Ads by Google X

رواية لا يليق بك إلا العشق الفصل الرابع و الثلاثون 34 - بقلم سماح نجيب

الصفحة الرئيسية

 

 رواية لا يليق بك إلا العشق الفصل الرابع و الثلاثون 34 - بقلم سماح نجيب 

٣٤– ” رجل من فولاذ ”
بأتيانها على ذكر إسم زوجها ، جعلها تعى بأى وضع هى الآن ، فمن المؤكد أن ما تراه أمام عيناها مهزلة أخلاقية ، ولا يمكن تصنيف ما تراه ، سوى أن تلك المرأة المتواجدة مع زوجها بالغرفة حالياً ، ماهى إلا غانية وعاهرة ، فهى عملت على نزع ثوب الحياء الذى يجب أن تتزين به كل فتاة وإمرأة ، وصارت متبجحة بإغواء عمران، بأن مهدت له الطريق، لأن يفعل ما يريده
ضج عقلها بالكثير من الأسئلة ، عن ماذا سيفعل عمران الآن وهو يراها أمامه هكذا ، راغبة وغير متمنعة عن وصاله مثلها ؟ فهى من حرمت عليه حتى الإقتراب منها ولمسها ، على الرغم من أنها زوجته ، وكانت ستكون هى الأحق بأن يغمرها بحنانه
فهمست بقرارة نفسها متسائلة :
– هتعمل إيه يا عمران دلوقتى ؟
وكأن همسها وصل إليه ، فألتفت لتلك الكاميرا المتوارية عن الأنظار ، والتى يعلم أنها تنقل كل ما يحدث بالغرفة ، وأن ميس لابد من أنها تشاهد كل ما يجرى بينه وبين ليالى ، فظل محدقاً بالكاميرا ، كأن عيناه تبعث لها برسالة بليغة ، من أنه لا تنقصه القدرة على أن يجعل أى إمرأة ترغبه ، وأنه كيف سيكون حالها ؟ إذا إنصاع لإغواء ليالى ، التى لم تعد تمانع بأن تتوطد علاقتهما بشئ كالذى تريده من وصال رجل وإمرأة
إستدار برأسه لليالى ، التى تعجبت من أفعاله الغير مفهومة ، وظل يقترب من الفراش بخطوات حثيثة تشبه خطوات فهد يتربص بفريسته
– إياك تعملها يا عمران مش هرحمك
غمغمت بها بغيظ وأنفاس تعلو معلنة عن أن الجحيم بإنتظاره ، فدقات قلبها التى كانت تدق برتابة ، صارت تخفق بجنون ، وربما سمعها خالها وغزل ، فهى مازالت على وضعها المنحنى قريباً منهما ، فلم يتبقى سوى خطوة أو أثنتين ، ويحدث ما كانت تخشاه ، فلو تجرأ عمران على لمس تلك المرأة ، فهى ستعود مع خالها لمنزل جدها ، فالإتفاق الذى عقده عمران معهم ، بأنه سيحاول إستدراج ليالى بالحديث دون الخوض بأى أمر أخر
عادت تحملق بالشاشة مرة أخرى ، فوجدته ينحنى قريباً من ليالى ، حتى كادت أن تختلط أنفاسهما سوياً ، وليالى مطوقة عنقه بدلال ، فربما ستضربها الصاعقة الآن ، ويحدث ما كانت تخشاه ، ولكن لم يفعل عمران شيئاً ، سوى أنه جذب غطاء الفراش وألقاه على جسد ليالى
فتنفست براحة وتبسم ثغرها وهى تسمعه يقول بهدوء مدروس :
– إيه اللى بتعمليه ده يا ليالى ، أسترى نفسك ، هو أنتى مفكرانى عايز منك إيه مش أنا الراجل ده ، ليه بترخصى نفسك بالشكل ده
سحبت ليالى الغطاء حتى عنقها ، فاللمرة الأولى تشعر برخص أفعالها ، فدائماً ما يريد منها الرجال علاقة عابرة ، وربما تتقاضى عليها أجراً ، فالأمر لديها سيان ، سواء فعلت ذلك برضاها أم من أجل الحصول على المال
فأسدلت ليالى جفنيها ، وهى تهمس بخجل لم تكن تعلم أنها مازالت تملك منه شيئاً :
– يعنى أنت مش عايز كده ، أنت أول راجل أقابله وألاقيه يقولى كده
جلس على طرف الفراش مقابلاً لها ، دون المحاولة منه أن ينظر إليها ، ولكن إستطاع القول بصدق :
– على الرغم من أن عشت معظم حياتى فى بلد أجنبى وكانت كل المغريات قدامى إلا أن أنا ما حاولتش أكون راجل نسونجى زى ما بيقولوا ، ومش معنى أن جبتك هنا يبقى خلاص هتنتهى قعدتنا مع بعض إن إحنا الاتنين نقع فى المحظور اللى نهايته أكيد مش كويسة
تسمتع إليه وهى عاقدة حاجبيها ، لا تفقه شئ مما يقوله ، سوى أنه لا يريد الإقتراب منها ، فإن كان هذا تفكيره ومعتقده ، فلما أتى بها لهنا ؟ وماذا يريد منها ؟
بعد أن سأمت من طرح الأسئلة على عقلها ، عادت تنظر إليه بتمعن ، فهل من الممكن أن يكون حقاً رجل يختلف عن البقية من الرجال ، الذين حفلت حياتها بهم
فمدت يدها وتلمست ظاهر يده اليمنى ، فرفع كفه الأخر مربتاً على يدها بشئ من الحنان ، جعلها ترتجف أثر لمساته الحانية ، فدائماً ما تتلقى القسوة والعنف من الأخرين ، بل لم يكتفى بهذا بل شخص ببصره إليها متبسماً
أطلق عمران نهدة عميقة مستطرداً:
– قومى ألبسى هدومك يا ليالى ومتحاوليش ترخصى نفسك علشان حد وأعرفى أن ربنا خلقك غالية وكان لازم تحافظى على غلاوتك مش تفرطى فيها لأى حد وتفضلى حياتك كده لحد ما تنتهى زى اللعبة اللى بتتنقل من إيد لإيد لحد ما يبقاش ليها لازمة ولا تمن وفى الآخر هتترمى ومحدش هيبقى عايزها ، أكيد أنتى مش حابة حياتك كده ، أنا ممكن أساعدك تعيشى حياة كريمة ، من غير ما تحاولى ترخصى نفسك
فلما أتخذ دور الواعظ وهو من آتى بها إلى هنا من أجل هدف معين ؟
سؤال سأله لنفسه ، ولم يكن له إجابة غير أنه لم يتحمل رؤية فتاة تحاول عرض نفسها كبضاعة رخيصة ، فهو من حرص على رعاية غزل ، وهو من يمتلك زوجة ببيته الآن
ترك الفراش وأقترب من ذاك المقعد الملقى عليه ثوبها ، أخذه وناوله إياها وأولاها ظهره ، ريثما تنتهى هى من إرتداءه ، ففضل الخروج إلى الشرفة ، ظل يزفر من فمه بقوة ، فالمغريات لم تكن سهلة ، وهو من رغب ود زوجته وضنت به عليه ، فهو أولاً وأخيراً رجلاً مخلوق من دم ولحم وليس من فولاذ
فبعد إنتهاءها نادته فخرج إليها ،وجدها تجلس على طرف الفراش تحنى رأسها وهى تقول بصوت منخفض :
– أنا عايزة أعرف أنت مين وعايز إيه بالظبط وليه قولتلى كلامك ده ، وليه بتحاول تقلب عليا المواجع وتقهرنى على حياتى
أقترب منها ووضع يديه بجيبى بنطاله دون محاولة منه أن يلمسها ، ولكنه أكتفى بالقول بهدوء :
– أنتى يا ليالى أكيد ضحية مجتمع لأن مفيش واحدة بكامل وعيها وعقلها وهتعمل كده ، جايز أنتى طلعتى لقيتى حياتك بالشكل ده فكملتى ومحاولتيش تغيرى نفسك ، بالرغم من أن أكيد الفرصة قدامك بس ممكن تكونى أنتى مش حابة تشوفيها
رفعت رأسها إليه وتفرست بوجهه ملياً ، فهل يكون هو فرصتها للخلاص من تلك البؤرة الفاسدة التي تحيا بها ، فأنفرجت شفتيها وقالت بأمل :
– وأنت هتكون فرصتى
إبتسم عمران وهو يحرك رأسه قائلاً بالإيجاب :
– أنا مستعد أوفرلك عمل كويس تعيشى منه وكمان مكان تعيشى فيه وتنسى حياتك القديمة خالص وتبدأى من جديد يا ليالى إيه رأيك
نهضت من مكانها ووقفت أمامه معلنة عن موافقتها التامة:
– وأنا موافقة على كل اللى قولته ، أنا مفيش حد حاول يعمل معايا كده ، لاء كله كان عايز يستفيد منى وخلاص
دمعت عيناها وسرعان ما انفجرت باكية وهى ترى حياتها تمر أمامها كشريط الفيلم السينمائى من بداية نشأتها بدار رعاية ، لمرورها بأول حالة إعتداء من أحد الرجال العاملين بالدار ، لخروجها للعالم وبدأ حياة المفاسد واللهو ، من أجل الحصول على المال
أخرج إحدى يديه من جيبه ، وأخذ كوب من الماء وناوله إياها ، فأخذته وأرتشفته بالكامل ، وأعادته إليه ثانية ، مسحت دموعها بظاهر يدها وهى تحاول أن تبتسم ، فربما حقاً يكون هو فرصتها للخلاص
زفر عمران زفرة مطولة فنظر إليها قائلاً بما يشبه الإرهاق :
– ليالى أنا جبتك هنا علشان كنت مضغوط شوية وعايز حد أفضفض معاه ، لأن عندى مشكلة ومش عارف أحلها
تطلعت إليه بإنتباه وتساءلت :
– ليه مالك فى إيه ومشكلة إيه دى
أولاها ظهره ونظر للكاميرا ، فهو يعلم بشأن أنها كانت تعمل لدى نصر وشقيقه نادر، فرجاله أخبروه بتاريخها كاملاً منذ خروجها من دار الرعاية ، حتى ذلك اليوم الذى قابلها به ، لذلك كان شبه متيقناً من أن راسل وقع ضحية لتخطيطهما الدنئ
فقال عمران بكذب متقن:
– كان فى واحد مضايقنى فى شغلى هم الصراحة أتنين أخوات بيحاولوا يخسرونى فى شغلى وكمان كانوا عايزين يوقعونى فى مصيبة بسبب أن أشتريت الفندق ده قبل منهم وهم كانوا عايزين ياخدوه ودلوقتى بيحاولوا يخسرونى حتى هددونى بأنهم هيحاولوا يشوهوا سمعتى قدام الناس ، ولو ده حصل هخسر كتير أوى بسبب نصر السلمانى وأخوه نادر فلو عملوا اللى هددونى بيه هيدمروا مستقبلى
أجفلت ليالى من سماع إسم نصر ونادر ، فهى تعلم أنهما وغدان ، وأنه ربما يكون محقاً بشأنهما ، فهى بتلك المدة القصيرة التى عملت بها لديهما ، علمت عنهما الكثير بإستراقها السمع دون أن يراها أحد
وضعت يدها على كتفه لتجعله ينتبه عليها ، فقالت دون تردد :
– واللى يخيلك أنت اللى توديهم فى داهية
إستدار عمران إليها مدعياً الجهل وعدم الفهم :
– إزاى يعنى وأنتى تعرفيهم منين ؟ أوعى تكونى بتفكرى أن أستخدمك علشان توقعى حد فيهم ، مش أنا اللى ألعب مع حد بالطريقة الرخيصة دى أو أن أستخدمك يا ليالى لمصلحتى ده مش هيحصل
تبسمت له ليالى وتألقت عيناها ببريق الإعجاب الخطر ، الذى إذا أنذر بشئ ، سينذر بأنها ربما ستقع بحبائله وهى راضية
فأذدردت لعابها قائلة بصوت خفيض :
– أنا كنت بشتغل عند نصر السلمانى وأعرف أخوه نادر وكمان هم خلونى أوقع دكتور إسمه راسل فى مشكلة بسبب فيديو ومش بس كده أنا معايا تسجيلات ليهم بخططهم وكمان خطتهم بقتل واحد وورطوا فيه الدكتور راسل ، أنا معايا كل التسجيلات دى كنت مأمنة نفسى بيهم علشان لو حد منهم كان غدر بيا كنت هفضحهم وكمان فى نسخة من الفيديوهات كنت بعتها لواحدة صاحبتى وفهمتها لو جرالى حاجة تودى الفيديوهات دى للبوليس وتوديهم فى داهية
بعد أن قالت ما لديها نظرت لعمران مستطردة :
– خد أنت التسجيلات دى وهددهم وخليهم هم اللى يخافوا منك
اقتربت من حقيبتها وأخرجت هاتفها وناولته له ، فأخذه عمران من يدها بعد أن عملت على فتحه بإستخدام الرمز السري ، فشاهد عدة مقاطع فيديو لنادر ونصر وتخطيطهما للإيقاع براسل
فإبتسم عمران بإتساع وحدق بوجهها قائلاً بسعادة غامرة:
– بجد يا ليالى مش عارف أشكرك إزاى وصدقينى أنا لسه عند وعدى بأن هساعدك تشتغلى وتعيشى حياة شريفة وهتكونى فى حمايتى ومحدش هيقدر يعمل فيكى حاجة
أندفعت إليه وأحتضنته ، فأرتبك عمران لفعلتها ، فحاول أن يفض ذلك العناق الحميمى من جانبها ، فيكفى ما رآته ميس إلى هذا الحد ، فربما هى تخطط لقتله تلك المرة بصورة فعلية ، فأبعدها عنه قليلاً ، وهو يحاول أن يبتسم ، فبعد أن أنتهت جلستهما بالغرفة ، أخذها معه وخرج من الفندق ، ولكنه لم يعيدها لتلك الشقة التى تقطنها ، بل ذهب بها لحى أخر تقع به بناية سكنية ضمن أملاك عائلته منذ سنوات ، والتى عمل على تجديدها بعد عودته للإسكندرية
_____________
كلما حاولت كفكفة عبراتها ، تعود وتنهمر بغزارة أكثر على خديها الأملسين ، تنكس رأسها أرضاً لعلها تخفيها ، فسرعان ما ترفعها ثانية لتراه ، فجلستها على تلك الأريكة ، كانت أشبه بجلسة من ينتظر تنفيذ حكم الموت به ، فقد حان موعد إقتراب وضع قلبها أسفل مقصلة الفراق
فضغطت بأصابعها على عينيها ، لعلها تخفف من إنسكاب دموعها ، ولكن هيهات ، فصوت شهقاتها بدأ يخرج من بين شفتيها كسجين نال حريته أخيراً
رأته منحنى الأكتاف على تلك الحقيبة التى يلملم بها ثيابه ، ليتأهب للرحيل ، ولكن لن يكون رحيلاً موقتاً ، بل فراق دائم بغير عودة
فحثت ساقيها الرخوتين على النهوض من مكانها ، فخطت عدة خطوات ، حتى باتت تقف خلفه لا يفصلها عنه سوى سنتيمترات قليلة
فصدح صوتها النائح وهى تقول من خلف ظهره :
– خلاص هتمشى وتسيبنى
إستقام بوقفته ولكنه لم يكلف نفسه عناء الإلتفات والنظر إليها ، فقال بجمود وصوت خالى من الدفء :
– أه همشى خلاص حكايتنا مع بعض أنتهت ، وهحاول أنسى كل حاجة ، زى ما أنتى هتحاولى تنسى
ليته يلتفت ويراها وهى تحرك رأسها سلباً ورفضاً على الشق الأخير من حديثه ، فهى لن تنسى ، ولن يصح لها النسيان بعد الآن
بتردد رفعت يدها وتلمست ظهره ، فوجدته ينكمش كأنه رافضاً لمساتها ، فأعادت يدها بجانبها ثانية ، ولكن ذلك لم يمنعها من أن تقول بنبرة حانية :
– بس أنا مش هقدر أنسى حاجة ولا هقدر أشيلك من قلبى وأنساك
– حاولى هتلاقى نفسك نسيتى بسرعة
قالها وهو يضع يديه بجيب بنطاله ، فرأسه مرفوع بإعتداد وشموخ ، وجسده متصلب كالتمثال الحجرى ، فإن كانت تتمتع بذرة عقل واحدة ، لكانت كفت عن إستعطافه بهمساتها الرقيقة
ولكن كانت طامتها الكبرى ، بإندفاعها إليه وتطويقها خصره بذراعيها الناعمتين ، ووضعها رأسها على ظهره ، وهى تبكى بقهرٍ
فتصاعدت يديها من خصره حتى وصلت لصدره ، فبدون وعى منها غرزت أظافرها بموضع قلبه وهى تقول بغيظ مُزج بدموعها :
– ليه قلبك ده بطل يحبنى ويدق علشانى ليه ليه
حاول أن يبدى شجاعته بتحمل ذلك الألم ، الذى نشبته أظافرها بموضع قلبه ، فرد قائلاً ببرود:
– أنتى السبب ومتجيش دلوقتى تلومينى قولتهالك خلاص كل اللى كان بينا أنتهى
باتت تعلم أنه لن يتراجع عن قراره ، فعوضاً عن أن تزيد من شعوره بالألم ، مسدت على قلبه بحنان وهى تقول
برجاء :
– طب الليلة دى بس خلينا مع بعض وسيبهالى ذكرى قبل ما نفترق يا حبيبى ، أجل سفرك لبكرة مش لازم تسافر النهاردة
لم يكن يعلم أنها وصلت للحد ، الذى مكنها بأن طلبت منه الوصال علانية ، ولكن إذا وافقها سيزداد الأمر سوءاً وتعقيداً ، فهى لا تعلم حجم تلك القوة الهائلة ، التى يحاول بها ردع نفسه عنها ، أو رغبة قلبه بأن يجيبها على مطلبها ، فلو حدث هذا ربما سينعمان دقائق ولكن ستظل المرارة بالأخير ، فمن الأفضل أن يقطع جسور الأمل نهائياً
فأبتعد عن مرمى يديها وهو يقول بقسوة وجفاء :
– لاء يا هند ويلا علشان خلاص السواق بتاع باباكى زمانه جاى وأنا كمان متأخرش مش فاضل كتير على ميعاد القطر ، وزى ما قولتلك ، لما أستقر فى شغلى وحياتى هبعتلك ورقة الطلاق
رأت أنها أذلت نفسها كثيراً أمام ذاك المتعجرف ، فيكفى بعثرة لكرامتها لهذا الحد ، فإن كان لا يريدها ، فلتفهم هذا وتحاول الإنسحاب دون المزيد من إهدار كبرياءها
فأبتلعت تلك الغصة التى علقت بحلقها :
– ماشى يا كرم مع السلامة
أصبحا وجهها لوجه معاً وعم الصمت ، لم يكن يفصلهما سوى مسافة تقدر ببضع سنتيمترات ، ولكن كأن المحيط بينهما ، يشعر كل منهما ببعده عن الأخر ، فما كادت تفتح فمها لتودعه ثانية ، حتى وجدته مقبلاً عليها معانقاً إياها بقوة ، كادت تزهق أنفاسها ، فتعلقت بعنقه كغريقة ، ووهبته كامل رضاها بما يفعله ، أفلتت منها همهمات محمومة كمن أصيبت بالحمى فجأة ، تخبره بعشقها الذى لم تكن تعلم به ، إلا بعد أن وجدت الفراق حتمياً بينهما
فخرج صوتها ناعماً برجاء :
– أرجوك يا كرم متسافرش أنا بحبك والله بحبك ومحستش بالحب ده إلا لما جيت أعيش معاك هنا ، حتى لو عايز تسافر خدنى معاك
رنين جرس الباب ، أعاد له رشده ووعيه المسلوب نتاج ذلك العناق الحميمى ، الذى جمعهما منذ لحظة ، فأى شيطان وسوس له جعله يفعل ما فعله ، بل كان قاب قوسين أو أدنى من أن يمنحها موافقته على ما سبق وطلبته منه
فإنتفض مبتعداً عنها مدمدماً بكلمات غير مترابطة ، كمن لدغه عقرب سام :
– لاء ده غلط مينفعش اللى بيحصل ده لازم أبعد عنك لازم لازم
اتجه صوب الباب وفتحه وجد السائق يبتسم له بإحترام :
– أنا جيت يا أستاذ كرم علشان أوصل هند هانم البيت زى ما الهانم الكبيرة قالتلى
أماء كرم برأسه موافقاً ، فقال وهو يستدير بوجهه لهند :
– يلا يا هند علشان تروحى معاه
لم تخطو خطوة واحدة ، بل ظلت متسمرة بمكانها وهى تبكى ، فما كان منه سوى أن أخذ حقيبتها والتى سبق أن طلب منها أن تلملم أغراضها بها لتذهب من الشقة قبل ذهابه ، وقبض على رسغها بقوة يجرها خلفه حتى وصل أمام باب الشقة ، فناول السائق الحقيبة
ونظر لها وهو يرفع يده الأخرى يشير لها بالذهاب :
– مع السلامة يا هند وخلى بالك من نفسك
لم تنتظره أن يزد حرفاً أخر ، بل ركضت من أمامه وسبقت السائق بهبوطها الدرج ، فهو لم يدع لها أى حل أخر
فبعد إنصراف السائق ، الذى أعلن عن تعجبه مما يحدث بتقطيبة حاجبيه ، إلا أنه ليس بوضع يخوله الخوض بأمور إبنة سيده ، أغلق كرم باب الشقة ، وأستند عليه برأسه ، ولكنه لم يستطع منع دموعه أن تنهمر بقوة ، على حب لن يكتب له الإستمرار أو أن يرى النور ، فهو وإن كان مازال يعشقها ، إلا أنه لا يستطيع التخلص من ذلك الهاجس ، بأنها جعلت غيره يستحل قربها وودها
– خلاص مفيش فايدة يا كرم
فعندما وجد أن لا فائدة من مما يفعله ، أخذ حقيبته ومتعلقاته ، وخرج من الشقة وأغلقها وهو لا يعلم متى سيعود إليها ثانية ؟ فهو على وشك ترك الإسكندرية ، بل سيذهب إلى أقصى مكان يستطيع به الإبتعاد عن معذبته ومهلكة قلبه
______________
تقف بشرفة الغرفة ، تراقب ظهور القمر من خلف السُحب التى ملأت السماء ، وعملت على حجبه خلفها ، كأنها لا تريده أن ينير ذلك الظلام الذى غلف قلبها من كثرة حزنها على ما تلاقيه بالأونة الأخيرة ، فعوضاً عن أنها كانت ستكون بهذا الوقت تقف بين ذراعى زوجها تراقب ظهور القمر بليلة حالمة من ليالى عشقهما المتقد بنيران الشوق ، تقف الآن وعيناها لا تكف عن تأمل السماء وذرف الدموع
– ياترى أنت عامل إيه دلوقتى يا حبيبى
بدا القمر كأنه يشاركها البكاء على حبيب بات حبيساً بين ظلمات السجن ، فمروره بين السحاب ، كمرور عبراتها من بين أجفانها لتصل لوجنتيها ، فتلك البرودة التى إجتاحتها فجأة ، جعلتها ترتجف ، بل ضمت ذراعيها حول جسدها ، كمن تعانى من البرد الشديد ، على الرغم من الدفء الخانق بهذا الطقس الصيفى شديد الحرارة
لم تشعر سوى بجذب سجود لطرف ثوبها ، و تفرك عينيها بيديها ، وصوتها العذب مختلطاً به آثر النعاس وهى تسألها عن أبيها للمرة التى لا تعلم عددها حتى الآن :
– مامى بابى فين أنا عايزة بابى هو راح فين
إستدارت لها حياء وجلست القرفصاء ، فمسدت على ذراعيها وهى تحاول أن تبتسم من بين دموعها :
– بابى هييجى قريب يا روحى هو بس عنده شغل كتير
بدت الصغيرة غير قنوعة بتلك الحجة الواهية ، التى ما فتأت تخبرها بها وفاء أو حياء ، فهى كأنها سأمت الكذب ، فصاحت برفض :
– لاء أنتى بتضحكى عليا أنا عايزة بابى مليش دعوة
عادت لبكاءها وصراخها ثانية ، فالصغيرة أصبحت صعبة المراس أكثر من ذى قبل ، كأنها باتت تشعر بما يحدث حولها ، وأنه أصاب أبيها خطب ما
فحاولت حياء أن تجعلها تكف عن البكاء فقالت برجاء :
– سيجو حبيبة ماما إهدى وبطلى عياط يا روحى والله بابى هيرجع قريب صدقينى ، تعالى ننزل تحت وشوفى الخيل بتاع جدو ماشى
بسماع سجود عرض حياء ، كفت عن البكاء وهمهمت بصوت متحشرج من أثر نحيبها :
– ماشى بس أتصلى على بابى خليه ييجى علشان هو وحشنى وعايزة أشوفه
حركت حياء رأسها بالإيجاب ، وهى تتمنى لو كان بإمكانها أن تعيد إليها أبيها ، فحملت الصغيرة وخرجت من الغرفة ،وهبطت الدرج الرخامى ، حتى وصلت للحديقة ومنها لحظيرة الخيول ، فهى لا تملك طريقة أخرى لصرف سجود عن التفكير بأبيها
رآت حياء رياض يخرج إليهما وسط جمع من رجاله ، فعند إقترابه أشار لأحد الحراس بأخذ سجود لتمتطى جواد صغير ، مع تشديده لأوامره بأن يحرص على سلامتها
– تعالى أقعدى يا حياء
قال رياض وهو يشير للمكان الذى إعتاد الجلوس به لمراقبة خيوله المفضلة ، ويمكنهما من رؤية سجود ، التى سرعان ما أبتهجت بإمتطاء جواد صغير يسير بهوادة وسط تلك المساحة الخضراء الكبيرة المخصصة لهم بالركض والعدو فيها
بعد أن أخذت مكانها بجانب والد زوجها ، نظرت إليه قائلة بأمل :
– هو لسه مفيش أخبار عن موضوع راسل
إبتسم لها رياض وقال بهدوء لا يخلو من شعوره الطاغى بالسعادة :
– لاء فيه وعمران لقى الدليل على براءة راسل وزمان عمران جاى دلوقتى بالفيديو اللى هيظهر براءة راسل ويدين الدكتور ده اللى إسمه نادر لأنه هو وأخوه اللى دبروا الموضوع لراسل من أول موضوع الفيديو بتاع البنت اللى أدعت أنه كان بيحاول يعتدى عليها
بسماعها إسم نادر وضعت حياء يدها على فمها وهى تشهق بصوت منخفض ، فذاك الوغد هو من فعل كل هذا بزوجها ، فتفكيرها البرئ صور لها أن بعد كشفه أمام ميس ، سيبتعد عن طريقهما ولن يروه ثانية
– الحيوان هو اللى عمل كده فى راسل وتفتكر يا عمى هو اللى عمل فيا كده ساعة ما دخلت الحمام واتنين اتهجموا عليا وخدرونى ؟
نطقت حياء بسؤالها وهى كأنها تنتظر منه إجابة على ما سألته ، فنقر بعصاه بتفكير فيما قالته ، فربما هى محقة بشأن ظنها ، فما حدث لها جاء بالتزامن مع ماحدث لراسل
فرد رياض قائلاً بشئ من الحيرة :
– ممكن ليه لاء لأن لما دورنا وملقناش حاجة كان زى ما اتلفقت التهمة ومعرفناش نلاقى دليل إلا لما عمران فكر يجيب البنت دى ويعرف مين اللى وراها
أنقطع حديثهما عندما شاهدا عمران وعاصم وميس يقتربون من مجلسهم ، فهبت حياء واقفة قائلة بلهفة :
– ميس بجد لقيتوا دليل لبراءة راسل
هزت ميس رأسها وقالت بابتسامة صافية:
– أيوة يا حياء وبكرة الصبح لما الفيديوهات دى تروح النيابة ويجيبوا الكلب اللى إسمه نادر ده وأخوه كل حاجة هتنكشف وراسل هيخرج بالسلامة إن شاء الله
من شدة سعادتها بما سمعته ، راحت تحتضن ميس بفرح مجنون ، فبالغد سيعود إليها زوجها ومعشوقها ، فياليت كان بالإمكان أن يعود الآن
تقدم عمران من رياض وناوله الهاتف :
– ده التليفون اللى عليه كل الفيديوهات يا باشا يعنى المحامى ييجى بكرة والحاجات دى تتقدم لوكيل النيابة وكل شئ هينحل بإذن الله
شد رياض على يد عمران بإمتنان :
– أنا مش عارف أشكرك إزاى يا عمران نظرتى فيك مخيبتش يا إبن الزناتى وطلعت راجل من ضهر راجل
تقدمت ميس من جدها وهى تقول بضيق متوارى خلف إبتسامتها :
– متقلقش يا جدو أنا هشكره بالنيابة عنك وعن كل العيلة
حاول عاصم كتم ضحكته بصعوبة ، فهو يعلم ما ينطوى عليه حديث إبنة شقيقته ، فحمحم يدعى الجدية :
– الصراحة عمران النهاردة كان أستاذ يا عمى بجد دماغه سم
حمحم عمران قائلاً بزهو مصطنع :
– دى أقل حاجة عندى ، أنا كمان مستخدمتش ذكائى كله دا كان لعب على الهادى خالص
تركت ميس مكانها بجوار جدها وهى تشير لزوجها :
– مش هنروح بيتنا بقى يا عمران بيه صدعت من الفرجة على أدائك النهاردة فى التمثلية اللى أنت عملتها وعايزة أنام
أحنى عمران رأسه قائلاً وهو يشير بيده لأن تسبقه :
– طبعاً هنروح يا حرمى المصون أتفضلى
نظر رياض لعاصم نظرة ذات مغزى ، فأشار عاصم بعينيه ، بأنه سيعمل على إخباره بكل ما حدث ، ولكن يكفى الآن علمهم بأن راسل سيتم تبرئته من تلك التهمة المنسوبة إليه ، فبعد أن أنصرف عمران وميس ، وهاتف رياض المحامى وأخبره بضرورة المجئ لظهور دليل جديد ، أخذت حياء الصغيرة وصعدت للغرفة وتلك هى المرة الأولى التى تبتسم بها منذ علمها بما حدث لحبيبها
سمعت رنين هاتفها برقم لا تعلم من يكون صاحبه ، ففتحت الهاتف وهى تقول بهدوء :
– ألو
جاءها الصوت على الطرف الأخر أجش وبه شئ من الغلظة :
– أزيك يا حياء أخبارك إيه
ردت حياء متسائلة :
– أنت مين وعارفنى منين وعايز منى إيه
تناهى إلى سمعها صوت ضحكة خافتة ، ساهمت بإثارة أعصابها فعندما همت بإغلاق الهاتف جاءتها تلك العبارة من الطرف الآخر:
– أنا الماضى والحاضر و المستقبل يا حياء
فكرت حياء قليلاً فيما سمعته ، فما لبثت أن صاحت به:
– أكيد أنت نادر الحيوان صح
رد الطرف الآخر قائلاً بضحكة عالية :
– نادر ! إيه نادر ده كمان لاء يا حياء مش نادر وقريب أوى هنتقابل يا حياء سلام
أنتهت المكالمة الهاتفية ، وهى لم تفقه شئ مما قاله ذاك المجهول ، فحتى ظنها بأنه نادر لم يكن بمحله ، ولكن من يكون ؟ ظلت عيناها تدور بأرجاء الغرفة ، فتلك المكالمة أثارت بنفسها القلق ، خاصة تلك الثقة التى تحدث بها من أنهما سيتقابلان قريباً ، فما كانت تشعر به من سعادة لإقتراب لقاءها بزوجها ، حل محلها القلق والخوف
– دا تلاقيه واحد بيستظرف دمه وأكيد عرف إسمى من التروكولر بس إزاى إسمه مظهرش عندى ؟
طرحت هذا السؤال على عقلها ، ولكن سرعان ما فكرت بأن ربما أحد يمازحها عبر الهاتف ، مثلما يحدث عادة ، فلتدع تفكيرها بهذا الأمر جانباً ولتفكر بما هو أكثر أهمية كمعشوقها وزوجها ، الذى بات قلبها يعد الدقائق والثوانى حتى تشرق شمس الغد
______________
سار أدريانو عبر الرواق الطويل بالمشفى ، حتى وصل أمام غرفة العناية الفائقة ، التى تم إيداع فواز بها بعد تدهور وضعه الصحى ، ويسير خلفه إثنان يشبهان المصارعين ، فهو لم يكن يخرج من قلعته دون أن يتبعه حرسه الأمين
نظر عمرو لإقتراب أدريانو منه بشئ من الفتور ، فهو يعلم أنه ربما لم يأتى لهنا إلا من أجل أمر ما ، وليس من أجل رؤية والده المريض
إلا أن ذلك لم يمنعه من الوقف يبدى ترحيبه ، فبعد أن تصافحا ، حدق أدريانو بوجه عمرو وقال وهو ينفث دخان سيجاره بوجهه :
– أنت بقى عمرو إبن فواز
حرك عمرو رأسه بالإيجاب ، فرد قائلاً ببرود:
– أيوة أنا وأكيد أنت أدريانو إسكندر مش كده أنا كمان عارفك
أرتسمت إبتسامة جانبية على ثغر أدريانو وهو يدنو برأسه من عمرو :
– وعارف عنى إيه بقى يا شاطر ها
بادله عمرو إبتسامته بإبتسامة أشد سماجة وهو يقول بصوت أقرب للهمس :
– عارف بالشغل اللى بينك وبين بابا وصنف الهيروين البيور اللى بتخلى بابا هو بس اللى بيتاجر فيه
إبتعد أدريانو برأسه عن عمرو ، فرفع يده مربتاً على وجهه بما يشبه الصفع :
– لاء بجد شاطر يا عمرو وعرفت كل ده لوحدك، ولا حد غششك ، الظاهر عليك ذكى أوى زى أبوك ، وشكلك ليك فى الصنف وبتشم
تجعدت خطوط جبهته لفطنة أدريانو بأنه يتعاطى مخدر الهيروين ، فنظر له بريبة متسائلاً:
– وأنت عرفت إزاى
ضحك أدريانو ضحكة صاخبة ، فبعد أن أنتهى نظر إليه ومده يده وقبض على فك عمرو بين سبابته وإبهامه وهو يقول بدهاء :
– عيب تسألنى سؤال زى ده يا عمرو دا أنه لسه بقول عليك ذكى زى أبوك
أزاح عمرو يد أدريانو عنه ، وأرتد للخلف وهو يقول بتهكم :
– صحيح واحد بيتاجر فى القرف ده لازم هيعرف اللى بيتعاطى الصنف ، أكيد ده سر من أسرار المهنة
رفع أدريانو إصبعه ووضعه أمام فم عمرو وهو يحذره بصوت مرعب :
– هششش بس يا شاطر أنت متعرفش أن كتر الكلام بيجيب لصاحبه المشاكل ، أنا بس علشان خاطر أبوك هعديهالك المرة دى ، بس المرة الجاية هزعل وزعلى وحش أوى أتمنى متجربهوش
بعد أن أنتهى من تهديده وتحذيره ، عاد مستطرداً:
– مقولتليش باباك عامل إيه دلوقتى ، الدكتور قال إيه ؟
أبتلع عمرو لعابه بخوف من هيئة أدريانو الشيطانية ، والتى بإمكانه التحول من الهدوء للغضب العارم بسرعة البرق ، فهو حاد وعصبى المزاج ، ومن الأفضل أن يظهر خنوعه له
فرد قائلاً بصوت منخفض :
– الدكتور قال أن لسه هيفضل هنا فى العناية المركزة علشان حالته خطر بسبب الجلطات اللى حصلتله
نفخ أدريانو بضيق وهو يقول بدون وعى :
– طب وبعدين دا فى عملية تسليم لازم تتم بعد بكرة وهو اللى كان بيخلص كل حاجة
رد عمرو فجأة :
– أنا مستعد أكون بداله لو تحب
عقد أدريانو حاجبيه قائلاً بغرابة:
– أنت ! أزاى يعنى هو أنت تفهم فى الشغلانة دى ، أنت لسه صغير
رفع عمرو كتفيه بدون إكتراث لما يقوله :
– لو تحب ممكن تجربنى لو مش حابب خلاص براحتك لا أنا ولا أنت هنخسر حاجة برفضك
– وهنخسر كتير لو وافقت وأنت أتقفشت يا شاطر
قالها أدريانو بتهمكم واضح ، معللاً أن عمرو مازال يافعاً ليخوض بتلك الأمور الأكثر خطورة من حيث القتل أو التهريب أو تبادل صفقات المخدرات أو الوقوع بقبضة الشرطة
ولكن قبل أن يعلن عن رفضه الصريح لعرض عمرو ، فكر لهنيهة وقال وهو يشمل عمرو بنظرات تقييمية :
– ماشى أنا موافق وهجربك فى العملية دى ولو أثبت جدارتك هخليك تمسك الشغل مكان أبوك ، وأكيد رجالة أبوك المقربين منه عارفين كل حاجة وهيعلموك
أماء عمرو برأسه إيماءة خفيفة ، كدلالة على موافقته على ما قاله ، فإستدار برأسه ونظر لوالده المستلقى على فراش المشفى ، أقرب للموتى منه للأحياء ، فأمعن النظر به بهدوء وفتور ، فماذا كان سيفعل والده ، إذا علم بأنه سيخطو بذاك الدرب الذى كان متمرساً هو فيه ؟ فعوضاً عن محاولته لإصلاح ما تم إتلافه وتدميره بحياته ، أراد القضاء على ما تبقى منها
______________
طوال الوقت الذى أستغرقه عمران للوصول للقصر ، كانت ميس على أتم الإستعداد لسيل المشادات الكلامية ، التى ستثار بينهما على ما فعله بالفندق ، وخاصة ذلك الجزء المتعلق بإبداءه مساعدته لليالى ، بل وذهب وأسكنها بمكان لا يعلمه أحد سواه هو ، فهى تنتظر فقط أن يتم إغلاق باب غرفتهما ، وستجعله يرى جحيم غضبها بعينيه
ترجلت من السيارة وسبقته للداخل ، فرآت ولاء التى هرولت بخطواتها إليها وهى تقول بما يشبه الذعر :
– ميس هو إيه اللى سمعته ده معقولة أبيه راسل محبوس فى قضية قتل تانى
لم تكن تعلم ميس بشأن عودة ولاء ومعتصم هكذا بوقت مبكر ، فهم حرصوا على عدم إخبارهما بما حدث ، منعاً لإثارة قلقهما
فتغضن جبين ميس بتفكير :
– أنتوا رجعتوا أمتى وعرفتوا إزاى
مسحت ولاء عينيها وأنفها وهى تقول بصوت مختنق :
– كنت بكلم ماما وحسيت أنها متغيرة لما ألحيت عليها عرفت اللى حصل وأصريت على معتصم أنه لازم نرجع ، فأخدنا أول طيارة ورجعنا على طول
أقتربت غزل منها وربتت على كتفها لتجعلها تكف عن بكاءها :
– إهدى يا ولاء الموضوع إن شاء الله أتحل متقلقيش
ولج عمران للداخل فصاح بسعادة لرؤية شقيقه ، الذى سرعان ما أقترب منه يحتضنه بحنان :
– حمد الله على السلامة يا معتصم نورتوا البيت ، ليه يا ابنى رجعتوا بسرعة كده
ربت معتصم على ظهر شقيقه ورد قائلاً بإبتسامة هادئة:
– الله يسلمك يا عمران ، كان لازم نرجع ولاء من ساعة ما عرفت مبطلتش عياط
ترك عمران معتصم وأقترب من ولاء يطمأنها بصوته الرصين :
– حمد الله على السلامة يا ولاء ، إهدى وكل حاجة إن شاء الله هتبقى كويسة ودلوقتى أطلعوا أوضتكم أرتاحوا
حاولت ولاء أن تبدى إعتراضها ، إلا أن معتصم جذبها من مرفقها وجعلها تسير معه ، حتى صعدا الدرج ووصلا لغرفتهما ، المجاورة لغرفة ميس وعمران
ولجت ولاء الغرفة ، فلم يكن لديها الوقت لتفحص محتواها ، إذ شرعت فى البكاء ثانية ، فأقترب منها معتصم وأحتواها بين ذراعيه مربتاً عليها بحب :
– خلاص بقى يا حبيبتى مش قالولك أن بكرة الموضوع هيتحل أنا معرفش أنك بتعزى راسل أوى كده لاء كده أنا لازم أغير وازلزل الزلازيل على رأى اللمبى مش عايزك تحبى وتعزى حد غيرى
قال خاتمة حديثه بتفكه ، فتبسمت رغماً عنها ، فهى تعلم أنه يقول هذا من أجل أن تتخلص من حزنها ، فربتت على وجنته :
– أنت حبك شكل تانى أنت حبيب القلب والروح كمان يا معتصم
أنتشى معتصم من سماع قولها ، فزاد من ضمه لها ، فهو لم يكتفى بعد من قربها ووصالها ، فتلك الأيام القلائل لا تكفى لإكتشاف خباياها ، فشعورها بالراحة بين ذراعيه ، جعلها تستكين وتسكن إليه
أما بالغرفة الأخرى الخاصة بميس وعمران ، كانت ميس جالسة على الفراش تشحذ قواها كاملة ، فى إنتظاره أن يخرج من المرحاض ، بعدما ولج إليه منذ ما يقرب من الخمس عشرة دقيقة ، كأنه سعيد بجعلها تتلظى بنيران غيظها منه
فرأته يخرج من المرحاض لا يرتدى سوى سروال قصير ، يطلق صافرات قوية من بين شفتيه القويتين ، فرماها بنظرة عابرة ووقف أمام المرآة يصفف شعره الرطب بعد أن جففه بالمنشفة التى ألقاها على الفراش قريباً منها
نظرت للمنشفة وعادت تنظر إليه بعد أن رفعتها عن الفراش ، وألقتها على ظهره وهى تقول بغيظ مكتوم :
– أظن الفوطة ليها مكان تتحط فيه مش بتترمى على السرير
إستدار إليها وجلس على طرف منضدة الزينة قائلاً ببرود وعبث :
– وأنتى إيه اللى مقعدك على السرير بتاعى مش بتنامى على الكنبة
إهتاجت ميس من بروده ، الذى رأته غير مناسباً بالوقت الحالى ، وأقتربت منه صارخة بتساؤل:
– أنت وديتها فين يا عمران
وضع عمران يديه على أذنيه ، وأنكمشت ملامحه وهو يقول بتحذير :
– صوتك ميعلاش يا ميس فاهمة متنسيش أن معتصم وولاء أوضتهم اللى جمبنا فعيب يسمعوكى بتعلى صوتك عليا فاهمة
وكزته بكتفه بشئ من القسوة وهى تجز على أنيابها وتعاود سؤالها :
– أنا بقولك وديتها فين يا عمران رد عليا
نهض عمران فجأة من مكانه ، فلم يكن لديها متسع من الوقت للإبتعاد ، فأصبحت أسيرة ذراعيه وهو يقول بهدوء مثير :
– هى مين دى يا عيون عمران
نضبت الدماء من وجهها فجأة ، وهى ترى إلتصاقه بها ، فربما سيعلم عدد خفقات قلبها وأنفاسها التى تعلو منذرة بأنها تلتقطها بصعوبة بالغة
إجتاج وجنتها دفء مفاجئ ، نتج عن غمرها بكفه العريض فعاد مكملاً لحديثه بهمس :
– ردى عليا هى مين اللى بتسألى عليا وليه مضايقة أوى كده ها قولى يا ميس
دائماً ما تضع نفسها بمأزق معه ، إلا أنها إستطاعت القول بصوت مرتبك :
– ققصدى ليالى أنت قولتلها أنك هتحميها وأخدتها وخرجت ورجعت بعد شوية وديتها فين
فهو كان يعلم من هى تلك التى تقصدها بسؤالها ، ولكنه أراد المزاح معها على طريقته ، التى لا تخلو من الهدوء الخطر ، وإثارة الأعصاب حد الإنفجار
فغمغم وهو يحكم ذراعه حول قدها الرشيق ويهمس قريباً من أذنها :
– أمم بتسألى عنها ليه وهى تخصك فى إيه ، أو أنا أهمك فى إيه بتصرفاتى يا ميس
صارت عيناها أشد إخضراراً بتلك النيران التى كانت تنبعث منهما ، فردت بغضب :
– يعنى إيه كلامك ده أنت ناسى أنك جوزى وأنا مراتك وأنا مقبلش أن جوزى يعرف عليا واحدة تانية ولا هى التمثلية عجبتك وناوى تكمل فيها
– أنت بتغيرى عليا يا ميس
نطق بها عمران وهو يداعب أطراف شعرها الأشقر ، وعيناه تصب نظراتها على وجهها كاملاً
حاولت الفكاك من حصاره قبل أن تجيبه ، ولكن لم يكن لديها منفذ للهرب من بين ساعديه ، بل عمل على أن يجعلها ترتد بخطواتها للخلف تتبعها خطواته ، حتى صارا قريباً من الفراش ، فأستدار هو جالساً على طرفه ، جاعلاً إياها تتخذ من ساقيه مجلساً لها
فأتسعت عيناها من جرأته التى لا حد لها ولا قانون سوى قانونه هو ، حاولت أن تستقيم بوقفتها ، فنهرها بلطف وهو يغمر وجهه بخصيلاتها الناعمة :
– مردتيش على سؤالى يا ميس قوليلى كنتى غيرانة عليا النهاردة ولو كنتى غيرانة فغيرانة ليه ؟
لا قوة لديها ولا مقاومة ، فردت قائلة كأنه تم تنوميها مغناطيسياً :
– مش عارفة ، كل اللى حسيت بيه أن كنت عايزة أقتلك وهى بتقرب منك وبتلمسك ، كنت حاسة بنار يا عمران
أتسعت إبتسامة عمران على قولها ، فما قالته ليس له تفسير سوى أنها بدأت تشعر بميلها إليه ، وهذا ما كان بإنتظاره ، فتقابلت عيناهما بحوار صامت بالبداية ، ولكن صوته بدد هذا الصمت وهو يقول بوله :
– عينى متعرفش تشوف غير يا ماسة
قبل أن تتمكن من سؤاله عن سر مناداته لها بهذا الإسم ، كان عمل على إغراقها بنهر من الحب ، فعلى الرغم من كل تلك الظروف الغير سارة التى حدثت مؤخراً ، إلا أنها لم تمنع نفسها من الشعور بالسعادة وهى تراه مستأنساً كنمر تم ترويضه حديثاً ، فلم تشعر بمرور الوقت إلا بعدما رآت نور الصباح يملأ الغرفة وهى سجينة ذراعيه القويتين ، بعد ليلة دام بها الوصال طويلاً وتحطمت بها كل الحصون التى شيدتها بينها وبينه ، فكم يبدو وسيماً وهو نائماً هكذا قرير العين ، بعدما عمل على إنتزاع إعترافها بالغيرة من رؤيتها لأنثى أخرى تتود له
_______________
سمع صوت الهمهمات من حوله ، إلا أنه لم يمعن السمع بها ، بل ظل كما هو حاله منذ تم إيداعه بتلك الغرفة المزرية ، التى تشبه مكب للنفايات ويطلق عليها ” التخشيبة أو الحجز ” ، فعيناه عالقة النظرات بالسماء ، التى إستطاع رؤيتها عبر تلك النافذة الحديدية ، الموجودة أعلى الجدار ، والتى لا يمل من الوقوف أمامها ، فالليل مر عليه كأنه دهر بأكمله ، وهو ينظر للقمر ويبثه شكواه الصامتة ، أما الآن فهو يحدق بنور الشمس الذى ملأ الأجواء بأشعة ذهبية ، ولكن لم يكن يبتهج بهذا ، خاصة وهو يعلم بأن نور الصباح دلالة على بداية يوم جديد سيقضيه هنا
– هو الجدع ده من ساعة ما جه وهو قاعد متنح ومبلم وباصص كده ليه
قال أحد السجناء لرفيقه ، بعد أن وكزه لينتبه على ما يقوله
فرد رفيقه وهو يضع قطعة من الخبز بفمه:
– ياعم سيبك منه كفاية أن كل زيارة بتجيله بيسبهالنا دا بيجيله شئ وشويات والعسكرى بيجبهمله بنفسه ، شكل معرفة حد جامد وموصى عليه ، بس مبيحطش الأكل فى بوقه ومكتفى بالماية مش عارف مستحمل كده إزاى أنا لو منه كنت زمانى نقلونى على المستشفى
إستمع سجين أخر للحديث الدائر بين هذان الرجلان ، فالقى السيجارة من يده ودعسها بقدمه ، فهو لم يأتى لهنا إلا البارحة ، ويبدو على وجه سيمات الإجرام البين
فأقترب من راسل ووكزه بكتفه قائلاً بصوت غليظ :
– قب ياض باللى معاك يلا
فك راسل عقدة ذراعيه وإستدار لذاك الواقف خلفه ، فحك لحيته قائلاً بإرهاق :
– مش معايا حاجة ممكن تروح تاكل معاهم هو ده كل اللى معايا
دفع الراجل راسل حتى ألتصق بالجدار ، فوضع ذراعه أسفل عنقه يهدد بدق عنقه بإجرام :
– أنت هتفضل لوك لوك خلص قولتلك قب باللى معاك
ماكان له أن يثير أعصاب أسد جريح ، فراسل وإن كانت قواه منهكة من قلة تناوله للطعام ، إلا أن بنيته الجسدية مازالت بإمكانها أن تساعده بأن يرد هجوم الرجل المفاجئ
فرفع راسل ساقه وضرب بركبته الرجل ، فجاءته الضربة بمنتصف معدته ، جعلته ينحنى متألماً فصاح عالياً:
– آه يا إبن الل……
أستقام الرجل بوقفته ثانية ، وحاول أن يشن هجومه على راسل ، بأن أخرج سلاح أبيض ، كان يخفيه بين طيات ثيابه ، فقبل أن يقترب به من وجه راسل ، كان راسل يعمل على إحكام ساعديه حوله ، أحدهما حول صدره والآخر أسفل عنقه
فهز راسل جسد الرجل وهو يقول بفحيح :
– شيل اللعبة دى يا شاطر ، لأن أنا ممكن أشرحك بيها ، أنا أكتر واحد شاف دم وبيعرف فين يوجع فى الجسم ، أنا زى الجزار بالظبط يعنى ممكن أشفيك وأصفى دمك نقطة نقطة
جحظت عينى الرجل وحاول أن يستغيث ويطلب العون من الرجال الموجودين بالغرفة ، فهم يشاهدون الشجار كأنه مباراة قتالية
لم يشعر راسل بما يفعله إلا عندما تقدم رجل منهما ، وحاول بصعوبة إزاحة راسل وهو يصيح به :
– سيبه أنت ممكن تقتله كفاية المصايب اللى أنت فيها متزودش مصايبك
وعى راسل على ما يفعله ، فأرخى ذراعيه عن الرجل ، الذى سرعان ما سقط راكعاً على ركبتيه ، وهو يسعل بشدة ووجه مائل للإحمرار من إحتقان الدماء به
إرتد بخطواته للخلف حتى وجد الجدار خلفه ، كأنه ينبهه أنه وصل لأخر ما يمكن أن تصل إليه قدميه ، فوزع نظراته الشاردة بين كل الرجال الموجودين ، فأظافره التى نشبها بالحائط ، شعر بألم بها ، فهو يحاول صرف عصبيته ، التى كانت ستتسبب له بكارثة أخرى غير تلك الغارق بها
فسمع صوت الزنزانة يفتح وصاح العسكرى منادياً بإسمه :
– راسل رياض النعمانى
أقترب منه راسل يعلن عن أنه هو الشخص المنشود ، فأخذه العسكرى وخرج وأغلق باب الزنزانة بالقفل ثانية
سار راسل معه حتى وصلا لغرفة وكيل النيابة ، فوجد أبيه وعاصم والمحامى وزوجته ، التى ما أن رأته حتى هرولت إليه وهى تقول بإبتسامة :
– إطمن يا راسل الحمد لله لقينا دليل براءتك
لم يسعفه الوقت بقول شئ ،إذ عمل العسكرى على جذبه وإدخاله غرفة وكيل النيابة ، فأنتظروا حتى يأذن لهم بالدخول ، أو السماح للمحامى بأن يلج للداخل ويقدم ما لديه من دلائل تبرئة راسل
فخرج العسكرى يعلن عن سماح وكيل النيابة لدخول المحامى ، فولج سريعاً للغرفة وأغلق العسكرى الباب خلفه
ضمت حياء كفيها وهى تتضرع لله بالدعاء من أن ينتهى الأمر بخير ،وأن تعود للمنزل بصحبة زوجها ، فأعلن هاتفها عن ورود رسالة نصية ، ففتحت الهاتف ، وقرأت الرسالة بصوت منخفض :
– عاملة إيه النهاردة يا حياء ، شكلك حلو أوى فى الفستان اللى أنتى لبساه ده ، حاولى تشبعى من جوزك علشان النهاية قربت يا حياء
تلاحما حاجبيها بشعور غريب من فحوى تلك الرسالة النصية ، فما كادت تنتهى من قراءة الرسالة الأولى حتى جاءتها رسالة أخرى ، فأخذت بقرائتها بسرعة لتعلم فحواها
فأبتعدت قليلاً عن مكان وجود والد زوجها ، وهى تعيد قراءة ما ورد بها :
– اللى يدور فى الماضى يتعب ، بس مش كل التعب وحش فى تعب ممتع وخصوصاً لما اللعبة تبقى على المكشوف ، كان ممكن الدنيا تفضل ماشية حلوة ، بس منحسش بحلاوة الدنيا إلا لما لازم ندوق الوجع الأول ، لازم تستعدى من دلوقتى يا حياء للموجة اللى جاية ، ويا تعرفى تعومى وتوصلى لبر الأمان ، يا هتغرقى
بعد أنتهاءها من قراءة الرسالة ، أنتفض جسدها أثر تلك اليد التى حطت على كتفها ، فنظرت بعينان زائغتان وقالت بنبرة صوت بالكاد خرجت من حلقها :
– بتعملوا إيه هنا
______________

يتبع…

  •تابع الفصل التالي "رواية لا يليق بك إلا العشق" اضغط على اسم الرواية 

google-playkhamsatmostaqltradent