصعب على الكلب.
صاح “مازن” منزعجاً:
-بقى كدا وربنا ماهحلك بس أخلص أم الفرح ده وبعدها هوريك.
فقام الآخر بوضع قطعة لحم فى فمه ليتذوقها بمزاجٍ عالٍ حتى يكيد العريس، ليقول بنبرة مازحة:
-الله على شريحة اللحمة الباردة تحفة، تاخد حته ياميزو.
نظر إليه “مازن” بغضبٍ وضيقٍ وهو يسبه فى سره، مما جعل الآخر يُقهقه بقوة، ثم غادر من أمامه حتى لايثير أعصابه اكثر من ذلك.
على الجهة الأخرى دن “حمزة” من زوجته التى يكسوها معالم الحزن، فقال بنبرة ودودة:
-مالك ياحنون زعلانه ليه؟.
التمعت عيناها بالدمع فقالت بنبرة متحشرجة:
-ابني وحشني ياحمزة بقاله مدة غايب عني ومعرفش عنه حاجه.
ربت على يدها ثم قال بلطف:
-متخافيش عليه ياحبيبتي.
نظرت حولها وهى تقول بحزن:
-العيلة كلها متجمعة ومبسوطة ومحدش فارق معاه وجوده، عارفة أنه غلط فى حقهم، ولكن ليه محدش سامحوا على اللى عمله، ماهما كمان أذوها وفى الاخر سامحتهم ورجعت ليهم، ولكن ابني بقى منبوذ وسطهما وكأنه الوحيد اللى أذنب.
-بس ذنبه كان أكبر من ذنبهم ياحنان، الأذى اللى عمله كان جسدي ونفسي، ابنك دمر البنت ولمس حاجه مش من حقه.
فرت الدموع من عيناها ثم قالت بألم:
-أنا قلبي موجوع ومش عارفة إذا كان عايش ولا ميت.
عانقها زوجها وهى يشعر بالحزن وقلة الحيلة، فليس بيده شيئاً ليفعله، انسحبت “رحيل” الواقفة خلفهما بهدوءٍ بعدما سمعت حديثهما، فخرجت من القاعة لتقف بجانب بعيد لتسترد أنفاسها، فقد راودها الحزن مجدداً فأخذ عقلها يُفكر فيه دون أرادة منها، فنبض قلبها خوفاً وقلقاً من أن يكون اصابه شئ، فمُنذ شهر أو أكثر لم تقابله ولو فى مرة صدفة، حتى أنه لم يُسأل عن ابنائه، تسألت بداخلها هل من الممكن أن يكون تخلى عنهما، أم أنه لم يريد رؤيتها؟، أخرجت تلك الأفكار من رأسها ولكن ساورها القلق عليه، تعجبت من نفسها فقالت:
-ليه بتفكري فيه دلوقتى مايموت ولا يولع أنتى نسيتي أنه كان السبب فى عذابك.
ولكن لقلبها قولاً أخر فهو بدء ينبض بقوة مجدداً، فضربت عليه بيدها وهى تقل بيأس:
– بطل لأن اللى أنت عاوزه مش هيحصل، و لو اضطريت اشيلك من جوايا مش هتردد لثانية واحدة، أنا مش حمل وجع تانى.
كانت تٌحدث نفسها وهى غافلة عن تلك الأعين التى تراقبها فى صمت، لاحت “رحيل” بأن هناك شئ غير طبيعي بتلك الجهة المتواجد بها، فلما علم بذلك اختبئ جيداً خلف الأعمدة، كادت تتجه نحوه لترى ماذا يوجد، ولكن جذبتها يد شقيقها الذى قال بتسأل:
-واقفة لوحدك هنا ليه؟.
أردفت بحيرة قائلاً:
-ازعجني صوت الأغاني فقولت أبعد شوية.
تبسم بحنية ثم قال بلطف:
-طب تعالى ندخل لأن جدك بيسأل عنك.
سارت معه وهى تلتفت من حين لأخر خلفها، لحظات وتوارت عن أنظاره، فقال هامساً:
-ثلج قلبي يذوب حين ألقاك ياساكنا فؤادي ولست أنساك.
بعد عدة ساعات كان ينتظرها على أحر من الجمر، فقد كافح كثيراً فى تلك السنوات حتى يجتمع بها فى بيتٍ واحد، والآن جاءت اللحظة الحاسمة حين رأى طيفها يطل من غرفتها، ولكنه بُهت عندما طالعها من مقدمة رأسها إلى أخمص قدميها، فوجدها ترتدى سروالاً وقميصاً مصتبغ بالرسومات الكرتونية، وقد مشطت شعرها إلى جدائر صغيرة، فهذا الثوب لم يناسب هذة اللحظة بتاتاً، فشعر بجفاف فى حلقه من هيئتها التى أحبطته، فأشار عليها بأصبعه وهو يقل منصدماً:
-ايه اللى أنتى لبساه ده!.
تبسمت بخجل وهى تجيبه برقة بالغة:
– دى بيجامة هكونا مطاطة.
قطب مابين حاجبيه فقال مندهشاً:
-بي أي هو أنا متجوز بنت اختى ياندى، وايه الضفاير اللى عملها فى شعرك دى، ثم أضاف متفحصاً حين أمسك الجدائر:
– ومالها شكلها غريب كدا ليه؟.
أردفت “ندى” بدلالٍ، فقالت بلهجة مبتهجة:
– جرا ايه ياميزو دا أنا قولت اعمل حاجه مختلفه تغريك.
جذبها من ثوبها بلطف وهو يشعر بضيقٍ لقد أوشكت تلك الفتاة ان تذهب بعقله، فقال عابساً:
-بذمة أهلك أى الإغراء فى الضفاير، ثم أضاف حين مسح على وجهه بنفاذ صبر:
– ادخلى ياندى الله يهديكى ادخلى غيرى الزفت ده.
وضعت كلتا يدها على خصرها ثم قالت نافية :
-لا عاجبنى شكلى كدا وبعدين أنا جعانه ياميزو ممكن نأكل الأول لأن هموت من الجوع وبعدها نشوف حكاية اللبس.
ابتعد عنها ليتجه إلى المطبخ وهو يقول بضجر:
-لا مفيش ليكى أنتى بالذات أكل، وهأكل لوحدى لقمة تواسيني فى محنتي لأن خلاص نفسى اتسدت على دي جوازة، دا أنا حتى صارف ومكلف يارب يقوم يحصل فيا أنا كدا.
أنتظرت لحظات حتى يخرج ولكن لازال بالداخل، فولجت إليه فوجدته جالسٌ فوق طاولة الطعام يلتهم ما يقابله من أصناف شهية، فقالت مندهشة:
– بقى أنا مستنياك تجيب الأكل وتيجي، اتاريك قاعد بتأكل من غيري.
أنهت حديثها وهى تجذب الصينية المحملة بالطعام من أمامه، لتهرول بها إلى الخارج، فنهض “مازن” سريعاً ليتبعها وهو يصيح قائلاً:
-أنتى ياصاحبة الضفاير هاتى الأكل بتاعى.
قامت بأغلاق باب غرفتها بالاقفال ثم صاحت بصوت عالٍ:
-ابقى خلى أمك تعملك غيره ياحيلتها.
دفع الباب بيده لكنه لم يُفتح، فقال منزعجاً:
– افتحى الباب بدل ما اكسره عليكى اخلصى أنا جعان إلهى تتشكى ياندى.
اتاهُ صوتها من الداخل لتعلن عن الرفض قطعاً، فأردف بنبرة ممتزجة بمكرٍ حتى يساورها، فقال:
-طب بصى أخرجى و خلينا نأكل مع بعض، دا أنا حتى مازن جوزك.
– أنت كداب وبتضحك عليا وغدار ومالكش امان.
ضحك بخفه على وصفها فقال بنبرة لينة:
-يخربيتك عقلك بقى أنا كل ده، طب ماشى ياستى اطلعى من الاوضة ومتخافيش مش هعمل حاجه يلا بقى ياندوش.
فتحت الباب برفق ثم أخرجت رأسها أولاً وهى تقول محذرة:
– أوعى تغدر بيا.
-متقلقيش.
فلما خرجت ووضعت الطعام على الطاولة، قام بجذبها من الجدائر وهو يقول بمشاكسة:
-تعالى بقى دا أنا ساكتلك من الصبح من ساعة ما لبستى بيجامة بنت أختى وأنا مش راضى اتكلم، لكن توصل لموضوع الأكل لا واستوب عندك، ولازم تتجازى على عملتك السوده يابنت بديعة الهبلة.
فقام بغرس أسنانه بذراعيها ليقتص منها حقه، فصرخت “ندى” بأعلى صوتها، ابتعد عنها فجاءةً وهو يضع يده على فمها ليكتم صراخها، فقال مهدئاً:
-بس بس اسكتى الله يخربيتك الجيران هتسمع صوتك وهيقوله بيعمل ايه فيها.
لم تجيبه وظلّ صراخها مستمر، فقال هو:
-يانهار اسود يخربيت اللى يزعلك ياشيخه اتهدى بقى وافصلى.
نظرت إليه “ندى” نظرة معاتبة، فدن منها ليقبل يدها برفق ثم قال معتذراً:
– حقك عليا آسف مش هكررها ميبقاش قلبك أسود بقى ياندوش.
اشاحت بنظرها بعيداً عنه لتنظر بأتجاه آخر، بينما هو لمس خدها برفق وقال بنبرة دافئة محبة:
-خذى من قلبي كل الحنان يامن أشعر بقربه بالأمان.
تبسم ثغرها عن ابتسامة عذبة، فسمعته يُضيف بعض الكلمات الودودة حتى ترضى عنه، فقبل راحت يدها ثم قال باسماً:
-نهر حبك غسل كل بساتيني وأزهرت أشجاري وكثرت رياحيني.
ارتسمت علامات الفرح على محياها فبادلته تلك النظرة المليئة بالحب والرحمة.♥️♥️
•تابع الفصل التالي "رواية هجران رحيل" اضغط على اسم الرواية