Ads by Google X

رواية لا يليق بك إلا العشق الجزء الثاني 2 الفصل الثالث والعشرون 23 - بقلم سماح نجيب

الصفحة الرئيسية

  رواية لا يليق بك إلا العشق الجزء الثاني 2 الفصل الثالث والعشرون 23 - بقلم سماح نجيب 

ج٢–٢٣–” نبش رفات الحقيقة ”
أبت ساقيه التحرك أو التنحى عن موضعهما المتسمر أمام غرفة الثياب ، فما أن سمع ما تفوهت به زوجته ، جفت دماءه وبرقت عيناه ببريق الصدمة ، من أنها صارت تعلم بشأن أن زوج والدته مازال على قيد الحياة وليس متوفياً مثلما زعم هو وأوهم الجميع بذلك وأولهما والدته ، رفع إحدى يديه يستند بها على إطار الباب ، لعله يستمد منها الدعم بعد أن صارتا قدماه رخويتان ، أزدرد لعابه مراراً وتكراراً ولم تزده محاولته تلك سوى الشعور بالخوف ، بل كلما حاول بلع تلك الغصة التى حالت بين نطق حروفه الساكنة جوفه وبإنتظاره أن يطلع سراحها ، تعود وتتكون من جديد ، فنظراتها الحارقة كانت خير دليل على أن هدوءها ولطافتها معه فى الأيام الفائتة ، لن يعود لهما مكان بينهما ، بل ستعود لما كانت عليه من قبل ، فأى حظ سيئ هذا الذى جعلها تعلم بحقيقة أمر زوج والدته ، أستكون هى الأخرى كسابقيها من الإناث اللواتى تعرف إليهن ولم تدم علاقته بهن طويلاً ، ويعود ذلك أيضاً لذلك اللعين الذى تزوجته والدته ، وقضى على طفولته ودنس مراهقته وجعل بداية شبابه مظلمة كالضباب الذى يستحيل أن ترى منه شيئاً ، بل ظل متخبطاً بين جدران الخطيئة ، التى إن علمت حقيقتها لن تعود وتنظر فى وجهه ثانية
سمع صوت أظافره وهى تحتك بالإطار الخشبى لغرفة الثياب ، كأنه يريد غرزها به لعله يستمد شئ من القوة ليقول ما لديه ، فحاول إدعاء عدم الفهم وهو يقول بدهشة واهية:
– جوز مامتى ! سلامتك يا حبيبتى ، جوز ماما مات من سنتين وأنتى عارفة ، ايه الكلام الغريب ده ، جبتيه منين ؟
أطاحت سهى بالهاتف من يدها حتى إستقر فى منتصف الفراش ، وبغضب العالم أجمع أقتربت منه قابضة على قميصه ، لإصراره على أن يجعلها تظهر بمظهر البلهاء أو التى تتوهم أشياء لا وجود لها ، فصاحت به والجفاء ملئ صوتها :
– عايز تشككنى فى عقلى وأن أنا بتوهم يا عمرو ، أنت جالك إتصال على تليفونك ، ولما فتحت التليفون وقبل ما أنطق بكلمة سمعت واحد بيقولك لازم تيجى علشان جوز مامتك الدكتور عنده وهو تعبان واحتمال كمان يموت فى أى وقت بسبب التعذيب اللى هو بيعذبهوله زى ما أنت أمرته
أدرك أنه ليس من الحكمة أن يستمر فى إدعاه الكذب ، فما رآه فى عيناها جعله مُقن من أنها لن تحتمل المزيد من كذباته ، وربما ستكون التالية هى القاضية على حياتهما الزوجية ، والتى لم تبدأ بصورة فعلية ، سوى عقد قران وحفل زفاف ، ولم تتخطى عناق حدث بينهما منذ دقائق ، لتنجلى إحدى الحقائق المؤلمة ، جاعلة إياها تضعه بصف الكاذبين والمخادعين
مسد على ذراعيها بلطف ، لعلها تحل وثاقها عن ثيابه ، وأيضاً ليجعلها تنتبه على ما سيقوله :
– حبيبتى إهدى بس وإسمعينى
تكونت العبرات فى مقلتيها ، فكزت على أسنانها ودفعته بغضب وهى تقول بغصة :
– اسمع منك إيه ، هتقول كدبة جديدة تضحك بيها عليا ، ولا هتقولى ليه أنت كدبت من الأساس ، حاولت توهمنى أنك كويس ، بس الطبع غالب يا عمرو ، أنا اللى غبية علشان صدقتك وأمنت ليك ، كان لازم أفهم من الأول أنك عمرك ما تكون إنسان كويس ، بس أنا اللى حاولت أوهم نفسى علشان أحس بحبك ليا وإن أنا ممكن أحبك ، أنا اللى غبية غبية
صاحت بنعتها لذاتها بالغباء مراراً وهى تضرب كلتا جانبى رأسها ، كأنها تعنف نفسها على الانسياق خلف قلبها ، الذى حاول مراوغتها وأن يقع فى حب من لم تكن تريده يوماً ، ولكن لطافته ووسامته وما أبداه لها من نوايا طيبة فى أنه يريدها حقاً زوجة وحبيبة ، ساهم كل ذلك فى أن تصرف تفكيرها عن أى شئ علمته عنه من قبل ، وحاولت إيهام عقلها بأنه صار شاب أخر غير ذلك الذى تعرفت إليه منذ ما ينوف عن عامين وأكثر
صارت المسافة بينهما تقدر بعدة خطوات ، كأنها أضحت لا تطيق أن يكون قريباً منها ، إلا أنه خطى بخطواته تجاهها ، كالنازح من أعلى قمم الجبال إلى باطن الأرض ، فعاد وأمسكها من ذراعيها ولكن كانت قبضته أكثر حزماً
حدق فى وجهها قائلاً برجاء :
– أرجوكى يا سهى متعمليش كده ، أنتى مش عارفة حاجة
أشتعلت عيناه بالنيران ، التى ظلت تتأكل قلبه منذ سنوات ، فعاد مستأنفاً حديثه تلك المرة بنبرة صوت طغى عليها الكره الأسود :
– عارفة أنا ليه عملت كده ، علشان هو يستاهل القتل ألف مرة وإن أشرب من دمه ، وإن أخليه يموت بالبطئ ، حتى لو أتمنى الموت مش هخليه يطوله ، يفضل متعذب كده لحد ما نار قلبى تبرد من اللى عمله فيا ، ومحدش هيمنعنى من إن اخد حقى منه ، ويوم ما أحس أن نارى بردت ، هخلص عليه برصاصة من مسدسى ده
أشار لسلاحه النارى الموضوع فى غمده حول خصره ، لم تتمعن من قبل فى أسباب حمله لسلاح نارى طول الوقت ، سوى أنه يحمله معه من أجل الحماية ، ليتضح لها الأمر أن لديه أمنية سيقوم بأداءها فور شعوره بأنه أخذ ثأره ، الذى لم تعلم أسبابه حتى الآن
راحت ترتجف وهى واقفة بين يديه ، فكل كلمة تفوه بها ، جعلتها تنظر إليه برعب وخوف ، بل بدا كأنه وحش غير أدمى ، تستهواه نفسه بتعذيب الأخرين ، وأنه لا يشعر بالندم على ما أقترفه ، ولكن لديه تصميماً وعزماً على أن ينهى مخططه على الوجه الأكمل الذى يراه هو من منظور الإنتقام
دماءها التى شعرت بجفافها من أوردتها ، تركتها شاحبة وتثلجت أطرافها وبدت خالية من الحياة كالموتى ، ظلت ترمقه بخوف ، ودمعاتها كانت خير دليل ، على أنها صارت ترهبه حد الموت ، كأنها تقابلت وجهها لوجه مع أحد الوحوش أو الشخصيات الشريرة بأفلام الرعب التى طالما شعرت بالخوف منها
– سيبنى وأبعد عنى ، أنا خايفة منك ، خايفة منك
صرخت فى وجهه لعله يخلى سبيلها من بين يداه القابضتان على ذراعها بقوة ، كأنه نسى فجأة أنها زوجته وليست مذنبة فيما يشعر به من حقد دفين تجاه زوج والدته
أعاده صراخها لواقعه ، فراح يمسد على ذراعيها بحنان قائلاً بندم وأسف :
– حبيبتى أنا أسف مكنش قصدى أخوفك صدقينى ،متخافيش منى يا سهى أنا مستحيل أاذيكى
ما أن شعرت بتحرر ذراعيها من بين قبضتيه ، أمرت قدميها بأن تخطو للخلف ، لعلها تستطيع الفرار منه ومن الغرفة ، ولكن كأنه حدس لما يدور فى ذهنها ، فإلتقط ذراعها قبل أن تبلغ باب الغرفة
نظرت إليه بخوف وقالت برجاء وعبراتها تتساقط من عينيها كالفيضان:
– أرجوك سيبنى وخلينى أمشى من هنا ، ودينى عند بابا وأنا والله ما هقول لحد حاجة ، لو أنت فعلاً بتحبنى سيبنى أمشى
رجاءها وتوسلها له ، جعله يعى على تلك الحقيقة عنها التى أخبره إياها حاتم يوم زفافهما من أنها تشعر بالخوف ما أن ترى إثنان يتشاجران ، ولكن هى ليست فى حاجة لأن تشعر بالخوف ، فما يشعر به تجاهها ، يجعله لا يفكر فى أن يتسبب لها فى مكروه
ضمها إليه فلم تخف رجفتها التى إنتقلت إليه ما أن أسكنها بين ذراعيه ، رفع يده يمسد بها على رأسها ويربت عليها بالأخرى ، فغمغم بخفوت :
– أنتى لو تعرفى أنا عملت ليه كده هتعذرينى ، أنا معملتش فيه كده علشان أنا واحد بيحب يعذب الناس من غير سبب
عادت وأغرقت الدموع وجهها من جديد وخرج صوتها متحشرجاً بصعوبة :
– مهما كان اللى عمله متوصلش إنك تقول انه مات وانت ده كله بتعذبه لحد خلاص ما هيموت فعلاً ، دى وحشية وإجرام ، أنت طلعت معندكش قلب ولا رحمة
أنتفض جسده لمحاولة إبرازه بصورة المتوحش السادى ، الذى يهوى تعذيب الأخرين ، فقبض على ذراعيها صارخاً فى وجهها بصوت متألم جريح :
– اللى بتدافعى عنه ده عمل فيا أبشع حاجة ممكن تحصل لطفل ، اعتدى عليا يا سهى وفضل سنين يعمل فيا كده لحد ما بقيت إنسان غير سوى فى سلوكى ، فاهمة يعنى إيه ، يعنى مكنتش أعرف وبصاحب بنات لاء كنت شـ ـاااااذ ، ودلوقتى بحاول أتعالج علشان أرجع طبيعى تانى
أجفلت ما أن صرخ فى وجهها بكلمته الأخيرة ، وعيناها الجاحظتان والمحدقتان فى وجهه ، شعرت أن بؤبؤهما كادا يسقطان منهما ، ولم تتحمل قدميها الوقوف ، فسقطت من بين يداه فور أن أرخى قبضتيه عن ذراعيها ، وبجهد رفعت رأسها الثقيل وحدقت به وهو يقف أمامها كالعملاق
فقالت وهول صدمتها مما سمعته منه ، جعلتها لا تحسن خروج حروفها إلا متلعثمة مبعثرة كشتات نفسها ، التى تبعثرت ما أن وعت على معنى حديثه الذى تفوه به :
– أ أ نـ ـت ببتتـ ـقو ل إ يه ، معنـ اه إيه الككـ ـلام ده
أعلنت قدميه هزيمتها فى حمل ثقل باقى جسده ، فسقط على ركبتيه أمامها باكياً وخرج صوته من جوفه نائحاً ، كأنه كان بإنتظار تلك اللحظة ، حتى يكون لديه العذر الكافى لكى يخرج ذلك الطفل من داخله يعلن عن إعتراضه ويحرره من سجن الخوف الذى تم سجنه به سنوات طوال كره أن يحسب عددها ، لكى لا يعلم كم مر عليه وهو فى لحد ونفق اليأس والضياع
وضع وجهه بين كفيه قائلاً برنة صوته الشاكية لما عناه من الألم :
– مفيش تفسير تانى لكلامى غير اللى فهمتيه يا سهى
غطت فمها بيديها وغمغمت بخفوت من شعورها بالدهشة والصدمة :
– علشان كده كنت بحس أنك بتحاول تهرب منى ، وأنا اللى فكرت أنك بتعمل كده علشان تدينى وقت كافى فى أن أعرفك وطلع أنك أصلاً….
أنكمشت قسمات وجهها وأعتصرت جفنيها اللذان لم يكفان عن السماح لتلك الزخات من العبرات من أن تنزلق من عينيها حتى رطبت وجهها بالكامل ، ولم تستطع إكمال حديثها ، فكلما تتمعن فى معنى الكلمة التى نطق بها ، ينتفض جسدها من وقت لأخر ، كأنها أصيبت بماس كهربائى ، ورغم ذلك مدت يدها له وسحبت كفيه من على وجهه ، لعله ينظر إليها أو لعله يكذب ما سمعته من حقائق ، فهذا الذى لم تكن فى انتظار سماعه ، بل أنها حاولت اختلاق عذر له فى إقدامه على إيذاء زوج والدته ، بأنه كانت هناك خلافات بينهما ولكن لم يصل تفكيرها وظنها إلى ذلك الحد ، الذى يجعلها تتخيل أنه أرتكب تلك الجريمة البشعة والنكراء فى حق طفل صغير ولم يكتفى بذلك بل ظل سنوات يرتكب ذلك الجرُم فى حقه
ولكن لدهشتها وجدته يلقى برأسه على كتفها يضمها إليه بقوة وهما جالسان على الأرض ، كغريق وجد سترة للنجاة ، فتشبث بها حتى لا يعود ويدركه الغرق ، وظل يبكى بصوت عالى حتى ظنت أنه لن يكف عن البكاء إلا بعد إنقطاع أحباله الصوتية ، رفعت ذراعيها بتردد تقبض وتبسط كفيها ، كأنها تخشى أن تحط بهما على ظهره ، إلا أنها حسمت أمرها وطوقته بهما وظلت تبكى على بكاءه ، ومن حين لأخر تربت على ظهره وتشدد من إحتضانها له ، كأنها لن تتركه إلا بعدما يفرغ كل ما اختزنه فى قلبه ، ويتخلص من رواسب تلك الذكريات المؤلمة والمخجلة ، وبعد أن هدأت عاصفة بكاءهما ، ظلا هكذا وقت طويل فريسة لحزن عظيم ، ولكن لا أحد منهما قادراً على أن يبوح بذلك السؤال ، الذى وإن حاولت شفتيهما إخفاءه خلفها ، إلا أن أعينهما لم تخجل من إخفاءه ، وهو كيف ستكون الحياة بينهما بعد اليوم ؟ فمن المؤكد أنها ستضع خطط أخرى ، غير تلك الخطط التى وضعتها سابقاً ، خاصة بعد أن عملت على نبش رفات الحقيقة ، التى حاول هو إخفاءها عنها مكتفياً أن يواريها تحت ثرى الإنتقام
❈-❈-❈
جفاء لم تجد له سبباً طغى على حياتهما فجأة ، فزوجها يعود من عمله وسرعان ما يرتمى على الفراش رافضاً حتى تبديل ثيابه ، ولم يعد يتحدث معها إلا قليلاً ، كأن يلقى عليها تحية الصباح ويسألها إذا كانت تريد منه شيئاً قبل ذهابه إلى العمل ، وبالمساء تحية عابرة وسؤال سريع عن أحوالها وأحوال جنينها ومن ثم يرفض تناول الطعام متعللاً بأنه تناوله مع أصدقاءه ، أسبوع بأكمله وهو على هذا الحال ، أى منذ ذلك اليوم الذى دارت بينهما مناقشة حادة وصلت حد الشجار ، حول أنه لا يريد تلك الخادمة فى المنزل لأنه لن يستطيع دفع راتبها ، على الرغم من أنه يعلم أن والديها تكفلا بأمرها ودفع الراتب الشهرى الذى حددته كتعويض على إقامتها فى الأقصر ، ولا تعلم سر تحوله المفاجئ وهو من كان مسلماً بالأمر الواقع منذ مجيئها ، ولم ينتهى النقاش بينهما إلا بإصرار هند على بقاء الخادمة ، لأنها تقوم بمهامها على أكمل وجه ، و كلما حاولت أن تسأله عما ألم به وما يشغل عقله ، يعود ويخبرها بأنه يواجه بعض العثرات بعمله وسرعان ما ستنتهى ويعود لطبيعته ، ولكنها لم تكن عمياء حتى لاترى ذلك الإرهاق المكتسح قسمات وجهه أو وهنه من عدم تناوله الكميات المطلوبة من الطعام ، لذلك قررت أن تنتظره حتى يعود من عمله وهى مصممة على أن تعلم ما أصابه
جلست فى غرفتها تشاهد التلفاز ، وما أن سمعت صوته فى الخارج ، نادته بصوت عالى ، فولج كرم الغرفة ولكنه لم يكن بمفرده ، بل ولج خلفه والديها ، واندهشت بالبداية كونه لم يخبرها بشأن قدومهما ، أو أن والدتها أخبرتها بأنهما قادمان لزيارتهما ، ولكنها لم تمنع نفسها من أن تصيح بسعادة ما أن رآتهما يقفان على عتبة الباب
هرولت إليها والدتها وهى تسألها بقلق :
– مالك يا حبيبتى تعبانة من إيه ، لما كرم اتصل علينا وقلنا أنك تعبانة جيت أنا وباباكى بسرعة
تقدم منها والدها وقبل رأسها وسألها بإهتمام بالغ :
– حبيبة قلب بابا مالك ، ألف سلامة عليكى يا حبيبتى ، قوليلى إيه اللى تاعبك ، حاسة بإيه أنا هوديكى لاحسن دكاترة
زوت هند ما بين حاجبيها بدهشة ، وحدقت فى وجه زوجها ، لعله يقدم لها تفسيراً لما تسمعه من والديها ، فهى على خير ما يرام ولم تصاب بوعكة صحية أو أنها تعانى من مشكلات خاصة بالحمل ، فكل شئ يسير على الوجه الأفضل من حيث إعتناءها بنفسها أو جنينها وتفحصها الطبيبة من وقت لأخر ، حتى تتأكد من أن كل شئ على ما يرام
حولت بصرها عن زوجها ونظرت لوالدتها قائلة بإبتسامة هادئة :
– أنا الحمد لله كويسة ، وحمد الله على السلامة ، بس ليه مقولتليش يا ماما أنكم جايين النهاردة
ربتت والدتها على يديها وقالت بحنان أمومى :
– أنا من ساعة ما جاتلى المكالمة من كرم أنك تعبانة وأنا كنت هتجنن ومفكرتش فى حاجة غير أن أقول لباباكى ونجيلك على طول يا حبيبتى
حاولت هند أن تبتسم ، فلم تعد تعرف الابتسامة طريقها إلى شفتيها المزمومتين وهى تحملق فى وجه زوجها الواقف على عتبة الباب عاقداً ذراعيه ، وتخلو قسمات وجهه من أى تعبيرات تستطيع من خلالها كشف سر تصرفه هذا ، بل زادت دهشتها وتعجبها مما يفعله ، بعدما رآته يترك مكانه ويقترب من والدها قائلاً بتأثر ، كأن ما يقوله حدث بالفعل :
– أنا بحمد ربنا أن هند والبيبى بخير ، متتخيلش يا عمى الأيام اللى فاتت دى كنت عايش خايف ومرعوب عليهم ، ولما حسيت أن الخطر قل شوية ، كلمتكم علشان تيجوا تشوفوها وكمان علشان أنا عايز هند ترجع على إسكندرية لحد ما تولد بالسلامة
فغرت هند فاها بعدما سمعت ما تلاه عليهم ، وبدت هى الآخر كأنها مستمعة مثل البقية ، كون أنها لا تعلم شيئاً عما يقوله ، وما أن حاولت فتح فمها لتسأله عن سبب ادعاءه هذا ، وجدته يقترب منها جالساً بجوارها على الفراش وطوق كتفها بذراعه وضمها إليه وهو يتابع قوله بنبرة صوته المتأثرة بإنفعال لم تحدد هند هل هو نابعاً من داخله أم مفتعلاً كتلك الكذبة التى انطلت على والديها وكادت تنطلى عليها من مهارته فى إتقانها :
– أنا مش عايز أخسر هند أو أخسر إبننا ، دول عندى أهم من حياتى نفسها ، وعلشان كده أنت لازم تاخدها إسكندرية يا عمى ، وأنا هنهى شغلى هنا وهرجع أنا كمان ، خلاص مش هنقعد فى الأقصر تانى
– ده عين العقل يا كرم يا بنى ، فعلاً كان لازم ترجعوا إسكندرية من بدرى ، بس مش مهم ده دلوقتى المهم أنكم خلاص أخدتوا القرار ده
انشرح صدر الوالد بما قاله زوج إبنته ، فهذا ما تمناه منذ ما أن أعلنت هند عن رغبتها فى إكمال الباقى من عمرها برفقة كرم ، وطوال فترة إقامتهما هنا فى الأقصر ، كان يعلن بين الفينة والأخرى عن إستياءه ولكن فضل الصمت من أجل سعادتها ، وساهمت سيطرة زوجته على غضبه بأن يقمعه عندما كان يتأجج من وقت لآخر ، متذرعة بحجة أن إبنتهما راضية ، ويكفى أنها تحيا بسعادة مع زوجها المتفانى فى حبها ، وساهم بجعلها على تلك الصورة من اللطافة وترك الغرور ، وكأنها صارت هند أخرى غير تلك التى عاشت بكنفهما وكانت مدللة ومترفة لأبعد الحدود
كزت هند على أسنانها ، ليس على شئ سوى ظهورها بمظهر البلهاء وهى تسمع الحديث الدائر بينهم ، ويبدو على زوجها أنه خطط للأمر دون الرجوع إليها ، أو أخذ رأيها فى عودتهما للإسكندرية ، ولكن حفاظاً على صورتهما سوياً أمام والديها ، فضلت أن تصمت وتبتسم إبتسامة متوترة فاترة ، كلما تطلعت لوجه زوجها ، فنادت الخادمة لتقوم بمضايفتهما لعدم إستطاعتها القيام بدور سيدة المنزل لمكوثها الدائم فى الفراش
ربتت على يد والدتها قائلة بحنان :
– اتفضلوا أنتوا يا ماما علشان تتعشوا وترتاحوا شوية ، أكيد تعبانين من السفر
ما أن خرج والديها من الغرفة وأغلقت والدتها الباب خلفهما وصارت وجها لوجه مع زوجها ، رمقته بنظرة متسائلة أكثر منها ممتعضة من عدم إخباره لها بما يحدث ، فضمت كفيها وحدقت فى وجهه وتساءلت بإلحاح :
– هو إيه اللى بيحصل بالظبط يا كرم ؟ وليه قولت لبابا وماما ييجوا خصوصاً دلوقتى ، وتقولهم إن تعبانة وفى خطر عليا ؟ أنا مش فاهمة إيه سبب كذبتك دى
أجابها كرم بعدما أرسل بصره للخارج من خلال تلك النافذة الصغيرة ، التى تسمح بمرور الهواء والضوء اللازم للغرفة :
– أصل شايف إن من الأصلح والأنسب أنك ترجعى إسكندرية ، وباباكى ومامتك هياخدوا بالهم منك كويس لحد ما تولدى ، وأنا زى ما قولت هخلص كل حاجة هنا وهرجع أعيش فى إسكندرية تانى ، أصل أكتشفت أن طولها زى عرضها ومش فارقة كتير ، هو يمكن بس أتاخر شوية على ما أحصلك ، بس متقلاقيش هم كام يوم بس وهحصلك على طول
قبضت على غطاء الفراش الخفيف ، وقالت وهى تحاول كبح دمعاتها التى تلح عليها :
– نفسى أعرف أنت إيه اللى حصلك كده فجأة ، ورجعت لأسلوبك ده تانى معايا ، ودلوقتى عايزنى أسافر مع أنك كنت بتقول متقدرش تعيش يوم من غير ما تشوفنى ، ثم أنت مش خايف بسبب السفر والحركة يجرا حاجة للبيبى ، أنت ناسى كلام الدكتور وتحذيرها ليا من أن متحركش كتير
أغمض عينيه ومن ثم أسند رأسه لكف يده قائلاً بهدوء ، ولكن تخللت نبرة صوتة رنة متعبة :
– متخافيش إن شاء الله خير وباباكى هيعمل كل الاحتياطات اللازمة علشان توصلى بالسلامة أنتى والبيبى ، ودلوقتى نامى وأرتاحى علشان من الصبح بدرى هتسافرى ، أنا هقوم أحضرلك شنطة هدومك
ترك مكانه وأقترب من حقائب السفر الموضوعة بجوار الخزانة الخشبية ، أخذًا الحقيبة الكبيرة وفتح سحابها ، وبعدها بدأ بإخراج ثيابها يلقيها فى الحقيبة أمام عينيها ، كأنه لا يطيق صبراً لأن تغادر المنزل ، فأنتفضت من مكانها ولكنها كانت حريصة على سلامتها وسلامة جنينها ، فجذبت ذراعه بقوة ، لعله ينظر إليها ويقدم لها تفسيراً لأفعاله غير المفهومة
صاحت به قائلة بإستياء :
– أنت بتعمل إيه يا كرم ، فهمنى ايه اللى حصل ، إيه كرامتك رجعت تنقح عليك تانى علشان مرضيتش أن أخليك تمشى الشغالة ، هتفضل بإسلوبك ده على طول ، كل حاجة تعمل فيها مقموص وزعلان
أحنى رأسه وألقى ما فى يده من الثياب وأجابها بفتور :
– يلا علشان تنامى يا هند وملوش لازمة الكلام ده ، تصبحى على خير
خرج من الغرفة ما أن أنهى حديثه ، بينما عادت هى إلى الفراش ودمعاتها السخية أغرقت وجنتيها وهى تفتش عن سبب مقنع لما فعله زوجها ،ولولا حرصها على عدم زيادة إنفعالها وفرطها فى الحركة ، لكانت تبعته للخارج
أرهقتها نوبة البكاء حتى أدركها النعاس ، فولج كرم الغرفة بخطى تكاد لا تسمع ، فما أن رآى وجهها على ضوء الإنارة الخافتة للغرفة ، وإستطاع رؤية وجهها الرطب من كثرة البكاء ، خر راكعاً بجوار الفراش ، وحاول قمع عبراته التى هددته بالسقوط ، إلا أن الغلبة كانت لها
راح يبكى بصمت ولسانه يردد بصوت خافت هامس، كأنه يريد بها محو ذنب جسيم :
– أسف يا حبيبتى عارف إنك هتزعلى بس أنتى اللى دماغك ناشفة
ظل ينطق بكلمة الأسف وهو يشعر بالحيرة فى أن يمد يده ويأخذ يدها بين كفيه ، ولكنه لم يرد لها أن تستيقظ من نومها ، فأسرع بالوقوف على قدميه وهو يحاول إشباع عينيه من مرآها الفاتن والخلاب ، حتى تنقضى تلك الأيام التى ستحول بينهما ، بعدما رآها تتململ بنومها ، أسرع فى الخروج من الغرفة ، وقرر قضاء ليلته فى غرفة المعيشة
وما أن خرج للصالة رآى تلك الخادمة تنظر إليه بإرتياب ، ولكنها لم تجرؤ على سؤاله لما يصر على تركهم للمنزل ، فبذلك سيضيع مجهودها سدى ، وما أن أشار إليها بالذهاب لمكان نومها ، أسرعت فى تنفيذ أمره دون نقاش ولكن عقلها لم يكف عن التفكير فى حل تلك المصيبة التى ألمت بها من قبل مجيئها للأقصر ، وحاولت إيجاد حل لها بنصب شباكها حول والد سويلم ، إلا أن مخطط كرم المفاجئ ، جعلها تشعر بالكره الشديد نحوه ، وراحت تمسد على بطنها والتى حتماً ستبدأ أعراض حملها فى الظهور بوقت قريب ، تلك الخطيئة التى وهبها إياها عابر وأرادت توريط رجل أخر بها حتى تستطع أن تنجو بنفسها ، ولكن جاء أمر عودتهم للإسكندرية محطماً لكل خططها الدنيئة والخبيثة ، كون أنها تريد الاحتفاظ بجنينها ولكنها لا تريد أن يكون مجهول الهوية ، بل كانت تبحث له عن والد ، حتى لو كانت ستتسبب بذلك فى تخريب حياة زوجية أخرى
راحت تدور حول نفسها وقالت بحيرة وتفكير :
– طب ايه العمل دلوقتى
ففى الصباح نهض كرم عن تلك الأريكة التى أتخذها مخدعاً له بالأمس ، وحاول تحريك عظامه التى شعر بتيبسها من نومه الغير مريح ، سمع صوت حركة فى الصالة ، فخرج على الفور ، رآى زوجته ووالديها على أهبة الإستعداد للمغادرة إلى الإسكندرية ، وجدها جالسة ترمقه بنظراتها المعاتبة وهى تمسد على بطنها ، كأنها تأنبه على قراره الأحمق وجعلها عرضة للخطر هى وطفلهما ، ولكن ما أن رآت ملامحه الجامدة والصلبة ، نظرت لأبيها وأخبرته بضرورة الرحيل ، ولم يكن تسرعها سوى إقتصاصاً لجفاءه وفتوره ، فأخبرها أبيها بالتمهل حتى تصل تلك السيارة التى أوصى عليها لكى تتوفر بها كل سُبل الراحة حتى تصل بأمان إلى منزله ، فطلبت من الخادمة الذهاب لمنزل الحاج سويلم وتخبر زوجة إبنه بأنها ستسافر ، لذلك تريد رؤيتها هى وأطفالها لتودعهم ، إلا أن كرم أوقفها عن الذهاب وذهب هو عوضاً عنها ، فجاء سويلم الصغير تتبعه والدته وهى تحمل صغيرتها ، وتعجبت من أخذها ذلك القرار المفاجئ ، إلا أن الوداع بينهما لم يكن سهلاً، إذ بكى الصغير بعد علمه بأنه لن يراها ، ودمعت عينى والدته ، إلا أنها تمنت لها أن تصل لمنزل أبيها بسلام وأمان
وبعد نصف ساعة تقريباً ، وصلت السيارة ، وودع كرم خالته وزوجها ، وما أن أقترب من هند لوداعها هى الأخرى ، وجدها توليه ظهرها بعدما تبادلت معه عبارة وداع مقتضبة بنبرة صوتها المتبرمة ، ومن ثم صعدت للسيارة وتبعها والديها والخادمة ، وبدأ السائق فى قيادتها بحرص وتمهل ، إلا أنها نظرت من النافذة ، لعلها تراه يركض خلفها ويخبرها بألا ترحل ، إلا أنها لم تجد شئ من هذا القبيل سوى أن رفع يده يلوح لها بها ، فنادته همساً وتمنت أن تحمل له النسمات همستها الرقيقة التى أخبرتها سراً بأن تلك الأيام التى ستمر عليها قبل مجيئه ستكون جحيماً لا يطاق ، ولكن عزاءها الوحيد فى أنها حملت معها نبتة منه سترويها بحنانها وحرصها حتى ترى ثمرة ذلك العشق الذى قبض على فؤادها وقيده بقيود من حرير مخملى
❈-❈-❈
ثلاثة أيام مضت وهما مازالا حبيسان بين جدران غرفتهما الواسعة ، والتى رغم فساحتها إلا أنها بدت كأنها تطبق بجدرانها على صدر تلك التى لا تبرح مجلسها من على ساقىّ زوجها واضعة رأسها على صدره وعيناها تحدق فى الفراغ ، فتلك الساعات القليلة التى قضتها برفقة شقيقها ديفيد أثناء إعتناقه الإسلام ، هى التى قضتها خارج تلك الغرفة منذ ماحدث تلك الليلة فى المقصورة على الشاطئ وإخبار راسل لها بالحقيقة كاملة ، إذ بعد عودتهما للبيت وصعودهما لغرفتهما ، عادت تبكى وتنوح ولم تفعل شئ أخر غير ذلك ، ولكن راسل تلك المرة لم يتردد فى التخفيف عنها ، إذ ظل جالساً بجوارها على الأرض وكلما حاول أن ينهى وصلة بكاءها المستمر ، تعود وتبكى من جديد ، فما أن يأس من أن يردعها عن بكاءها ونحيبها المتواصل ، حملها وذهب بها للمرحاض وجلسا سوياً أسفل تلك المياة التى تساقطت على رأسيهما ، فلعل الماء يساهم بتهدئة أنفعالاتها الآخذة فى طور الزيادة ، وما أن شعر بتحسنها النسبى الذى تمثل فى أنها كفت عن بكاءها ، أمرها بخلع ثيابها المبتلة وأن تذهب للفراش لعلها تنال قسط من الراحة ، ولم تمنع مساعدته لها بعد أن خذلتها أطرافها المرتجفة ، إذ كأن البكاء استهلك قوتها وأرهقها أشد الإرهاق ، شدت رباط مأزرها بأصابع مرتعشة ، وحاولت أن تأمر قدميها بالسير فلم تفلح ، بل جلست على حافة المغطس ، لعله بعد أن ينتهى من إستبدال ثيابه المبتلة هو الآخر يعيدها إلى الغرفة ، ولم يجد مشقة فى حملها ونقلها من المرحاض إلى الغرفة ، بل إستلقى بجوارها وجذبها إليه وظل يربت عليها حتى غفت بنومها ، وفى اليوم التالى اخبرته انها ذاهبة لشقيقها ولن تتأخر فى العودة ، وعندما عادت وجدته فى إنتظارها جالساً بالشرفة ومنذ ذلك الحين وهى ملتصقة به رغم أنهما لم يتحدثان بشأن أى أمر من الأمور الخاصة بهما ، أو الإتيان على ذكر ما قررته بشأن علاقتهما
– حبيبتى أنتى نمتى
قالها راسل وهو يتحسس وجهها برفق ويده الأخرى يمسد بها على شعرها
فأجابته حياء بصوت خافت :
– لاء منمتش لسه صاحية
نسمة هواء رطبة صفعت وجنتها بنعومة وهى تفتح عينيها وتغلقهما تزامناً مع الحركة الرتيبة للمقعد المتأرجح الجالس عليه راسل وهى جالسة بأحضانه تنظر للخارج غبر النافذة العريضة فى الغرفة ، فتلقائياً وضعت يدها على بطنها تتحسس ذلك الخواء بها ، والذى لم ينتج عن عدم تناولها الكميات الكافية من الطعام ، ولكن من ذلك الشعور بأنها ربما لن يحالفها الحظ وتشعر بطفلها يركلها بحركته المفرطة كما رأت وسمعت عن حركة الأجنة فى بطون الأمهات
وجدته يرفع يدها التى كانت واضعة إياها على بطنها ، ومن ثم قبل باطنها وهو يقول مقترحاً بعض الحلول التى ربما تساهم فى خروجها من تلك الحالة من الإكتئاب والعزلة التى فرضتها عليهما سوياً :
– حياء مش هينفع تفضلى قاعدة فى الأوضة كده ومبتخرجيش ، تحبى نروح أى مكان تانى ، أو حتى تروحى الشركة يمكن الشغل يقدر يخرجك من الحالة اللى أنتى فيها دى
رفعت عينيها له وتساءلت :
– أنت زهقت منى ؟
ظل يقبل رأسها وهو يردد بثقة ويقين :
– أنا عمرى ما أزهق منك أبدًا يا روحى ، بس صعبان عليا أنك بقيتى زى الوردة اللى دبلت من كتر الحزن وعينيكى مش مبطلة عياط ودموع
تنهدت بخفوت وأغلقت عيناها أمام تلك العاصفة الجديدة من البكاء ، فحاولت أن تعاتبه على هجره لها ، إذ لم يصح لها عتابه بذلك اليوم :
– ما أنا كنت بعيط وأنت بعيد عنى مفكرتش فيها دى ، أو فكرت ايه اللى ممكن يكون حصلى وقتها يا أبو قلب زى الحجر ، ضيعت من عمرنا سنتين بحالهم
زفر راسل أنفاسه الحائرة ومن ثم رد قائلاً بإرهاق :
– أنا كمان كنت تعبان وموجوع ومضغوط ومش قادر أفكر ، وجايز كان البعد فى الوقت ده حل كويس مش علشان بس كنت بفكر اخليكى تكرهينى وتبعدى عنى ، لأن يمكن كنت اتجننت وقتلت اخوكى بعد ما عرفت إن هو اللى عذبنى وكنت المرة دى دخلت السجن فى جريمة قتل عملتها فعلاً مش مظلوم زى المرتين اللى حصلوا قبل كده
رفعت حياء رأسها عن صدره ورمقته بشك من أنه قادراً على أن يقدم على قتل أحد ، إلا أنه حرك رأسه مستطرداً:
– اه يا حياء كان ممكن أقتل ديفيد أخوكى ، أنتى متتخيليش كان بيعمل فيا إيه ، ولا الكابوس اللى عيشنى فيه وتعذيبه اللى بصماته لسه على جسمى ، أنا بس كنت أتمنى اقابل اللى عمل فيا كده علشان ادوقه من نفس الكاس ، بس حظه انه طلع أخوكى يا حياء ومن سوء حظى إن مقدرش اعمل فيه حاجة علشان خاطرك
عاد وجذب رأسها إلى صدره ، لعلها تغفو بنومها تلك المرة ، وما أن سكنت وهدأت حركتها ، سمع صوت إنتظام أنفاسها ، فقام بنقلها إلى الفراش وإستلقى بجوارها ولكن جاءه إتصال هاتفى يفيد بأنه يريدونه على وجه السرعة لإجراء جراحة عاجلة فى الغد بأحد المستشفيات فى القاهرة ، فوجدها راسل فرصة سانحة لتعيد ترتيب أفكارها ، خاصة أنه شعر بأن وجوده أمامها طوال الوقت زاد فى شقاءها وحيرتها
فبعد مرور يومان ، خرجت حياء من غرفتها بعدما أبدلت ثياب العمل بثياب بيتية ، اذ وجدت أن الحل الأنسب لها بعد سفر زوجها أن تعود لعملها ، لعلها تكون قادرة على الخروج من متاهة أفكارها ، وضعت يداها فى جيبى ثوبها الواسع ، وسارت فى الردهة الخاصة بالغرف ، وهى تنظر للوحات المعلقة على الجدران
وجدت سجود تخرج من الغرفة الخاصة بها ، وتهلل وجهها وأقتربت منها تحتضنها ، فجلست حياء القرفصاء أمامها ، وهى تمعن النظر في وجه تلك الجميلة ، التى كانت أحد أسباب عشقها لراسل ، طوقت سجود عنق حياء وظلتا هكذا متعانقتان بصمت ، كأن حياء فى حاجة لأن تشعر بالأمان ، فزوجها منذ سفره فضل تركها بحريتها لأخذ قرارها ، بل أنه أخذ إحتياطه فى عدم رؤيتها له حتى لا يؤثر ذلك فى قرارتها ، وأخبرهم فى المنزل أنه مسافراً لعدة أيام من أجل عمل طارئ ، ولم يتعجب أحد لكونهم لا يعلمون أسبابه الحقيقية لتفضيله ترك المنزل فى تلك الأونة
شددت من إحتضانها للصغيرة ، حتى شعرت سجود بألم طفيف ، ولكن أنتبهت حياء على ما تفعله ، فأرخت ذراعيها عن الصغيرة ، وإبتعدت عنها قليلاً ورفعت يدها تربت على وجنتها وهى دامعة العينين ، فمدت سجود يدها ومسحت دمعاتها التى أغرقت وجنتيها رغماً عنها
أنكمشت ملامح سجود لرؤيتها لها تبكى هكذا ، فتساءلت وهى مازالت تجفف عبراتها :
– مالك يا مامى بتعيطى ليه كده ؟ فى حد زعلك ؟ هو بابى فين ؟
أجابتها حياء وهى تحاول الإبتسام :
– مفيش حاجة يا قلب مامى ، أنا بس بحبك أوى أوى يا سجود وبابا مسافر عنده شغل وإن شاء الله هيرجع قريب
هزت الصغيرة رأسها وسرعان ما جذبت ذراع حياء وترجتها بأن تذهبان لحظيرة الخيول وتجعلها تمتطى جوادها الخاص فوافقت حياء ، لعلها تصرف تفكيرها عن سبب تأخره هكذا ، ألا يعلم بأن محاولته تلك فاشلة ولن تفيده أو تفيدها يشئ ، كون أنها أخذت قرارها منذ ما علمت الحقيقة
ولكن قبل هبوطهما الدرج ، سمعت سجود صوت هاتفها ، فأخرجته من جيبها وهى تقفز بسعادة قائلة بحماس :
– ده بابى يا مامى
فتحت سجود الهاتف ولم تكتفى بذلك ، بل عملت على فتح مكبر الصوت ، ليصلهما صوته بوضوح ، وما أن هتفت الصغيرة قائلة بإبتسامة وحب لأبيها :
– بابى أنت فين ؟ أنت وحشتنى أوى هترجع أمتى
رد راسل قائلاً بحنان :
– هرجع البيت قريب يا قلب بابى ، أنتى عاملة ايه ومامى عاملة إيه يا سيجو
سمعت نبرة صوته اللحوحة فى السؤال عنها ، فرفعت سجود وجهها عن الهاتف ونظرت إليها قائلة بحزن طفيف :
– مامى كانت بتعيط يا بابى ومش عارفة هى بتعيط ليه
ما أن سمع بأمر بكاءها ، سأل طفلته بإلحاح ولم تخفى نبرة صوته قلقه الشديد من أن يكون حدث لها خطب ما جعلها تبكى ثانية :
– بتعيط ليه يا سجود ماما مالها حصل حاجة ؟
أنتظر أن تجيب إبنته على سؤاله ، إلا أنه سمع صوت حياء وكم بدا صوتها بتلك اللحظة مختنقاً ، كأنها وجدت مشقة فى نطق حروف إسمه:
– راسل
رن صوتها فى أذنه وهى تهتف بإسمه ، كصدى لحن حزين ، فحاول التخفيف عنها قدر إمكانه ، فرد قائلاً بحب صادق :
– نعم يا روح راسل
كأنه نسى فجأة وعده لنفسه بأن يمهلها وقتها دون تدخل منه أو أن يحاول فرض حبه ، حتى لا يجعلها ترزح تحت ضغط هائل ، ولكنه فشل كالعادة ، فما أن علم بأمر بكاءها وسمع نداءها له ، عاد ذلك العاشق المحب والمغرم بها
إبتلعت حياء ما أمكنها من لعابها ، الذى شعرت بمرارته العائدة لتجمع الدمعات فى عينيها ، فقالت بما يشبه الرجاء تلك المرة:
– أرجع يا راسل مفيش فايدة من اللى أنت بتعمله ده ، أرجع وهقولك على قرارى النهائى
– حياء أنا ….
لم يكمل حديثه إذ سمعها تهتف به بحدة غير واعية بما تقوله :
– قولتلك أرجع خلاص ، أنت ليه عنيد كده ، عايزنى أعمل إيه يعنى أستحايل عليك علشان ترجع ، بتبقى مبسوط كده يعنى
أدركها الندم ما أن وعت على حدتها فى الحديث معه ، رغم أنه لم يفه بكلمة تجعلها تحتد عليه هكذا دون مبرر ، فعادت تقول ولكنها لم تفلح فى كبح إنسكاب دموعها وخروج صوتها متحشرجاً:
– أرجع بقى أنا مش هفضل طول عمرى أستناك ، أنا اللى بقولك تعال يا راسل ، أنا محتجالك فاهم يعنى إيه محتجالك
وصله صوت بكاءها بوضوح ، فأجابها بصوت حانى :
– إهدى يا حبيبتى وبطلى عياط ، هرجع يا حياء بس بلاش تبكى بالشكل ده ، هرجع البيت بكرة إن شاء الله
حاول أن يطمئنها بحديثه ، حتى يعود إليها ، ويبدو أن عودته لن تقتصر على تهدئة إنفعالاتها ، والتى يعلم أنها ناتجة عن عدم أخذها قرار تريح به كلا الطرفين ، فهو يعلم أى شعور هذا الذى يتقاذفها الآن من أنها تريد الحفاظ على حبها ولكن عليها أن لا تأمل ولا تطمح فى أن تنال أمنيتها وأن تمارس غريزة الأمومة لأطفال تحملهم بأحشاءها ويأتون لهذا العالم وتعمل على تربيتهم وغرس تلك الصفات الحميدة بهم
كفت حياء عن البكاء وسمعها تقول بهدوء قدر إستطاعتها :
– تمام يا راسل ، بس لما ترجع عايزة أقابلك فى بيتنا القديم ، هتلاقينى مستنياك هناك ، لأن لازم أتكلم أنا وأنت لوحدنا من غير ما يكون حد معانا ، وهنبقى نرجع قصر النعمانى لما نخلص كلامنا
– ماشى يا حبيبتى هجيلك على بيتنا القديم ، ودلوقتى أرتاحى يا حياء وكفياكى ضغط على أعصابك
ترجاها راسل أن تحاول أخذ قسط من الراحة ، لعل النوم يساعدها فى التفكير بروية ، إلا أنها أجابته وهى تمسد على رأس سجود :
– أنا هاخد سجود وهروح أزور بيرى ، عايزة أشوفها ، هقعد معاها شوية وبعدين هنرجع على طول
بعد أخذها إذنه بالموافقة على الذهاب لإبنة عمها ، أنتهت المكالمة بينهما ، وأخبرت الصغيرة بأنهما عوضاً عن الذهاب لحظيرة الخيول ، سيذهبان لزيارة بيرى ، فلم ينطفئ حماس سجود رغم رغبتها الشديدة فى إمتطاء جوادها ، ولكن ربما النزهة البديلة ستمكنها من رؤية إناس أخرون ، وربما ستمارس دلالاها على حياء وتجعلها تبتاع لها ما تريد من الثياب ، التى تهوى شراءها بكثرة ، واعتادت هذا الأمر منذ نعومة أظافرها ، إذ كان يعمل أبيها على شراء ما يفيض عن حاجتها من الثياب محاولاً بذلك تعويض تقصيره عن عدم رؤيتها له أوقات طويلة
وصلت حياء لذلك المبنى السكنى ، الذى تقطن به بيرى ، ويتبعها سيارة الحراسة ، فداعبت وجنة سجود وهى تقول بإبتسامة هادئة:
– يلا يا سيجو وصلنا ، إحنا هنزور طنط بيرى وبعد كده هروح أشتريلك كل الفساتين اللى أنتى عيزاها ماشى يا روحى
أماءت الصغيرة برأسها وإستمعت لما قالته وخرجت من السيارة ، صعدتا الدرج حتى وصلتا إلى الشقة ودقت حياء الجرس ، وسرعان ما فتحت لها بيرى وهى تصيح باسمة :
– إيه المفاجئة الحلوة دى ، أهلا يا حبيبتى منورين
بعدما رحبت بيرى بإبنة عمها ، أنحنت وقبلت الصغيرة ودعتهما للدخول ، ولجت حياء وهى تنظر فى الصالة بحذر ومن ثم تساءلت بصوت خافت :
– هو جوزك هنا ولا برا ؟
اجابتها بيرى بنبرة حزينة :
– لاء برا ، بيخرج من الصبح ومبيرجعش إلا بالليل وساعات بنام ومبعرفش بيرجع أمتى
إستدارت إليها حياء ووضعت يدها أسفل ذقنها ، لعلها تنظر إليها بتمعن ، فما تراه على وجهها وسمعته بصوتها الشجى الحزين، جعلها تعلم أى مأساة حقيقية تعيشها هى الآن ، زفرت بخفوت ومن ثم قالت :
– مش أنتى اللى كنتى بتقولى أن الحياة معاه مش هتبقى سهلة ، وأنك لازم تعافرى علشان حبكم
أنسكبت دمعة كبيرة حارة من عينيها ، وإبتسمت قائلة بمرارة :
– مكنتش عارفة أن دماغه بقت ناشفة أوى كده ، بس ولا يهمك أنا وراه وراه لحد ما يسلم
حاولت إضفاء نبرة مرحة على حديثها ، فرفعت يديها ومسحت وجهها ، وطلبت منها الجلوس لحين أن تأتى لهما بالمشروبات المرطبة ، ذهبت بيرى للمطبخ وتبعتها حياء ، التى إستندت بظهرها على أحد الجدران ومن ثم قالت بدون تمهيد :
– بيرى أنا عرفت ايه اللى كان راسل مخبية عليا
وضعت بيرى الأكواب من يدها ، وإستدارت إليها تحثها على قول ما لديها ، فأخبرتها حياء القصة كاملة منذ تصريح راسل لها بأسباب تفكيره فى أن يجعلها تشعر بالكره نحوه ، مروراً بتلك المشكلة التى ستواجههما فى الإنجاب ، حتى عرضه لها بأن تأخذ الوقت الكافى فى التفكير ، وبعد إنتهاءها من الحديث ، عقدت بيرى حاجبيها وسألتها بصدق :
– وأنتى قررتى إيه يا حياء
أغمضت عيـنيها وتنهدت بعمق ومن ثم ردت قائلة كأن ليس هناك سبيل للإختيار :
– تفتكرى هيكون قرارى إيه يا بيرى ، طبعاً هختار راسل
أطرقت بيرى برأسها وغمغمت بخفوت:
– فكرى كويس يا حياء ، لأن الحزن اللى شيفاه فى عينيكى ، بيقول أن رغم أنك واخدة قرارك ، إلا أنك حاسة بضغط ، والقرارات اللى بتتاخد تحت ضغوطات ، ممكن تخليكى تندمى بعدين
لم تشأ حياء التفكير فيما قالته بيرى ، لذلك أرادت إغلاق باب النقاش فى ذلك الأمر ، وحاولت أن تتحدث عن أى شئ أخر ، وبعد قضاء ما يقارب من الساعة ، أخذت سجود وفى نيتها الذهاب إلى أحد المتاجر الخاصة بثياب الأطفال لتبتاع لها ما تريد
بعد ذهاب حياء والصغيرة ، وجدت بيرى نفسها وحيدة كما كانت قبل مجيئهما ، فذهبت للمطبخ لإعداد شطيرة لها لشعورها المفاجئ بالجوع ، ولكنها وجدت أنها بحاجة لبعض الأغراض المنزلية من المتجر المجاور ، فأخذت الهاتف وطلبت ما تريد ومن ثم أعدت لها كوب من مشروبها المفضل ” القهوة بالحليب ”
فلا شئ يؤنسها بليالها ، سوى كوب من مشروبها المفضل ، وجلوسها قريباً من النافذة ، حدقت بالساعة المعلقة على الجدار ، فوجدت الوقت تخطى التاسعة مساءً ، فلما تأخر هكذا بالعودة للمنزل ، خاصة اليوم ، ولكن عادت و تذكرت منذ متى وهو ويعود إليها باكراً ؟ فهو يرحل مع أول خيوط النهار ، ويعود بعد أن يدركها النعاس وهى جالسة بإنتظاره ، فإنتظارها له يشبه إنتظار المطر بموسم الصيف الحار ، والذى تأبى شمسه الرحيل ، فبكت وبدت دمعاتها كسقوط قطرات المطر ، فكلاهما يتشابهان فى الصدق والنقاء ، وكلاهما قادم من الأعماق
سمعت صوت جرس الباب ، أزالت عبراتها وتركت مكانها لترى من القادم ، لعله عامل توصيل الطلبات للمنازل ، قد أتى لها بما سبق وأوصت به إحدى المتاجر المجاورة الخاصة ببيع المستلزمات المنزلية من خضراوات وفاكهة وما شابه
فتحت الباب ولكن أصابتها الدهشة من رؤية صاحب المتجر يحمل لها أغراضها ، فهتفت به بشعور طفيف بالخجل :
– هو حضرتك اللى جايب الطلبات بنفسك
مدت يدها لتأخذ منه الأكياس البلاستيكية ، فأبى أن تحملها وأصر هو على وضعها بالداخل ، فوجدته يقتحم الصالة وهو يقول بصوته القوى :
– لاء عنك أنتى دا الأكياس تقيلة عليكى
رغم شعورها بالإستياء من فعلته ، إلا أنها ذهبت لتجلب له النقود ، فولجت غرفة نومها تبحث عن حقيبتها ، وجدت الحقيبة على منضدة الزينة ، فتحتها وسحبت النقود ، ولكن ما أن رفعت وجهها ونظرت بالمرآة وجدته يقف خلفها قريباً منها
فدارت على عقبيها صارخة به :
– إيه ده أنت إزاى تدخل هنا أنت أتجننت أتفضل أطلع برا
لم يؤثر به صياحها وعلامات الحنق التى أعتلت قسمات وجهها ، فقطع المسافة الفاصلة بينهما وطوقها بذراعيه قائلاً برغبة مجنونة :
– أنتى حلوة أوى وتجننى كمان ، دا أنتى خسارة فى جوزك ده ، صدقينى أنا حبيتك من أول دقيقة شوفتك فيها ، أنا هقدر أسعدك أكتر منه ، أطلقى منه وأنا هتجوزك ، أنا كل ما أشوفك معاه بتجنن
ماذا يقول ؟ وماذا يفعل ؟ فهى تنظر إليه بفزع وخوف، فهو كأنه عاشق مصاب بالهذيان ، وضعت يديها على صدره ودفعته عنها قائلة بحدة :
– أنت إيه اللى بتعمله وبتقوله ده أنت مجنون
إستطاعت التخلص من ذراعيه ، فأطلقت لساقيها الريح لتركض خارج الغرفة ، ولكن ما أن وصلت للباب أصطدمت بزوجها ينظر إليها بعينين قاسيتين ووجه كأنه قد من حجر ، أرتعشت شفتيها وهى تحدق به حائرة مذعورة ، ووقفت أمامه دون حراك وغير قادرة على أن تفه بكلمة واحدة ، ضاعت الكلمات وعقدت الدهشة لسانها وحبست الصدمة كلماتها فى حلقها
إلا أنها سمعت صوت يأتى من خلفها وهو يقول بلامبالاة :
– أنا مش عايزك تفهم الموضوع غلط
حدق بهما بقسوة ومرارة ، فيما غابت الدماء من وجهه ، ثم وثب عليه صارخاً به بعدما طرحه أرضاً وجثى فوق صدره :
– عايزنى أفهم إيه لما ألاقيك مع مراتى وفى بيتى وفى وقت زى ده ، أنا هقتلك هقتلك
حاولت هى فض العراك بينهما ، فتشبثت بذراع زوجها وحاولت جذبه إليها ليتركه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ، فدفعها عنه بقسوة وحدة وأرتطم رأسها بحافة الكومود ، فتأوهت بألم وسقطت مغشياً عليها والدماء تسيل من رأسها بغزارة ، وعى عبد الرحمن على ما فعله بزوجته ، بعدما سمع صيحة ذلك الملقى أسفله ومازال هو جاثماً على صدره ، وما جعله يعى على فداحة فعلته ، أن ذلك الرجل والذى من المفترض أنه صديقه ، أخبره أن ربما بيرى قد لقت حتفها ودل على ذلك غزارة الدماء النازفة من رأسها ، فعند هذا الحد ، كان عبد الرحمن يقفز على قدميه مبتعداً عنه ، وما أن سنحت الفرصة لذلك الخبيث ، هب واقفاً ولاذ بالفرار من الغرفة بل من الشقة بأكملها ، فجثى عبد الرحمن بجوار جسد بيرى الهامد ، ومد يده يربت على وجهها لعلها تهمس له بأى كلمة ، تجعله يتيقن من أنها مازالت على قيد الحياة ، ولكن دماءها التى غطت يده وظل محملقاً بها ، خلقت لديه حالة من الصدمة التى أدت لحالة من البلادة دامت لعدة ثوانٍ ، ولكن عاد يهز جسدها وهو يبكى ويصيح منادياً بإسمها ، ولكن لم يكن هناك إستجابة منها ، فخشى أن تكون تحققت ظنونه ، خاصة بعد أن لمس تلك البرودة التى إجتاحت جسدها وتركتها شاحبة كأن دماءها لم تعد تسرى فى أوردتها
❈-❈-❈
ما أن أنتهى من إرتداء سترته السوداء ، التى تضارب لونها مع قميصه الأبيض المفتوح قليلاً ، أخذ قنينة عطره الفاخر ونثر منها على ثيابه التى توحى بمدى أناقته وثراءه اللامحدود ، وذوقه الراقى فى إنتقاء الثياب ، التى يحرص دائماً على أن تناسب جسده الرياضى ووسامته الفجة الظاهرة للعيان خاصة بملامحه الأوروبية الصرفة ، فلو تحدث بالإيطالية أو أى من تلك اللغات الأجنبية التى يتحدث بها ، لن يشك أحد فى أمر أنه غربى الأصل والمنشأ ، ولكن الحقيقة خلاف ذلك ، فرغم قضاء سنوات طفولته ومراهقته وشبابه فى صقلية ، إلا أنه ما أن يتفوه بكلمة باللغة العربية وخاصة اللهجة المصرية العامية ، يجعل المستمع له يشك فى أمره ، ولطالما أثار ذلك الأمر حباً لديه ، كأنه مستمتعاً بجعل من يقف أمامه فى حيرة من أمره ، إلا أنه ما أن تذكر معشوقته ، التى بصدد الذهاب الى منزل أسرتها الآن لإتمام خطبتهما ، تمنى لو كان نشأ وترعرع هنا فى إسكندرية وأن يكون ألتقى بها منذ نعومة أظافرها ، لعل ذلك كان سيساهم بتغيير الكثير من الأمور فى حياته
دقائق معدودة ويراها أمامه وستظل له ما تبقى منه عمره ، وعند هذا الحد من التفكير ، شعر بأنه يحلق فى الهواء ، وأن قدميه لا تلامسان الأرض ، قضم سبابته ما أن تذكر تلك الطقوس الخاصة بالخطبة ، والتى لابد أن يكون على علم ودراية بها ، فحتما سيتوجب عليه أولاً قراءة الفاتحة قبل البدء فى مناقشة أمور الزواج ، وهو لم يحفظ شيئاّ من القرآن، الذى من المفترض أن يكون على علم به حتى ولو اليسير منه بحكم أنه شاب مسلم ، ولكنه وجد الحل سريعاً ، إذ أخرج هاتفه وبحث عن فاتحة الكتاب وبدأ بحفظها وربما ساهمت سرعة بديهته فى أن يحفظ الأيات الكريمة
خرج من غرفته بأحد الفنادق الفاخرة ، لكونه لم يشأ أن يظل فى المنزل وتعلم حياء أو بيرى أنه لم يسافر كما سبق وزعم أنه سيسافر لأجل أمر هام ، قاد سيارته وهو مازال يردد أيات سورة الفاتحة ، ولكن كلما أمعن فى معنى الكلمات تنتابه حالة من الفضول لفهم معناها
وصل لذلك الحى الذى تقطن به محبوبته ، فخرج من السيارة وحمل الهدايا التى إبتاعها من أجلها هى وأسرتها ، ومن ثم ولج لداخل المنزل وضغط زر الجرس
فتح له والدها الباب قائلاً بإبتسامة بشوشة :
– أهلاً وسهلاً يا إبنى أتفضل نورتنا
أنبسطت أساريره ما أن رآى إستقبال والد عروسه الودود له ، فإطمئن وولج للداخل ووضع ما بيده قائلاً بإبتسامة عريضة :
– دا نورك يا عمى
إستقبله بلال هو الآخر مرحباً بقدومه ، ودعاه للجلوس ، فجلس على يساره بينما جلس أباه على يمينه ، فتمنى ديفيد أن تنتهى تلك الليلة بسلام خاصة وأنه صار جالساً بين والد ياسمين وشقيقها ، كأنه يجلس بين إثنان من المحققان ، واللذان يبدو عليهما أنهما لن يتركانه حتى يحصلان على ما يريدان من معلومات بشأنه وشأن عائلته وعمله وكل ما يمت له بصلة
حك بلال ذقنه ومن ثم قال متسائلاً بتعجب لم يستطع إخفاءه بنبرة صوته :
– استاذ تميم أنت بتقول إنك غنى ورجل أعمال ، بس أنا لما سألت عليك ملقتش أى معلومات خالص ، حتى أنا تقريباً عارف معظم رجال الأعمال فى إسكندرية لأن بشتغل مع عاصم النعمانى ، حتى لما سألته أنه يعرف حد بالاسم ده قالى لاء
هذا ما كان يخشاه ديفيد ، فأى أحمق هو إن ظن أن أسرتها ستوافق على زواجه منها دون أن يحصلوا على المعلومات الكافية عن زوج إبنتهم المستقبلى ، ولم يكن ذكر إسم عاصم النعمانى يثير به الدهشة ، فهو سبق له معرفة ما يخص عائلتها سواء أبيها أو شقيقها أو والدتها
إبتسم ديفيد إبتسامة هادئة أبعد ما تكون عن تلك الفوضى التى ثارت بداخله من قول بلال ، فرد قائلاً بثقة أجاد إستخدامها :
– استاذ بلال أنا قولتلكم أنا فعلاً غنى ورجل أعمال بس مش هنا فى إسكندرية ، لاء فى صقلية – إيطاليا ، وإن انا عشت عمري كله هناك لما أهلى اتوفوا فى حادثة ، لأن جدتى أم بابا كانت من صقلية ، ولما كنت هنا فى اجازة مرة وشوفت الانسة ياسمين عجبتنى ، بس لما عرفت انها اتخطبت سافرت ورجعت تانى وكان ليا نصيب اشوفها تانى ، انا مكنتش برجع إسكندرية إلا اجازات كام يوم وبس ، بس دلوقتى قررت انقل شغلى كله هنا لو اتجوزت انا وياسمين ، لأن قولت كفاية غربة لحد كده ودلوقتى هيبقى عندى سبب أن استقر هنا ، بعد مكنتش طايق البلد علشان اهلى مش فيها ، حتى فى صقلية بدير شركة بإسم ” ديفيد دانيال ” وده إسم أخو جدتى والشركة كانت بتاعته وملوش ورثة غيرها واتنقلت الشركة ليا بحكم إن وريث جدتى ، ودى بطاقتى الشخصية أهى بإسم تميم
حاول إدماغ كذباته بدليل واضح وصريح من أنه لم يخبرهما سوى الحقيقة ، فأخرج هويته الشخصية وهاتفه من جيب سترته ، ناول الهوية لوالد ياسمين ، وبحث فى هاتفه عن إسم تلك الشركة التى يمتكلها ، وناول الهاتف لبلال ليستطلع على كافة المعلومات حول إمتلاكه لشركة خاصة بالإستيراد والتصدير
– بس متأخذنيش ده مش دليل كافى إن يخلينى أتأكد من كلامك
قال بلال بصراحة متناهية ، فشقيقته أغلى ما يملك بعد أبويه ، لذلك لن يوافق على زواجها من أول رجل يطرق بابهم دون أن يتحرى كافة المعلومات عنه
ضيقا عليه الخناق بأسئلتهما التى لم يكفان عن طرحها ، وحاول هو قدر إمكانه أن يتحلى بالصبر حتى لا يقوم من مكانه ويصرخ فى وجهيهما ، بأنه لا يريد منهما سوى معشوقته ، حتى لو اضطره الأمر بأن يعطيهما كافة الضمانات القانونية اللازمة بأن يطمئنان على أنها ستحيا سعيدة ومدللة ومترفة بثراء لا حد له
ولم يلجم لسانه الذى أوشك على أن ينفلت عقاله ، سوى رؤيتها قادمة إليهم تحمل صينية المشروبات ، وتبدو وهى تسير كالعازفة على أوتار قلبه بألحان جعلته يأخذ أنفاسه بصعوبة ، وكأن ليس هناك سبيل من تفادى ذلك الشعور بالإشتياق ، والذى جعل عليه من العسير أن يتنفس براحة ، فكيف له أن يعثر على الراحة وهى باتت على بعد عدة خطوات منه ، ولا يفصلهما سوى منضدة صغيرة ولكن هناك عوائق أخرى ، لم يرد التفكير بشأنها الآن
أتت والدتها من خلفها وهى تقول باسمة :
– أهلاً وسهلاً بيك يا إبنى ، أتفضل
أشارت إليه بأن يأخذ كوب المشروب ، بعدما وضعت ياسمين الصينية على المنضدة وجلست بالقرب من أبيها ، تفرك يديها بقماش ثوبها وتتفادى النظر إليه ، ولكن إستطاعت تمييز رائحة عطره الفواحة ، خاصة أنها تعلم أى من العطور يستخدمها أبيها وشقيقها ، فزاد إضطرابها أكثر ، خاصة بعد تلك اللمحة الخاطفة التى ألقتها عليه ومن ثم عادت تطرق برأسها أرضاً ، ولكن كانت النظرة كفيلة بأن تجعل حواسها تستيقظ فجأة وتعى على مدى وسامته وأناقته
فهمست بقرارة نفسها :
– إهدى يا ياسمين ، هو أه حلو ووسيم بس الحلاوة والوسامة مش كل حاجة ، بس إيه الاحساس الغريب اللى أنا حساه ده
يبدو أنها شردت بأفكارها وحديثها الصامت ، ولم تنتبه إلا على رنين جرس الباب ، فنهضت والدتها لترى من الزائر لهم فى هذا الوقت ، فتحت الباب بإبتسامة سرعان ما تلاشت شيئاً فشيئاً بعد رؤية من يقف أمامها ، حملقت فى وجهه مشدوهة ومن ثم نظرت إلى غرفة المعيشة،لتطمئن أن لا أحد بإمكانه رؤيته
فعادت ببصرها إليه ورمقته بنظرة حادة ، وتساءلت بصوت خافت ملأه الجفاء والضيق والرغبة الشديدة فى أن ينصرف :
– أنت إيه اللى جابك هنا دلوقتى وعايز إيه ؟
❈-❈-❈

  •تابع الفصل التالي "رواية لا يليق بك إلا العشق الجزء الثاني2" اضغط على اسم الرواية 

google-playkhamsatmostaqltradent