رواية ضروب العشق الفصل السادس عشر 16 - بقلم ندى محمود توفيق
(( ضروب العشق ))
_ الفصل السادس عشر _
ظلت للحظات طويلة تحدق في هذه الصورة الضخمة التي تملأ الحائط من أعلاه لأسفله ، وسرعان ما غامت عيناها بالعبارات وسقطت دموعها غزيزة على وجنتيها ، حيث كانت الصورة تجمعه مع أخيها ، فاقتربت ناحية الحائط وهي تملس بيدها على أخيها في الصورة بابتسامة مريرة حتى سمعته يهتف :
_ الصورة دي عملتها بعد وفاته بأسبوع وكنت كل ما باجي البيت هنا بفضل اتفرج فيها
التفتت له وقالت بصوت باكي ووجه مملتيء بالدموع مع ابتسامة واسعة :
_ جميلة اوي ياكرم بجد ، هو كان بيحب الصورة دي أوي ليكم
توجه ناحيتها ووقف خلفها مغمغمًا في حنو ودفء استشعرته في صوته :
_ فعلًا .. بس لو إنتي كل ما تدخلي الأوضة وتشوفيها هتعيطي كدا ، أنا ممكن اشيلها
التفتت له بجسدها كاملًا وهتفت تنهاه بسرعة وهي تجفف دموعها بظهر كفها :
_ لا لا اوعى متشيلهاش هزعل منك أوي بجد لو شلتها ، شكلها جميل خالص
اكتفى بابتسامته اللطيفة لتبتعد عنه وتبدأ في تفقد بقية المنزل وهو معها ثم جلسوا يتحدثون في امور مختلفة إلى مايقارب النصف ساعة تارة يغلب عليهم الضحك وتارة الجدية في أحاديث أخرى ، إلى أن دخلت غرفتها وبدلت ملابسها وارتدت بيجامة منزلية مريحة ورفعت شعرها الناعم لأعلى بشيء تثبته به لتنسدل بعض خصلاته على وجهها من الأمام وعنقها من الخلف ، وسرعان ما انتفضت واقفة في فزع عندما سمعت طرقه على الباب وصوته فتوترت بشدة وترددت قبل أن تفتح ولكنها حسمت أمرها واتجهت لتفتح له ، ولم يكن وضعه يختلف عنها كثيرًا ولاحظت توتره في نبرة صوته وهو يقول :
_ أنا في الاوضة التانية لو عوزتي حاجة اندهي عليا
ظهرت علامات الأسى والخنق على محياها وهي تقول في يأس :
_ إنت هتنام في الأوضة التانية ؟!
أطال النظر في محياها لثلاث ثواني قبل إن يهتف في لطف :
_ آه ، لو إنتي حابة أنام معاكي مفيش مشكلة
ارتبكت وهزت رأسها بالنفي وهي تقول متلعثمة :
_ لا لا براحتك مقصدش كدا ، أنا كنت بسأل بس
_ أمممم طيب تصبحي على خير
ردت عليه في ابتسامة مزيفة رسمتها بمهارة " وإنت من أهله " ثم اغلقت الباب ببطء واتجهت ناحية فراشها لتجلس عليه وهي تلوي فمها بحزن ، وتسمع صوت عقلها الذي لا يكف عن تأنيبها " لما الحزن ، وفري حزنك فهذه البداية فقط " ، زفرت بشجن وعدم حيلة ثم جففت الدموع التي ركضت لعيناها وتمددت على الفراش متدثرة بالغطاء وهي تغمض عيناها لتهرب من أحزانها عن طريق النوم .
أما هو فقد ذهب للمطبخ ليشرب المياه وقبل أن يضع كوب الماء في فمه انزله وهو يتأفف مغلوب على أمره ، فلا يستطيع تجاهل صوته الداخلي الذي يأنبه بأنه سيتركها تنام بمفردها في أول ليلة لهم في منزلهم ولا يستطيع أيضًا التغاطي عن شعوره بأنها تضايقت ، ليرفع كوب الماء مجددًا لفمه ويشربه دفعة واحدة ثم يعود متجهًا نحو غرفتها أو غرفتهم بالمعنى الأصح ثم فتح جزء صغير من الباب في تردد وهو يجاهد في السيطرة على مشاعره المضطربة فهو لا ينكر توتره بمجرد اقترابه منها أو اقترابها هي ، واليوم سيبذل مجهود عظيم ليشاركها في نفس الفراش والغطاء ، تغلب على اضطرابه وفتح الباب كاملًا ثم دخل وأغلقه خلفه بينما هي فظلت توليه ظهرها وتتصنع النوم ظنًا منها أنه دخل ليأخذ شيء وسيغادر مرة أخرى ولكن لحظات ووجدته يتسطح على آخر الفراش لتلتفت له برأسها في شبه ذهول وتتمتم في عدم فهم :
_ إنت مش كنت هتنام في الأوضة التانية ؟!
ابتسم بساحرية وهتف مازحًا :
_ ده اعتبره طرد بس بشياكة يعني ولا إيه !!
لعنت نفسها على حماقتها وما قالته لتقول مصححة قصدها في ارتباك :
_ لا والله أكيد مقصدش كدا ، انا استغربت بس إنك غيرت رأيك بسرعة يعني !
اجابها مخترعًا كذبة محترفة مكملًا مزاحه :
_ بيني وبينك أنا دايما متعود لما باجي الشقة بنام في الأوضة دي فاتعودت خلاص عليها وطلاما اتعودت على أوضة معينة مش بعرف أنام في مكان تاني ، متقلقيش نومي هادي ومش هزعجك والله
اعادت رأسها للوضعها الطبيعي وهي تبتسم على جملته الأخير وبنفس الوقت تفهم جيدًا سبب تراجعه في قراره وأنه خشي من أن تكون تضايقت فقرر قضاء الليلة معها أو ربما كل ليلة ، وبمجرد التفكير بأنه سيكون بجوارها كل ليلة أيقظ في أعماقها مشاعر متضاربة مابين السعادة والقلق والخجل ، مما جعلها ترفع الغطاء جيدًا إلى صدرها وتغمض عيناها محاولة الفرار من صراع عقلها ، أما الآخر فكان يواجه صراعًا مع توتره البسيط ويلقي نظرة بين الحين والآخر عليها إلى انتهى به الأمر وولاها هو الآخر ظهره أيضًا وأغمض عينه فارًا إلى النوم من صراعه مثلها !! ......
***
كانت تقف يسر في المطبخ تقوم بتحضير كوب شاي حتى تشربه وهي تشاهد التلفاز وبينما كانت تسكبه في الكأس لتشعر به يقف بجواره ويهتف ساخرًا :
_ وكنتي ناوية بقى تقعدي عند أهلك لغاية إمتى ؟!
قالت في هدوء تام :
_ لغاية ما الاقي نفسي عندي القدرة إني استحمل تصرفاتك من تاني ياحسن ، لإن اللي حصل وكلامك في اليوم إياه كافي إنه يخليني مش طيقاك لشهر كمان مش أسبوع
استند بساعده على رخامة المطبخ وغمغم في ابتسامة غير مبالية ووقاحة معتادة منه :
_ تقدري تنكري إن إنتي اللي استغليتي وضعي ، طاب أنا ومكنتش في وعي ولا عارف أنا بعمل إيه ، إيه وإنتي كمان مكنتيش في وعيك ؟!! ، إنتي كنتي قادرة تمنعيني بس اللي حصل كان يمزاجك قبل ما يكون بمزاجي أنا
كلماته الهبت النيران من جديد واشعلت ماقد اخمدته الأيام السابقة حيث التقطت السكين ورفعتها في وجهه هاتفة في غضب عارم :
_ إنت اللي مستغل واستغليت حبي ليك وسيطرت عليا بكلامك لغاية ما ضعفت للأسف قدامك ، فمتقولش إنه كان بمزاجي ، عشان إنت غدار ومحدش يديك الآمان خدعتني بكلامك وإنت داخل عليا وزعلان على الحيوانة اللي خدعتك وغفلتك وللأسف كان جزاء شفقتي عليك وعلى وضعك إنه اللي حصل .. وكلامك بعدين في الصبح اللي بيوضح قد إيه إنت معندكش دم وحقير
انزل يدها وهو يحدجها في عدم اكتراث لعصبيتها ويتمتم :
_ لا أنا مش حقير أنا بقول الحقيقة اللي إنتي مش عايزة تتقبليها وخلاص بقى ملوش لزمة نعاتب بعض اللي حصل حصل ومش هنقدر نغيره يامــدام يــســر !
ضغط على آخر كلمتين وهو يلفظهم من بين شفتيه قاصدًا إثارة جنونها أكثر ليستمتع به وبالفعل وجدها تحدق به بأعين لا تبشر بخير ولكنه لم تكفيه النظرات فقط حيث أراد أن يرى أسوأ ما في هذه الشرسة فهتف في كلامات تحمل معاني منحطة وهو يغمز بعيناه في لؤم :
_ بس تصدقي مكنتش متوقع إنك جامدة كدا !!
نجح ووصل إلى ذروة جنونها حيث تحول وجهها إلى كتلة نيران متوهجة وأحمرت عيناها ثم التقطت كأس الشاي وهي تقول بنبرة صوت توضح مدى شدة عاصفتها :
_ المرة اللي فاتت كانت القهوة وجات سليمة المرة دي الشاي فاير يعني هتتسلق ياحسن
أطلق ضحكة شبه مرتفعة وجذب الكأس من يدها وهو يرتشف منه ويقول ببرود مقصود :
_ ده ليا !!!! ، شكرًا يامزتي ، ابقي اعملي واحد تاني بقى ليكي
ثم استدار وانصرف من أمامها لتضرب هي بقدمها الأرض وترفع كفها ضاغطة عليه بشدة وتجز على أسنانها مصدرة أصواتًا تدل على شدة غيظها من كتلة الثلج المتحركة الذي تعيش معه !! .........
***
فتحت عيناها مع صباح يوم جديد وتسللت آشعة الشمس من خلف الستائر إلى عيناها فمدت يدها تحجبها عنها ثم القت نظرة بجانبها لتجد مكانه فارغ فتنهدت بهدوء وهبت جالسة وهي تفرك عيناها ثم اتجهت إلى المرآة وعدلت من وضعية ملابسها وكذلك شعرها الذي سرحته سريعًا وغادرت متجهة نحو الحمام لتغسل وجهها ويديها ثم خرجت واتجهت إلى الصالون لعله يكون فيه ولكن لا أثر له فظنت بأنه في غرفة المكتب الصغير الذي يوجد بها الصورة وذهبت باحثة عنه ولكنه ليس فيها أيضًا لتعقد حاجبيها باستغراب فلا يعقل أن يكون ذهب للعمل !! .
اخذت تبحث عنه في المنزل الكبير حتى وقفت أمام المطبخ وابتسمت عندما رأته يقف أمام آلة كبيرة نوعًا ما تبدو لتحضير القهوة موضوعة على الرخامة ، كانت آلة عصرية وحديثة لم يسبق لها وأن رأت آلة مثلها ولكنه كان يتقن التعامل معها ، انتبه لوجودها فالتفت برأسه لها وتمتم مبتسمًا :
_ صباح الخير
ردت عليه في خفوت جميل :
_ صباح النور
هتف بنفس نبرته السابقة وتعبيرات وجهه الدافئة :
_ تحبي اعملك معايا ؟
هزت رأسها نافية وأجابته ببساطة وابتسامتها لا تزال تزين شفتيها :
_ لا لا مش عايزة
عاد وأكمل تحضيرها حتى وجدها تقترب وتقف بجواره تتفحص الآلة بعيناها في فضول لمعرفتها ليأتيها صوته وهو يقول :
_ دي مش من مصر ، سافرت استراليا من حوالي تلات سنين وشوفتها بالصدفة ومترددتش إني اشتريها
هزت رأسها بتفهم وهي تتابعه وهو يتعامل معها حتى هتفت بصوت رقيق :
_ بس اللي أعرفه إنها مضرة لما تشربها كتير وخصوصًا لو على معدة فاضية
انتهي أخيرًا ووضع الكأس بجوار الآلة وهو يجيبها بنبرة صوت لا تفشل كل مرة في أثرها :
_ متقلقيش متعود على كدا
أخذت نفسًا عميقًا تستعيد ثقتها وشجاعتها بعد أن فقدتهم بسبب نبرته وابتسامته وتمتمت في خفوت مشجع وصوت انوثي ساحر :
_ يعني مش هتفطر
التقت فنجان القهوة خاصته وهمهم في لطف وحنو :
_ هو أنا مش جعان الصراحة بس عادي ممكن اكل حاجة بسيطة معاكي عشان متاكليش وحدك
حبست أنفاسها ومجرد ما ولاها ظهره وانصرف اخرجته زفيرًا قوي وهي تهز رأسها بالنفي ، فهو كالتعويذة التي تسحب الفتيات فقط لوحله وهي تفقد السيطرة على قلبها المتيم به كلما تنظر له وترى ابتسامته وتسمع صوته الهاديء الذي يعزفه على اوتار قلبها كسمفونية غرام ونظراته تغرقها في بحور عشقه الذي لا نهاية لها ، وفجأة عصفت بذهنها كلمات رفيف لها " كرم بيعزك جدًا ياشفق والله وإنتي ليكي معزة خاصة في قلبه ولو وافقتي واتجوزتوا هتقدري بسهولة تكسبي قلبه صدقيني .. دي فرصة جاتلك ولو ضيعتها مش هتجيلك زيها تاني فمتهدريهاش وحاولي تستغلي الفرصة لصالحك " استغلال الفرصة !! ، وهي أفضل من يستغل الفرص وللمرة الأولى ستكون انانية في عشقها ولن تسمح للظروف والأسوار والحصون أن تحول بينها وبين عشقها ، ستبذل قصارى جهدها في البحث عن مفتاح قلبه الذي امتلكته زوجته وتمكنت من الدخول بسهولة ، وستكون هي الشفق الذي يبشر بقدوم ليالي مليئة بالعشق والغرام !! ..
بعد مايقارب النصف ساعة انتهت من تحضير الإفطار ثم بدأت في نقل الصحون إلى الطاولة واتجهت إليه في الشرفة تخبره بأن الطعام جاهز فأماء لها بالإيجاب وبعد لحظات انضم لها على الطاولة ونظر إلى أنواع الطعام المختلفة ثم جلس وبدأ في الأكل وهو يستطعم مذاق الطعام فيجده ألذ مما توقعه ، أما هي فكانت تعلق نظرها عليه تتابع قسمات وجهه وقد قررت من اليوم أن تتوقف عن الخجل منه وتتحلى بدهاء النساء وانوثتها ، وتجد حلًا لمشكلة خجله وتوتره منها وتمحوه نهائي ، حيث هتفت باسمة :
_ يوم لما عزمك سيف الله يرحمه قبل ما يتوفى أنا اللي كنت عاملة الأكل كله لإن في اليوم ده ماما تعبت ومقدرتش تقف في المطبخ وحظك كان دايمًا إن لما سيف يعزمك عندنا كانت ماما بتتعب وكنت أنا اللي بعمل الأكل
رفع نظره لها ولاحت بشائر الابتسامة على شفتيه ثم قال ضاحكًا :
_ إنتي بتتكلمي جد ؟!
_ آه والله كانت بتبقى صدفة في كل مرة سبحان الله ، وفي الغالب لما كان سيف بيعزم حد ماما هي اللي بتعمل الأكل وأنا مبحبش أعمل الأكل بخاف الأكل ميعجبش الضيوف فكنت بكتفي بإني اساعدها لكن دايمًا في اليوم اللي بتاجي فيه إنت كانت بتتعب فجأة وبضطر أنا احضر الأكل وكنت ببقى خايفة جدًا يكون في حاجة مش مظبوطة وبمجرد ما كنت تمشي كنت بسأل سيف لو الأكل فيه حاجة
ضحك بخفة وهتف في تلقائية متحدثًا معها وكأنها صديق له :
_ لا مكنتش متوقع إنك شيف محترفة كدا ، تسلم إيدك ياشفق والله ، من هنا ورايح عايز من الأكل اللي كنتي بتعمليه ده كتير
شقت ابتسامتها طريقها وهي تجيبه شبه ضاحكة :
_ من عنيا !
ثم عادت تكمل طعامها وتجمعت الدموع في عيناها على ذكرها لأخيها وأمها ، الألم الذي يسكن قلبها الضعيف لا يمكنها تحمله فكم اشتاقت لمعانقتهم وكم اشتاقت لأمها وحديثها وصوتها وابتسامتها حتى توبيخها لها ، فلو هناك آلة تعود بالزمن كما في الأفلام الخيالية لما ترددت لحظة في استخدامها ، انهمرت دموعها دون أذنها فهبت واقفة واسرعت لغرفتها بعد أن لاحظت أنه انتبه لدموعها ، وبالفعل وجدته يفتح الباب ويقترب ليجلس بجانبها على الفراش هاتفًا في قلق :
_ مالك ؟!
لم تتمكن من التحكم في شلال دموعها الغزير فكلما تعصف صورتهم في ذهنها تزداد حدة بكائها ومعه يزداد قلقه وحيرته ، كانت بحاجة ماسة لشعورها بالدفء والحب الذي حرمت منه ولم تدرك ما تفعله حيث ارتمت بين ذراعيها متشبثة في رقبته بذراعها وتدفن وجهها عند مقدمة صدره اسفل وجهه بضبط هاتفة بصوت مبحوح من بين بكائها العنيف :
_ وحشوني أوي ياكرم ، نفسي اشوفهم مش قادرة استحمل حياتي من غيرهم .. خسرتهم هما الأتنين ورا بعض كنت لسا ملحقتش افوق من حزني على سيف وماما كمان اتوفت وراه في اللحظة دي حسيت إني خسرت كل حاجة وفكرت إني انتحر وكنت هعمل كدا فعلًا بس تراجعت في آخر لحظة
ضربت اشارت الإنذار في عقله واضطرب بشدة ولم يعرف كيف يتصرف أو ماذا يقول حتى من فرط ارتباكه ، انفاسها الحارة تلفح رقبته ويداها ملتفة حوله ، كل هذا يشعره بالخطر فهو رجل ورغباته الفطرية خارجة عن ارادته كأي رجل عندما تقترب منه انثى ولكنه تحكم في اضطرابه ومد يده مترددًا ثم مررها على ظهرها بسطحية شديدة متمتمًا في صوت واضح عليه التوتر محاولًا إيجاد الكلمات المناسبة :
_ عارف وحاسس بيكي لأن نفس الأحساس أنا لغاية دلوقتي بعاني منه ، بس الحياة مبتقفش على حد صدقيني وهما أكيد في مكان أفضل منينا ، وأنا معاكي ياشفق احنا عيلتك دلوقتي ، كفاية عياط وادعيلهم وإن شاء الله ربنا يجمعنا بيهم في الآخرة
خرجت من نوبة بكائها وانتبهت لوضعها فنالها ما ناله من التوتر والاضطراب ، وابتعدت عنه وهي تجفل نظرها وتجفف دموعها متمتمة في صوت خافت ومضطرب :
_ آمين ، آسفة نكدت عليك على الصبح
رسم ابتسامة عذبة وتمتم في حنو :
_ ولا يهمك .. قومي اغسلي وشك يلا عشان نكمل فطارنا
أماءت له بالموافقة ثم استقامت واسرعت باتجاه الحمام تختبيء فيه من فعلتها الحمقاء ، فهي نوت أن تتخلى عن خجلها منه ولكن ليس لهذا الحد ، أما هو فمسح على وجهه وهو يزفر بقوة ليزيح ما قد كان يكتم على انفاسه للتو وهي بين ذراعيه ، فقط شعور لا يود أن يشعر به مجددًا فلوهلة حس نفسه مكبلًا ومقيدًا لا يستطيع فعل شيء واقترابها الحميمي منه جمده بمكانه كالصنم وافقده السيطرة على مشاعره المضطربة ! ...
***
خرجت ملاذ من غرفتها وقادت خطواتها نحو طاولة الطعام وبدأت تشاركه طعام الإفطار وهو ينظر لها بأعين ثاقبة وحادة بعض الشيء بعدما سمعها تتحدث في الهاتف منذ قليل وكانت تضحك بعفوية وتتكلم بطبيعية ولكنه فشل في معرفة مع من تتحدث وفقط فهم من صيغة الكلام أنها تحادث رجل ومنذ تلك اللحظة وقد غليت دماؤه في عروقه ، فانتبهت هي لنظراته المريبة لها لتتوقف عن الأكل وتحدقه باضطراب بسيط وتهز رأسه بمعنى " ماذا حدث ؟! " .
اتاها صوته الرجولي الصلب وهو يسأل مباشرة في جدية تامة :
_ كنتي بتكلمي مين ؟
غمغمت في بساطة دون تردد في الإجابة وهي مازالت تعقد حاجبيها باستغراب من طريقته ونظراته :
_ إسلام .. أصل ماما قالتلي إنه كان تعبان إمبارح واتصلت اطمن عليه واتكلم معاه شوية
تابعت تعابير وجهه فلم تجد منه أي تعابير تخفف من حدة نظراته وفقط انزل نظره وأكمل طعامه بصمت ، فتأخذ نفسها في التفكير للحظات حتى تغيرت ملامحها من الهدوء واللطف إلى اليأس والضيق وتركت من يدها المعلقة هاتفة تسأله بوضوح دون مقدمات :
_ هتفضل لإمتى تشك فيا كدا يازين ؟!!
رفع نظره والقى نظرة جامدة وقوية عليها دون أن يتفوه ببنت شفة فابتسمت بمرارة وأسى وهدرت بعبوس :
_ كلها كام يوم ونكمل شهر وأنا طول الشهر ده بذلت كل حاجة اقدر أعملها عشان اثبتلك إني ندمت وإني مستحيل أكرر الغلط مرتين وإني عايزاك إنت .. بس تقريبًا مش أنا اللي فشلت في إني استعيد ثقتك فيا لا إنت اللي بتختار إنك متثقش فيا في كل موقف وبتختار إنك تشك فيا .. أنا بحاول أعمل المستحيل عشان العلاقة دي تستمر ومخسركش بس واضح إن إنت اللي مش فارق معاك تخسرني أو لا ومش عايزها تستمر ، وإنت كمان اللي عايز تحط خطواط النهاية لعلاقتنا مش أنا !
ثم استقامت وهمت بالعودة إلى غرفتها ولكن صوته اوقفها وهو يقول في لهجة شبه آمرة :
_ اقعدي كملي أكل
همهمت في عبث :
_ شبعت كمل إنت بالهنا والشفا
ثم دخلت إلي غرفتها وتركته ، حتى هو الآخر فقدَ شهيته عن الطعام فجعل يستغفر ربه وهو يمسح على وجهه بكفيه .. هي مخطئة هذه المرة ربما هذه هي المرة الأولى له منذ زواجهم التي لم يشك بها ، فقط ما داهمه كانت مشاعر غيرة وغضب عارم من أنها تحادث رجل وتضحك هكذا معه ولكن حين عرف أنه أخيها هدأت نفسه الثائرة قليلًا ، ولكنها اساءت فهمه ولفظت بكلمات من بين شفتيها لا تعرف مدى صحتها ، فهو مثلها يحاول الحفاظ على هذه العلاقة بل يبذل مجهودًا أكبر منها في نسيان ما حدث والعيش معها حياة طبيعية كأي زوج وزوجة ويواجه صعوبة في التأقلم مع هذه الأوضاع ، لهذا تجده غير متوازن في انفعالاته معها .. لحظات يكون جميلًا وحنونًا ولحظات يعود لجفائه معها وهو بالفعل سيبدأ في وضع نقاط حروف عشقه لها ، حيث هب واقفًا واتجه خلفها لغرفتها ثم فتح الباب ودخل ليجدها جالسة على فراشها وقدمها تضرب في الأرض بحركات متتالية وكفها على وجنتها تقرض ظافر سبابتها بحرقة ودموعها تجد طريقها على وجنتيها ، فأصدر زفيرًا متأففًا ثم تحرك نحوها وجلس بجانبها ومد يده يزيح خصلات شعرها التي تغطي جانب وجهها ويتمتم في خفوت صادق :
_ أنا مش عايز أحط خطواط النهاية ومش عايز اخسرك ، وصدقيني بحاول اصدقك وأثق فيكي بس مش قادر وكل ما بفتكر خداعك ليا برجع للصفر تاني .. أنا كمان عايزاك ياملاذ ومش عايز اطلقك بس لو علاقتنا استمرت بالوضع ده مش هنقدر نكمل لإن لا إنتي هتستحملي ولا أنا ، وعلى فكرة أنا مشكيتش فيكي دلوقتي أنا اتعصبت لما افتكرتك بتكلمي راجل غريب وبتضحكي كدا معاه
هتفت ببكاء حاد وحرقة قلب فهمها من كلامها ودموعها :
_ لا إنت مبتحاولش يازين ، ومتقولش إنك حاولت لإنك لو كنت حاولت وحاولت تصدقني مكنش وضعنا هيبقى كدا لغاية دلوقتي
حك ذقنه النامية وصمت لبرهة من الوقت وهو يأخذ شهيقًا قوي ثم تمتم في نظرة دافئة :
_ طيب هدّي لعلاقتما فرصة إننا نثبت لبعض بأفعالنا ومش هتبقى فرصة ليكي بس لا كمان ليا عشان اثبتلك إني زيك بحاول احافظ على العلاقة دي ويمكن اكتر منك كمان
_ وهو كل اللي عملته ده لسا ميثبتش ليك يازين ؟!
قالتها باستغراب وباسمة بسخرية ليقابل سخريتها برزانته المعهودة ويتمتم في صوت ينسدل كالحرير ناعمًا :
_ لا ميثبتش لأن علاقتنا تستحق أننا نثبت بأفعالنا ثقتنا وصدقنا واخلاصنا لبعض .. نثبت بالأفعال مش بالكلام
هدأت نوبة بكائها وسألت في استفهام وحيرة :
_ بالأفعال إزاي يعني ؟!
ابتسم وأجابها بلطف وحنو :
_ دي حاجة تخصك متخصنيش .. الفترة الجاية دي فترة اختبار لينا احنا الاتنين وياننجح فيها يانرسب
" لا بأس فإذا كان اختبار فكما اجتزت جميع اختبارات الحياة سأجتاز اختبار العشق وسأتفوق عليك " كانت تحدث نفسها بهذه الكلمات ، ثم نظرت له وبادلته نفس الابتسامة وهي تهز رأسها بالموافقة لتجده يمد انامله ويجفف دموعها برقة هامسًا في أعين تلمع بوميض مختلف :
_ يلا قومي عشان تكملي فطارك
امسكت بكفه الذي على وجنتها وانزلته لتطبع قبلة رقيقة بشفتيها على ظاهره وهي تهمس بعاطفة جياشة :
_ حاضر
***
بعد ساعات قليلة داخل مقر شركة العمايري .......
خرج حسن من مكتبه ومر من أمام مكتبها في طريقه فتوقف لبرهة من الوقت مترددًا ، ثم اقترب بعد تفكير عميق وفتح الباب والقى نظرة متفحصة في مكتبها فلم يجدها به ليعقد حاجبيه باستغراب ويدخل ويغلق الباب خلفه وهو يلقى نظرة متأملة ودقيقة على محتويات مكتبها وأذا به ينتبه إلى الاجندة المتوسطة التي بحجم الكراسة ووجعل يتطلع لها بصمت وفي غلافها الجميل الذي عبارة عن صورة سماء زرقاء وبها لمسات اعطته جمال أشد ، فابتسم فور تذكره أنها هدية منه قدمها لها في عيد ميلادها السابع عشر عندما اقامت حفل عيد ميلاد فأهدى لها هذه الأجندة ومعها قلم فاخر صناعة مستوردة .. لعلمه في ذلك الوقت حبها للكتابة والقراءة ، ولكنه لم يكن يتوقع أنها لازالت تحتفظ بهذه الهدية بعد كل هذه السنوات ، فالتقطها وفتحها ليجد بداخلها ذلك القلم الفاخر فيلتقطه ويتفحصه بالتأكيد لم يعد يكتب ولكنها تحتفظ به ، اخرجه ووضعه على سطح المكتب ثم اتجه وجلس على الأريكة وبدأ يفتح صفحات عشوائية ويقرأ ما دونت به ، كانت ملاحظات مراهقة وهي تكتب احداثها المميزة بعضها اضحكه والبعض الآخر مر عليه كأنه لم يمر ولكنه توقف عند صفحة وهو يقرأ ما دونت به بإمعان "ربما كنت مخطئة بشأن مفهوم العشق على أنه يقود للجنون ، والآن يجب على الاعتراف بأنه قادني لمستنقع مظلم حبس انفاسي وحجب رؤيتي فغرقت في ظلماتي وحيدة دون أن أحصل على أي شيء ، وفقط حصلت على الخذلان للمرة الألف وأنا أفشل في تحقيق ما اسعى إليه من العشق ، ربما كان يجب على أن أكون أكثر واقعية وأن لا اتعلق بأوهام تمكنت من أن تتطيح بي إلى اقصى البلاد ، ورغم كل هذا مازالت ابحث عن العشق في هذه القلوب الغريبة ولست متأكدة إلى متى سيتسمر بحثي ، ولكن حتمًا ستكون نهاية هذا البحث أما أن أجد ما أبحث عنه أو اتوقف أنا عن البحث ويدب اليأس في قلبي ، فأعلن عهد جديد لا يوجد به مكان للعشق في قلبي !! " كان يقرأ وهو يعرف جيدًا بأنها تقصده في كل كلمة ويأسف بشدة لأنه ربما لن يستطيع أن يبادلها العشق سواء الآن أو مستقبلًا ، ويتأسف لها لأنه لن يتمكن من أن يكون دليلها في طريق بحثها عن طرق قلبه ، هو يمكنه أن يعطيها كل شيء معاملته الطيبة وحنانه وعطفه ولطفه والصداقة والحب النقي في داخله لها ولكن عشق بمفهومه الذي يكون بالتحام الأرواح والقلوب والنظرات .. لن يتمكن ! .
تنهد بعمق ثم اخرج هاتفه واجري اتصال بها لتجيب عليه في صوت هادىء وتسمع سؤاله :
_ إنتي فين ؟
غمغمت بخفوت جميل :
_ في الكافيه اللي جمب الشركة
لم يجيب عليها وانهى الاتصال مما اصابها بالتعجب والاغتياظ بنفس الوقت وظنت أنه تطفل منه لا أكثر وحين عرف لم يكلف نفسه ويسألها عن سبب ذهابها حتى لهناك ، ولكنها لم تركز عليه حتى لا تعكر مزاجها بدون داعٍ .. أما هو فهب واقفًا ووضع الاجندة بمكانها وغادر يقود طريقه لخارج الشركة بأكملها .
كانت هي تتفحص هاتفها وبيدها الأخرى القهوة ترتشف منها بتأني واصابتها الدهشة حين رأته يجلس أمامها على المقعد المقابل لها في الطاولة ، فرمشت عدة مرات ثم هتفت بريبة :
_ إيه اللي جابك ؟
هدر في هدوء مشجع :
_ جاي لنفس السبب اللي جيتي عشانه .. وأهو اسليكي بدل ما أنتي شكلك وحش كدا والكافية كله ياما اتنين صحاب أو ولد وبنت !
التفتت برأسها حولها وهي تلقى نظرة سريعة على جميع الطاولات لتجد أن ليس هناك طاولة يجلس عليها فردًا واحدًا سواها بالفعل ثم تعود بنظرها له وتقول بعدم تصديق لما قاله للتو :
_ حسن أنا بتكلم جد ليه جيت ؟!
التزم الصمت للحظات وهو يطالعها دون أن يجيب ثم رسم ابتسامة واسعة وقال بمشاكسة :
_ عايزة الحق ! ، أصل أنا لقيت نفسي زهقان فقولت آجي اتخانق معاكي شوية
ضحكت بعفوية ولم تتمكن من كتم ضحكتها وأجابته مستنكرة :
_ وهنتخانق قدام الناس هنا !؟
قال مصححًا ومؤيدًا لكلامها في نبرة كانت شبة جادة :
_ اممم عندك حق .. طيب قومي نروح البيت عشان نتخانق على راحتنا
هزت رأسها مغلوبة منه وهي تضحك وقررت مسايرته في مشاكسته الجديدة وتمتمت متصنعة الجدية هي الأخرى بعد أن استندت بمرفقيها على سطح الطاولة وانحت للأمام قليلًا حتى تقرب وجهها منه في حركة تلقائية تدل على اهتمامها بالموضوع :
_ وهنتخانق على إيه بقى ياترى ؟!!!
استند هو الآخر على مرفقيه مثلها وقال وهو يزال يرسم الحدية المزيفة على محياه :
_ ياسلام ده مفيش اسهل من الخناق !! .. كلمتين وقحين مني على كلمتين مستفزين منك وندبها خناقة عادي جدا الموضوع أسهل مما تتخيلي
خرجت منها ضحكة شبه مرتفعة ثم قالت مستهزئة :
_ شكلك فايق ورايق النهردا !
عاد لجلسته الطبيعية وغمغم باسمًا بعد أن عاد لطبيعته :
_إنت شايفة إيه !؟
اكتفت بابتسامتها وعادت ترتشف من قهوتها من جديد حتى سمعته يهتف في جدية حقيقية هذه المرة :
_ جهزي نفسك عشان ماما عزمانا على العشا النهردا وممكن نقضي الليلة هناك
اماءت له برأسها في وجه لا يبدو عليه أي اعتراض وعادت تكمل قهوتها ويدخل هو في فقاعة الصمت ويكتفى بمتابعتها في شرود !!! .
***
في مساء ذلك اليوم .......
كانت يسر مستعدة ومتنظرة عودته حتى ينطلقوا ويذهبوا لمنزل عمها ، وبينما هي تجلس على الأريكة تنتظره سمعت صوت طرق الباب فهبت واقفة واتجهت ناحيته لتفتح ظننًا منها أنه هو الطارق ، فقبضت على مقبض الباب وفتحت لتتفاجىء بتلك الساقطة المدعوة برحمة !! ، هل جائتها الجراءة التي مكنتها من القدوم إلى منزلها بقدمها !! .. ولكنها على عكس العادي ضحكت يسر وقالت في سخرية :
_ إيه جاية تعتذري منه بعد ما عرف حقيقتك !
دفعت رحمة الباب بيدها في عنف لتفتحه جيدًا ثم دخلت ووقفت أمامها مباشرة صائحة في غل وسخط :
_ أنا عارفة كويس إن إنتي اللي قولتليه عشان تكرهيه فيا
مازالت هادئة ولم تفقد زمام نفسها حيث قالت بابتسامة مستنكرة :
_ ده على اساس إنه كان بيحبك مثلًا قبل ما يعرف اللي عملتيه فيه !!
رفعت الأخرى سبابتها في وجهها بنظرات نارية وأعين مشتعلة وغمغمت بنبرة محذرة ، ولكن كل هذه الشراسة لم تؤثر بها خاصة عندما تكون أمام مرأة كيسر :
_ اسمعي يايسر حسن ليا من قبل ما يكون ليكي ومش هيكون غير ليا ، فالأفضل إنك تطلقي منه وتصلحي اللي عملتيه بينا لأني أساسا مش هخليكم تتهنوا مع بعض ولا يوم
اطلقت ضحكة متأججة وأجابتها في شيء من الشيطانية الممتزجة بالدهشة المزيفة :
_ إيه ده إنتي جاية تهدديني وفي بيتي كمان ، لا وواثقة من نفسك أوي ! .. عجبتني الثقة دي الحقيقة شابو بجد
قررت رحمة أن تشعل فتيل النيران وهي غير مدركة لعواقبه التي ستعود عليها ، فقد اشعلت الفتيل بجانب قنبلة إن انفجرت ستفجرها إلى أشلاء ، وهتفت في ثقة حقيقية هذه المرة ونبرة متشفية ولئيمة :
_ بالظبط زي ما أنا واثقة بظبط إنك عايشة معاه زي الأخوات ، وكمان عارفة إنكم متفقين على الطلاق وعارفة إن الجواز ده اتفاق من البداية .. يعني حسن لا بيحبك ولا نيلة ده مبيطقكيش أصلًا !!
............. نهاية الفصل ..........
•تابع الفصل التالي "رواية ضروب العشق" اضغط على اسم الرواية