Ads by Google X

رواية عشق الغرام الفصل الحادي عشر 11 - بقلم ندى ممدوح

الصفحة الرئيسية

   

 رواية عشق الغرام الفصل الحادي عشر 11 -  بقلم ندى ممدوح 

ماذا لو ألقى المرء نفسه في التهلكة؟
أيخرج منها سالمًا، أم تراه يخرج متهدمًا ضعيفًا محبطًا!
أن يلقي المرء نفسه من فوق جرفٍ هارٍ يدرك أنه سينهار بهِ في واديٍ سحيقٍ في دياجيرٍ من الظلام.
فرغ يمان من لقاء العمل ورحل العملاء الذين كانوا برفقته، فزفر بضجر وهو يتراجع مسترخيًا إلى ظهر المقعد وقد عقد ساعديه أمام صدره، وحدق في غرام الشاردة من بداية اللقاء في حيرة تجلت فوق قسمات وجهها، ثم تنحنح قائلًا باهتمام:
_غرام، مالك سرحانة في أيه؟ شكلك مضايق في حد ضايقك؟!
فلم يتلقَّ ردًا منها، بل ظلت على حالها ترتكز بمرفقها على الطاولة وقد سلمت ذقنها إلى راحتها، فحرك رأسه متعجبًا، وعلا صوته وهو يقول في حدة:
_غرام.. غرام أنا بكلمك.
فأنتفضت تنظر إليه بهلعٍ، وقد أجفلها صوته، ورددت:
_نعم، كنت بتقول أيه؟
فمال بجذعه على الطاولة، وهو يشبك كفيه أمام وجهه، وأردف:
_بسألك أيه إللي مضايقك؟
فهزت رأسها وهي تقول بصوتٍ شاحب:
_مفيش حاجة.
فغمغم يمان بثقة وهو يهز رأسه نافيًا ما قالت:
_لا في.. أنا متأكد.
وأتبع يقول بصوتٍ خفيضٍ هاديء:
_لو عايزة تتكلمي أنا هسمعك.
فأسبلت جفنيها لبرهة، ثم نظرت إليه وهي تبتسم، قائلة:
_شكرًا جدًا ليك بس بجد أنا بخير مفيش أي حاجة.
رمقها بنظرة مشككة، غير مصدق ما تقول، لكنها أستطردت تقول وهي مطرقة الرأس:
_أنا وزكريا هنكتب كتابنا مع غادة أختك، أكيد عرفت.
فنظر لها في جمود ممزوج بالصدمة، وتمتم:
_دا بجد، إمتى خدتوا قرار زي ده؟
فهزت منكبيها وهمست في بساطة:
_من شوية.
فحدجها شذرًا ثم سألها بنبرة صارمة:
_أنتِ عايزة تكملي بجد مع زكريا؟ مينفعش تفكري كويس! أأنتِ بجد عايزة تتجوزيه.
فظلت لردحًا من الزمن لائذة بالسكون التام دون رد، وقد عصفت بها الأفكار عصفًا.
كانت خائفة كريشة في مهب الريح، لا ريب أن تجربتها السابقة لا تزل عقبة في طريقها، يجتاحها الوجل من أن يعاد ما مرت به سابقًا! ماذا لو حصل وطلقها زكريا بعدما صارت زوجته؟ أيمكن أن يكون مثل طارق؟
كالرياح الهوجاء أخذت تمور الأفكار بين جوانحها، ثم رفعت رأسها لتقول بنبرة حاسمة.. صارمة:
_زكريا حد كويس وزوج مناسب غير أنه ابن صديق بابا ومتعرفش انا بحب عمي مختار قد أيه وواثقة في تربيته.
فزم شفتيه، ورفع حاجبًا مندهشًا، وقال ذاهلًا:
_أنتِ عشان كدا موافقة عليه؟!
وجهم المحيا وأكفهرت ملامحه، ثم أتبع:
_أنتِ محتاجة تعيدي ترتيب أمورك، لأني شايف العكس، زكريا مش مناسب ليكِ!
فتطلعت فيه بحدة، وهاجت قائلة:
_وأنت يعني عارف أيه المناسب ليَّ؟!
ثم هبت واقفة وهي تقول بعصبية:
_خلينا نمشي أنا مش عارفه إحنا قاعدين ليه بما أننا خلصنا!
فرمقها بنظرة مشتعلة، ثم نهض في هدوء وسار أمامها وهو يشعر بالغضب..
بالغضب من نفسه..
لأنه قد تدخل فيما لا يعنيه..
*********
جاء اليوم الموعد، اليوم الذي ستقترن به بحبيبٍ فعل لأجلها المحال لينالها، كانت غادة تكاد تطير فرحًا والأرض لا تسعها ومنذُ أن أشرق الصباح وهي تتجهز، عكس غرام التي كانت فاترة لا تفتأ عن الشرود الذي سلبها من الناس، وسلب منها الفرحة، مختار لم يقصر مع البنتين فقد أحضر لهما الهدايا وكل ما يحتاجانه في هذا اليوم، أنتهت غرام من وضع (المسك) على وجهها، ثم غسلته وجففته وخرجت إلى الشرفة لتحادث أبيها لتعلم إلى أين وصل، فما أن همت بأن تتصل به، حتى أعترتها فرحة هائلة، فلقد رأته وهو يترجل من السيارة ويعاون جدتها على النزول، فصرخت في ابتهاج كأن الروح قد عادت إلى جسدها المنطفيء فأنار، واندفعت تعدو خارج الحجرة وتهبط الدرج وهي تصيح في شغفٍ ولهفة:
_بابا..
والتفت إليها عبد السلام وقد هش وبشر، وقال مسرورًا:
_غرام.
رمت غرام نفسها بين ذراعيه، ثم أجهشت في البكاء، وغمغمت:
_وحشتني أوي يا بابا.
فربت عبد السلام على ظهرها برفقٍ، وقال بحنو:
_دول كلهم كام أسبوع بس، أمال لما تبقي في بيت زوجك هنعمل أيه بقا؟
فأبتعدت غرام وحدقت فيه بحزنٍ، وتمتمت:
_يبقى بلاش أتجوز أحسن.
ثم أستدارت نحو جدتها التي تأبطت ذراع يمان وأندمجت معه في حديثٍ ما، فدنت غرام منها وهي تقول:
_تيتا عاملة ايه وحشاني؟!
فنظرت إليها الجدة وقد زوت ما بين حاجبيها، ودققت فيها البصر، وغمغمت في فتور:
_أنتِ مين يا بت أنتِ؟ وأيه تيتا دي أنا هكون ستك منين؟
فحوَّلت غرام بصرها نحو أبيها، ثم التفتت مجددًا إلى جدتها، وقالت في هدوء:
_أنا غرام بنت ابنك!
فدمدمت الجدة مفكرة وهي تبتعد عن يمان:
_هو أنا معايا عيال؟
رفعت غرام حاجبها في دهشة، وهمت بأن تجادل جدتها، لولا نهلة التي جذبتها من ذراعها وهي تقول:
_سيبك من جدتك إللي بقا عندها زهايمر دي وتعالي سلمي عليَّ يا عروسة.
فأفلتت غرام ذراعها من بين أصابع الأخرى، وقالت في جدية:
_أنا حاسة أن ستي مش بخير!
فأجابتها نهلة بوجهٍ اكتسى بالحزن:
_أبدًا بس ستك كبرت في السن وبجد بقى عندها زهايمر يعني هي مش بتهزر معاكِ زي ما كانت بتعمل.
فإزدردت غرام لعابها في ألمٍ، ثم أنصرفت برفقة نهلة وهي تأخذ الجدة معها قائلة:
_تعالي يا ستي مش أنا هتجوز النهاردة!
فصعدت الجدة درجات السلم في ثقل، وهي تقول باندهاش:
_بجد يا بت وهنعمل فرح وهنرقص.
فضحكت غرام في خفوت وهي تسندها، قائلة:
_أيوة، هتفرحي بغرام النهارده افتكرتيني.
فأومأت الجدة مرارًا، وهي تقول:
_أيوة أيوة غرام أفتكرتك أنتِ سفرتي وسبتني ليه يا بت؟!
وكان أجمل عتاب يأتي لغرام، التي أشرق وجهها وأخذت تثرثر برفقة جدتها التي لم تلبث أن همست في حيرة:
_أنتِ مين يا بت أنتِ؟ وبتعملي هنا أيه؟
*************
تم عقد القران، وفي غمضة عين وجدت غرام ذاتها زوجة لزكريا مختار، استقبلت التهاني بفتورٍ، ورحبت بالمدعوين ببسمة مجاملة، عكس غادة التي كانت بسمتها متسعة والبهجة تطلُ من عينيها، لا شيء يدوم ولا شيء يبقى على حاله، ولا أحد يعلم ما المخبأ غدًا.
جلس يوسف إلى غادة، وطَفِقَ يحدثها عن أحواله.
ويكشف لها عن سر حبه لها..
وهي تستمع إلى ما يقول في إنصات، وبغتة قرر أن يخرجا معًا وذهبت لتستأذن من شقيقها الذي سمح لها بذلك، وعادت إليه فوجدته يتحدث في الهاتف في مكانٍ منزويٍ، في أقصى ركنٍ بالحديقة، وقد امتقع وجهه، وبدا القلق جليًا يحفر على ملامحه مكانًا رحبًا، فتوجست خيفة من أن يكون ثمة أمرٍ جلل، ثم أغلق هاتفه وتقدم إليها بخطواتٍ واسعة، سريعة، كأنه يعدو، ثم قال بعجلٍ:
_غادة أنا.. أنا لازم أمشي عندي شغل ضروري؟
فغمغمت وقد تلاشت فرحتها:
_شغل في يوم زي ده؟ مش قولت ليّ هنخرج سوا؟
وترقرقت عينيها بالدموع، فتبسم في حنو، وضم كفيها بين راحتيه، وهمس:
_حقك عليَّ مكنتش أحب يحصل كدا بس دا واجبي ولازم أأديه على أكمل وجه بدون ثغره.
رن هاتفه مجددًا فنظر إلى شاشة الهاتف، وأسرع يغادر وهو يقول دون أن ينتظر أي كلمة منها:
_معلش يا غادة لازم امشي، بلغي بابا أني مشيت وهو هيفهم.
ظلت غادة متسمرة في مكانها تشيع رحيله بعينين تسحان بالعبرات.
***********
جلست غرام إلى زكريا منفردين، أعتراها الخجل فنكست رأسها في توتر، وهي تفرك أصابعها ف ارتباك، تأملها زكريا طويلًا في تمعن، بل كانت عينيه تتوغلان النظر فيها في تدقيق، ثم ابتسم بسمة واثقة، وغمغم:
_مبارك يا غرام.
فهمست بصوتٍ شاحب وهي تدير وجهها بعيدًا عنه:
_الله يبارك فيك، ومبارك ليك أنت كمان.
مد زكريا كفيه ليضم يديها بين راحتيه، فما كادت أصابعه تمس بشرتها مسًا، حتى انتفضت في ذعر وهي تهب واقفة لتبعد قائلة بوجل:
_أنت بتعمل أيه؟
ضحك زكريا في تهكم، وقال في سخرية:
_بعمل ايه؟ مراتي وبمسك أيدها أيه يعني اللي عملته؟ ولا أنتِ اول مرة تتجوزي؟!
ثم نهض وسار نحوها بخطواتٍ وئيدة حتى غدا قاب قوسين أو أدنى منها، ومال بوجهه شطر وجهها وتمتم بصوتٍ خفيض:
_ولا طارق مكنش بيمسك أيدك؟!
وشرع يقهقه، فتميزت هي غيظًا وقد دفعته بعيدًا عنها، وقالت في انفعال:
_أنت قليل الأدب على فكرة!
فصاح زكريا في تهكم:
_أنتِ لسه شوفتي قلة أدب!
فتوجست غرام خفية وهي تتقهقر بعيدًا عنه، فما أن باتت في منأى غمغمت في تلعثم:
_أنت تقصد أيه؟!
أدرك زكريا أن عليه أن يلملم الموضوع قبل أن يستفحل، ويحدث ما لا يتوقع، فأضفي إلى صوته بكل قدرٍ من جدية وحنان، وأردف:
_غرام يا حبيبتي مقصدش أي حاجة، بس أنا مش عايزك تتكسفي مني ولا تخافي أنا خلاص بقيت جوزك.
واقترب منها وأمسك كفيها في راحتيه فلم تمانع هذه المرة برغم العاصفة التي عصفت بكل كيانها.
تمتم زكريا في اهتمام:
_احكيلي عنك يا غرام.
فتمتمت في دهشة:
_عايز تعرف أيه؟
وبدآ في حديثٍ دام إلى ساعاتٍ.
أيمكن أن يتولد حبٌ من مستنقع الرزيلة؟!
**********
ظل يمان ليلته تلك مسهدًا، مما لا غرو فيه أنه قد شعر بالبهجة والراحة أنه قد سلم شقيقته لزوجٍ يستحقها، لكن ظلت غصة تُنَغَّص عليه فرحته لم يعرف كنهها قط، لماذا أحس بحزنٍ حين عقد قران غرام وزكريا؟!
كأنه كان يختنق، بأن قلبه أخذت دقاته تخفت كأنها تتلاشى؟!
أهو الذنب؟ أم شيءٍ آخر لم يدركه بعد!
وفيما هو غارقًا في هواجسه هذه، دق الباب فتنبه من شروده ونهض لفتحه فوجد غادة أمامه وهي تقول:
_يمان، أنت صاحي؟!
فأومأ قائلًا:
_آه يا حبيبتي صاحي تعالي.
فترددت للحظة ثم هزت رأسها، وهمست وهي تفر بعينيه عن عيناه:
_أنا كنت بطمن عليك بس، ورايحة أسهر مع غرام ونهلة.
فتبسم لها قائلًا في هدوء:
_تمام يا حبيبتي.
ثم دنا بوجهه ولثم جبهتها في حنان، وأستطرد:
_تصبحي على كل خير في الدنيا.
فضمته وهي تسبل جفنيها، قائلة:
_وأنت بخير يا كل خيري في الدنيا.
وارت عنه هواجسها تجاه يوسف الذي بدأت تشعر أنه يخفي شيئًا ما، ثمة شيء مبهم لا تعرفه، طوت جوانحها على خواطرها وراحت لتتسامر مع البنات، حتى غفت نهلة وبقت هي وغرام مسهدتين، سألتها غرام بعد ما لاحظت شرودها الدائم، وهمها الجلي:
_مالك يا غادة حساكِ مهمومة؟!
فأفصحت غادة عن مخاوفها وهي تلتفت إليها بكل حزنٍ ألَم بها ونَغَّص سعادتها:
_حاسة أن يوسف في حاجات كتير مخبيها عني!
قطبت غرام جبينها في دهشة، وهمست ببسمة متوترة:
_حاجات زي أيه؟
فهزت غادة منكبيها وهي تقول في حيرة:
_معرفش يا رتني أعرف، بس هو غامض متأكدة أن في حاجه مخبيها عني.
ثم أطرقت في همٍ جثم على روحها وأضنى فؤادها.
************
مرت الأيام برتابة عاد فيها عبد السلام مع والدته وابنة شقيقته إلى بلده، وعادت غرام إلى وحدتها كان كل شيء يمر بفتورٍ عليها، كل الأيام متشابهة، من الشركة إلى البيت، أو الخروج مع يمان في لقاء عمل.
يمان الذي تغير كليًا معها، لم يعد يحادثها كالسابق أصبح الكلام بينهما بخصوص العمل فقط وبنبرة جامدة، أصبح كئيبًا أم غريبًا، أم بعيدًا لم تعرف لكن به شيءٍ قد تغير.
ذات يومٍ وقد كان يوم إجازة من العمل، وبينما غرام تتناول طعامها، قال مختار فجأة:
_أيه رأيك يا زكريا تاخد غرام معاك إلى باريس منه تغير جو وتشوف الدنيا هناك.
ثم التفت إلى يمان وقال:
_ويمان يسافر هو يخلص الشغل، وأنت خد غرام وفسحها وخليها تغير جو ولا أيه؟
وربت على كف يمان وهو يقول:
_أنت مش هتكسف خالك أكيد وهتروح تخلص الشغل.
أومأ يمان موافقًا، وقد دار بصره إلى غرام التي تشاغلت عنهم ولم تنبس، في حين قال زكريا في بساطة:
_أنا معنديش مشكلة يا بابا طبعًا.
ثم جهم المحيا واكفهرت ملامحه، فقد ضاع عليه كل شيء خطط له.
فهو كان يود لو يسافر بمفرده يقابل الفتيات، ويشرب الخمر كما يشاء دون رقيبٍ أو عتيد، لكن كل خططه ذهبت أدراج الرياح بما قاله والده.
لكنه آثر السلامة والهدوء لذا لم يعترض حتى لا يثير شكوك والده تجاهه.
في آن ذلك، رفع مختار بصره إلى غرام، وغمغم في اهتمام:
_أيه رأيك يا غرام يا بنتي؟!
لم تجبه غرام أو ترفع رمشًا إليه، كانت واجمة مما سمعت، لكنها أيضًا كانت مبتهجة فمن صغرها وهي تحلم بالسفر إلى الخارج لترى العالم، لتعلم كيف يعيشون، لم تدرك أنها النهاية.
نهاية حياتها هي في تلك البلد، التي هي حلم بالنسبة لها.
استيقظت من هواجسها على صوت مختار يقول:
_مسمعتش ردك يا غرام! لو مترددة فأنتِ مش هتسافري مع حد غريب دا جوزك وأكتر حد هيخاف عليكِ، وكمان معاكِ يمان وتخلصي معاه الشغل أنتِ بقي عندك فكرة كبيرة عنه وواثق أنكم هتخلصوا سوا كل حاجه على أكمل وجه.
فأومأت غرام برأسها إيجابًا، وأشرقت ملامح مختار، بينما نكزتها غادة بمرفقها، وغمزت لها قائلة:
_يا بختك يا ستي.
*************
جلست غادة في إحدى الكافيهات في إنتظار يوسف الذي طلب منها الحضور، وقد كانت ثائرة فمنذُ عقد القران ورحيله المفاجئ لم يتقابلا، لم يتصل بها، واختفى فجأة وهي لن تتحمل أكثر من ذلك، يجب عليها أن تعلم ما يخبئه عليها.
_أنتِ هنا من بدري ولا أيه؟
قالها يوسف وهو يسحب المقعد ليجلس إزءها، لكنها لم تعره اهتمامًا وتجاوزت عن سؤاله، وهي تتدفع قائلة بصوتٍ حاولت أن يكون خافتًا:
_أنت أيه يا يوسف؟ أنت إزاي كدا؟ أنت اتجوزتني واختفيت من حياتي فجأة بدون حتى ما ترفع سماعة التلفون تقول أي حاجة تطمني، هان عليك إزاي؟
فتبسم بسمة أثارت غيظها وغضبها أكثر وقال في هدوءٍ بارد مستفز:
_ممكن تهدي يا غادة!؟
فصرخت غادة في جنون وبلهجة حادة عالية جعلت كل الرؤوس تلتفت إليهما:
_اهدى إزاي؟ بكل بساطة كدا اهدي يا غادة؟ أنت اتجوزتني عشان ترميني؟
فصاح يوسف وهو يضرب راحته على الطاولة بنبرة صارمة:
_قُلت اخرسي الناس كلها بتبص علينا.
فجال بصرها على الناس التي تطلع إليها في فضول، وأطرقت في أسف، فتمتم يوسف في هدوء:
_أنا مبحبش حد يرفع صوته عليَّ يا غادة، بس أنتِ مش أي حد.
وشبك كفيه أمام وجهه متابعًا:
_كان عندي شغل وكنت مسافر والتلفون ضاع مني عشان كدا معرفتش اتواصل معاكِ.
فتشاغلت عنه، ولم تجبه، فتنهد هو في ضيق، واستطرد:
_عايزك تعرفي أن مفيش حاجه في الدنيا تبعدني عنك أبدًا، وإني لما أغيب بيكون غصب عني..
وقال بنبرة مبهمة:
_دا واجب فيه حياة يا موت.
فاسترابت وهمست بشك:
_يعني أيه؟
فأخذ كفيها بين راحتيه وقرب شفتاه ليقبلهما بكل حنان الدنيا، ونظر إلى أعينها هامسًا بصوتٍ رخيم:
_يعني عايزك تتأكدي أني لما بكون بعيد عنك بتبقى روحي مفارقاني لعندك، وبيكون قلبي مشغول بيكِ، وأني غصب عني..
فأصابتها عدوى الحنان، وانبلجت بسمة كضوء الفجر على ثغرها، وقالت:
_طب أنت مفيش حاجه مخبيها عني؟!
فهز رأسه قائلًا بكل تأكيد:
_كل حاجه في وقتها حلو.
***********
جلست غرام في الطائرة بخوفٍ ملأ جوانحها خاصةً بعدما أقلعت، فكانت تركنُ إلى يمان فتطمئن، ويسكن ضجيج قلبها، وحين وصلوا توجهوا إلى إحدى الفنادق ذات الخمس نجوم، والتي بهرت غرام، بل الحق أنها كانت منبهرة بكل شوارع باريس وهي تجلس في السيارة التي تقلهم إلى الفندق تنظر عبر النافذة إلى الأزقة بأعين متسعة في انبهار، ذلك اليوم تناولوا عشاءهم معًا في صمت وكأنَّ على رؤوسهم الطير، ثم أووا إلى غرفهم بينما آثر يمان أن يبقَّ مع رفيقًا له هناك، مما أورث في قلب غرام فراغًا ممتلئًا بالخوف، والضياع.
في اليوم التالي أصطحبها زكريا في جولة رائعة لم تحياها يومًا إلى برج إيفل وهناك تناولا الطعام في المطعم التابع للبرج، ثم وقفا معًا يشاهدان باريس من عليائه، وقد ارتكزت غرام بساعديها المعقودين على إطار البرج وراحت تتأمل المدينة بأعين لامعة، دون أن تلاحظ زكريا الذي أخرج هاتفه وراح يصورها، وقضت اليوم برفقته هنالك دون أن يظهر يمان أو تعرف عنه شيئًا، بينما تجنب زكريا التواجد معها في مكانٍ أرتاده سابقًا كلا تتعرف عليه إحدى الفتيات التي قضى معهن علاقة.
لن تنس غرام إطلالة مدينة باريس من فوق البرج الذي صورت كل ما تستطيع فيه كي تبقَّ ذكرى لها.
وذهبا إلى قوس النصر والتقطت بعض الصور وتابعا تجوالهما في المدينة.
واصطحبها في يومٍ آخر إلى متحف اللوفر أكبر متحف في العالم، وهناك راحت تلتقط الصور لنفسها أو يصورها زكريا مع اللوحات وخاصةً لوحة الموناليزا للفنان دافينشي، ومع تمثال فينوس، وبعض المنحوتات والتماثيل.
الحق أن زكريا لم يقصر معها، ومع كل يومٍ جديد كان يأخذها في جولة جديدة إلى أماكن مختلفة، متصنعًا أنه أحسن رجل في العالم، ومتقنًا لدور الانسان المحترم، كي تتم تلك الزيجة على خير، وبعد ذلك أن علمت بأمره فلتعلم لن يخشى شيئًا.
أكثر مكان لم يرق لغرام، وجعل فؤادها ينقبض كان سراديب الموتى؛ وهي شبكة من الأنفاق المتفرعة، تحت الأرض تحوى رفات الملايين من الناس، فخرجت ممتقعت الوجه، لكن التجربة كانت تستحق فقد شعرت بأنها تخوض مغامرةٍ ما.
كانت تجلس في مطعم الفندق مع زكريا يتناولان طعامهما حين تقدَّم يمان منهما، فنظرت إليه في لهفة وقد ظهر أخيرًا قائلًا:
_مساء الخير، عاملين أيه؟
قالها وهو يسحب مقعدًا ليجلس، بينما رمقته غرام بنظرة عتاب لم يفهمها، وغمغمت:
_كنت فين كل ده؟
فتمتم في هدوء يجيبها وهو يدير عينيه بعيدًا عنها:
_كنت بخلص الشغل وقعدت عند حد من أصدقائي.
ولم يتح لها فرصة لأي كلامٍ وهو يردف:
_هقضي اليوم النهاردة في الفندق عشان نحجز على أأقرب طيارة ونرجع.
لم يعره زكريا اهتمامًا ولا حديثًا، بل ضم كف غرام الصغير في راحته وهو يقول في حنان مزيف:
_حبيبتي تحبي نخرح نتمشى شوية؟!
فاختلست غرام نظرة إلى يمان الذي كوَّر قبضته في غضبٍ ثم سحبت كفها في هدوء وهي تقول نافية:
_لا، كفاية خروج وهطلع اصلًا دلوقتي على أوضتي أنام.
ثم استأذنت منهما وغادرت، بينما نظر زكريا في حقد إلى يمان وتراجع في مقعده، وقال وهو يحرك كوبًا فارغ على الطاولة:
_غيران مش كده؟! حاسس قلبك بيولع صح؟!
ثم قهق عاليًا فحدق فيه يمان بازدراء، وهتف مغضبًا:
_أنت اتجننت غيرة أيه، أيه اللي بتقوله ده؟
فمال زكريا إلى الأمام بأقصى حد يستطيعه، وصدد بصره في أعين يمان في تمعن وهو يقول في ثقة:
_أكدب وقول أنك مش بتحبها؟!
في تهكم شديد غمغم يمان في توتر:
_وهكدب ليه؟ مفيش أي حاجة من اللي في دماغك انا مش بحب حد أبقي بص كويس أو عالج نفسك.
فزم زكريا شفتيه، ورفع حاجبه وهو يقول بغلظة:
_برضو أنا اللي اتجوزتها ومش هتكون ليك أبدًا.
بركانٍ هائل من الغضب تجمع في حدقتين يمان وهو ينهض في عصبيه قائلًا:
_أنت انسان مستفز لا تطاق بجد.
ثم مضى في سبيله إلى سيارته بخنقه، وهو يفك ربطة عنقه، ويغلق باب سيارته وراءه، وقبض على عجلة القيادة وظل جامدًا لهنيهة مشخصًا البصر إلى الفراغ، ثم انكب برأسه على ذراعه الذي انثنى أمامه، وأسبل جفنيه محاولًا دحر منظر يد زكريا وهي تضم كف غرام!
لماذا هذا المشهد لا يفارقه؟!
ما ذاك الشعور الذي احتل قلبه من الألم؟!
لماذا أراد وبشدة أن ينقض على زكريا ويقطع يده!
لماذا شعر بسهمٍ من نار رشق في وتينه وسويدائه فأحال قلبه إلى رماد لم تذره الرياح!
تأجج فؤاده بمشاعر شتى، لم يجد لها تفسيرًا غير شيئًا واحد!
هل غدا يحب غرام؟!
هل أمسى يحبها حقًا؟!
متى؟ كيف؟
أبعد أن طارت من بين يديه وأصبحت زوجة؟! لا يزل أمامه وقت ليحل كل شيء.. أيمكن؟!
أيمكن أن يحل كل شيء بتلك البساطة حقًا؟
أحين يولع بأحدهن تكون متزوجة؟ بأسًا لك أيها القلب.
رفع رأسه عن ذراعه ثم أدار محرك القيادة وأنطلق بسيارته يجوب الطرقات والأزقة وهو يشعر كأنه يتعذب في نارٍ مسعرة.. متوقدة داخل أعماقه.
جلس زكريا القرفصاء فوق فراشه وقد وضع على ساقيه الحسوب، ودقق النظر في شاشته مصبًا كل اهتمامه وجوارحه عليه وهو يتابع المقاطع المحرمة.
غافلًا عن ربه الرقيب البصير الذي يعلم ما تخفى الصدور وما تعلن.
غافلًا عن أن البصر نعمة من نعم الله عز وجل التي أنعم بها علينا وقد أمرنا بغض البصر، لم يهتم بسخط الله عليه، ولم يهتم بذنوبه التي أخذت تستفحل، لم يعلم أنه في لحظة قد يسلب الله منه نعمة البصر فهو القادر على ذلك سبحانه، لكنه الكريم يمهل ربما يتوب العبد، ربما يدرك خطؤه، ربما يؤوى إليه ويتخذه موئلًا وملاذًا.
عيناه لم تحيدان لثانية عن الشاشة، وفي يده زجاجة خمر كان يتجرع منها مرارًا.
يظن بعد الناس أن المال الكثير نعمة تغنيه عن الحاجة والفقر وهو كذلك بالفعل، لكن المال قد يصبح نقمة على صاحبه يسلب منه انسانيته وإيمانه ويجعله يغوص في وحلٍ من المعاصي والآثام.
لو لم تكن غرام هنا كان ليكون قد جلب إحدى الفتيات، نظر إلى فراشه بحنق لو أن تلك زوجته ليست معه لكانت تنام هاهنا بين أحضانه إحدهن، لكن لماذا يفعل؟! لماذا يقترب من فتاة غريبة بينما زوجته قريبة؟
والهاجس الأخير جعله يشتعل، فأغلق الحاسوب وألقاه دون أكتراث وترك قنينة الخمر جانبًا، ومد قدميه فما كاد يستوي واقفًا حتى تعثر وكاد يسقط أرضًا لكنه تدارك نفسه، وتوازن سريعًا، وتابع طريقه خارج الحجرة..
إلى حيثُ غرام..
أغلقت غرام الأتصال مع نهلة، ثم أبدلت ملابسها وأوت إلى فراشها في سبيلها إلى النوم، ثم سمعت طرقًا على باب حجرتها جعلها تضيق عينيها في تركيز، وهي تقول في قلق:
_مين؟
واعتدلت جالسة وقد احتل الخوف قسماتها، ولم يأتيها رد غير أن الدق عاد أقوى بألحاح شديد، جعلها تجذب هاتفها في لهفة وتتصل بأول شخص خطر على بالها..
نعم، يمان..
لكنه لم يجب..
فأعادت الأتصال مجددًا ولم يجب..
فنهضت مضطرة لترَى مَن الطارق وقلبها يرتجف بين ضلوعها خوفًا، ففتحت فرجة يسيرة وأطلت من ورائها لتبصر زكريا الذي دفع الباب في عنف لترتد هي إلى الخلف في فزع، وصرخت:
_زكريا مالك أنت اتجننت؟
فصفق الباب في عنف وهو يترنح يمنى ويسر، قائلًا بسكر وهو يحرك كفيه:
_تؤ تؤ مش جنون يا مراتي يا حبيبتي.
وألقى نفسه عليها فدفعته بعيدًا عنها وهي تقول باحتقار، واشمئزاز:
_أوعى كدا، أنت شارب خمرة ايه الريحة المقرفة دي؟!
فهمس وهو يقترب منها:
_طبعًا، شارب فعلاً وجاي انام في حضنك مش أنتِ مراتي برضو؟!
ومضى يحث الخطى نحوها وهي تتراجع في ارتياع، عند ذلك انحدرت من عينيها دمعتان كبيرتان، وقالت والدموع تملأ مقلتيها:
_زكريا فوق وأخرج بره.
فهز رأسه نافيًا، وهو ينظر لها بشهوة، ثم انقض عليها كما ينقض الصياد على فريسته ودفع بها فوق الفراش ورمى نفسه فوقها، رعبٍ هائل سرى في أوصالها وهي تحاول ردعه عما ينوي..
حاولت أن تفلت منه..
حاولت أن تضربه..
لامساته كانت تثير فيها شعورٌ بالموت، قوته الجسدية فاقت قوتها الهَشة، وعندما وجدها تعافر لتبعده أنهال عليها ضربًا ففقدت كل ما تملك من قوة، وغابت عن الوعي بعدما سلبها جوهرة العفاف.
واغتصبها..
زكريا اغتصب زوجته..
ذبحها بدمٍ بارد..
وسحقًا لكل زوجٍ آثم متغيب الانسانية.
الموت في بعض الأحيان رحمة من أن يظل المرء حيًا وقد وارت روحه الثرى..

google-playkhamsatmostaqltradent