Ads by Google X

رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الفصل الثامن عشر 18 - بقلم مريم غريب

الصفحة الرئيسية

    

رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الفصل الثامن عشر 18 -  بقلم مريم غريب

 الفصل الثامن عشر _ لست بتارككِ _ :
تقف بمحاذاة الحائط.. أمام صورة ضخمة مؤطّرة بحاشية من الذهب الخالص و قطع الكريستال الصغيرة.. تتأمل بنظراتٍ دامعة و نفسٍ متحسّرة ..
زوجها الراحل.. ضاحكًا ملء شدقيه في لقطةٍ حميمية جمعته بزوجته الأولى و المُعلنة.. أم ولديّه ..
زوجها “يحيى البحيري” الذي قاست معه سجايا العذاب.. برفقة المرأة الوحيدة التي نالت تقديره و احترامه التام.. السيدة النبيلة.. سليلة الأشراف “فريال المهدي” ..
و هي كل ما تفتقر إليه “رحمة جابر”.. حتى بعد أن منحها “يحيى البحيري” في حياته قبل مماته كل ما حلمت به يومًا.. و ما لم تحلم به في أنٍ ..
بفضله هي حرّة.. مؤمّنة ماليًا.. ناضجة فكريًا.. ناجحة عمليًا.. لا يمكنها إنكار تأثيره الجيد على حياتها.. كما لا يمكنها نسيان سيئاته معها و إنه سلب منها أبسط حقوقها و أغلى أمانيها ..
أن تكون أمًا ..
صحيح إنه قد منحها “شمس”.. لكنها لطالما أرادت المزيد.. حتى الساعة لا زالت تبكي على هذا الحلم.. لا زالت تريد عائلتها الكبيرة.. عائلة لها وحدها.. لكنه رحل و قد حرص على ألا تنال حلمها أبدًا ..
فهل تكرهه !؟
لا.. مطلقًا لا تكرهه ..
بل تحبّه حقيقةً.. تحبّه و تشتاق إليه و لا تطيق العيش في هذا البيت الذي يحمل آثاره مع امرأةً أخرى غيرها.. في كل مكان تذهب إليه هنا تراه معها.. في كل زاوية.. و كأنها تشهد لأول مرة قصة الحب التي تغنّى بها الجميع لسنواتٍ بين الزوجان المثاليان.. “يحيى البحيري” و “فريال المهدي”.. قصة الحب التي أثمرت عن ولدان رائعان ..
لماذا فعل بها ذلك كله ؟ .. لماذا عذّبها بحبّه و قسوته ما دام لديه كل هذا القدر من العشق و السعادة ؟ .. لماذا تحبّه حتى الآن بحق الله !؟؟
إنه ليس موجودًا.. إنه ميتًا و لا يستطيع فعل أيّ شيء.. لماذا إذن تعجز عن مواصلة حياتها ؟
لماذا ترفض العيش مرةً أخرى مع رجل يقدّرها و لا يرى غيرها.. حتى إنه إنفصل عن زوجته لأنه يحببها هي ..
لماذا يا “رحمة” !؟؟؟
-الذكريات بتوجع صح ؟
بوغتت “رحمة” بصوتٍ صارت تعرفه جيدًا.. فانتبهت لدمعة سائلة على خدّها.. أزالتها بظاهر يدها بسرعة قائلة و هي تشعر بخطواته من خلفها تقترب :
-مش كلها !
ملأ حضور “عثمان البحيري” بهو قصره المبهر.. و المُعد خصيصًا ليعرض أصل و عراقة عائلته في مقتنياتٍ ثمينة متوارثة.. صور لأبائه و أجداده.. أثاث موّزع ببراعةٍ للتأمل فقط.. لا يجرؤ أحد أن يمسّه.. كان هذا الجزء من البيت بمثابة متحفٍ صغير ..
تمالكت “رحمة” رباطة جأشها و تأكدت بأنها قادرة على التواصل معه.. استدارت ناحيته و نظرت إليه بشجاعةٍ.. كالعادة يرتجف قلبها رغمًا عنها كلّما وقعت عيناها عليه ..
التشابه بينه و بين أبيه كبيرٌ إلى حدٍ مرعب.. حتى في أدق التفاصيل.. لعله يجهل و هو يقف أمامها هكذا في بذلةٍ رسمية.. بلا ربطة عنقٍ.. معلّقًا سترته على ذراعه.. ترسيحة شعره شديد النعومة كوالده بدت فوضوية قليلًا ..
رباه !
هذا بالضبط ما كان يبدو عليه “يحيى البحيري” بعد نهارٌ طويل بالعمل.. هذا الرجل الماثل أمامها يكون إبنه.. بطريقةٍ ما.. يكون هو بنفسه !!
ابتسم “عثمان” و هو يعي تمامًا ما تحاول زوجة أبيه إخفائه من إنفعالاتٍ في وجوجه.. ألقى نظرة على صورة والديه.. ثم عاود النظر إليها قائلًا بهدوء :
-بابا كان بيعشق فريال هانم.. مش مجرد بيحبها بس.. صدقيني
أنا كنت موجود و شوفته بعيني.
تخطّت “رحمة” غصّة قلبها.. و ردت عليه بثباتٍ :
-عارفة.. عارفة ده كويس و متأكدة منه كمان
عشان هو إللي قاله في وشي بلسانه.. و أكتر من مرة.
لا يعرف “عثمان” لماذا أثلجت تلك المعلومة صدره.. رغم أنه يعرفها بالفعل.. لولا جريمة أبيه التي أكتشفها مؤخرًا.. ربما هي ما جعلته يُشكك حقًا بالعلاقة العاطفية الوثيقة التي ربطت أبيه بأمه ..
أومأ لها معقّبًا :
-أنا عرفت قصة جوازكوا و سمعتها مرتين.. مرة من المحامي.. و مرة من شمس
عارف إن مالكيش ذنب في أي حاجة عملها أبويا.. بس أنا مش بدير مركز خيري
و إوعك تفكري إني ممكن أشوف بس شيء مهما كان تافه.. ممكن يضايق أمي و أتغاضى عنه.. مافيش عندي أغلى من أمي !
لاحت على ثغرها ابتسامة تهكمية و قالت :
-انت غلطان لو شاكك إني ممكن أحط الست الوالدة في دماغي.. أنا عشت مع أبوك 16 سنة.. و عشت أرملة من بعده 14 سنة.. طول السنين دي كلها ماحاولتش أظهر
يمكن حاولت مرة في بداية جوازنا.. بس صدقني.. أقسم لك بالله.. أبوك خلّاني أندم ندم عمري كله لما فكرت أظهر نفسي على إني مراته.. من بعدها مابقتش أنا.. بقيت رحمة إللي هو عاوزها و بس !!
داهمتها تلك الذكرى فجأة.. لتنتفض رغمًا عنها مغمضة عينيها بشدة و كأنها تهرب من بين براثن وحشٌ مفترس ..
إلتزم “عثمان” الصمت مركّزًا على النظر إليها.. لا يشك إنها تخبره الصدق.. و إن كانت تكذب لعرف.. إلا إنها لا تملك سببًا لذلك ..
الآن يدرك جانبًا خفيًا من شخصية أبيه ربما لم يظهره أمام عائلته.. ربما كان بحاجة لإظهاره أمام شخص أقل أهمية منهم.. أو بمعنى أدق.. شخص مجرّد من الدفاعات.. لكي يمضي بحرية تامّة لنيل مآربه ..
هذا يذكره بشيء.. حادثٌ ليس ببعيد.. لعله كان ليكون مصير زوجته هو.. “سمر”.. أو ربما كان ليكون مصيرها أكثر سوءًا لولا إنه قد وقع بحبّها و أغرم بها أسرع ممّا ينبغي ..
إنها لحقيقة يبصرها الناس أجمع.. “عثمان البحيري” قد هوى من عليائه و سقط كبرياؤه صريع عشق “سمر حفظي”.. الفتاة التي لا تمتلك شيئًا حرفيًا.. و غالبًا تفتقر لأيّ ميزة تدفعه لمجرد النظر إليها ..
لكنه رغم كل ذلك.. أحبّها.. أحبّها كثيرًا و لا يمكنه العيش بدونها ..
أبدًا …
سحب “عثمان” نفسًا عميقًا شاعرًا برغبة قوية في إنهاء هذا الحوار ليصعد إلى زوجته.. لأن التفكير بها فقط أضرم الشوق الكامن لها بصدره.. فمنذ متى لم يراها !؟
-شمس في أوضتها ؟
ردت “رحمة” على سؤاله متحاشية النظر إليه :
-زي ما هي.. مش عايزة تخرج.
أومأ “عثمان” قائلًا باقتضابٍ و حزم في آنٍ :
-أوكي أنا هابقى أعدي عليها الليلة دي و أشوفها بنفسي.. أشوفك على العشا !
و تركها ماضيًا لوجهته المنشودة.. و قد كانت خفقات قلبه تسابق خطواته المهرولة …
**
-مايا هاتتجوز نبيل !
تلقّى “مالك” كلمات والده في صمتٍ من قبله للحظاتٍ مطوّلة ..
كان يجلس قبالة كلًا من أبيه “حسين عزام”.. و الشريك و التابع المؤتمن لرب العائلة “نبيل الألفي” ..
لا مجال للمزح الآن.. لقد بدت الجدية على كليهما.. و صدقًا أن “مالك” ليست لديه أيّ مشكلة مع “نبيل” و لا حتى لمحة اعتراض على شخصه.. فهو منذ أول يوم رآه وجده شخصٌ قوي.. و رجلٌ مسؤول.. كان أهلًا للثقة بالفعل و يتلائم للمكانة التي وضعه بها أبيه ..
و لكن أن يتزوج من أخته !!
إن “نبيل” ليس صغيرًا.. رغم أن شكله أصغر من عمره الفعلي.. “مايا” بالكاد تبلغ الثانية و الثلاثين.. و كما يعلم “نبيل” تقريبًا قد تجاوز الرابعة و الأربعين ..
لا يعلم إن كان مناسبًا لأخته.. أخته التي حال سجنه دون الوقوف إلى جانبها لسنواتٍ.. لا يعلم كيف مرّت عليها.. لكنه سمع عنها الكثير ..
أبرز ما سمعه كان نبأ فسخ خطبتها.. و هو الذي لطالما عرف كم عنى لها خطيبها السابق.. و كم أحبّته و تطلّعت بشوق للزواج منه ..
لم يكن معها حينها.. إلا إنه شعر بها جيدًا.. و أحس بنارها التي لم تخمد حتى الآن.. تبدو حسرتها جليّة في عمق نظراتها الا مبالية.. في قلّة اكتراثها بأيّ شيء ..
أخته “مايا” تتألم.. و لا تستحق بعد كل ما مروا به جميعًا إلا السعادة.. و السعادة فقط.. هو لن يقبل لها بأقل من ذلك …
-حضرتك سألتها ؟ .. تساءل “مالك” بهدوءٍ ناظرًا إلى أبيه مباشرةً
جاوبه “حسين عزام” و هو يشعل تبغ غليونه و هو يجرّبه مرارًا :
-منغير ما أسأل.. مافيش راجل أنسب من نبيل لبنتي
و أختك مابقتش صغيرة يا مالك.
مالك بحدة : بس أعتقد إنك لازم تاخد رأيها.. ده جواز مش عزومة عشا !!
حسين بصرامةٍ : مش محتاج رأيها.. أنا أبوها و أدرى بمصلحتها ..
-دقيقة واحدة يا حسين من فضلك ! .. قاطع “نبيل” حوار صديقه و إبنه
و خاطب “مالك” مباشرةً :
-ممكن أسألك لو عندك أي اعتراض شخصي عليا يا مالك ؟
نظر “مالك” نحو “نبيل” قائلًا :
-أنا أعرفك من زمان يا نبيل و ماعنديش أي مشكلة معاك فعلًا
لكن مايا دي أختي.. و سعادتها تهمني.. لما القصة يبقى فيها جواز لازم تكون مقتنعة و حابة ده كمان.
ابتسم له “نبيل” ببساطةٍ و قال :
-مش يمكن هي حابّة فعلًا ؟
أُخذ “مالك” لثوانٍ عقب جملة الأخير.. تفكّر بكلماته لهنيهةٍ.. ثم نقل ناظريه بينه و بين أبيه قائلًا بصوتٍ أجش :
-عمومًا أنا في صف مايا.. أي قرار هاتاخده أنا بدعمه من دلوقتي.
طمأنه “نبيل” و هو يمد يده رابتًا على ساقه :
-ماتقلقش.. خير إن شاء الله !
**
كان عليها العودة سريعًا إلى حجرة صغيرتها.. هذه الزيارة القصيرة لجناح الزوجية كانت تقوم بها يوميًا قبيل عودته من الخارج.. كانت تتابعه.. بل تراقبه فعليًا ..
و تعرف إنه كان يتأخر عادةً.. و لا زال الوقت مبكرًا.. لذلك لم تقاوم اغراء رغبتها القوية في استخدام حمام الجناح الخاص.. و الذي كان يُعد واحةً للاسترخاء حقًا ..
كم تتوق للاسترخاء ..
ألقت نظرة على ساعة الحائط.. إنها تشير إلى السادسة مساءً.. هو قطعًا لن يعود قبل الثامنة.. إن لم تكن العاشرة كدأب كل يومٍ ..
لم تضيّع “سمر” الفرصة من يدها.. تركت الثياب التي جاءت لتحضرها و توّجهت صوب الحمام على الفور.. فتحت المياه لتملأ حوض الاستحمام و أضافت إلى الماء بعض الصابون و المساحيق العطرية الثمينة.. بينما أخذت تخلع ملابسها على مهلٍ حتى امتلأ الحوض بالقدر المناسب ..
مدت ساقيها الواحدة تلو الأخرى داخل الحوض.. ثم هبطت بجسدها رويدًا رويدًا مستمتعة و مقشعرّة في آنٍ للإحساس بدفء المياه التي غمرتها ببطءٍ ..
أطلقت زفرات الراحة و هي تغمض عيناها.. مسندة رأسها إلى وسادة العنق المثبتة بالحوض البيضوي ..
مرّت الدقائق و هي لا تزال على حالتها.. تغتنم فرصة خلوتها مع نفسها لتفكر بالوضع كله.. العجيب بالأمر.. لم تعد تشعر بالغرابة !
طفليّها ..
إنهما بمثابة روحها الآن.. لا يمكن لها أن تفكر حتى بمفارقتهما مهما حدث ..
والدهما.. زوجها.. “عثمان البحيري” ..
و إن كان يُمثّل تعقيدًا في حد ذاته.. إلا إنه.. يملكها ..
أجل.. هكذا ببساطة.. المرة الأخيرة التي كانا معًا.. سرد لها قصتهما.. استمعت من فاهِ إلى تفاصيل جعلتها تتمنّى لو إنها ماتت في تلك الحادثة لكي لا تسمعها أو تعرفها ..
لكن بمجرد أن لمسها.. بمجرد أن مد يده و أخذها.. كل هذا انطوى بعيدًا خلف أفكارها.. فلم ترى سواه.. و لم تسمع سواه ..
ما سرّه ؟
و لماذا تضعف دائمًا في حضوره ؟ .. كيف كانت حياتها معه قبل أن تفقد ذاكرتها ؟ .. كيف عاشت كزوجة له طوال هذه السنوات ؟
-عثمـان ! .. رددت أسمه بلا وعي و هي تتململ من برودة المياه المتزايدة بمرور الوقت
-أد كده بتعشقيني و بتفكري فيا ؟
صرخت ..
فعليًا صرخت بقوة مذعورة عندما تسلل صوته إلى مسامعها و قد بدا قريبًا جدًا ..
كان يقف فوق رأسها.. ما إن رآها تصرخ و تنتفض بالحوض و هي تكاد تتسبب بغرقها.. انحنى صوبها ممسكًا بذراعها و هو يرفعها لأعلى قائلًا :
-إهدي يا سمر.. حصلك إيه ؟
ده أنا !
كارثتها إنه كان هو حقًا ..
كيف جاء الآن بحق الله !؟
متى وصل ؟ .. ليس من المفترض به أن يكون هنا الآن.. لماذا الآن !!؟؟؟
-انت.. انت.. انت ..
كانت تلهج بشدة و تتلعثم و هي تحاول النظر إليه عبثًا بسبب الصابون الذي دخل في عينيها و حرقهما ..
هدأها “عثمان” و لا يزال ممسكًا بذراعها :
-إهدي يا بيبي.. إهدي.. مالك بس ؟
ما انتي كنتي كويسة دلوقتي قبل ما أتكلم !
انهمرت دموع غزيرة من عينيها.. دموع لا علاقة لها بأيّ بكاء.. لكنها عاندت الحرق في عينيها و نظرت إليه متسائلة بصدمةٍ :
-انت هنا من إمتى ؟؟
أضاءت ابتسامة ماكرة على ثغره الدقيق و هو يرد عليها :
-من أول ما بدأتي تملي الحوض.. كنت واقف ورا الباب مؤدب و ساكت خالص
ماحبتش أقاطعك و الله و كنت ناوي أسيبك لما تخلصي خالص.. بس لما سمعتك بتنطقي أسمي.. مقدرتش أقاوم بصراحة !
و ترك نظراته الجريئة تتفرّسها بعلانية.. ما دفعها للصراخ فيه بمزيج من الغيظ و الخجل الشديد :
-انت.. انت مش محتــــرم !!!
هز كتفيه قائلًا :
-ما أنا عارف.. و انتي كمان عارفة
آه Sorry
نسيت إنك لسا ناسية.. معلش.. أنا بفكرك أهو يا بيبي ..
كانت تحاول سحب ذراعها من قبضته.. متوخية الحذر لئلا تنحسر رغوة الصابون عن جسدها و ينكشف عريها أمامه.. بينما كان مستمتعًا للغاية بهذا الكرّ و الفرّ.. يراها أمامه كما لم يرها من قبل.. بهجة لنظره.. مغرية.. جميلة.. و متمردة ..
إن “سمر” لم تعرف التمرد مطلقًا معه.. ربما حاولت في البداية.. لكنه سرعان ما قمع هذا التمرد و قضى عليه.. في كل مرة كان يقضي عليه.. إلى أن استسلمت في الأخير و سلّمته نفسها كليّةً ..
يبدو أنها تحاول أن تعيد الكرّة من جديد.. لا بأس.. سيكون من دواعي سروره …
-بقولك إيه ! .. تمتم “عثمان” متزحزحًا للأمام ليصير أقرب إليها :
-ما توسعيلي جنبك ..
كتمت شهقة هلوعة بصدرها.. رفعت يدها الأخرى محاولة فك قبضته عنها و هي تقول بانفعالٍ :
-بطل بقى.. بطل سفالة و قلّة أدب
أنا تعبت منك.. انت مش جايبني من الشار آ ..
صمتت فجأة و قد جمدتها اللمحة التي بزغت بعقلها بأضواءٍ مبهرة.. لمحة من الماضي.. و كأنها ترى لقطةً حيّة أمامها …
______
إزداد معدل الشغف في نظراته و هو يتأملها أكثر.. بينما انزلقت أكثر في الماء كي تخفي جسدها من عينيه و هي تشعر بالخجل الشديد ..
-ممكن تطلع برا دلوقتي ؟ .. قالتها “سمر” بتوتر و وجهها يشع نارًا
ليضحك “عثمان” بمرح و يرد :
-ليه كده بس يا بيبي ؟ عايزاني أطلع برا ليه ؟
ده بدل ما تعزمي عليا و توسعيلي مكان جنبك ؟
ده أنتي طلعتي بخيلة أوي.. مع إني صحيت قبلك و حضرت لك الفطار بنفسي برا
يعني لحد دلوقتي أنا أحسن منك و كريم جدًا معاكي.
رمقها بنظرات خبيثة.. فإنفعلت رغمًا عنها لسوء أخلاقه معها.. و صرخت فيه :
-قولتلك ميت مرة مابحبش الطريقة دي و قولتلك بردو ماتكلمنيش بالإسلوب ده
إنت مش جايبني من الشارع
بطل قلة أدب !
-أنا قليل الأدب ؟ .. سألها بهدوء شديد و هو يشير بأصبعه إلي نفسه
ثم ابتسم تلك الإبتسامة الشيطانية و قال :
-طيب
أنا هوريكي قلة الأدب علي أصولها !
و مد يده داخل المغطس.. ليخرج بعد لحظات بالسدادة المطاطية ..
اتسعت عيناها بذعر عندما لاحظت منسوب المياه يقل.. و جسدها على وشك أن يُـكشف له ..
_______
صحت “سمر” من الذكرى مستقرّة ببصرها مباشرةً على وجهه القريب.. لم تحرك ساكنًا.. بقيت تنظر إليه بعينين متسعتين.. صدرها يعلو و يهبط من تأثير ما رأت ..
مستحيل !
إنه محق.. جميعهم على حق.. لقد كانا معًا ..
لقد كانت له كما أراد في وقتٍ ما من حياتها ..
أليست له الآن أيضًا !؟؟
-افتكرتي حاجة.. صح ؟
تجفل “سمر” عدة مراتٍ و هي تشعر كما لو أنها قد فقدت النطق …
-أفتكرتي حاجة يا سمـر !؟ .. يسألها “عثمان” ثانيةً
هذه المرة باحتياجٍ أشدّ.. قبضته تضيق على ذراعها و هو يحدق فيها بقوة ..
و فجأة.. دس يده الأخرى أسفل المياه.. لينتزع الشيء الذي توقعته.. السدادة المطاطيّة.. كأنه يؤكد لها صدق رؤياها ..
فتشهق مرةً أخرى سامحة لدموع جديدة كليًّا بالانهمار من عينيها.. بينما كان منسوب المياه يقلّ و جسدها صار مكشوفًا أمام عينيه بالكامل تقريبًا ..
ينثني “عثمان” للأمام و يدنو منها أكثر.. يخفض صوته و هو يهمس لها بأنفاس دافئة داعبت بشرتها و شفتيها :
-أنا فاكر.. أنا فاكر كل لحظة مرّت بينّا.. كل كلمة.. كل لمسة
فاكر و عمري ما نسيت و لا هانسى يا سمر
و انتي كمان.. إستحالة تنسيني.. أنا كنت متأكد.. أنا لسا موجود جواكي
أنا هفضل موجود جواكي لأخر يوم في عمرك !!
صوته يخشوشن أكثر فأكثر كلّما نطق بكلمة.. بشرته البرونزية تزداد توّهجًا بفعل إنفعالاته المكبوتة.. رجل مثله يعرف جيدًا خطواته و يزن تصرفاته و كلماته.. لكنه في هذه اللحظة على وشك خسارة كل هذا ..
و تعرف “سمر” إنها فاغرة فاها.. و أن عينيها شاخصتين و هي تستمع إليه.. في انتظار شيء ما لا تعرفه.. و لكنها بنقطة ما بداخلها تتوقعه ..
تتحوّل نظراته الآن.. و هو يبعدها عن عينيها لينظر للأسفل ليشاهدها بعينين مشتعلتين.. و يردد بخفوتٍ :
-أنا كنت صح.. و كلهم غلط.. كل إللي حصل بيني و بينك
مستحيل تنسيه.. مش هاتنسيه أبدًا يا سمر
مش هاتنسي ده كمان ..
و رفع رأسه معانقًا شفاهها بشفاهه في قبلةٍ جائعة.. لم تستطع صدّها.. لم تستطع إيقافه ..
حتى عيناها الشاخصتين.. لم تتمكن من الإبقاء عليهما منفتحتين.. يُغمضا بشكلٍ لا إرادي كلّما تعمّقت القبلة ..
لولا ارتعاشتها لما كسرها فجأة.. ليحملق فيها لاهثًا.. يتفحص توّردها و اضطرابها و هو يقول بخشونة :
-تعالي يا بيبي.. تعالي من البرد
أنا عارف إزاي أدفّيكي !!!
و انتشلها من الحوض حاملًا إيّاها بسهولةٍ على ذراعيه.. و كأنه يحمل طفلته حقًا ..
مُدللته ..
إنها “سمر”.. زوجته.. حبيبته …
**
اصطف طاقم الخدم مهرولين بسرعة لاستقبال سيدة القصر ..
تغمرهم البهجة و السعادة لعودتها.. تلقت “فريال” ترحيبهم الحار بابتسامةٍ جميلة.. سارت أمامهم محاطة بصغار “مراد أبو المجد” و زوجته “إيمان عمران” ..
تقدمتها “صفيّة” الآن هاتفة بتهلفٍ واضحٌ بنبراتها :
-مامي أنا هاطلع أشوف ديالا.. خلاص مش قادرة وحشتني موت ..
أومأت لها “فريال” بينما تمثل مستخدمتها الأمينة.. و مدبرة منزلها أمامها قائلة بابتسامة عريضة :
-القصر رجعت له روحه برجوعك يا هانم.. و الله ما شوفنا ضحكة و لا فرحة في غيابك.
-متشكرة يا إيفون.. و الله و انتوا وحشتوني أوي.
-يارب تكوني بصحة و خير.. تسلمي يا فريال هانم.
-قوليلي أخبار القصر إيه ؟ حصل إيه في غيابي ؟
تجمدت ابتسامة “إيفون” للحظة.. ثم تلاشت فجأة و هي تقول بجمودٍ :
-كل خير يا هانم.. حصل كل خير إن شاء الله !
استشعرت “فريال” خطبًا ما من طريقتها.. لكنها لم تتوقع الأسوأ وفق الأجواء المستقرة من حولها.. لذلك تنهدت و هي تلتفت نحو “مراد” و عائلته قائلة :
-طيب يا إيفون.. من فضلك هاتي حد ياخد شنط مراد و مراته و ولاده على فوق
افتحي الجناح الشرقي و نضفوه كويس عشان مراد و مراته.. و الأوضة المشتركة جنب أوضة يحيى و فريدة دي لعمر و لمى.
و فركت رأس الصغير الذي سرعان ما أبدى تعلّقًا بها …
-بس يا هانم !
استدارت “فريال” نحوها ثانيةً مستوضحة :
-في حاجة يا إيفون ؟
ازدردت الأخيرة ريقها بصعوبةٍ.. و قالت :
-الجناح الشرقي مش هاينفع.
قطبت “فريال” : يعني إيه مش هاينفع !؟
إيفون بتوتر : قصدي.. مش فاضي !
رفعت “فريال” حاجبيها معلّقة :
-مش فاضي !
يعني إيه بردو !؟؟
تلعثمت “إيفون” و لم تقدّم إجابة واضحة.. فكررت “فريال” سؤالها بحدةٍ :
-إيفــون.. إيه الحكاية ؟؟؟
 
google-playkhamsatmostaqltradent