رواية لا يليق بك إلا العشق الفصل الخامس و ااربعون 45 - بقلم سماح نجيب
٤٥– " فخ وصياد ماهر "
جفت دمائها بعروقها لحظة إستماعها لإقتراحه ، لا بل تصميمه الكامل على أن يرافقها لمنزل عمها ، فبتلك الحالة ستكون كمن إستدرجت فريسة للفخ ، بل كمن ستسوقه للموت بيديها ، ولا يعلم ما يمكن أن يكون بإنتظاره ، فشقيقها وعمها باتت تعلم أى مشاعر مكنونة لديهما لأى فرد من عائلة النعمانى أو الزناتى ، فهى تحاول فعل المستحيل من أجل الحفاظ على ما تبقى ، ولكن أن يتم وضعها بين المطرقة والسندان ، لهو بالأمر الذى يستحق الرفض ، فهى لن تغامر بأخذه لهناك ، ولن تجعله يطأ بقدميه ذاك المنزل ، أو إذا صح القول إلى مقبرته
فبتخيلها لمصيره الذى يمكن أن يلقاه هناك ، جحظت عينيها وحدقت بالفراغ وحركت رأسها بعنف وهى تصيح برفض قاطع :
– لااااء يا راسل مش هتيجى معايا مستحيل
ثورتها بالرفض لمرافقته لها ، كانت أدعى لأن يسكن الشك بقلبه وعقله ، فحالتها تلك إن دلت على شيء تدل على أن هناك خطب جلل وعظيم ، حتى ترفض هكذا أن يرى عائلتها
تلاحما حاجباه الكثيفان ورمقها بدهشة متسائلاً :
– لاء ليه يا حياء ؟ مش عيزانى أروح معاكى بيت أهلك ليه ، اللى يسمعك كده يقول كأنك راحة النار برجليكى ، مش رايحة بيت عمك
تجولت يدها على وجهها ، كأنها تحاول ترطيب بشرتها الملتهبة من تدفق دماءها الحارة ، فربما هى زادت من رد فعلها حتى أثارت دهشته ، لكنها ستعمل على تلطيف الأمر قدر إمكانها
فقالت وهى تبتسم بتوتر :
– لا أبداً يا حبيبى ، المشكلة أن هبقى مشغولة ببيرى ومش هعرف أهتم بيك وأنت معايا هناك وكمان عمى أدريانو وديفيد تقريباً معظم يومهم برا البيت ، وبيسافروا كتير أوى ، فأنت هتقعد مع مين ، وكمان ممكن متعرفش تشوفهم ، هى دى الفكرة
إن ظنت بأن تلك الترهات والهراء السخيف الذى قالته ، سينطلى عليه ، فهى حقاً ساذجة ، فالطفل الصغير لن يبدو قنوعاً بأعذارها وأسبابها الواهية ، فما بال زوجها الذى يستطيع قراءة تعابير وجهها ويعلم ما تفكر به بكل سهولة
فوضع راسل يده على مؤخرة عنقها وهز رأسها بخفة قائلاً بمداعبة ودهاء :
– يا حلاوتك يا روحى وأنتى عمالة تقولى كلمة من الشرق وكلمة من الغرب وفكرانى هصدق كلامك ده اللى ميدخلش الدماغ من أساسه
شقت إبتسامة شفتيها ، كأنها تحاول إظهار قوتها التى لم يكن لها وجود بتلك اللحظة من كشف زوجها لكذبها المتكرر ، فقالت بثقة مزيفة :
– هو أنت يعنى يا حبيبى مش مصدقنى ، أعملك إيه علشان تصدق اللى قولتهولك
رفع يده عن مؤخرة عنقها ، وبأثناء سحبه لها جذب خصلة من شعرها بين أصابعه ، فشد عليها قليلاً ، فمال رأسها جهة اليسار ، ظنت أنه سيعمل على شد شعرها كتأنيب لها ، ولكن وجدته يضع يده الأخرى موضع قلبها
فدقات قلبها كانت كقرع الطبول ، ولكن لم تكن ناتجة عن شعورها بالحب ولكن تلك الخفقات المرتجفة حملت شعوراً ساحق بالخوف
فأجابها وهو يتأمل رأسها المائل :
– أكبر دليل على كدبك عليا دقات قلبك دى ، اللى بتدق من الخوف أن أعرف أنك بتكذبى عليا ، أنتى عاملة زى الفريسة اللى بتحاول تتشطر على صيادها يا روحى
جذبته مرة واحدة من تلابيب ثيابه ، بعد أن عدلت من وضع رأسها المائل ، فقالت بصوت متهدج دليلاً على غرامها بصيادها :
– وصيادى الحلو القمور ده مش ناوى يبطل أسئلة وكلام كتير علشان هو واحشنى أوى فى أم الليلة اللى مش عايزة تخلص دى
ذراعه الملتف حول قدها الرشيق ، شعرت بأنه كاد يذيب عظامها ، خاصة وأنه يحيطها بإحكام جعلها ترفع قدميها عن الأرض ، وألتحما كاحليها ببعضهما ، تشعر بخفة ورشاقة غير معتادة كأنها محلقة على إحدى غيمات الأحلام
عندما تتلو عليه عهد من عهود الغرام، يجعلها تتلو الذى يليه ، فكأن العهود تلك الليلة لن تنتهى ، ولكن هناك شئ أخر لم ينتهيا من الحديث بشأنه وهى تلك الزيارة التي ستقوم بها لمنزل عمها ، فإن كانت إستطاعت إخراسه عن الحديث بذلك الأمر ، وتجعله يخوض بحديث غيره ، فالأن أنتهت إحدى جولات العشق ، وعادا لما كان عليه من النقاش
وضعت رداءها الحريرى عليها وشدت رباط خصرها وخرجت للشرفة ، تبعها هو لينهى الجدل بذلك الشأن ، ويخبرها بقراره النهائى ، والذى كان على تصميم كامل أن يجعله قيد التنفيذ
فعقد ذراعيه القويتين أمام صدره الصلب وقال بأمر لا جدال فيه :
– حياء أنا هروح معاكى بيت عمك يعنى هروح وده أخر كلام مفهوم
ضربت بيدها سور الشرفة وقالت بغيظ :
– أنت ليه مصر على الموضوع ده يا راسل ، أنت عايز إيه بالظبط قولى أو بتفكر فى إيه ، إصرارك ده وراه حاجة
خشيت أن تلتف خلفها وتواجهه ، فظلت مكانها توليه ظهرها ، فكل كف من كفيها كان يجاوره كفه ، بعد أن حاصرها بينه وبين سور الشرفة ، فأستند بذقنه على كتفها ، وشعرت بثقل رأسه على كاهلها ، إلا أنها ألتزمت الصمت لتعلم ماذا يريد أن يقول بعد ضمته الحميمية لها
أصابت أنفاسه جانب عنقها وهو يقول بلطف :
– حبيبتى أنا ما صدقت أنك رجعتى لحضنى تانى وأن بعد اللى حصل ده رجعنا لبعض حتى فكرت أتخلى عن فكرة جوازى من إيلين ، بالرغم برضه أنك مش راضية تقوليلى على اللى مخبياه عليا ، فعيزانى أعمل إيه أكتر من كده يا حياء
بسماعها قوله أنه سيتخلى عن فكرة زواجه من أخرى ، تهلل وجهها ، فإستدارت بين ذراعيه قائلة ببشر وسعادة :
– بجد يا حبيبى مش هتتجوز إيلين مش هتتجوز عليا يا راسل
حرك رأسه بالإيجاب ، ومال بها ودفنها بتجويف عنقها مغمغماً:
– شوفتى بحاول أرضيكى وأنتى برضه اللى بتحاولى تبعدينى ، يعنى عيزانى بدل ما أروح معاكى أفضل هنا مع إيلين وأنتى مش موجودة ، بس الشيطان موجود وشاطر كمان وإيلين حلوة أوى بصراحة وأنا قلبى ضعيف
تهدل فمها من تخليها أن إيلين ربما تنتهز الفرصة أثناء غيابها عنه ، وتعود تلك المرة تجدها زوجته ، ولكن بوزنها قوله من إصابته بضعف قلبه تجاه إيلين ، دفعته عنها ورمقته بشر وغيرة عاصفة
فقالت بسخرية :
– سلامة قلبك يا أبو قلب رهيف ، صحيح كل الرجالة صنف واحد عينيها زايغة ومش فارق بقى دكتور ولا غيره ، الدناوة فى دمكم ، وست واحدة متملاش عينيكم ، أصلا ميملاش عينيكم غير التراب
كأنها نسيت كل شئ فجأة وجعلته بصف الخائنين ، فهو لو كان يريد أى أنثى غيرها لكان حصل عليها ، ولكن تلك العاشقة الحمقاء ، التى تنسى كل شئ ولا تتذكر سوى سقطاته إذا كانت موجودة بالأساس ، فهو لم يقع بالمحظور من قبل ، حتى عندما فعلت صوفيا المستحيل لجره إلى شباكها المغرية ، وضع هو الحل لحصولها على مبتغاها وهو أن يرتبطا سوياً بميثاق الزواج ، ولم يقرب أنثى أخرى بعد صوفيا سواها هى تلك العنيدة ، والتى أصبحت تضع حبه وعشقه موضع الشبهات من كونه يركض خلف أى إمرأة
غلت دماءه بعروقه وعادا لما كانا عليه من أمر الشجار والعراك اللفظى بينهما ، فقال بجدية :
– تصدقى أنتى حلال فيكى يا حياء متجوزش عليكى واحدة لاء أتجوز تلاتة يا أم لسان أطول منك ، ومش عارف أنا ساكتلك ليه أساساً ملعون أبو الحب ده اللى هيخليكى تبيعى وتشترى فيا كل شوية ، واتفضلى بقى روحى على أوضتك علشان عايز أنام
جذبها من ذراعها بشئ من الحزم والقسوة وأخرجها معه من الشرفة ، متجهاً بها صوب باب الغرفة ، كأنها هرة ازعجته بمواءها المتواصل وأراد التخلص منها ، ولكن ما أن أدار المقبض وفتح الباب ، عادت واغلقته ثانية ، بل أنها أسندت ظهرها له واضعة يديها خلفها
– مش هخرج ولا هروح أوضتى كفاية الأيام اللى فاتت مكنتش بعرف أنام من كتر الكوابيس اللى بتجيلى
قالت حياء بصوت مرتعش ، وعيناها تزوغ بكل مكان ، كأنها تخفف من ضغط الدموع على مقلتيها ، التى تنذر إياها بالفرار من بين جفنيها والإنسكاب على وجنتيها ، فتلك الأيام التى قضتها بمفردها ، تخللتها أحلام مزعجة وكوابيس ، جعلتها لا تهدأ بنومها ، فاللية الوحيدة التى نامت بها هادئة ومطمئنة البال ، هى تلك الليلة التى قضتها بين ذراعيه فى المقصورة على الشاطئ
أبتعدت عن الباب وأستكانت برأسها على صدره وعادت لتردد عبارات الأسف التى لا تعلم لمتى ستظل ترددها :
– حبيبى متزعلش منى ، أنا مبقتش قادرة أسيطر على لسانى ولا على غيرتى أنا حاسة أن أنا تايهة وتعبانة ومضغوطة ونفسيتى زفت وكل حاجة ماشية معايا بالعكس ، أنا حاسة أن قربت أتجنن
أبتعدت عنه ورفعت يدها وأحتضت وجنته اليسرى وأستأنفت حديثها بصدق :
– بس ملقتش حد بيستحمل سخافتى دى غيرك أنت وعارفة أن كل مرة بخليك توصل لحافة صبرك ، وأوقات تلاقيك بتفكر تخلص منى خالص ، بس صدقنى يا راسل مبحسش بالأمان اللى لما أكون قريبة منك ، فعيزاك جمبى تطمنى وقت خوفى ، تجبر كسر قلبى وقت حزنى ، لأن قلبى بقى موجوع أوى من كل حاجة ، ومفيش غير حبك ووجودك أنت اللى مخلينى مستحملة لحد دلوقتى
أنسحر بوضعها وهى تشير بإصبعها الرقيق تجاه قلبها ، فخفوت صوتها وإن كان حمل بين طياته الحزن الدفين بين جنبيها ، جعل أذنيه تلتقط حروفها بدقة بالغة ، يستشعر مدى حزنها وألمها وأنينها الخافت ونداء قلبها له
فتركها تكمل حديثها ، وقالت بعد أن أخذت نفساً عميقاً:
– لو عايز تيجى معايا بيت عمى أدريانو ومصر على كده ، أنا موافقة بس عيزاك مـا تقـ
بترت حديثها ، فكيف تحذره من الجلوس بمفرده مع شقيقها أو عمها ، فهى لا تأمن صحبتهما له ، فلو مسه مكروه أثناء زيارتهما لبيت أدريانو ، فهى تقسم على أنها ستحرق المنزل بساكنيه أحياء ، حتى وإن كان رابط الدم بينهما يجب أن يُأخذ بعين الاعتبار ، ولكن تضعه هو وصغيرتهما بكفة والعالم بأجمعه بالكفة الأخرى ، ودائماً ما تكون كفته هو الراجحة
أماء برأسه موافقاً وهو لا يعى علام يوافق وهى لم تكمل حديثها ، فهو يفعل ذلك من أجل أن تأمن جانبه ، أو ربما من أجل أن ينهى النقاش ويمهد لها الطريق بأن تمارس عليه إحدى ألاعيبها ، التى صار يستمتع بها ، فعندما تظن أنها الرابحة ، يعود ويبتسم لعدم علمها بأى فخ هى وقعت بملأ إرادتها الحرة
______________
فتحت باب غرفتها بحرص ، وأطلت برأسها من شق الباب الضيق ، الذى رفضت أن تفتحه على مصراعيه ، حتى لا ترى عمران يسطو على الغرفة كالذئب الجائع ، فالله وحده هو الأعلم كيف إستطاعت أن تنجو بنفسها من بين براثنه بالأيام الفائتة ، فكلما تتذكر تلك المرة ، التى ظنت بها أنه ذهب لعمله ، وخرجت من الغرفة لإطمئنانها لعدم وجوده ، لتقع بالأخير بين ذراعيه بعد خروجها من غرفتها مباشرة ، كأنه كان بإنتظارها ليشن هجومه عليها بذاك العناق ، الذى كان أوشك على أن يجعل عنادها وكبرياءها يتلاشا ويتبخرا وتعلن راية الهزيمة أمامه ، ولكن ما أنقذها بهذا الوقت تشتت إنتباه عمران لصياح معتصم بإسمه وهو يبحث عنه من أجل الذهاب للعمل
ولكن الآن هناك حالة من السكون بالمنزل ، فمبيت ولاء ببيت ووالدتها منذ الأمس ويرافقها معتصم من أجل زيجة والدتها وإتمام الأمر ، جعل خوفها يتصاعد خشية ترك غرفتها وتجد عمران ينصب لها فخ أخر
وقفتها بأعلى الدرج وهى تنظر يميناً وشمالاً كأنها تبحث عن شئ ضائع ، جعلت تلك الخادمة ، التى خرجت من إحدى الغرف ، تقف بجانبها وهى عاقدة حاجبيها بدهشة من فعلتها
فقالت بإحترام وفضول فى آن واحد :
– مالك يا ميس هانم بتدورى على حاجة
شهقت ميس بصوت مسموع من الخوف ، تشعر بتناقص أنفاسها من تفاجئها بمجئ الخادمة ، الذى لم تضعه بحسبانها بتلك اللحظة
فأغمضت عينيها وحاولت إلتقاط أنفاسها وقالت بصوت منخفض مرتجف :
– حرام عليكى خضتينى ورعبتينى ، لاء مفيش حاجة كنت بشوف ولاء رجعت ولا لاء
حملت الخادمة سلة الثياب بإحكام بين ذراعيها وهى تجيبها :
– لاء حضرتك لسه مرجعتش من بيت مامتها هى ومعتصم بيه وعمران بيه خرج للشغل من بدرى
زفرت براحة وتبسمت لعلمها بخلو المنزل من وجود عمران ، فقالت بهدوء :
– طب حضريلى الفطار وهاتيه على الجنينة عايزة أفطر فى الهواء الطلق النهاردة
أماءت الخادمة بطاعة ، وهبطت الدرج حتى وصلت للمطبخ ، بينما وضعت ميس يديها بجيبى بلوزتها الفضفاضة ، وتبسم ثغرها على أنها ستحظى ببعض الهدوء والخصوصية ، فعادت للغرفة وأخذت كتاب لقراءته وبعد ذلك هبطت الدرج بتأنى حتى وصلت للحديقة
فالطقس اليوم مشمس يغرى على الجلوس قريباً من المسبح ، فتمددت على المقعد الطويل ، وبدأت بقراءة الكتاب لحين مجئ الخادمة بطعام فطورها ، أنهمكت بالقراءة ، حتى سمعت صوت والدتها وهى تناديها وتلقى عليها التحية :
– ميس أخبارك إيه يا حبيبتى
خفضت ميس الكتاب من أمام وجهها وأغلقته وتركت مقعدها وأبتسمت وهى تقبل والدتها على وجنتيها فقالت بترحيب :
– أهلا يا ماما نورتى البيت
جلست سوزانا على مقعد أخر ووجدت الخادمة تقترب بالصينية الموضوع عليها فطور ميس ، فوضعتها على المنضدة وأنصرفت لتأتى بمشروب بارد من أجل والدة سيدتها
خلعت سوزانا نظارتها السوداء الكبيرة ووضعتها على طرف حقيبتها وقالت وهى ترمق ميس بتساؤل :
– مالك متأخرة فى فطارك ليه كده ، أنتى مش بتفطرى مع جوزك قبل ما يروح شغله
ضمت ميس شفتيها ، فعادت وأبتسمت بإرتباك :
– لاء النهاردة صحيت متأخرة من النوم وكان عمران راح الشغل ، بس مقولتليش إيه الزيارة الحلوة دى
نظرت سوزانا لها وقالت وهى تحاول الابتسام :
– جيت علشان أشوفك ونخرج نعمل شوبينج سوا ، الصراحة القصر عند جدك بقى زحمة بعد ما كان مفيش غيرى أنا وهو وعاصم ، دلوقتى بقى الحبايب كتير
حكت ميس طرف ذقنها بخفة ، فهى تعلم مدى حب والدتها الشديد للهدوء وأنها دائماً كانت محبة لكونها هى سيدة قصر النعمانى ، ولكن الآن أصبح القصر طبقاً للأعراف السائدة بأن سيدته تكون زوجة مالك القصر ، وعلى الرغم من أن جدها هو المالك ، إلا أن راسل متزوج الآن وله زوجة وهو الأبن المتبقى له على قيد الحياة ، وليس مثل والدتها أرملة ولده الكبير ، فالوحيدة التى يحق لها إستلام زمام أمور القصر هى حياء ، مثلما هى زوجة عمران وأستلمت مهامها الخاصة بإدارة شئون المنزل
قالت ميس وهى تحاول الابتسام لتخفف من ضيق والدتها الذى لم تستطيع إخفاءه :
– بس بالذمة يا ماما مش عاملين حس للقصر وخصوصاً سجود بشقاوتها
زفرت سوزانا وقالت بخفوت :
– أهى سجود دلوقتى واكلة عقل جدك خالص ، تقريباً مبقاش شايف حد غيرها ، تقريباً نسينى ، وخالك مشغول مع مراته وراسل ومراته وإيلين وخناقاتهم مع بعض ، يمكن الوحيدة اللى يعنى بتكلم معاها هى وفاء خالة راسل ، بس برضه بتخرج الصبح تروح المحل بتاعها وترجع بالليل ، بقى معظم النهار قاعدة فى أوضتى ، فقولت أجيلك نخرج نغير جو شوية
أنحنت ميس للأمام وربتت على ساق والدتها وقالت بتفهم :
– ماما يا حبيبتى مش عيزاكى تزعلى من جدو أنتى أكتر واحدة عارفة هو بيحبك أنتى وخالو عاصم قد إيه ، دا تقريباً كان بيحبكم أكتر من إبنه راسل
تشابك كفى سوزانا وقالت بنهدة عميقة:
– أديكى قولتيلها كان يعنى دلوقتى الوضع أتغير
وضعت ميس يدها على كفى والدتها المضمومين ، وقالت برصانة :
– ماما ، راسل وسجود من حقهم برضه أنهم يحسوا بحب جدو ليهم بس مش معنى كده أنه هو خلاص نسيكى ، خلى بس كده أى حاجة تمسك وهو هيقلب الدنيا فوقانى تحتانى علشان خاطرك ، وخليكى واثقة فى معزتك وغلاوتك عند جدو أنتى قبل ما تكونى مرات إبنه ، إنتى بنت أخوه وهو اللى مربيكى زى ما دايما كنتى تقوليلى
هزت سوزانا رأسها وهى توافق إبنتها الرأى ، فبعد أن أنتهت ميس من فطورها ، أبدلت ثيابها وخرجتا للتسوق ، وبعد التجول عدة ساعات فى المتاجر ، عادت كل منهما لمنزلها ، فذهبت ميس بسيارتها للمرآب الخاص بها ، وترجلت منها وحملت ما قامت بشراءه ودلفت للمنزل وصعدت لغرفتها ، ولجت للداخل وقبل أن تضغط زر الإنارة سمعت صوت جمدها بمكانها
إذ هتف بها عمران وهو يضغط على زر الإنارة الجانبية للفراش :
– حمد الله على السلامة يا مدام مش كنتى تعرفينى أنك خرجتى من البيت ولا هو خلاص مبقاش ليكى حاكم
ألقت الحقائب من يدها بعنف ، وأضاءت المصابيح الكهربائية بالغرفة ، فصاحت بصوتها الغاضب :
– إيه ملكيش حاكم دى كمان حاسب على كلامك يا عمران أنت فاهم ، مش أنا اللى يتقالها كده ماشى يا ابن الزناتى
قفز عمران من على الفراش وإستقام بوقفته ، هل هى مازالت تملك ذلك الكبرياء اللعين والذى يجعلها تتحداه وتناطحه بالحديث ؟
ولكن إن صبر يوم أو بضعة أيام ، فذلك لن يعطيها الحق بأن تظن أنه خضع لأفعالها ، فهى بذلك لا تعرفه ولا تعلم ماذا بإمكانه أن يفعل ؟
وضع يديه بخصره متأهباً لكل حركة منها ، فرد قائلاً ببرود:
– وأنتى على ذمة إبن الزناتى ، اللى لازم مراته تاخد إذنه قبل خروجها وإن كنتى عايشة كده فى بيت أهلك فهنا يا حبيبتى بيت جوزك
عقدت ذراعيها وتبسمت بسخرية وأشاحت بوجهها عنه ، فطاحت بصوابه لفعلتها الهازئة ، حتى وإن لم ترد على ما قاله ولكن يكفى تلك الإبتسامة الساخرة ، التى زينت ثغرها الوردى
أقترب منها قابضاً على ذراعيها وهز جسدها صارخاً بوجهها :
– معناها إيه إبتسامتك دى مش عاجبك كلامى يا ميس ردى عليا
تباً لتلك الشرارة المنطلقة من أصابعه الغاضبة والقابضة على ذراعيها ، والتى أنطلقت بأوردتها كالسم الزعاف ، فهل هى أتخذت حيطتها وحذرها بالأيام الماضية ، لتأتى الآن ويتسرب الضعف لأوصالها؟ ولكن لا فهى لن تتركه يشعر بإنتصاره والذى بدأت ترى بوادره على وجهه ، من إسترخاء قسمات وجهه ، وتلك الإبتسامة التى تلوح على شفتيه القاسيتين ، والتى أختبرت كيف يكون عقابهما لعنادها
فبكل ما أوتيت من قوة ، نفضت يديه عنها ، بل لم تكتفى بإبتعاده هكذا إذ أشارت تجاه الباب وهى تقول بإصرار :
– أتفضل أطلع برا أخرج برا يا عمران ومتحاولش تقرب منى تانى فاهم
أتسعت حدقتيه وهو يراها تحاول صرفه بتلك الطريقة المهينة ، والتى لن يقبلها منها أو من غيرها فأجابها بدون أن يعى ما يقول :
– أنتى مفكرة نفسك إيه أنتى ، فوقى لنفسك إذا كنتى بنت النعمانى فأنا إبن الزناتى وإن كنت سايبك تعملى اللى عملتيه فده علشان بس بحبك لكن أنك تزيدى فيها ده اللى مرفوض أنتى فاهمة ، أنا بإمكانى كمان ساعة واحدة بس يكون على ذمتى واحدة غيرك وتقولى يا سيدى ، يا بنت النعمانى ، لأن مش أنا اللى أسيب الحب يذل فيها ، لاء يبقى لسه معرفتيش مين عمران الزناتى
قال ما لديه وخرج من الغرفة ، فظلت ميس مكانها ، تقف مشدوهة مما سمعته منه ، كانت تظن أنه سيحاول أن يستمليها إليه ثانية ، ويستميت بالحصول على رضاها ، ولكن جاءت النتائج مخيبة لأمالها ، فبات يهددها بإن لم تضع حد لأفعالها معه ، سيقوم بإستبدالها بأخرى ، كأنها تمثال سأم منه وسيحاول شراء أخر ليبهج نفسه برؤياه ، فكم هو عنيد ، ولكن هى الأخرى لم تكن بأقل منه عناد ، فهى تريد أن ترى ماذا سيفعل ؟ فلو فكر مجرد تفكير بأن يفعل ذلك ، ستحرمه من وجودها وليس هى وحسب ، ولكن من تلك النبتة التى ربما بدأت تنبت بأحشاءها ، والتى ستتيقن من وجودها بوقت قريب جدا
_____________
يعلم أن ما يفعله لهو الخطأ بعينه ، ولكنه لم يستطع السيطرة على أفكاره الثائرة ، ورجفات قلبه التى إن أنذرت بشئ ، تنذر بأن نهايته قد أوشكت على الإقتراب ، فما كان من أمره بتشديد أوامره لعقله وقلبه ، بأن يلتزما بذلك الوعد والعهد الذى قطعه على نفسه ، من أنه لن يحاول الذهاب لرؤيتها أو معرفة شئ خاص بها ، صار الآن بطى النسيان والتجاهل ، فالأمر الذى بدأ بمعرفة إسمها ، أصبح الآن يعلم أين تذهب ؟ وماذا تفعل ؟ فبعد علمه بأنها تعمل معيدة بكلية الفنون التطبيقية، وأنها تعمل بإحدى المكاتب الخاصة بالديكورات ، ذهب للمكتب بحجة أنه يريد مهندس كفء من أجل تجهيز مكتبه ، الذى ينوى إفتتاحه للعمل بالإسكندرية ، وأن يتم نقل جزء من أعماله من صقلية لهنا
ولج المكتب وحمحم بصوت منخفض قائلاً :
– لو سمحتى يا أنسة
إلتفتت ياسمين تجاه الصوت ، فوجدت ديفيد يقف قريباً من الباب ، بالبداية عقدت حاجبيها بدهشة من رؤية ذلك الشاب ، الذى يحمل ملامح أوروبية صرفة تمثلت بزرقاوتيه وشعره الأشقر وملامح وجهه الوسيمة ، فظنت أنه رجل أوروبى ، ولكنها عادت وتذكرت أنها إلتفتت إليه بعد محادثته لها باللغة العربية وباللهجة المصرية أيضاً
فردت ياسمين قائلة ببحة صوتها الذى يشبه الهديل :
– وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، أيوة يا أفندم
حك ديفيد بإصبعه خلف أذنه اليمنى ، بعد سماعه لها ترد بتحية الإسلام ، وهو لم يلقيها عليها بالأساس ، فحاول تجاوز الأمر وهو يبتسم إبتسامة صافية :
– كنت عايز أقابل المهندس صاحب المكتب علشان كنت عايز مهندس ديكور لأن ناوى أفتح مكتب خاص بالأعمال البحرية وعايز حد يجهزيهولى ، فسمعت أن المكتب هنا فيه مهندسين كويسين
ردت ياسمين برقة :
– تشرفنا يا أفندم ، أتفضل أقعد
أقترب ديفيد من مكان وقوفها ، فكان بجانبها يفوقها طولاً ببضع سنتيمترات ، فمرت بجانبه لتأخذ مكانها خلف مكتبها الصغير ، ليملى عليها ما يريده ، أسدل جفنيه على زرقاوتيه ، يأخذ نفساً عميقاً ، كأنها نسمة هواء لطيفة مرت من جواره وأراد ترطيب رئتيه بنسيمها
جلست ياسمين خلف المكتب ووضعت نظارة طبية ، على بنيتيها الوديعتين ، وأخذت قلماً ودفتر صغير للتدوين ، ورفعت رأسها وجدته مازال واقفاً مكانه ، فنقرت بالقلم على سطح المكتب ، لجذب إنتباهه ، ولكن ظل على حاله ، إلى أن هتفت به بهدوء :
– يا أفندم أتفضل أقعد واقف ليه وقوليلى على طلباتك ، بس أتشرف بالإسم الأول
جلس ديفيد حيث أشارت ، وعندما هم بفتح فمه ليخبرها بإسمه الحقيقى ، عاد وأغلقه ثانية يفكر فى إخبارها بإسم أخر ، حتى لا تشعر بالنفور منه كونه شاب يحمل إسم أجنبى حتى وإن كانت جذوره مصرية، فلو أخبرها إسمه كاملاً ربما تستطيع التكهن بهويته ، فبلمحة خاطفة عاد وتذكر أن أثناء مجيئه لهنا سمع إحدى السيدات تنادى صغيرها بإسم " تميم" ، فهو كأنه نسى الأسماء كلها فجأة ولم يعد يتذكر سوى هذا الإسم
فحمحم قائلاً بهدوء :
– إسمى تميم موسى
هكذا لن يساورها الشك حياله ، فهو أعطاها إسماً غير إسمه الحقيقى ، ولا يعلم أى شيطان وسوس له لفعل ذلك ، فهو بدأ السير بدرب الكذب مبكراً
دونت هى إسمه أعلى الورقة وهى تقول بتهذيب :
– تشرفنا يا أستاذ تميم ، قولى طلبات حضرتك إيه
كم يشعر بحرق تلك الكلمات لجوفه ولسانه وهو يريد أن يجيبها بأنه لايريد شئ سواها هى ، ولكن لا فليكن أشد حذراً بالحديث معها
فرفع ذراعه وأسنده لحافة مكتبها وهو يقول بود :
– زى ما قولتلك أنا ناوى أفتح مكتب للأعمال البحرية الخاصة بالمينا ، كنت عايز الديكورات حاجة شيك جدا وكويسة ، بس فى نفس الوقت عملية ومريحة
دونت باقى حديثه وقالت وهى تنظر بالورقة المدونة :
– تمام حضرتك فهمت قصدك ، دلوقتى عايزة عنوان المكتب ، وتقولى عايز تستلمه فى مدة زمنية قد ايه
قبل أن يجيبها على أسألتها ، بادر هو بسؤاله المُلح :
– هو مين المهندس اللى هيشرف على الشغل
رفعت وجهها وتبسمت ببشاشة وهى تقول:
– أنا حضرتك اللى هشرف على الشغل وأتمنى إن شاء الله يعجبك ، ومش عيزاك تقلق خالص فى أقرب فرصة هتستلم مكتبك زى ما أنت عايز
– لو أنتى اللى هتعمليه ، خليكى براحتك على الاخر ، مش عايزه يخلص
قالها ديفيد بدون وعى ، ولكنه أنتبه على ذلة لسانه ، عندما وجدها تهتف به بشئ من الخشونة :
– أفندم حضرتك بتقول إيه
أبدى إعتذاره على الفور قائلاً بأسف :
– أنا أسف مش قصدى حاجة ، كل اللى أقصده أنك تتمى الشغل براحتك
رمقته ياسمين بإستغراب ، ولكن قبل أن تعلن عن قبولها أو رفضها لإعتذاره ، سمعت رنين هاتفها ، فإبتسمت تلقائياً ، ورفعته عن المكتب واضعة إياه على أذنها قائلة بإبتسامة حب :
– السلام عليكم يا حبيبى ، لاء خلاص شوية وهخلص شغلى مش هتأخر عليك سلام
أنهت المكالمة ، وعندما عادت تنظر لديفيد ، وجدته ينظر لها بشك وإتهام ، بل أنه لم يحجم لسانه وهو يقول بغضب :
– هو مين ده اللى حبيبك وكنتى بتكلمى مين
فغرت ياسمين فاها ورفعت حاجبيها من هجومه بحديثه الغير مبرر على الإطلاق ، فنهضت من مكانها وهى تقول بإستياء :
– هى إيه حكايتك يا أستاذ أنت ، هو أنت مجنون ولا إيه ، أتفضل أمشى يلا ، بدل ما أنادى للساعى يرميك برا
هب ديفيد واقفاً مكانه ، ظنت أنه سيأخذ بحديثها ويرحل ، ولكن وجدته يدور حول المكتب ، وأمسكها من ذراعيها يصيح بوجهها :
– بقولك قوليلى مين حبيبك ده أنطقى
نفضت هى يديه عنها ، وشعرت بالخوف من جنونه المفاجئ ، إلا أنها تسلحت بشجاعتها وعنفوانها ، فرفعت يدها اليمنى وصفعته على وجهه صفعة مدوية قائلة بتحذير :
– إياك تحاول مرة تانية تلمسنى أنت فاهم ، وأتفضل أمشى ، أحسن هطلبلك البوليس المرة دى
وضع ديفيد يده على وجنته ، التى تلقت صفعتها القاسية ، ونظر إليها وجدها تمسد على ذراعيها ، كأنها تريد محو أثار يديه ، كأنها تشعر بالإشمئزاز والنفور ، ودل على ذلك تلك الدمعات التى ترقرقت بداخل مقلتيها ، كأنه فعل بها جُرم لا يغتفر ، فلم تكتفى بما فعلته ، فصاحت منادية للعامل ، الذى جاءها على وجه السرعة ، وأشارت إليه بأن يرافقه حتى الباب ، فحظها السيئ أن المكتب اليوم ، لم يكن به أحد سواها هى والعامل ، فهى من تأتى مبكراً من أجل مقابلة العملاء لثقة صاحب العمل بها ، والذى يكون خالها شقيق والدتها ، فكثير من الأحيان يتركها هى تدير العمل أثناء غيابه
______________
اليوم هو بصدد الذهاب للمشفى برفقة خالته وزوجته ،من أجل إصطحاب والد زوجته ، الذى مكث بالمشفى عدة أيام فاقت تخمينه ، فالطبيب هو الذى شدد على ضرورة وجوده بالمشفى من أجل تلقى الرعاية الطبية اللازمة له ، حتى لا يعود ويصاب بتلك الحالة الصحية ثانية ، التى رآها أنها كانت ستودى بحياته لولا عناية الله له ، فكم من مرة شاهد خالته وهى تبكى خلسة خشية خسرانها لزوجها ووالد إبنتها ، فهو يعلم مدى أهميته لها ، وذلك الود والمحبة بينهما
أرتدى ذلك القميص الأزرق ، الذى إبتاعته له هند خصيصاً من أجل إرتداءه اليوم ، فعلى الرغم من إصراره على الذهاب لشقته لجلب ثيابه ، إلا أنها أصرت أن تبتاعه له على سبيل الهدية بين رجل وزوجته ، فلم يشأ الإعتراض ، أو أن يرد لها هديتها ويتسبب فى حزنها
سمع صوت طرقات على الباب تلاها إدارة المقبض وولوج هند الغرفة وهى تقول بإبتسامة عريضة :
– خلاص خلصت علشان نمشى
إستدار إليها بعد أن أنتهى من تمشيط شعره ورد إبتسامتها بإبتسامة أشد حلاوة :
– أه خلاص خلصت
أمعنت النظر به جيداً ، فوسامته التى تراها صارخة بمدى أناقته وصفاء رماديتيه ، كانت باعثة على الخطر ، فتلك الأفكار التى جالت بخاطرها من أنه سيخرج هكذا وربما تراه الممرضات بالمشفى ، أشعلت بقلبها فتيل الغيرة ، فكيف هى بماضيها لم ترى مدى وسامته تلك ، أو أخلاقه وصفاته الرجولية التى يتحلى بها وتزيد من إفتتنانها بوسامته
ساقتها قدميها إليه كالمغيبة ، ووقفت أمامه ومدت يدها تعدل من ياقة قميصه التى لم تكن بحاجة لذلك ، ولكن ذلك لم يكن حجة إلا لتقترب منه ، وتلمس أناملها جانب عنقه ، يضربها ذلك النبض النافر بعروقه من قربها المهلك لقلبه
أزدرد لعابه للمرة التى لا يعلمها ، قبل أن يقول بصوت جاهد على أن يحاول خروجه من بين شفتيه ، اللتان شعر بجفافهما فجأة :
– إحنا مش هنمشى ولا إيه
أجابته بصوت أشد خفوتاً من صوته :
– لاء هنمشى بس كنت بعدلك ياقة القميص ، دا طلع عليك حلو أووى يا كرم
تعمدت إكساب صوتها نعومة فائقة وهى تهتف بإسمه بأخر عبارتها ، التى خرجت تحمل دفئاً وإشتياقاً لإحدى صولات وجولات جنونه الذى إعتادته عندما كانت تقيم معه بشقته
بتردد رفع يديه وأمسك ذراعيها من أعلى مرفقيها ، فثوبها الصيفى غير مكتمل الأكمام ، لم يكن مناسباً بتلك اللحظة التى شعرت بأن دفء كفيه ، سيشعل النيران بجلدها ، فلو كانت أرتدت ثوب بأكمام طويلة ، لربما تفادت ذلك الشعور من ملامسته لها
– هـ ـنـ ـد
خرجت حروف إسمها المتقطعة من فمه ، تبدى مدى إرتباكه وتوتره ، على الرغم من أنه سبق له عناقها وضمها بل بإحدى المرات كان الأمر سيتطور بينهما وكانت ستصبح زوجته فعلياً، إلا أنه اليوم كأنه عاد كرم القديم ، الشاب الخجول والذى كان يستحى كثيراً رفع وجهه ويمعن النظر بها ، ولكن هى من أحثته على قول ما لديه وهى تقول بصوت ناعم :
– نعم يا عيون هند
تفرض أمور دلالها لثقتها وتيقنها الآن ، من أن لاشىء سيحول بينهما ، فحبها حقيقة لا يمكن إنكارها ، كتلك الحقيقة والبراهين القاطعة على أنها ستحاول أن تكون الزوجة ، التى تمناها دوماً ، علاوة على أنها تتحرق شوقاً لمعرفته حقيقة أمرها ، بأنه سيكون هو أول وأخر من سيمتلكها ويقيدها بقيود العشق والغرام
خصلة متمردة أبت أن تنضم لميثلاتها من باقى خصيلاتها الفحمية ، كان مصيرها الإلتفاف حول سبابته ، ولكن عاد وإستفاق على تلك الحالة من الهيام ، التى بدأت تنشر أثرها بأوردته وكاد يشعر بالخدر من تلك اللمسات الحالمة ، التى صارت بارعة بفعلها لتجعله يخضع لها بالأخير
– يلا إحنا لازم نروح لباباكى فى المستشفى
قالها كرم وقبض على كفها وخرج من الغرفة ، ليبتعد عن كل تلك المغريات ، فوجد خالته بإنتظارهما والتى تبسمت لرؤيتهما يهبطان الدرج سوياً ومتشابكى الأيدى
وصلوا للمشفى وأنهى كرم الإجراءات اللازمة لخروج والد زوجته ، فعادوا جميعهم للمنزل ثانية ، ساعد كرم زوج خالته بأن يستريح بفراشه ، فربت على كتفه وهو يقول بإمتنان :
– تسلم يا كرم على كل حاجة عملتها معانا ، أنا لو كنت خلفت ولد مكنش هيعمل معانا كده
رد كرم قائلاً بإبتسامة :
– متقولش كده يا عمى دا إحنا أهل وعلشان كده كنت عايز أتكلم مع حضرتك بخصوص موضوعى أنا وهند
نظر له والد زوجته قائلاً بإبتسامة بشوشة :
– خالتك قالتلى على كل حاجة ، وأنت عارف رأيى ، أنا ملقيش فى الدنيا دى حد أحسن منك لبنتى
أنهى حديثه وأخذ يديى كرم بين كفيه وضغط عليهما مكملاً لحديثه:
– وأنت هتبقى إبنى اللى مخلفتوش ودلوقتى معلش ناديلى خالتك
خرج كرم من الغرفة ونادى خالته ، التى خرجت من المطبخ بعد أن أوصت الخادمة بتجهيز الطعام ، وولجت غرفتها هى وزوجها ، ولكن لا يعلم كرم أين ذهبت هند ، فخرج للحديقة للبحث عنها
أثناء مروره بالحديقة ، ومن جوار تلك النافذة التى تخص غرفة خالته وزوجها بالطابق الأرضى ، سمع ذلك الحوار الدائر بينهما
إذ سمع زوج خالته وهو يقول ضاحكاً:
– بس إيه رأيك فى اللى عملته بقى جاب نتيجة صح
ردت زوجته وهى تقول بإستياء طفيف :
– بس أنت هربت دمنا وخوفتنا عليك ، يعنى علشان تصلح أمور بنتك مع جوزها تقوم تفول على نفسك بالمرض ودخول المستشفى كمان ، يعنى لولا أنك قولتلى على الحقيقة ، كان زمانى دلوقتى لسه مكملة عياطى
زفر زفرة مطولة وهو يقول ، كأنه لم يكن يملك حيلة غير تلك التى فعلها :
– أنا معملتش كده إلا لما شوفت بنتى بتتقطع من جواها على أن جوزها هيسيبها ، وأنتى عارفة أن هند عمرى ما رفضت ليها طلب حتى لو كانت طلبت لبن العصفور ، كنت هجبوهلها ، لأن عارف كرم شهم ومكنش هيسيبكم فى الظروف دى وأنه هيفضل جمبكم وساعتها هند هتقدر تقنعه يتخلى عن فكرة الطلاق ، حتى كمان ناوى أخليه ميرجعش الأقصر تانى ، وأخليه يعيش معانا هنا ، لأن بنتى ممكن متستحملش العيشة هناك ، ومش عايزها تتبهدل
أبتعد كرم عن النافذة بعد سماع نداء هند له يأتى من مكان ليس ببعيد ، ولكن يكفى ما سمعه ، فزوج خالته مارس عليه خدعة من أجل أن يضمن بقاءه بجوار إبنته ، فحبه لإبنته جعله يسلك كل السُبل الممكنة والغير ممكنة لضمان سعادتها ، ولكن هل هو لعبة أو دمية ، أراد شراءها من أجلها ؟ بل أنه ينتوى جعله يعيش هنا بكنفه ، وأن يصبح زوج الفتاة الثرية ، فلو هو وافق على ذلك ، سيظن الجميع أنه هو من سعى لأن يكون زوج لإبنة خالته ، لكى يصبح رجلاً ثرياً ويتمتع بنفوذ والد زوجته ، فشعور بالمهانة أكتسح ما لديه من قدرة على التفكير السليم
_____________
أصبحت عيناها غائرتان وجفونها مائلة للون الأحمر ، من كثرة إرهاقها بالبكاء وتحريم النوم عليها ، فمنذ تلك الليلة وما حدث بها ، صارت حالتها أشد سوءاً عن حالات الإكتئاب أو العزلة التى كانت تفرضها على نفسها أوقات كثيرة ، ولكن تلك المرة كأنها القشة التى قصمت ظهر البعير ، إذ أصبحت تلازم غرفتها وفراشها بشكل دائم ، بل أنها لا تعلم إلى أى حال صار مصير أبيها بعد إطلاقها تلك الرصاصة التى أصابته ، فحتى الخادمة التى تعمل على رعايتها والعناية بها ، لا تلقى بيرى بنظرة واحدة عليها ، ولكن ما أن تسمع مقبض الباب يدور ، تغلق عيناها على الفور وتدعى أنها غارقة بسباب عميق ، فهى لا تريد أن ترى أحد ولا تتحدث مع أحد
ولج ثالث طبيب تم إستدعاه من أجلها ، فلم تكلف نفسها عناء إبعاد جفنيها عن بعضهما البعض لتناظره ، أو أن تبدى استعدادها لأن يبدأ بفحصها بسبب التراجع الشديد لصحتها ، فهى أصبحت كالوردة الذابلة والتى لم يعد لها رونق أو عطر ، سوى أوراق جافة وساق أصابه اليبس
– عاملة ايه النهاردة يا أنسة بيرى
قالها الطبيب الخمسينى ذو الوجه البشوش بود ، فربما تتخلى عن تظاهرها بالنوم وتفتح عيناها وتجيبه على سؤاله
ولكن لم يأتيه رداً منها ، ولكن يجب عليه فحصها كما أمره والدها ، والذى كان أمره ينطوى على تهديد صريح بالايذاء إذا فشل بأن يجعل تلك الصبية تفيق من تلك الحالة الصحية المزرية
أتم فحصه لها وأدريانو يقف قريباً من الفراش ، كأنه يخشى التقدم ويمعن النظر بوجه إبنته ، ويرى شحوب وجهها ورغبتها القوية فى أن تظل هكذا حتى تنتهى أنفاسها ، كأنها أختارت الطريقة الأنسب فى تعذيبه ، بأنها لن تقدم على الإنتحار وتنهى الأمر ببساطة ، ولكن ستظل هكذا، حتى يدركها الموت ، ولكن ليس قبل أن تجعله يشعر بفداحة أفعاله ، وأن تجعل الخوف يأكل قلبه وعقله ، فهى تعلم مدى تعلقه الشديد بها
بدأ الطبيب فحصه لها بدقة وعناية ، وبأثناء ذلك سمع أدريانو صوت طرقات متتالية على باب الغرفة ، ففتح الباب وجد حياء ومن خلفها زوجها ، فلم يكن لديه الوقت الكافى ليبدى دهشته أو صدمته من رؤية راسل هنا وبمنزله
قالت حياء وهى تنظر من خلفه لبيرى :
– أنا ديفيد قالى أن بيرى تعبانة فجيت علشان أشوفها
رفع يده يشير لها بالدخول ، فهرولت بخطواتها حتى وصلت لفراش بيرى وجلست بجانبها تناديها بصوت حنون :
– بيرى أنا حياء جيت علشان أشوفك ألف سلامة عليكى
على الفور فتحت بيرى عينيها ونظرت لحياء ، وسرعان ما اجهشت ببكاء مرير وهى تقترب منها تقول بصوت نائح :
– حياء ، شوفته يا حياء شوفت عبد الرحمن وياريتنى ما شوفته
ضمتها حياء إليها وربتت على جسدها ، لعلها تكف عن الإرتجاف كالأرنب المذعور ، فلملم الطبيب أدواته ونظر لأدريانو قائلاً بهدوء:
– بنت حضرتك محتاجة دكتور نفسى ، لأن معندهاش مشاكل عضوية ، كل اللى هى فيه ده ناتج عن سوء حالتها النفسية
أخذ أدريانو الطبيب معه وخرج من الغرفة، ولكن قبل خروجه رمق راسل قائلاً:
– معلش أن معرفتش أرحب بيك يا دكتور راسل بس ثوانى أوصل الدكتور وراجعلك
أماء راسل برأسه قدر ما أقتضاه الذوق ، فوجد مقعد أسفل النافذة ، فجلس عليه واضعاً ساق على الأخرى ، وينظر لزوجته التى تحاول بث الأمان بنفس بيرى ، التى إستكانت بين ذراعيها كالطفلة الصغيرة
تلك هى حياء ، إن لم تجعل من يقترب منها يريد دفن يأسه بين ذراعيها الناعمتين ، لن تكون صبيته الحسناء ، فبعد مرور خمس دقائق ، رآى راسل أدريانو يعود للغرفة ثانية ولكن تلك المرة لم يكن بمفرده ولكن يتبعه ديفيد ، الذى ولج الغرفة متجاهلاً وجوده عن قصد ، وأقترب من شقيقته واضعاً قبلة على رأسها وهو يقول بصوت حانى :
– وحشتينى يا حياء
لو لم يكن يعلم أن هذا الشاب هو شقيق زوجته ، لكان أطاح برأسه من على كتفيه لتجرؤه على تقبيل رأسها ، فبعد ذلك نظر إليه ديفيد ، كأنه أنتبه مؤخراً على وجوده
فخطى خطاه تجاهه ، ورفع يده قائلاً بأنفة وغرور :
– أنا ديفيد أخو حياء ، أكيد سمعت عنى
إستقام راسل بوقفته فصافحه مكرهاً ، فالجو بينهما كأنه تم شحنه بالكراهية منذ ملامستهما ، فيد حياء التى تربت على بيرى أصابتها الرجفة وهى ترى زوجها وشقيقها يقفان بمواجهة بعضهما البعض كأنهما إثنان على وشك بدأ معركة بينهما ، على الرغم من التحضر البادى على كل منهما
وأكتملت مخاوفها بإنضمام أدريانو لهما ، والذى صافح راسل ،كأنه يتم العهد بالغدر ، ولكن خلف إبتسامة هادئة ، وترحيب زائف
فقال أدريانو وهو يرمق حياء بخبث :
– بس فرصة سعيدة أنك شرفتنا يا دكتور راسل ، وأتمنى تنبسط بالقعدة معانا هنا ، أعتبر البيت بيتك ، عن أذنكم دلوقتى عندى مشوار مهم ، ديفيد هياخد باله منك على ما أرجع تانى
قال راسل بسخرية فجة :
– دا على أساس أن أنا بيبى صغير جاى يزوركم و عايز حد ياخد باله منه ليلعب فى حاجة ويكسرها
جلجلت ضحكة أدريانو بالغرفة ، فرد قائلاً بدهاء :
– دمك خفيف أوى يا دكتور راسل وشكلنا هننبسط أوى مع بعض عن أذنك
خرج أدريانو من الغرفة وأغلق الباب خلفه ، سار حتى وصل لذلك الجزء المنزوى من المنزل ، والذى يبدو عليه أنه مهجور ولا يجعل أحد يقترب منه ، أخرج مفتاح من جيبه ووضعه بمقبض الباب ، فسمع صوت التكات الدالة على نجاحه بفتحه
ولج للداخل يبحث عنها بعينان تشبه أعين الصقر ، وجدها كعادتها جالسة قريباً من النافذة وأمامها تلك المنضدة التى تراصت عليها أوراق اللعب ، فشعرها الأبيض الذى يشبه القطن ، تركته مشعثاً كالعادة كأنها تريد إخفاته ، أو ربما لتكمل تلك الصورة التى يراها عليها دائماً بأنها " ساحرة وعجوز شمطاء "
تبسمت بدون أن ترفع وجهها ، ومررت يدها على أوراق اللعب ، حتى نقرت بإصبعها على إحداها وهى تقول بصوتها الحثيث:
– ذنب فى الماضى ، وهى هتدفع تمنه ، بس مش هى لوحدها ، نسل إسكندر شمعون صابته اللعنة
نفخ أدريانو بملل قائلاً بحنق :
– بطلى تخاريفك دى بقى يا "مارجريت" علشان أنا زهقت ، أنا جايلك تشوفيلى حل علشان بيرى ، الدكاترة مش عارفين يعالجوها
عادت تبتسم بهدوء ورفعت الورقة التى أرتسم عليها صورة الفتاة قائلة بصوتها المنخفض والمرعب بأن واحد :
– بنتك دواها مش فى إيد دكتور ، بنت دواها فى إيد اللى أنت قطعتله إيده ، ترياق بيرى موجود فى قلب الغايب ، اللى حاولت تبعده عنها ، أنا قولتلك دى لعنة ، ومفيش حل ليها ، مكنتش مصدقنى يا أدريانو ، لما قولتلك أن لعنة زمان رجعت تانى ، أهى بنتك وقعت في الحب ، وبنت دانيال غرقانة فيه وهتنكوى بناره ، وولى عهدك اللى مستنى أنه يبقى خليفتك ، زهر الياسمين نبت فى قلبه ، مثلث وأضلاعه التلاتة هيخرجوا عن السيطرة ، هيخرجوا عن السيطرة ويا ويلك يا أدريانو
– أسكتى خالص
صرخ أدريانو بوجهها وأقترب منها قابضاً على تلابيب ثيابها ، وهو يرغى ويزبد من ضيقه وغضبه من قولها ، الذى تعيده عليه كل مرة تراه بها ، تلك المرأة التى تشبه الساحرات الشريرة القدامى ، فهى خبيرة بقراءة الورق ، رغم تقدمها بالعمر
شعر بنظراتها تذيب عظامه ، فهى حتى بدون أن تحاول لمسه ، يمكنها بث الرعب به ، فأبتعد عنها سريعاً وهو مستطرداً:
– مش أنتى السبب فى أنك خبيتى بنت دانيال عنى وهربتيها يعنى كان ممكن تتربى مع أخوها وبيرى وميحصلش اللى حصل
أطلقت مارجريت نهدة عميقة وقالت بحسرة :
– يا قلبى عليك يا دانيال ، راح ضحية لعمايلك يا أدريانو ، كان لازم هو اللى يعيش وأنت اللى تموت يا إبن أختى
__________
•تابع الفصل التالي "رواية لا يليق بك إلا العشق" اضغط على اسم الرواية