رواية لا يليق بك إلا العشق الجزء الثاني 2 الفصل الثاني والعشرون 22 - بقلم سماح نجيب
ج٢–٢٢–" ضوء أخر النفق "
لم يكسر حاجز الصمت القائم بينهما سوى أصوات أمواج البحر القادمة من خارج المقصورة ، ونسمات الهواء القوية التى أضحت تصفع الستائر عتاباً لها على ترك النوافذ مفتوحة على مصراعيها ، لتشهد السماء بالخارج على دمعات تلك الزوجة الجالسة على طرف الفراش وهى تحرك رأسها رفضاً لما ألقاه زوجها على مسامعها ، فى حين أنه جلس على المقعد قبالة الفراش وهو مطرق برأسه يضعها بين يديه ، كمن ذاق هزيمة منكرة ويعيد ترتيب أفكاره لكى ينسحب من أرض المعركة الملوثة بنشيج ودموع وآهات مزقت الفؤاد ، إعتراضاً على ما آلت إليه الأمور ، أغرورقت عيناه بتلك الدمعات التى آبى أن تذرف إلا بوقت عصيب كهذا ، و أليس هناك ما هو أصعب وأقسى من ذلك الوقت ، فها هو صار أمامها ككتاب مفتوح ، لن يعود ويرهقها بقراءة طلاسمه ، ولن يجديه نفعاً أن يرجئ إنكشاف الحقائق أكثر من ذلك ، فهزيمته قد باتت واقعاً ، حتى وإن لم يسمع منها بعد رداً ولا إجابة على ما تفوه به ، فجل ما فعلته أن قدميها تراختا وجلست على حافة الفراش تبكى بصدمة شلت أطرافها ومنعت عليها القدرة على الكلام
– أنت بتقول إيه يا راسل ؟ أنت بتهزر معايا ، ولا بتحاول تكدب عليا علشان تبرر غيابك السنتين اللى فاتوا ؟
تلك هى الأسئلة التى تفوهت بها ما أن رفعت إليه عينيها الذابلتان أخيراً ، ولكى تضمن أن يكف جسدها عن الإرتجاف ، قبضت بيدها على ملأة السرير ، كمن تستمد منها قوة واهية لعلها تساهم فى التخفيف من حدة وطأة ذلك الشعور الذى سحق قلبها ، أزدردت لعابها لعلها تفلح فى أن تزيح تلك الغصة التى علقت بحلقها وجعلتها تشعر بطعم مُر كمن تناولت شيئاً لاذعاً وعلقت مرارته بجوفها وسيستلزمها وقتاً فى أن تتخلص منه
أزاح راسل يديه عن جانبى رأسه وحدق بها بهدوء رغم أن دموعه التى ملأت مقلتيه جعلت رؤيته لها مشوشة بعض الشئ ، إلا أنه قال بعدما أطلق نفساً عميقاً حاراً:
– يعنى تفتكرى إن علشان أبرر غيابى ، أقول إن أنا ولا أنتى مش هينفع نخلف مع بعض ، أنا هحكيلك كل حاجة يا حياء ، بس أوعدينى أنك تفكرى كويس ومتنفعليش برد فعلك أو تأخدى قرارك بسرعة ، فكرى فى نفسك وحياتك ، لأن أنا فعلاً زى ما أنتى قولتى أنانى ، جه عليا الوقت اللى حاولت أتجاهل فيه الحقيقة من غير ما أعمل حساب لأى حاجة غير إن بحبك ، الحب عمانى وهو برضه اللى خلانى بعدت ، لأن مكنتش حابب أاذيكى زيادة ، أنتى من ساعة ما عرفتى إنك مش بنت عرفان الطيب ، وأنتى فى حاجة جواكى اتكسرت وجيت أنا كملت وجعك وكسرتك ، أنا مكنش لازم من البداية ادخلك العالم بتاعى اللى تقريباً مفيش فيه حاجة حلوة غير وجود سجود بنتى ، عالم كله وجع وألم وعلاقات مكسورة ومتحطمة ، عالم لسه فيه الطفل الصغير اللى كان بيجرى ورا أمه وشافها وقعت غرقانة فى دمها ، واللى فيه ابن عاش يتيم وابوه على وش الدنيا ، أنتى عارفة حتى اللى بيعمله رياض النعمانى دلوقتى وبيحاول يصلح بيه اللى كان زمان ، مش هقولك انه هيقدر ينسينى اللى حصل، للاسف جه بعد ما كل حاجة حلوة جوايا اتكسرت ، حس بغلطه بس كان الوقت اتأخر ، لأن خلاص ارجع الزمن لورا ازاى وأنسى اللى حصلى منى ازاى ، متفتكريش إن كان سهل عليا ، اشوف راجل تانى هو اللى بيحاول يكون أبويا، واحد مش من لحمه ودمه ، بس ادانى اللى مقدرش يدهولى رياض النعمانى بكل سلطته ونفوذه
كف عن الحديث وضغط على عيناه لشعوره بإحراق الدموع لأجفانه ، ومن ثم عاد مستطرداً:
– وأنا تقريباً عملت زيه ، وجعتك وبعدت ، خليتك سنتين عايشة فى عذاب وحتى لما رجعت كل اللى عملته إن زودت وجعك زيادة ، علشان كده متسامحيش يا حياء ، واعملى اللى يريحك ويخليكى تحسى أنك اخدتى حقك منى ، وانا هحكيلك اسبابى من وجه نظرى وأنا بشر مش ملاك وفيا سيئات كل الناس وحسناتهم ، ومش هطلب منك أنك تسامحى ، لأن مش هبقى أنانى ، ولا أحاول أفرض نفسى عليكى بأى شكل من الأشكال تانى ، أنا اتعودت إن كل حاجة حلوة فى حياتى بتنتهى بسرعة وبرجع للوجع والألم ، ورغم إن وجعى بضياعك منى هيبقى كبير ، إلا أن دى لا هتبقى أول ولا اخر مرة اعيش فى وجع وعذاب
عدلت من وضعية جلوسها ، بحيث كان كل منهما جالساً أمام الآخر ، كإثنان على وشك البدء فى لعب الشطرنج ، لا يفصلهما سوى منضدة صغيرة ، ولكن الفارق الوحيد أن بيادق لعبتهما هى الحقائق التى سيتفوه بها ، وما عليها هى سوى أن تضع تلك الحقائق فى نصابها الصحيح
أسند راسل ظهره لمقعده ، بينما أعاد رأسه للخلف مستنداً لحافة المقعد ، وأغمض عينيه وعاد قائلاً برنة صوت متعبة لأقصى الحدود :
– طبعاً أنا عارف أنتى بتحبى الأطفال قد ايه ونفسك وحلمك أن يكون عندك إبن منى وتسميه ساجد ، وإزاى أنتى بتحبى سجود بنتى فـ
قاطعت حديثه قائلة بإنفعال لإتيانه الأن على ذكر أن سجود إبنته هو فقط :
– سجود بنتنا يا راسل ، أى نعم مش أنا اللى حملت فيها وخلفتها ، بس من ساعة ما حبيتك وأتجوزتك وأنا بعتبرها بنتى كأنها من لحمى ودمى
رد قائلاً وهو يزفر بإرهاق :
– عارف إنك مش هتسهلى عليا الموضوع يا حياء ، بس سبينى أكمل كلامى ، وأنا عمرى ما أتمنيت لبنتى أم غيرك أنتى ، وسجود عمرها ما هتلاقى أم تحبها وتخاف عليها زيك
أسدلت جفنيها وراحت تفرك يديها بتوتر ، كمن شعرت بسخف لمقاطعتها حديثه لترسيخ حقيقة هو من وضع أولى دعائمها ومؤمن بها أشد الإيمان والصدق ، فتجولت عيناه على محياها الرقيق ومن ثم عاد ليتابع سرده لما تبقى لديه من حديث وحقائق :
– من بعد ما عدا علينا أول شهر فى جوازنا ، بدأت ألاقى اختبارات الحمل بتاعتك فى الحمام ، وكنت بلاقيكى رمياها فى الزبالة بعد ما بتظهر النتيجة سلبية ، عرفت إنك كل شهر تقريباً بتجيبى اختبار حمل لأن نفسك تكونى حامل وتخلفى بيبى ، ومنتظرة ده يحصل بفارغ الصبر ، مع ان مكنش فات على جوازنا كتير ، وكنت دايماً بشوف فى عينيكى الإحباط لما تعرفى أن محصلش حمل وكنتى بتحاولى تدارى ده كله ورا ابتسامتك ، وتفضلى مستنية الشهر اللى بعده علشان تجربى تانى وتعملى اختبار حمل ، كان نفسى أقولك بلاش توترى نفسك كل شهر وبطلى تفكرى كتير فى موضوع الخلفة ، بس خفت تفتكرى إن بقول كده علشان مش عايز إن احنا نخلف ، او علشان انا عندى بنت فمش مستعجل يكون عندنا أطفال ، بس كنت بقول دى مسألة وقت ، وفى يوم من الأيام هيتحقق حلمك ولما سبتينى وانا مكنتش عارف ليه و رجعتى بيت النعمانى بعد ما طلبتك فى بيت الطاعة ، دخلت أوضتك مرة لقيت تقارير وفحوصات و تحاليل أنتى عملتيها علشان تتأكدى أنك تقدرى تخلفى وكنتى مخبية عليا الموضوع ده ، فأنا مرضتش أفاتحك فيه وفرحت أنك أطمنتى أن كل أمورك تمام ومعندكيش مشكلة فى أنك تحملى وتخلفى زى ما كنتى متوترة كده من يوم فرحنا واللى حصل فيه ، أنا كنت حاسس باللى بتفكرى فيه ، فروحت للدكتورة اللى أنتى روحتيلها وقولتلها إن أنا جوزك وخلتها تحكيلى عن حالتك بالظبط ، فقالتلى إن التحاليل والفحوصات الأولية تمام ومفيش مشكلة ، بس هى كانت طلبت منك أن أنا اعمل تحاليل لأن جايز تكون المشكلة عندى أنا ، فعملت التحاليل وطلبت منها تبلغك تيجى علشان تعملك فحص شامل بس من غير ما تقولك إن أنا روحتلها ، لأن فى الوقت ده كانت لسه المشاكل بينا ، ولما روحتى وعملتلك اللازم وشافت التحاليل بتاعتك وبتاعتى ، قالتلى على موضوع " عدم التوافق البيولوجى " فطلبت منها متقولكيش لحد ما أتأكد تانى من الموضوع
كف عن الحديث ودلك وجنته بتوتر ، كأن ما سيقوله سيكون أكثر مرارة مما سبق له سرده ، فضغط بأنامله على عيناه لشعوره بتجمع الدموع من جديد فى مقلتيه وتابع حديثه قائلاً بغصة مريرة :
– كان لسه عندى أمل أن يكون فى غلط فى التقارير والفحوصات وديت التقارير لكذا دكتور هنا فى اسكندرية وكان رأيهم نفس رأى الدكتورة بتاعتك، ففكرت وقررت إن أسافر لندن علشان أتأكد من الموضوع أكتر ، لو تفتكرى اليوم اللى قضناه على الشط ويومها قولتلك إن مسافر عندى مؤتمر طبى ، وسافرت وللأسف النتيجة طلعت واحدة وزى اللى كانت هنا فى إسكندرية ، بس فى دكتور هناك قالى إن فى إحتمال وأمل ضعيف للحمل وممكن يحصل بس ميكملش ، ومكنش حد نفسيته هتتأثر بالمحاولات دى غيرك أنتى ، لما تشوفى حلمك وبعد كده تتحرمى منه، بس أنا كدكتور مؤمن أن كل حاجة بإيد ربنا وأن لازم يبقى عندى أمل ، رجعت إسكندرية وكنت مقرر اقولك على كل حاجة ، بس أول ما رجعت مش عارف إيه اللى خلانى سكت زى ما يكون لسانى اتربط إن اقولك على اللى حصل ، ويوم ما رجعت باليل جاتلك المكالمة أن بنت عمك بيرى تعبانة وأنك هتروحى بيت أهلك علشانها ، وأنا طلبت منك إن أروح معاكى ، ولما روحت هناك وعرفت إن ديفيد اخوكى سبب المصايب اللى حصلتلى وأن هو و عمك السبب فى اللى جرالنا وكمان سمعت كلامهم عنك وعن اللى عايزين يعملوه فى بنتى ، عقلى ساعتها زى ما يكون وقف ومبقتش أفكر فى حاجة غير إن أبعد عنك وأسيب إسكندرية وأختفى ، كانت أعصابى مضغوطة وحسيت أن حياتى بتتهدم أكتر ، ومتفتكريش إن صدقت كلامهم عنك ، أنا كان نفسى فعلاً أصدق أنك رجعتى ليا علشان تنتقمى منى
رفعت وجهها إليه وألمته نظرتها ، بأنه كيف له أن يصدق كل ما تم إفتراءه بحقها ، إلا أنه عاد مستطرداً:
– صدقينى يا حياء كنت بدور على أى حجة علشان أبعد جايز تكرهينى لأن مكنتش أقدر أخليكى عايشة معايا وتبقى محرومة من الحاجة الوحيدة اللى بتتمنيها ، كنت عارف ومتأكد من أن لو كنت قولتلك على الحقيقة وخيرتك بأنك تفضلى معايا على الأمل الضعيف ولا إن ننفصل كنتى هتختارينى ، وتضيع سنين عمرك وأنتى مستنية حاجة ممكن متحصلش وأبقى بدل ما ظلمتك مرة أبقى ظلمتك ألف مرة من أن أحرمك من مشاعر الأمومة اللى بتتمناها كل زوجة ، أنتى قلبك كبير وكله حب يكفى العالم ده كله ، وكنت حاسس قد إيه أنك مشتاقة أن يكون عندك إبن أو بنت ، ولسه فاكر لما قولتيلى مرة أنك عايزة تخلفى ولدين وبنت ويكون أول ولد إسمه ساجد علشان يبقى عندنا سجود وساجد وكمان تسمى ساجدة وأن عيزاهم كلهم اسماءهم تبدأ بحرف السين ، لسه فاكر كل حلم حلمتيه وكل أمنية كنتى عايشة عليها ، بس مش دايما بناخد اللى بنتمناه ، المهم حاولت اقنع نفسى وماما إن انا سيبتك بسبب اللى عرفته عنك ، حتى ماما متعرفش أى حاجة عن الحقيقة ، وقولت اسيبها كده علشان تفتكر هى كمان إن بعتك وخلاص مبقتش حابب أرجع ليكى تانى ، مع أن عشت السنتين أتعذب وقلبى بيتقطع على فراقنا ، وكل ما أحس إن قلبى حن ليكى وعايز أرجعلك ، أمنع نفسى بأعجوبة وأقول إن كده أحسن لو طال الفراق بينا ورجعت تكونى فعلاً كرهتينى ،وننفصل وساعتها تفكرى تبدأى حياتك مع حد تانى حد فعلاً يقدرك ويعيشك فى أمان وإستقرار ويحققلك أمنيتك اللى مش هتقدرى تحقيقها معايا ، مكنتش عايز اشوفك نسخة تانية من ماما وفاء ، هى كمان فضلت عايشة على حلم إن يكون عندها أولاد بس ربنا ما أرادش ، وصدقينى برغم حبها الكبير ليا ولسجود إلا أنها كانت دايما تقولى إن كان نفسها تخلف من جوزها ويبقى ليها ذكرى حية منه مش شوية صور ، تعرفى انها لحد دلوقتى محتفظة بهدوم بيبى لبنت ، لأن كان نفسها يكون عندها بنت وعلشان كده كانت متعلقة بأشجان وولاء ، ومهما كانت الست بتحب كل الأطفال ، إلا أن حبها لطفلها بيبقى حاجة تانية
أنسكبت دموعها بصمت على وجنتيها اللتان خلتا منهما الحياة وبدتا شاحبتان كأنها تعانى التعب والإرهاق منذ وقت طويل ، حتى وإن كان بنيتها أن تعاتبه وتأنبه على تفكيره الأخرق بتركها ، فأحبالها الصوتية كأنها أصابها الضمور ولن يعود بإمكانها أن تحمل إليه حديثها المعاتب له ، فأكتفت بالتحديق فى وجهه لعله يستطيع قراءة تعبيرات وجهها ويعلم ما تريد قوله ، ولكن عيناه الزائغتنان والمحملقتان بكل ما يحيط به من أثاث وجدران عدا وجهها ، أبت أن تمعن النظر بها حتى لا يفقد أخر ذرة من شجاعته فى إكمال حديثه ، فلو أنهار ثباته ستجده راكعاً أمامها باكياً شاكياً ظلم الظروف لقصة عشقهما ، التى لم يكتب لهما أن ينعمان بها حق كل العاشقين
دلك راسل جبهته مغمغماً:
– وبالنسبة لحكاية ساندرا وأبنها ، فأنا هحكيلك الحكاية كلها ، فى كندا أنا اشتريت بيت وبالصدفة كانت ساندرا مأجرة البيت ده قبل ما أشتريه ، وفى يوم دخلت البيت زى الحرامية واتخانقنا بس عرفت ليه هى جت ، علشان تاخد فلوس كانت سيباها ، ومن يوم ما قبلتها كنت كل ما أشوفها أضايق لأنها كانت بتفكرنى باللى عملته فيكى مش عارف ليه ، حاولت أتجنبها كتير ، بس هى كانت عنيدة أوى ، وكانت بتشتغل فى مطعم ، فى شاب دكتور كان شغال معايا فى المستشفى ، كان مرة موجود عندى وشافها أعجب بيها وهى كمان ، كان شاب من أصل عربى بس عيلته عايشة فى فرنسا ووالده كان راجل غنى وصاحب نفوذ ، وهو سابهم علشان مكنش حابب شغل البيزنس وحابب الطب أكتر ، طبعاً والده رفض جوازهم علشان هى شغالة جرسونة فى مطعم ، بس اتجوزوا بالرغم من رفضه ، بعد شهر من جوازهم ، اخدها وسافر فرنسا علشان تتعرف على اهله ويشفوها ، بس للاسف متقبلوهاش ، وفى يوم كانوا خارجين طلع عليهم ٣ رجالة زى قطاع الطرق بسلاح ، طمعوا فيها بس جوزها وهو بيدافع عنها ضربوه بالنار وللأسف مات ، ساندرا جالها صدمة وبعد موته اكتشفت انها حامل ، فلم باباه عرف ان هيبقى عنده حفيد ، قالها انه مش هيسبهولها وان لما تولد هياخده ، رجعت على كندا هربانة منه ، بس هو قدر يوصلها بكل سهولة ، فضل لحد ما ولدت يهددها باخد الطفل ، فهى رفعت قضية علشان ميقدرش ياخده منها ، ولسه القضية دى شغالة بينهم ، هى من صدمتها من يوم الحادثة بيجيلها حالة زى الصرع ، وكمان خوفها من إن ابنها تتحرم منه مخليها عايشة يومها كله خوف
فرك يديه بقوة ومن ثم أعتصر أنامله ، كأن ما سيذكره هو الجزء الأكثر دقة بقصة ساندرا :
–خليت ماما وسجود يقعدوا معاها فى بيتها وأنا كنت بروح أطمن عليهم لأن بيتها كان قريب من بيتى ، فضل الحال لحد ما ولدت إبنها هو مش إسمه الحقيقى ساجد بس أنا قولتلها هناديله بالإسم ده وأنه هيكون فعلاً إبنى ، وهساعدها ، مرت الشهور وبالرغم من كده ساندرا حالتها النفسية كانت بتسوء زيادة بقى يجيلها تشنجات وبتترعش وبتجلها حالات عصبية بتتعالج بحقن المهدأت
بين الفينة والأخرى يصمت محاولاً إلتقاط أنفاسه ، ليستمد منها القوة والشجاعة لإكمال سرد القصة بأكملها ، دون الإخفاق فى أن يغفل عن ذكر أى تفصيلة :
– وقبل ما أرجع هنا بحوالى شهر حاولت تنتحر بس أنقذتها وأخدتها هى وإبنها يعيشوا معانا فى بيتى ، خليت ابنها فى أوضة سجود وهى قعدت مع ماما فى أوضتها ، وأنا كنت طول النهار فى المستشفى ، وعرفت حكايتى وإن أنا متجوز، كنت بحاول اساعدها أنها هتدفع مصاريف المحامى فى قضية ابنها لأن هى ملهاش أهل ، فكرت إن اجبها معايا هى وابنها وأمثل أنهم مراتى وابنى علشان فعلاً تكرهينى وتطلبى منى الطلاق وقولت خلاص لازم نسيب بعض ، بس مقدرتش يا حياء ، مجرد التفكير فى أنك تكونى لحد غيرى ده جننى وخصوصاً لما ظهر أدم ده كمان ، فرجعت فى كلامى ، وأنا مصمم المرة دى أن لازم مضعيش منى ، علشان كده طلبت منك مهلة ، علشان أعرف إذا كان فى أمل ولا لاء ، أو أن يحصل حمل بأقل تأثيرات نفسية عليكى ، لأن مش حابب أنك تتوجعى زيادة، بس كل حاجة انكشفت خلاص وأنتى عرفتى أهو كل حاجة ، وبالمناسبة أنا وساندرا كنا بنتعالج عند دكتور نفسى واحد ، يبقى واحد صاحبى ، وكده أبقى قولتلك على كل حاجة بينى وبين ساندرا أو أسبابى الحقيقية اللى خلتنى أسيبك وأبعد عنك وأسافر
قطبت حياء جبينها بعد سماع حديثه ، فهى لم تضع فى بالها يوماً أن يرتاد عيادة طبيب نفسى ، فقالت بدهشة :
– أنت بتتعالج نفسى يا راسل
هز رأسه وأجابها بعدما أطلق تنهيدة قوية وإبتسم ساخراً من حاله:
– أنتى عيزانى بعد كل اللى حصلى ده ومتعالجش نفسى ، دا كويس إن متجننتش وفقدت عقلى يا حياء
شد على كفيه ومن ثم إستأنف حديثه قائلاً بهدوء ، حاول زرعه بنفسه الثائرة والساخطة على تلك الظروف التى ألقته بين فكى اليأس :
– كده أنا قولتلك على كل حاجة وعرفتى كل اللى كنت مخبية عليكى ، بس عايزك يا حياء قبل ما تقولى أى كلمة أو يصدر منك رد فعل فكرى كويس أرجوكى
عن أى رد فعل يتحدث ؟ فمنذ سماعها بما قصه عليها ، وهى تريد البكاء والصراخ لعله يكف عن زيادة كلمة واحدة ، فأى حقيقة تلك أخبرها إياها ستجعل عواطفها تجاهه تتبدل أو أن يحل محلها عواطف ومشاعر أخرى ، فمن نصبه حاكماً لها وعلى قلبها ، أعشقه لها هو ما جعله يفكر فى تلك الحيل والأساليب التى أراد من خلالها أن يصرفها عنه ، فأى أحمق أهوج هو إن ظن أنها تريد عنه بديلاً
– أنت مكنش من حقك أنك تاخد قرارات بالنيابة عنى ، كان لازم تقولى وتعرفنى الحقيقة وكنت سبتنى أختار
إنتفضاتها من مقعدها أنبأته بأى سيل من المشاعر الجريحة التى تشعر بها كزوجة ستغرقه بها ، و أن حديثها سيكون أشد عنفاً وقسوة محمولاً بعتاب وتأنيب على تفكيره
رفع وجه لها ومن ثم سألها بهدوء :
– لو كنت خيرتك وقتها ، كنتى هتختارى إيه يا حياء ؟
أجابته على سؤاله بسرعة ودون تردد :
– أكيد كنت هختارك أنت وسجود ودلوقتى ....
نهض من مكانه وقبل أن تكمل حديثها ، وضع إحدى يديه على فمها والأخرى خلف عنقها وأسند جبينه لجبينها ، ولم يعد يحتمل إختزان دموعه التى أنهمرت من عينيه وهو يقول بصوت متحشرج :
– أرجوكى يا حياء فكرى قبل ما تقولى اللى أنا شايفه فى عينيكى ، بلاش تحسسينى بإن كنت حقير أوى كده معاكى ، وأنك ببساطة خلاص هتسامحى فى حقك ، بلاش تضحى علشان غيرك ، أنا اللى بقولهالك خليكى أنانية ، فكرى فى نفسك وحياتك وبس ، بلاش تضيعى سنين عمرك هدر ، أرجوكى يا حياء أرجوكى ، حتى لو كنت هموت فى بعدك عنى بس كفاية أنك تكونى أنتى عايشة مبسوطة وتحققى أمنيتك
ظل يردد كلمة الرجاء لها ، حتى ظنت أنه لم يعد يعرف غيرها ، فبكت تزامناً مع بكاءه ، وعلقت يداها بقميصه تقبض عليه كالقابضة على حبل نجاتها ، فحتى تلك المرة ، حاول حرمانها من نوبة العتاب التى كانت تختزنها له ، فما أن هدأ نشيج دموعهما ، سحب يده ببطئ عن فمها ، مع تشديده بأن تأخذ وقتها كافياً فى التفكير ، وأنه سيتنظر قرارها سواء كان سيحيا قلبه بعده أم سيسجى بعذابه ، فبكلا الحالتين ما عليه سوى الإنتظار ، الذى سيكون أشد حرًا من السير على جمر محترق ، وعلى الرغم مما رآه فى عينيها من أنها حسمت قرارها بعدم تركه ، إلا أن من داخله تمنى لو أن تعدل عن قرارها
فلمَ هى التى يتوجب عليها أن تضحى دائماً من أجله ، لم لا تكون نهمة وطامعة بكل سعادة العالم ومباهج وزينة الدنيا من البنون ، فيكفيها ما عانته منذ علمها بأنها فتاة متبناة ، حتى هو جاء إليها ليلقى على كاهلها ماضيه المعذب بمشاعر مكبوتة وعلاقات محطمة ، ورغم ذلك كأن بين ذراعيها سعة العالم بأكمله وإحتوت قلبه وكانت له بلسم الروح ، ألا تستحق أن تنال كل السعادة ، وأن تتحقق أبسط أمنياتها من أن يكون لديها أبناء ، وربما قدره أنه لن يكون أباً لهم ، ولكن يكفى أن تحصل هى على مبتغاها ، فهو قد أنعم الله عليه ووهبه إبنته ، وهى تستحق تلك الفرصة ، حتى يكون العدل والمساواة بينهما فى الأحلام والأمنيات
ولكى يضمن إتاحة الوقت الكافى لها بالتفكير ، خرج من المقصورة وأخبرها بأن يعودا للبيت ، وربما الجميع بإنتظارهما الآن بغرفة الطعام أو المعيشة ، فتبعته بهدوء وهى ترى تلك الهوة الفاصلة بينهما تزداد إتساعاً كلما أسرع الخطى فى العودة للمنزل ، كأنه يريد طى الأرض طياً ، ولكن شعورها بذلك الثقل فى قدميها جعلها تبطئ فى خطواتها ، حتى صارت المسافة بينهما تقدر ببضعة أمتار ، ورغم ذلك لم يشأ أن يستدير برأسه إليه ليراها ، فربما سيجد نفسه عائداً إليها محملاً بأطماعه فى أن تتخلى عن مطلبه فى أن تفكر بروية وتتخذ قرارها النهائى ، وأن تخبره صراحة أنها لن تتركه حتى وإن كان سيحيا معها شاعراً بالذنب ، فإزدواجية مشاعره تجاهها تحيره وتعذبه ، ولكن منذ متى وهو لا يشعر بالحيرة والعذاب ؟ كأنه جاء لهذا العالم ، ليحيا ويفنى بألمه وعذابه ، فتذكر مقولة صوفيا عندما قابلته أول مرة ، من أنه ملاك أسود معذب جاء للأرض بحثاً عن جنته فلم يجد سوى الجحيم فى إنتظاره
❈-❈-❈
أنخطف صوتها وهى تشهق بصوت مسموع بعدما تلقى جسدها ذلك الدلو من الماء البارد بعد إغماءها ، الذى جاء كنتيجة طبيعية لما لاقته من الضرب والصفع وبعض ألوان التعذيب ، التى إتبعها أعوان ذلك الرجل ، الذى أمر بإحضارها ، فهو كان يسعى خلفها منذ عودتها للإسكندرية ، ولكن هى من ظنت نفسها تفوقه ذكاءًا وبإمكانها الهرب منه ، فظل الماء يقطر من وجهها ورأسها وأطرافها وأضحت أنفاسها تزداد وتيرتها وسرعتها ما أن تملك منها الغيظ على ماتلاقيه ، لم يؤثر فى الحارس المكلف بمراقبتها سبابها وتلك الشتائم التى راحت تقذفه بها كوابل الرصاص ، بل كل ما يفعله أن يهديها إبتسامة سمجة صفراء لم تخفى نواياه من أنه يمعن النظر بثيابها الممزقة ، أحتدمت الرغبة فى عينيه ما أن رآها كفرخ الطير الذى أصابه البلل ويبحث عما يقيه ذلك الإرتجاف الذى ألم به ، فشعرت ليالى بدنو الخطر منها ما أن وجدت ذلك الرجل يقترب منها ويقبض على خصيلاتها الرطبة ، ولم تكن غبية حتى لا تفهم ما يرمى إليه بنظراته الجائعة ، لاحت إبتسامة ماكرة على ثغرها ، لكونها تظن أن ربما سيأتيها الخلاص بمحاولة إغواء ذلك الحارس ، الذى لن تجد جهداً فى جعله ينساق خلفها وربما يصبح طوع بنانها
أكسبت صوتها رقة غير معتادة عن السب واللعن الذى سممت به أذنيه منذ أن رآته ، فقالت بدلال أنثوى مدموغ بإرهاق :
– ممكن تجبلى أكل وماية أصل جعانة أوى أوى
قضمت شفتها ما أن رآت أثر عبارتها عليه ، إذ أسرع فى حمل الطعام الذى أتى لها به ووضعه أمامها على تلك الطاولة المتهالكة شأنها شأن ذلك الأثاث القديم الموجود بالغرفة ، حل وثاق يديها وأبقى على باقى جسدها موثوقاً للمقعد الجالسة عليه قائلاً بصوت غليظ :
– الأكل أهو يلا كلى
اشمئزت ليالى من سماع نبرة صوتة الغليظة والخشنة والتى ربما تثير الرعب فى نفوس الأطفال ، إلا أنها قابلت من على شاكلته كثيراً ، فلن تجد مانعاً من أن تتملقه وتنافقه ، لتجعله يشعر بأنه الرجل الأوحد والوسيم على ظهر البسيطة ، فأشارت إليه بالجلوس قائلة برقة متناهية :
– مش هتاكل معايا ، الأكل كتير ويكفينا إحنا الاتنين ، أصل مبحبش أكل وحد واقف باصصلى كده
جذب مقعد وجلس قبالتها وبدأ يتناول الطعام بشهية كبيرة ، حتى ظنت أنه ربما سيبتلعها هى الأخرى ، إن لم يسد ذلك الطعام رمقه وجوعه ، إلا أنها تمنت لو أن يختنق بفتات الخبز ، حتى تكون الفرصة سانحة أمامها للهرب من هذا المكان الشبه قذر ، ولكن لن تتحقق أمنيتها إذ وجدته يتجشأ بصوت أفزعها بعدما فرغ من طعامه ، حتى أنه لم يترك لها سوى لقيمات لا تغنى ولا تسمن من جوع ، إلا أنها إبتسمت له قائلة بنفاق :
– صحة على قلبك إن شاء الله ، بس واحد زيك إيه اللى خلاه يشتغل مع اللى ميتسماش ده
قبل أن يبدأ فى سرد أسبابه كأنه سيشكى همومه لصديقته المقربة وجد الباب يفتح ويلج منه سيده وهو يصيح بجماع صوته الحانق :
– والله عال أوى قاعدين تاكلوا وتتسامروا ، تحبوا أجبلكم إتنين لمون ولا فشار
أسندت ليالى ظهرها لمقعدها ولوت ثغرها وهى تقول ببرود محاولة منها فى مضايقته :
– مبحبش اللمون أصله أصفر زيك
تقدم بخطواته منها وأشار للرجل بالخروج ، وما أن أوصد الباب خلفه ، راح يركل الطاولة وكل ما يقابله من أثاث ، ولم يجد حاجة لبذل المزيد من الجهد ليحطمه ، فالأثاث متهالك وكأنه بإنتظار ركلاته العشوائية ليصير كومة من الخشب
بعدما أنتهى أقترب منها وقبض على ياقة بلوزتها قائلاً بشر :
– برضه مش هتقولى الألماظ فين يا ليالى ، أنطقى أحسن ما أطلع روحك
رفعت يدها ومررت سبابتها على وجنته وأدنت برأسها من أذنه وهمست له بإصرار :
– لو عملت إيه برضه مش هقولك هو فين الألماظ هسيبك بنارك كده وأنت مش هتقدر تقتلنى لأن محدش فى الدنيا دى يعرف مكانه غيرى ، وأنت دورت فى بيتى وخطفتنى وبرضه ملقتهوش فمتتعبش نفسك علشان مش هقولك ، وأحسنلك تخلينى أمشى من هنا
جذب شعرها بقبضة قوية ، حتى كادت تشعر بأنه سيقتلعه من جذوره ، فصرخت بصوت منخفض ، إلا أنه لم تأخذه الشفقة عليها ، بل كز على أسنانه قائلاً بنبرة كريهة :
– أنتى نسيتى نفسك يا ليالى ، دا أنا اللى عملتك يا بتاعه أنتى ، فاكرة لما شوفتك أول مرة مكنش حيلتك حاجة غير الهدوم اللى عليكى ، نضفتك وعملتك بنى أدمة ، وجوزتك راجل بيتاجر فى الألماس وبيلعب بالفلوس لعب ، وفى الآخر تطلعى ناكرة للجميل
ضحكت ليالى بصوت عالى ، كأنه ألقى عليها مزحة أو دعابة ، فسمعها تقول بإستهزاء :
– متحسسنيش أنك راجل شريف أوى كده وفاعل خير ، ما شبكة الـ ـد عـ ـا ر ة اللى أنت بديرها بيا أنا واللى زيى هى اللى مخلياك واحد بيه وعليه القيمة ، ثم الألماس ده حقى مش ورثى من جوزى
صفعها على وجهها حتى أنبثقت الدماء من فمها ، فهدر بصوت عالى :
– ورثك من جوزك يا بنت النصابة ، ما حال أنك أنتى اللى مموتاه بأدوية القلب اللى كان بياخدها ، أنتى مفكرة أن صدقت أنك بريئة وأن هو مات بطريقة طبيعية ، عيب عليكى يا ليالى ، دا أنا اللى رسملك الخطة من أولها لأخرها ، متجيش تضحكى على بابا يا شاطرة ، ودلوقتى قوليلى خبيتى الالماظ فين
مسحت الدماء التى سالت على شفتيها وردت قائلة ببرود :
– برضه مش هقولك ، حتى لو قطعتنى حتت
إستقام بوقفته واضعاً يديه بجيبى بنطاله ، ومن ثم قال بدهاء ومكر :
– يعنى مش هتقولى حتى لو قولتلك إن حبيب القلب عمران الزناتى كان فى المستشفى بعد رجالتى ما ضربوه رصاصتين ، لأن هو كمان دماغه ناشفة ومش عايز يقولى الألماظ فين ، لأن متأكد انك قولتيله على مكانه
أختفت الدماء من وجهها وتركتها شاحبة باردة أقرب للموتى ، وأرتجفت شفتيها وهى تتمتم بإسم عمران وعيناها جاحظتان وهى تحملق بوجه ذلك الرجل ، الذى يقف على بعد عدة خطوات منها ، ليأمن عدم صدور رد فعل سيعانى هو من آثاره ، خاصة أن يداها غير موثوقتان
فصرخت به وهى تحاول فك تلك الحبال الملتفة حول باقى جسدها :
– أنت عملت فيه إيه ، وهو عامل إيه دلوقتى أنطق ، لو جراله حاجة هشرب من دمك أنت فاهم كله إلا عمران يا ابن الكلب ، هو ميعرفش حاجة عن موضوع الالماظ وملوش دعوة بأى حاجة
سحب مقعد وجلس عليه ، بحيث كان صدره مواجها لظهر المقعد وأستند بذراعيه على حافته قائلاً بوعيد :
– لو محترمتيش لسانك ده يا ليالى هقطعولك ، وطالما أنتى كده خايفة عليه فقوليلى فين الألماظ ، وإلا المرة دى هخلص عليه خالص
تلفتت ليالى حولها بجنون ، كأنها تبحث عن أى شئ ، لكى تقذفه بوجهه ، إلا أن حركتها المقيدة منعتها من أن تمد يدها وتأخذ إحدى قطع الخشب لتحطم رأسه ، وكلما حاولت التحرك بالمقعد تزداد ضحكته علوًا ، حتى بكت من فشلها فى الدفاع عن نفسها أو تفريغ غضبها الجام عليه منذ سماعها لما حدث لعمران
فبعد إكتفاءه من الضحك على محاولاتها الفاشلة ، نهض عن مقعده وهو يقول بنبرة المنتصر بعد رؤية تشتتها من ذلك النبأ الذى ألقاه عليا :
– أنا ماشى دلوقتى وهجيلك بكرة تكونى فكرتى فى كلامى يا ليالى يإما تقولى على عمران الزناتى يا رحمن يا رحيم سلام
اتجه صوب باب الغرفة وخرج منه مغلقاً الباب خلفه ، ولكنها لم تجد الحارس المكلف بحراستها يلج إليها ، فيبدو أن سهمه أصاب الهدف وجعلها تتحير فى أى درب تسلكه للخروج من ذلك المأزق ، فبكت بصوت مسموع كلما تخيلت ذلك المصير الذى لقاه عمران على يد ذلك الرجل ، فهو مجرداً من كل معالم الأدمية والإنسانية ولا يضع فى باله سوى تحقيق المكاسب المالية والمادية ، دون الإلتفات للخسائر التى يتركها خلفه ، وها هى قد نالت نصيبها من حقارته ، فلو كان الأمر توقف على تعذيبه لها ، لتجلدت وتحملت، ولكن أن تطال نوايا شره الرجل الأوحد الذى لم تعشق غيره ، فذلك أدعى لأن تفكر فى التخلى عن صلابة وتيبس رأيها ورأسها ، على الرغم من أنه ما سيأخذ منها الألماس ستعود معدمة ولا تملك قرشاً واحداً ، إلا أنها لم تتردد فى أخذ قرارها بأن تخبره بما يريد عندما يأتيها بالغد ويسألها عن قرارها ، فسلامة عمران تهمها بالمقام الأول حتى وإن لن يكون لها نصيب فى أن تلتقى طرقهما سوياً ، ولكن يكفى أنه الوحيد الذى شعرت بالحب نحوه ، ومنذ أن رآته فى المرة الأولى ، لم يظهر لها نوايا الطمع بجسدها كباقى الرجال ، بل كان حنوناً عطوفاً ، ولكن عيبه الوحيد أنه متزوجاً ويعشق زوجته ، التى تمنت لو كانت تملك حظها فى أن تظفر برجل ترى أنه لا يلائمه سوى أن تعشقه حد الموت على الرغم من فقدها الأمل فى أن يكون لها فى يوم من الأيام
❈-❈-❈
بدا وجهه الوسيم مسترخى القسمات ، تلوح على شفتيه إبتسامة منتشية ما أن وقع بصره على تلك الأوراق ، التى باتت تثبت أنه الآن شاب مسلم يحمل إسم " تميم موسى " كأنه منذ إدعائه الأول بأن هذا إسمه ، بات يروقه كثيراً ولن يفضل عنه إسماً أخر ، ويكفى أن معشوقته متذكرة إياه ولا حاجة له لأن يستبدله بأخر ، وجاءت تلك الخطوة تزامناً مع موعده بعد نصف ساعة تقريباً ، إذ سيذهب برفقة شقيقته لإعلان إسلامه ، ليضفى على أفعاله وتصرفاته السلوك القويم واللازم على إقدامه للزواج من ياسمين ، التى لن يحول بينه وبينها حائل الآن ، خاصة بعد موافقة أسرتها المبدئية بعدما علموا بما فعله من أجلها وأى عشق هذا الذى يعشقه لها ويجعله سيقدم نفسه وقلبه فداء لها على أن تكون هى زوجته وحاملة إسمه ، ورغم تلك الأوامر التى تلاقاها بأن لا يفرط فى إستخدام تلك الصلاحيات التى تم منحها له من أن يعمل على إستبدال إسمه وديانته ، إلا أنه يرى نفسه قادراً على مراوغتهم ، إذ أن تلك السنوات التى قضاها بكنف عمه أدريانو ، لم تذهب سدى ، على الرغم من أنه كان دائم الرفض والإعتراض لأن يكون ولى عهده بأعماله المشبوهة والغير مشروعة ، ولكن مؤخراً بات الأمر قهرياً ولم يجد سبيل لرفضه ، إذ ستكون الخسائر فادحة ، ولن يكون هو الخاسر الوحيد بتلك اللعبة ، بل سيتأذى كل من حوله ، وعلى رأسهم حبيبته ، التى علموا مدى أهميتها وقيمتها لديه
– كده كله بقى تمام
وضع هويته الجديدة بجيب سترته ، وخرج من الغرفة ، ودقائق ووجد حياء تصل للمنزل بسيارتها ، ولكنه وجدها أتية بمفردها ، ولا تتبعها سيارة الحراسة التى دائماً ما تكون بأثرها ، خرجت من السيارة ولكن رآها شاحبة حزينة ، كمن جاءت لتوها من المقابر ، أو أنها كانت بعزاء أحدهم
تقدم منها متسائلاً بلهفة وإهتمام :
– مالك يا حياء ؟ أنتى عاملة ليه كده فى حاجة حصلت ؟ طب جوزك زعلك أو ضايقك ؟
شق الحزن قلبها ما أن أتى على ذكر زوجها ، فبما تخبره ؟ هل تخبره أن ذلك الحزن واليأس الذى خيم على أفق حياتها جاء نتيجة لحقيقة قضت على حلمها فى الحاضر وربما فى المستقبل
أجابته بصوتها الخافت والواهن :
– مفيش حاجة ، أنا بس تعبانة شوية ، يلا بينا علشان نلحق ميعادنا ، علشان عايزة أروح البيت أرتاح
تعجب وأندهش من حالها المزرى ، حتى أنه فكر فى إلغاء موعدهما ليعلم ما أصابها فجأة وجعلها هكذا كدمية خالية من الروح وتتصرف بآلية ، إلا أنها هى من أصرت على ذهابهما حيث سيعلن عن إعتناقه الدين الإسلامى
تركت سيارتها وصعدت إلى سيارته التى قادها وهو يحاول من وقت لأخر أن يسألها عما أصابها هكذا فجأة وهى من كانت منذ بضعة أيام مرحة وتشعر بالحماس للذهاب معه ، ولكنها لم تعطيه جواب يريحه على اسألته المتوالية عليها ونابعة من قلقه أن يكون هناك شيئاً لا يعلمه وتسبب فى حزنها ، بل كل ما إستطاعت التفوه به أنها تعانى وعكة صحية خفيفة ربما ستزول بإلتزامها الراحة ، ولكنها لم تشأ أن تفوت تلك الفرصة من رؤيتها له وهو يتبع الديانة الإسلامية وهو الأمر الذى تمنته منذ معرفتها به وببيرى والتى تتمنى أن تفعلها هى الأخرى فى القريب العاجل
– خلاص وصلنا يا ديفيد
هتفت به حياء ما أن وصلا لذلك المسجد الكبير ، الذى ينتظرهما به شيخان جليلان هما من سيتوليان تلك المهمة بتعريف ديفيد ما عليه أن يفعله حتى يصح إسلامه ويصبح له عقيدة وليس مسمى فقط
ترجلت من السيارة فى حين أن ديفيد تباطئ بفعل ذلك ، كأن سعادته وحماسه بأن يحصل على ذلك اللقب الذى سيمكنه من التقرب من محبوبته انقلبا خوفاً ورهبة ، فتملك القلق منه ما أن احثته حياء على الترجل من السيارة ، خرج من سيارته ودار حولها وما أن وقف أمام باب المسجد ، بات الدم يضخ فى شرايينه بسرعة كادت تشعره بالدوار والإعياء ، إلا أن حياء التى يبدو عليها أن صبرها على وشك النفاذ ، أسرعت بجذب يده وجره خلفها حتى دخلا المسجد الخالى إلا من الشيخان الجليلان
تعجبت حياء من صمته وخطواته الثقيلة التى جعلتها تبطئ من سيرها ، فإلتفتت إليه وتساءلت وهى عاقدة حاجبيها:
– فى إيه مالك يا ديفيد ، خلتنى اجرك ورايا زى الطفل اللى مش عايز يروح المدرسة
أزدرد ديفيد لعابه قائلاً بإبتسامة متوترة :
– لا أبداً يا حياء بس زى ما تقولى الرهبة مأثرة فيا دى أول مرة ادخل مسجد مسلمين وكمان هعلن إسلامى فقدرى حالتى
حاولت أن تصدق قوله ، فهى لا تملك غير أن تصدقه ولتحاول تمرير ذلك الوقت حتى تعود إلى المنزل ، تقدم منهما الشيخ الأصغر سناً قائلاً ببشاشة :
– أهلا أتفضلوا إتفضل يا استاذ ....
أسرعت ديفيد قائلاً بإصرار :
– تميم ، إسمى تميم
أشار إليه بالتقدم من الشيخ الأخر والأكبر سناً ، فإبتسم له هو الاخر قائلاً موجهاً حديثه لصديقه :
– خده الأول خليه يتوضا وعلمه إزاى الوضوء الصحيح وتعالوا ، علشان عايزه يعلن اسلامه وهو طاهر
أسرع الشيخ بتنفيذ ما طلبه ، وأشار لديفيد بأن يرافقه لذلك المكان الخاص بالضوء ، وما أن بدأ بتعليمه كيفية الوضوء ، وجد ديفيد يقول بعفوية :
– طب اتوضى ليه ما أنا واخد شاور قبل ما أجى وحاطط بيرفيوم وريحتى حلوة
ضحك الشيخ بصوت منخفض وما لبث أن قال بتؤدة :
– الوضوء لازم ومهم علشان الصلاة ،وأنت طالما حابب أنك تبقى مسلم فلازم تتعلم أركان الإسلام ، واللى منها الصلاة واللى متمش إلا بشروط الطهارة واللى هقولك عليها وهعلمهالك
لم يجد ديفيد مفر من أن يتبع تعليماته بشأن الوضوء، وما أن أنتهيا عادا للمسجد ، فرفع الشيخ الكبير يده وأشار إليه بالجلوس أمامه ، فجلس ديفيد على ركبتيه وضم كفيه ولم يحاول أن يحملق بوجه الشيخ ، لعله يخبره بما سيقوله وينصرف على الفور
إبتسم الشيخ وربت على ساق ديفيد بتشجيع لعله يعيره إنتباهه ، وسرعان ما قال بخشوع :
– قول يا إبنى ورايا ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله
جف حلق ديفيد ، وبدا كأن أحباله الصوتية انقطعت فجأة ، وكلما جاهد على أن يردد ما قاله الشيخ ، لم يخرج من فمه سوى تأتة كطفل صغير ينطق أولى حروفه وكلماته ، إلا أنه بعد محاولات عديدة منه إستطاع القول :
– أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله
ظن أن وجهه أضحى غارقاً بعرق وهمى ، بعد شعوره بأن كل عصب به قد إنتفض ما أن أنتهى من نطق الشهادتين ، وما أن بدأ الشيخان يخبرانه بأركان الإسلام ، إبتسم لهما فى حين أن عقله يركض فى كل إتجاه وما أن أنتهيا ، هب واقفاً وقال وهو يشير لحياء بالنهوض :
– أنا متشكر جدا ، وأختى هتعملنى أكتر عن الإسلام بما أن عملت أول خطوة وأعلنت إسلامى عن إذنكم
لم يفهم الشيخان سر إصراره على الذهاب هكذا بسرعة ، فى حين أن من يأتى إليهما من أجل إعتناق الإسلام يكون لديهم الحماس والرغبة والشغف فى المعرفة عن دينهم الجديد ، خلاف ذلك الشاب والذى لم تبدو على وجهه أى مظهر من مظاهر الفرح التى كانا بإنتظارها ، إلا أن الشيخ الكبير أصر على حياء بأن تحاول مساندته وأن تدله على الطريق الصحيح حتى يصبح مسلماً قولاً وفعلاً
خرجا من المسجد وقبل أن يصلا للسيارة ، رمقته حياء بنظرة مفصلة ، كأنها تحاول إكتشاف خباياه ، فتساءلت بإلحاح :
– مالك يا ديفيد مش شيفاك مبسوط هو أنت كنت جاى غصب عنك ولا إيه ، لو أنت جيت علشان تبقى مسلم بالإسم بس علشان تتجوز البنت اللى بتقول عليها ، فأحب أقولك إن إسلامك كده مش نافع ولا هينفع ، لأن قبل ما تفكر تبقى مسلم علشان خاطر حبك لواحدة ، لازم تبقى مقتنع بقرارك وأن هتعمل ده رغبة منك فى أنك حابب فعلاً تبقى مسلم وتحب الدين نفسه ، يعنى مش تاخد الدين وسيلة علشان توصلها أتمنى تكون فهمتنى وإلا هيبقى الحال كارثى ، وصدقنى أنا عندى استعداد اقول للبنت دى حقيقتك لو أنت فعلاً مبقتش قد كلمتك ، بس المشكلة أنك لحد دلوقتى مش راضى تقولى هى مين ولا ساكنة فين
أتسعت حدقتيه ما أن سمع تهديدها الصريح له من أنها ستشى بحقيقته لياسمين ، فهو وإن كان أرجئ أمر إخبارها بمن ستكون عروسه لحين الذهاب لخطبتها رسمياً ، فالأن لن يخبرها من تكون ، بل أنه سيعمل على إتمام زواجه دون تدخل من شقيقته ، كونه لا يريدها أن تفسد عليه سعادته ، والتى أنتظر أن تأتيه طواعية ولم يكن يفصله عنها سوى الشهادتين اللتان نطق بهما داخل المسجد وتلك الهوية الجديدة التى يحملها فى جيب سترته ، فأبتلع ريقه بإرتياب من حديث حياء معه والذى حمل عداء خفى ، كأنها عادت من جديد تشعر بتلك الفجوة من الجفاء بينهما والتى لا يعلم سببها الآن ، فمزاجها العصبى والذى دل عليه تعبيرات وجهها الحزينة منذ أن رآها وحديثها المقتضب الذى تفوهت به منذ قليل ، يخفى خلفه سبباً قوياً فى أن يجعلها تتصرف على هذا النحو ، وهما من كانت علاقتهما كشقيق وشقيقته قد حملت طابع الحب والود منذ وفاة عمهما أدريانو ، فأشار لها بالصعود إلى السيارة ، وأخبرها أنه فى الأيام القادمة سيسافر إلى صقلية لإنهاء بعد الأعمال العالقة ، بما أنه بصدد الزواج وأنه سيستقر هنا فى الإسكندرية ، وفى الحقيقة لم يكن هذا إلا كذباً قاله حتى تصرف تفكيرها عنه ، ويستطيع هو إتمام زواجه دون علمها ، وبعد أن يتم الأمر سيخبرها ولكن بعد أن تصبح ياسمين زوجة شرعية له
❈-❈-❈
وضعت سهى أخر قطعة من ثيابها فى حقيبة السفر ، فتلك الأيام المعدودات التى قضتها برفقة زوجها بإحدى الدول الأوروبية ، قد أنتهت وحان وقت عودتهما للإسكندرية ، فكم إشتاقت لأهلها وذويها وخاصة شقيقيها ، ولكن لكى تكون منصفة بحكمها ، فالأيام القلائل التى قضتها مع عمرو وهو يحاول جعل نزهاتهما ذكرى رائعة تحملها معها وهى عائدة إلى منزلهما ، كانت من أجمل أيام عمرها ، ولم تكن تضع ببالها أن يكون زوجها على ذلك القدر الذى لا يستهان به من إغواء قلبها وقتما يريد ، على الرغم من أنه حتى الآن لم تجده يصرح عن رغبته فى إتمام زواجهما بصورة فعلية ، وربما هى ممتنة لصنيعه ، حتى تأخذ وقتها كافياً قبل أن تقدم على تلك الخطوة الهامة بحياتهما
حملت تلك البلورة الزجاجية الصغيرة ، التى إبتاعها لها بالأمس ، تصدر ألحاناً حالمة ، فقلبتها بين يديها لترى تلك النتف الصغيرة التى تشبه نتف الثلج وهى تتناثر على ذلك التمثال الصغير المتجسد بفتاة صغيرة تجلس بجوار شجرة وارفة الظل والأوراق ، فإبتسمت عندما تذكرت قول عمرو ، بأنها تشبه فى وداعتها تلك الفتاة داخل البلورة الزجاجية ، ولكنها تصبح أكثر خطراً وشراسة عندما تتخلى عن كل معالم الرقة والأنوثة وتجابهه بلسانها السليط وحديثها المهين
– خلاص خلصتى يا سهى
سألها عمرو وهو يلج الغرفة ، فإرتعدت أوصالها بخفة ومن ثم وضعت يدها على صدرها قائلة بتبرم :
– بسم الله الرحمن الرحيم ، خضتنى ، أبقى أعمل أى صوت وأنت داخل
عقد عمرو ذراعيه أمام صدره العريض قائلاً بمشاغبة :
– وأنتى كنتى بتفكرى فى إيه كده وسرحانة علشان تتخضى
وضعت البلورة الزجاجية على الثياب ومن ثم أغلقت سحاب الحقيبة ، فردت قائلة رغبة منها فى أن تثير حنقه قليلاً:
– أكيد مش بفكر فيك طبعاً
جذبها إليه فجأة ، فوجدت نفسها محاصرة بين ذراعيه وصدره ، وشهقتها الخافتة دلت على أنها أرتابت من مباغتته لها بجذب ذراعها حتى وجدت نفسها بالأخير بين سجن ساعديه المعضلين ، فكم من مرة تركت عيناها تتأمل هيئته وجسده الرياضى ، الذى أختلف كثيراً عما رآته أول مرة ، كأنه يبذل جهداً كبيراً فى أداء تمارين رياضية شاقة لكى يحصل على هذا الجسد المتناسق والباعث على إثارة الدفء ما أن يضمها إليه
أدنى برأسه منها قائلاً بصوت خافت هامس شجى :
– أنتى بتكذبى عليا صح ؟ باين فى عينيكى أنك بتكذبى ، أكيد كنتى بتفكرى فيا
حملقت فى وجهه ومن ثم نظرت فى عمق عيناه قائلة بعذوبة :
– إيه الثقة اللى عندك دى ، دى ثقة بقى ولا غرور ؟
– لاء ممكن تقولى إن قلبى هو اللى قالى إنك بتفكرى فيا
هتف عمرو أمام وجهها الذى لا يفصله عنه سوى إنشات قليلة ، ولكن كأن شجاعته وإقدامه مازالا يتصارعان مع ذلك الخوف الذى ملك عليه قلبه ولبه من أن يخفق فى تجربته الأولى معها ، وفى الأيام الفائتة حاول أكثر من مرة أن يهزم ذلك الخوف الذى يحول بينه وبينها ، إلا أنه كان يفشل فى النهاية ويعود ويتذكر محاولاته الماضية فى التقرب للفتيات قبل مجيئه للإسكندرية ويتذكر تحذير الطبيب ومن ثم تتوالى عليه الأفكار والذكريات ، حتى يكاد رأسه يتفتت من الشعور بالألم الناتج عن الحيرة وتلك المشاعر المتداخلة مع بعضها البعض ، ورغم ما يراه من قبول وميل لديها تجاهه ، إلا أنه ينسحب فى اللحظة الأخيرة قبل إتمام الأمر ويعود ويخبرها بأنه لايريد لها أن تتسرع فى إبداء موافقتها على إتمام زواجهما وأنه يريد منها التأكد من عواطفها ومشاعرها تجاهه حتى لا تشعر بالندم فى وقت لاحق
تساءلت سهى بصوت ساحر ، يشتهى سماعه على الدوام :
– وقلبك مقلكش حاجة تانية ؟
كفيها الناعمين الصاعدين من ذراعيه حتى وصلا لكتفيه ، وتعلقا بهما ، جعل تلك الرجفة التى لم يجد لها سبباً تسكن جسده ، وما أن رأها تغمض عيناها وتقترب بوجهها منه ، ويبدو أنها تنتظر مبادرته للعناق ، أرخى ذراعيه عنها وقال بتوتر محاولاً إن يضفى على صوته رنة ممازحة :
– قالى إن لازم نلحق الطيارة قبل ما تفوتنا
تداركت حالها وحاولت نفض تلك الحالة من الوقوع تحت تأثير تلك المشاعر التى ظنت أنها تستطيع أن تثيرها به ، فعادت تلملم ثيابه تلك المرة وحاولت بلع إهانته لصد محاولتها فى التقرب منه ، إلا أنها لم تبديها له ، بل ظلت تحدثه كأن شئ لم يكن
خرجا من الفندق فى طريقهما إلى المطار ، وما أن وصلا وأنتهيا من المعاملات الخاصة به ، لم يمر وقت طويل وأقلعت الطائرة وحاولت سهى أن تغفو قليلاً ، حتى لا تعود وتنظر إليه وتتذكر حماقتها فى أنها حاولت أن تكون أكثر ليونة فى التعامل معه
– حمد الله على السلامة ، خلاص وصلنا يا حبيبتى
قالها عمرو وهو يداعب أنفها ليجعلها تستيقظ من نومها ، فكم بدت لطيفة وهى نائمة كأنها لم تنال قسط من الراحة منذ أيام طويلة
فركت سهى عينيها ومن ثم تثاءبت بصوت خافت قائلة وهى تحت تأثير النعاس:
– هو الامتحان فاتتنى ؟ هى الساعة كام دلوقتى ؟
قهقه على ما تفوهت به وتفكيرها الدائم بدراستها الجامعية ، فتقريباً صار يعلم كل شئ مختص بدراسة طب الأسنان من كثرة ما حدثته عنها واعدة إياه أنه سيكون أول من تطبق عليه سنوات الدراسة ولم تتفوه بهذا إلا من باب التندر والفكاهة والمرح
نهض عن مقعده وحثها على النهوض وهو يقول باسماً:
– يلا يا سهى الطيارة وصلت وهنروح البيت
حاولت طرد النعاس عن عينيها ، فدعاها لأن تتأبط ذراعه عوضاً عن سيرها كأنها تشعر بالثمالة ، فقبلت دعوته بسرور ، وتمنيت لو كان بإمكانه حملها لتكمل نومها على كتفه ، ولكن كيف لها بتحقيق أمنيتها وسط ذلك الحشد من الناس
وجد عمرو أحد رجاله فى إنتظاره بجوار السيارة، وما أن رآى سيده وزوجته الصغيرة ، أسرع بالتقدم منهما مهللاً لعودتهما سالمين وأخذ الحقائب وصعدا عمرو وسهى للسيارة وجلسا بالمقعد الخلفى وقادها الحارس حتى وصلوا للمنزل
ترجلت سهى من السيارة وولجت للداخل ، فنظرت لزوجها وتساءلت بعفوية :
– هى مامتك مش هنا ولا إيه ؟
إلتفت عمرو للحارس ، وما أن نظر إليه فهم سؤاله عن والدته دون أن يتفوه به ، فرد الرجل قائلاً بإبتسامة :
– الهانم الكبيرة فى النادى وزمانها على وصول
أكتفى عمرو بإجابة الحارس ، وما أن أشار إليه بالانصراف ، هتف قائلاً وهو يصعد الدرج متأبطاً ذراعها :
– تعالى نرتاح شوية على ما يحضروا الأكل
صعدت سهى معه وهى تحاول معرفة سبب ذلك الجفاء بين زوجها ووالدته ، فهى لم تراها طوال خطبتها لعمرو سوى بضعة مرات أولهما وقت مجئ عمرو لخطبتها وثانيهما وقت الخطبة ومرة ثالثة يوم الزفاف ، ففى البداية لم تهتم بشأن توطيد العلاقة بينها وبين والدته ، لظنها أنها ليست فى حاجة لفعل ذلك وأن العلاقة بينها وبين عمرو لن تدوم ، ولكن إختلف الوضع الآن وصارت هى والدة زوجها وتعيشان تحت سقف منزل واحد ، لذلك يجب عليها أن تقوم بواجبها تجاهها كزوجة إبن
فى المساء لم يحالفها الحظ بمقابلة والدة زوجها ، بل أخبرها عمرو بأنها ذهبت إلى إحدى صديقاتها وربما ستتأخر فى العودة ، فأقترحت عليه مشاهدة أحد الأفلام قبل خلودهما للنوم ، وقبل إقتراحها بل أوصى إحدى الخادمات بإعداد ما يلزم سيدتها الجديدة
نظرت سهى لما جاءت به الخادمة ، وقالت بحماس :
– فشار وشيبسى وحاجة ساقعة كمان ، كده أتفرج على الفيلم ونفسى مفتوحة
طالت جلستهما اليوم عن المعتاد ، وربما ذلك عائد لشعورها بالحماس والتأثر وهى تشاهد أحد الأفلام الرومانسية والتى غالباً ما تنتهى نهاية مأساوية للعاشقين بموت أحدهما ، فرفع يده لها بالمحرمة الورقية التى لا يعلم عددها من كثرة ما ناولها من محارم لتجفف عينيها من زخات دمعاتها الحارة وهى تشاهد بطلة الفيلم وهى على فراش الموت بنهاية المشهد الدرامى ، وزادت بالأمر وعلا صوت نحيبها بعدما تيقنت من موت البطلة وكأنها إحدى قريباتها وليس أن كل هذا تمثيل ولا يمت للواقع بصلة
ملأه الضجر ووضع يده على وجنته فى إنتظار إنتهاء نوبة بكاءها التى من الممكن أن تثير الملل والضيق بصدر أى أحد خلافاً له والذى يمارس أقصى درجات ضبط النفس حتى لايثير إستياءها ، فزفر من أنفه بقلة حيلة متسائلاً:
– هى الجنازة دى هتخلص أمتى يا سهى يا حبيبتى بقالك ساعة قاعدة تعيطى ، بتهيألى أنا لو مت مش هتعيطى عليا كده
مسحت سهى مخاط أنفها الذى جاء كنتيجة طبيعية لكثرة بكاءها وردت قائلة بنبرة متقطعة :
– بـ بعد الشـ ـر عليك بس أنا كده بتأثر بسرعة ودمعتى قريبة وخصوصاً فى الأفلام الرومانسية اللى بيبقى فيها موت أو فراق
إستغل وضعها من وقوعها تحت تأثير مشاهدة الفيلم ، وأقترب بجلسته منها ، لكونها دائماً تحرص على أن يكون بينهما مسافة أمنة حتى آثناء نومهما بفراش واحد ، بدأ بمحو عبراتها التى أنهمرت بغزارة على وجنتيها اللتان أصابهما شحوب طفيف ما أن شعرت بلمسته
ولكن لا يعلم لما نهر عقله تلك المرة من أن يرسل صافرات الإنتباه التى تطن دائماً برأسه ما أن يراها قريبة منه ، و ما أن أحس بإستسلامها التام لوطأة ذلك الشعور من الخدر الذى أصابها ، زاد بالأمر قليلاً وأقترب بوجهه منها معانقاً ، عناق عذرى يتذوقان حلاوته للمرة الأولى بحياتهما ، فزوجته الصغيرة يبدو عليها أنها راقها كثيراً عناقه لها ، والذى حرص أن تحصل عليه هادئاً يثير بالنفس الظمأ للمزيد
ولكن لم يكن رنين هاتفه المستمر ليتركه ينعم بتلك اللحظة التى جاءته بعد عناء ، ففكر بتحطيم الهاتف لكى يكف عن رنينه المزعج ، ولكن ما أن علم بهوية المتصل ، ترك زوجته وأخذ الهاتف وخرج لشرفة الغرفة ، فخفض صوته قائلاً بعدما فتح الهاتف وسمع ما أخبره به الطرف الآخر:
– خلاص جاى جاى حالاً
خرج للغرفة وحدق بسهى التى مازالت جالسة بمكانها وتنظر إليه بخجل وإستحياء ، فى إنتظاره أن يعود ليطرب أذنيها بعبارات الغزل التى سمعتها منه بخضم عناقهما الصاخب ، ولكن تبدلت قسمات وجهها ما أن أخبرها بأن هناك أمر طارئ يستدعى ذهابه
فهبت واقفة وسألته بإهتمام :
– إيه اللى حصل خلاك هتخرج فى وقت زى ده يا عمرو
رد قائلاً بأول كذبة تبادرت لذهنه :
– بيقولوا فى مخزن من مخازن الشركة حصل فيه حريقة وأنا هروح أشوف فيه لأن فيه بضاعة بملايين
قطعت المسافة الفاصلة بينهما ووضعت يدها على ذراعه قائلة بإهتمام وجدية :
– أجى معاك
حرك رآسه نفياً وما لبث أن ضمها إليه قائلاً بهدوء:
– لاء يا حبيبتى خليكى هنا ومش هتأخر عليكى
تركها وذهب لغرفة الثياب لتبديل ثيابه المنزلية ، فأثناء إرتدائه لثيابه ظل يفكر فى تلك الكذبة التى أخبرها بها ، وهل الأمر أنطلى عليها أم لا ؟
يبدو عليه إنه إستغرق وقتاً أكثر من اللازم ، فما أن خرج من غرفة الثياب وجدها ترفع يدها وهى تحمل هاتفه قائلة بذهول وصدمة :
– أنت بتكذب عليا يا عمرو وكمان جوز مامتك طلع عايش يعنى هو مش ميت زى ما قولتلى ، وياترى مخبى عليا إيه تانى ؟
❈-❈-❈
يتبع...!!!
•تابع الفصل التالي "رواية لا يليق بك إلا العشق الجزء الثاني2" اضغط على اسم الرواية