رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الفصل التاسع عشر 19 - بقلم مريم غريب
الفصل التاسع عشر _ ابن أبيه _ :
-ديــالا !
كان هذا كل ما قالته “صفيّة”.. و تسمّرت بعدها.. بعد ما فتحت باب جناحها الخاص بالقصر.. حيث تركت صغيرتها في عهدة مربيتها ..
لم تكن الصغيرة وحدها كما توقعت.. و لكن كان معها آخر شخص فكرت أن تراه الآن ..
كان معها والدها.. زوجها.. و ابن عمها.. “صالح البحيري” …
-صالح !
خرج أسمه من بين شفاهها خافتًا.. ينم عن جفاء.. قلّة حماسة لرؤيته ..
كان “صالح” يساعد صغيرته في تنفيذ تسريحة شعرها الدقيقة أمام منضدة الزينة.. لكن يداه قد توقفتا تمامًا الآن.. ما إن ظهرت زوجته فجأة.. لم يكاد يتخذ أيّ ردة فعل بعد المباغتة.. و إلا و سبقته “ديالا” ..
حين قفزت من فوق الكرسي المعدني المنجّد لتنطلق صوب أمها صارخة بسعادةٍ :
-مـاااااااااامــييييي !!
و ارتمت بين ذراعيّ “صفيّة” التي تلقّتها في الحال راكعةً أمامها دون أن تحيد عن “صالح” للحظة.. بقى كلاهما يحدقان ببعضٍ.. هي بتوترٍ.. و هو بغضبٍ جلي ..
رغم ثقل هذا اللقاء على “صفيّة”.. إلا إنه ضروري.. إذ يتعيّن عليهما إنهاء هذا ..
مرةً واحدة.. و إلى الأبد …
**
لقد هربت منه حرفيًا.. بعد أن نالها مجددًا.. إنها لحظة واحدة فقط التي تتظاهر بالرفض.. ثم ما إن يلمسها يتبخر كل حذرها ..
اللئيم.. أخذها من المرحاض عارية تمامًا.. فلم تجد ما تستر به جسدها بعد أن تركها أخيرًا سوى قميصه.. أخذته من فوق الأرض و ألقته عليها في عجالةٍ ثم فرّت ثانيةً إلى الحمام ..
وقفت هناك أمام لوح المرايا تحملق بنفسها بشدة.. كتمت شهقة بكفها حين رأت التوّرم الواضح بشفتيها بفعل قبلاته ..
قبلاته !!!
لم يكن ليفعل ذلك.. لم ليكن لقبّلها بهذا الشغف.. بهذه الضراوة لو لم تشجعه !!!!
البائسة ..
كيف تخضع له بسهولة ؟ .. و لماذا هذه المرة بالذات تبدي له كل هذا الخنوع و الترحيب !!؟؟
أزاحت “سمر” كفها عن فمها بتمهلٍ و الخزي يتموّج في نظراتها.. تنزل يديها ممسكة بتلابيت القميص خاصته.. تفتحه قليلًا لتستطلع تلك العلامات الحمراء المتفرّقة.. التي بصم بها على صدرها و عنقها ..
الفاسق ..
هل يُلام !؟
إنها أرادته بدورها.. و تجاوبت كليًا مع غزله بها.. ربما ذاكرتها تنساه.. و لكن جسدها لا يزال يتذكره.. جسدها الخائن دائمًا ما يتوق إليه ..
لم يتعب “عثمان” هذه المرة في طريقه لحصوله عليها.. لقد مهدت له الطرق كلها.. البائسة !!!
فتحت “سمر” صنبور المياه لتغسل بالماء البارد وجهها الملتهب من شدة تدفق دماء الخجل إليه.. سحبت منشفة صغيرة من إحدى الرفوف و جففت وجهها و عنقها و هي تلقي نظرة مطوّلة إلى نفسها بالمرايا ..
لا يمكنها أن تظل جبانة إلى الأبد.. على أيّة حال.. لم ترتكب جريمة.. إنها زوجته.. الجميع يعرف هذا ..
أليس كذلك !؟؟
خرجت “سمر” إلى الغرفة ثانيةً.. لم تجده في السرير حيث تركته.. بل كان يجلس غارقًا و مسترخيًا فوق الأريكة الوثيرة بجوار الشرفة.. لم يكن يرتدي سوى سرواله الداخلي.. يتصفّح هاتفه الخاص ..
ما إن رآها و قد عادت حتى ألقاه من يده جانبًا و تطلّع نحوها …
-ماطوّلتيش ! .. قالها “عثمان” مبتسمًا باشراقٍ
و دعاها إليه مشيرًا لها بيده :
-تعالي يا سمر.
الغريب ..
لقد أطاعته.. وجدت قدماها تسيران تجاهه ببطءٍ.. حتى وصلت أمامه.. بوغتت عندما أمسك بيده و سحبها لتسقط فوقه ..
حبست أنفاسها مطوّقة عنقه بذراعيها تلقائيًا.. بينما يمسّد على شعرها بيديه مرتبًا إيّاه فوق رأسها …
-إبقي فكريني أخدك عند الـHairstylist ! .. تمتم بأنفاسه الدافئة قرب فمها
عبست لهنيهةٍ مستغربة.. فأردف بابتسامةٍ جانبية ماكرة :
-شعرك طول.. طول جدًا
أنا مابحبش شعرك طويل.. و هو قصير بيكون أحلى.
إتيانه مرةً أخرى على ذكر شعرها الذي تسبب بقصّه.. دفعها لتشحذ مشاعر حنقها منه و تقول من بين أسنانها :
-انت إللي كنت بتجبرني أقصّه صح ؟
انت عارف شعري ده فضلت بهتم بيه أنا و ماما الله يرحمها كام سنة ؟ .. أنا عمري ما حطيت فيه مقص لحد ما اتخرجت من الجامعة !!
ضحك “عثمان” بخفةٍ و قال :
-مش كل العيون بتعرف تميّز الجمال الحقيقي.. و أنا من أول يوم شايفك جميلة
بس بقيتي أجمل لما حققت رغبتي و خلّيتك تقصّي شعرك.. أصلًا يا سمر
محدش بقى له أيّ حق فيكي لحظة ما بقيتي على إسمي.. لا أمك الله يرحمها مع احترامي ليها طبعًا.. و لا انتي نفسك.. و لا أي مخلوق.. انتي ملكي أنا.. و بس.
أُخذت من طريقته.. من كلماته.. كان كأنه يُمارس سحرًا ما عليها.. فلا تشعر بأقل رغبة في الابتعاد عنه الآن.. تريد المكوث هكذا طويلًا و الاستماع إليه يتحدث إليها ..
ابتسم “عثمان” من جديدٍ مدركًا ما تفكر فيه بصمتٍ.. أنزلقت نظراته لأسفل و هو يقول بصوتٍ أدنى للهمس :
-وحشني شكلك و انتي لابسة هدومي.. قميصي هاياكل منك حتة
يا بخت القميص و الـ ..
اتسعت عيناها بصدمةٍ من كلماته الأخيرة ..
قهقه “عثمان” بانطلاقٍ عندما اضطربت بشدة ضاربةً إيّاه في كتفه..حاولت الفكاك من بين ذراعيه مغمغمة بخجلٍ غاضب :
-بطل سفالة بقى.. أنا كل ما أحاول أديلك فرصة بتخلّيني أندم
أنت بجد سافل أوي.. إيه ده مش معقول.. إووعـى كده ..
بقيت قبضته حولها محكمة.. فكانت كل محاولاتها للبعد عنه فاشلة.. بينما يقول من بين ضحكاته :
-إيه بس يا بيبي.. ليه العصبية دي كلها
الكلام ده مش غريب على ودانك.. أنا ياما قلت لك أكتر و أجرأ من كده.. و انتي كنتي بتتبسطي أوي.
ردت بنفي واثق :
-أنت كـداااب !!
رفع حاجبه قائلًا :
-يا سمر ماتستفزنيش !
لكنها لم تغيّر نظرتها المتحدّية.. فأضطر لإثبات إدعائه :
-أوكي.. لحظة ..
و مد يده متناولًا هاتفه.. عبث به للحظاتٍ.. ثم وضعه بينهما لتسمع بأذنيها بضعة تسجيلاتٍ لهما في محادثة هاتفية ..
رباه !!!
هذا صوتها حقًا.. و الآخر صوته هو.. إنهما يتواعدان بحرارةٍ و بكلماتٍ جريئة للغاية.. خصوصًا هي.. تعده بأشياء ..
لا.. لا يمكنها حتى أن تتقبّل ما تسمعه …
-إيه رأيك ؟ .. سألها “عثمان” بذات التعبير المتأهب :
-الفويسز دي ليلة عيد ميلادي إللي فات.. كنت لسا ماوصلتش البيت
و انتي كلمتيني.. و سمعتي بودنك كنتي بتقولي إيه و وعدتيني لما أوصل هاتعملي إيه و هاتفجأيني إزاي.. تحبي تسمعي حاجة تاني ؟
و بالفعل شرع بالعبث في هاتفهه مجددًا.. لتمسك بيده مانعةً إيّاه هاتفة :
-خـلااااااص.. خـلاص من فضلك !!
و تسارعت أنفاسها لشدة إنفعالاتها ..
رقت نظرات “عثمان” إليها حين لاحظ شحوبها.. ترك هاتفه و ضمها إليه أكثر دون أن يكسر إتصالهما البصري و قال بحنانٍ :
-أنا ماقصدش أضايقك يا سمر.. و لا حتى حبيت أحرجك
أنا بدأت أتفهم الوضع إللي انتي فيه.. بس لاحظت إن العلاج بالصدمة ممكن يجيب معاكي نتيجة.. و ده حصل فعلًا من ساعة واحدة.. أنا المرة دي حسيت إنك سمر.. حبيبتي.. حسيت إنك رجعتي زي الأول.. مستعد أعمل أي حاجة عشان ارجعك تاني يا سمر.. خليكي واثقة فيا.. محدش بيحبك في الدنيا دي كلها زيي
صدقيني !
لم تسنح لها الفرصة للرد أو أيّ شيء آخر ..
قاطعهما طرقٌ على باب الجناح.. توترت.. بينما يصيح بثباتٍ من مكانه :
-مـين ؟
أتى صوت نسائي مميز من وراء الباب المغلق :
-إيفون يا عثمان بيه !
قام “عثمان” من مكانه آخذًا “سمر” معه.. تركها الآن بتمهلٍ قائلًا :
-إدخلي الدرسنج روم.. يلا.
أحست بالامتنان تجاهه لبرهةٍ.. طبقًا لمعرفتها القصيرة به.. فإنه ما كان ليتوّرع على عرضها بهذا الشكل على مدبرة القصر أو أي عاملة هنا.. لكنه أحترم مشاعرها هذه المرة ..
لم يشأ أن يحرجها …
-أدخلي !
إنفتح الباب و دلفت “إيفون” بعد أن نالت الرخصة لذلك ..
تلك المرأة الخمسينية.. عيّنتها السيدة “فريال” بنفسها قبل أحد عشر عامًا لتدير شؤون القصر العملية.. ما كان “عثمان” ليتركها كل هذه المدة لو لم يلتمس أمانتها و أصالة أخلاقها بنفسه ..
كانت أمه تحبها.. فأحبها كرمى لأمه و اعتبرها جزءً من العائلة.. حتى إنها مخوّلة لتربية صغيريه و العناية بهما …
-في حاجة يا إيفون ؟
-عثمان بيه.. إلحق يابني !!
إنقبض قلبه بمجرد سماع صوتها اللاهث يستنجد به هكذا.. فقال على الفور :
-حصل إيـه !؟؟
اختصرت “إيفون” كل شيء في كلمتين :
-فريال هانم !!!
**
دمعتها لا تجف على خدّها ..
تنام و تصحو بها فعليًا.. في الغالب هي لا تغادر السرير إلا لقضاء حاجتها.. هذا المرض المزمن الذي يواتيها منذ مراهقتها.. الاكتئاب ..
إنه يفتك بها منذ أيام.. جرّاء ما أقترفه “رامز الأمير” بحقها.. حبيبها.. إنه يحقق كوابيسها بشأن معاشرة رجلٌ مثل أبيها.. إنه يثبت نظرية “رحمة” بأنه ليس جديرًا بها حقًا ..
و كله في كفّة.. و الطريقة التي عاملها بها أخيها في كفّةٍ أخرى ..
و لكن.. أليس هذا ما أرادته ؟
و الشيء الذي تاقت له طوال عمرها.. وجود أخًا تلوذ بحصنه.. يحميها و تستشعر حميته عليها !؟؟
لماذا هي حزينة إذن ؟
بسبب “عثمان” ؟ .. الحقيقة لا.. ليس بسببه ..
سبب حزنها الرئيسي هو “رامز الأمير” نفسه.. الرجل الذي تحبه.. و تعجز كليًا عن مجرد فكرة تركه ..
لا يمكنها تركه.. لأنها تحبه.. رغم كل مساوئه.. تحبه.. و تشعر بالوحشة لأنه ليس هنا بجوارها ..
عجبًا لقد تركته لمدة ثلاث سنواتٍ.. و الآن هي لم تره منذ بضعة أيام.. إلا إنها تفتقده بشدة.. تريده.. تريد حبيبها و رجلها ..
إنها حقًا لا ترى نفسها إلى جانب آخر غيره.. و إن أصر أخيها على موقفه و رفضه زوجًا لها فإنها تخشى أن تفقد عقلها.. لأنها لن تحتمل ذلك.. لن تحتمله أبدًا …
-دخلتي بيتي يا بنت يحيى !!
تسلل الصوت عبر مسامع “شمس البحيري” أثناء غيبوبتها النصفية ..
لكنه كان كفيلًا لينتزعها من أيّ مُسبب يُغيّبها عن الواقع.. فتحت عيناها على وسعهما.. لتتعلّق نظراتها بناظريّ “فريال” الحاقدين ..
انتفضت “شمس” و قامت جالسة فوق فراشها.. حدقت بزوجة أبيها غير قادرة على النطق بكلمةٍ.. في حين أحتقن وجه “فريال” بالدماء.. أغرورقت عيناها بدموع الغضب و هي ترتعش حقًا من قمة الانفعال …
-بــراااااااااااااااااااااااااااااااااا ..
شهقت “شمس” بذعرٍ عندما صرخت “فريال” بها هكذا.. تراجعت ملصقة ظهرها بحائط السرير.. في نفس اللحظة إندفعت يد “فريال” لتمسكها من شعرها ..
و هنا لم تتحمل “شمس” الألم و ملأ صراخها الجناح كله ..
بينما أخذت “فريال” تسحبها فوق الأرض تجاه الباب.. جاءت “رحمة” و صوتها يهدر بهلعٍ من الخارج :
-شمـس.. فـي إيـه.. شـمـــــس !!!!
تترك “فريال” ابنة زوجها الراحل و تلتفت لتنظر نحو الأخيرة.. أخرسها الألم فور رؤية غريمتها.. بالتأكيد هذه هي التي تزوجها “يحيى البحيري”.. هذه هي إبنة السائق ..
تلتقي نظراتهما لجزء من الثانية.. قبل أن تهرع “رحمة” إلى ابنتها.. ترتمي بجوارها على الأرض و تضمها إلى صدرها بشدة و هي ترفع وجهها لتلاقي نظرات “فريال” من جديد ..
استوحشت عينا “رحمة” و أخشوشن صوتها بشراسةٍ و هي تهتف :
-مالك ببنتي يا فريال هانم.. أنا بحذرك.. إللي يقرّب من شمس أكله بسناني
دي شمس بنت يحيى البحيري !!
-رحـمـــة !!!
طغى الصوت الرجولي على كل الأصوات بالجناح ..
و إلتفتت “فريال” كليًا نحوه.. ترمقه بنظرة ملؤها الخيبة و الخذلان ..
قابل “عثمان البحيري” نظرات أمه ببرودٍ.. ثم نقل بصره نحو “رحمة” قائلًا بصرامة :
-صوتك ما يعلاش على فريال هانم.. انتي سامعة يا رحمة ؟
انتي هنا ضيفة عندها.. بمزاجك.. غصب عنك.. تتأدبي و انتي بتكلميها.
نسخة أبيه ..
يقف أمامها و يحذرها.. يملي عليها أوامره.. كان لسانها ليخرس تمامًا.. لولا أن الأمر يتعلّق بابنتها.. لذلك ردت عليه بذات الشراسة و كأنها لبؤة تدافع عن صغارها :
-فريال هانم اتهجمت على بنتي ..
نظر “عثمان” لأمه غير مصدقًا.. لكنها لم تأبه لنظرته.. إتخذت خطوتين تجاهه و قالت بهدوءٍ شديد :
-انت سمحت لهم يدخلوا بيتي يا عثمان ؟
أجفل “عثمان” في البادئ.. لكنه تمالك رباطة جأشه و جاوبها :
-أيوة يا فريال هانم !
أومأت له و قد كانت دموعها الحبيسة رهن إجابةٍ منه ..
هوى قلبه بين قدميه بمجرد أن سالت مدامعها على خدّيها.. كاد يخطو ناحيتها.. لكنها جمدته بإشارة من يدها و قالت بصوتٍ أبح :
-أطردهم.. دلوقتي
حالًا !!
مرةً أخرى.. تُحكِم قوى أكبر من إرادته سيطرتها عليه.. قوى الواجب.. فيقسو و هو يقول بجفاءٍ :
-مش ممكن يا فريال هانم.. شمس أختي.. و أنا إستحالة أتخلّى عنها مهما حصل !
- يتبع الفصل التالي اضغط على ( رواية كرسي لا يتسع لسلطانك) اسم الرواية