رواية ميثاق الحرب و الغفران الفصل الحادي والعشرون 21 - بقلم ندى محمود
((ميثاق الحرب والغفران))
_ الفصل الواحد والعشرون_
كانت منخرطة في نوبة بكائها الصامت وأناملها مازالت تتجول فوق وجنتها، لكنها توقفت واضطربت بشدة عندما فتح عينيه على أثر لمساتها، لم يلبث ليدرك وضعها ويفوق من نعاسه حتى وجدها بسرعة تستدير وتوليه ظهرها.. لكن منظر وجهها الغارق بالدموع ولمساتها المرتجفة فوق وجهه كانوا أكثر ما يدركهم، حيث اعتدل في نومته مضيقًا عينية بحيرة وقلق وهو يسألها:
_مالك بتبكي ليه؟
استمرت في بكائها دون إجابة فأعتدل هو وهب جالسًا فوق الفراش ثم مد يده لكتفها يديرها باتجاهه في رفق هاتفًا:
_آسيا!
رفعت أناملها لوجنتيها وجففت عبراتها ثم استقامت هي أيضًا جالسة لكن وضعها لم يتحسن بل ازداد سوءًا، كانت تشيح بوجهها للجانب تبكي بقوة وجسدها تعتريه نفضة عنيفة ولم تكن تتفوه بكلمة واحدة حتى لتفهمه سبب كل هذا الانهيار والبكاء العنيف، تسلل القلق الحقيقي لصدره وأصبحت ملامحه صلبة على عكس نبرته اللينة التي حافظ عليها حتى لا يزيد من الوضع سوءًا.. لف ذراعه حول كتفيها وهتف بنبرة مترقبة ومهتمة:
_آسيا إيه اللي حُصل ردي عليا؟!
لمسته أشعرتها بالدفء رغم الوغزة البسيطة التي صابتها فور ملامسته لجسدها إلا أنها أحبتها بشدة.. فرفعت رأسها وتطلعت إليه بوجه غارق بالدموع وعينان مغلوبة، شعرت باحتياجها له ولم تتردد للحظة في تلبيه رغبة قلبها حيث مالت عليه ببطء ووضعت رأسها فوق صدره ليتحول بكائها الصامت إلى نحيب مسموع فور تذكرها لكلمات فريال، ضمها لا إراديًا وحاوطها بذراعيه وبعد ثواني معدودة مد أنامله وأمسك بطرف ذقنها يرفع وجهها عن صدره لكي يصبح في مواجهته ويسالها هذه المرة بنظرات يظهر بها الغضب الحقيقي والانزعاج:
_في حد عملك حاچة أو ضايقك؟
هزت رأسها له بالنفي دون أن يخرج صوتها وعادت تدفن وجهها بين ثنايا صدره من جديد فتسمعه يقول بضيق:
_امال في إيه ردي عليا ساكتة إكده ليه؟!
خرج صوتها الضعيف أخيرًا:
_مفيش حاچة
رفع حاجبه بعدم فهم وحيرة من أمرها بينما هي فهمست بنبرة رقيقة تحمل بحة البكاء:
_عمران
تابعت بعد ذلك بندم وبكاء دون أن تتجرأ على رفع رأسها والنظر بعينيه:
_سامحني
أجابها بنظرة مستفهمة تطرح الأسئلة:
_على إيه؟!
تحلت بالجرأة هذه المرة ورفعت رأسها عن صدره وتطلعت بوجهه وعينيه في عمق هامسة بعينين تظهر صدق ندمها:
_على كل اللي عملته معاك.. مكنتش أعرف إنك ملكش يد في قتل أبويا والله كان الغضب عامي عيوني ومنظر أبويا وهو غرقان في دمه هو الحاجة الوحيدة اللي كنت شيفاها وكنت عاوزة أخد حقه واريحه.. أنا عمري ما كنت اقدر أذي حيوان حتى معرفش كيف كنت عاوزة اقتل إنسان.. عارفة أن اللي عملته معاك مش هين ويمكن ملوش غفران كمان بس لو كان چرالك حاچة مكنتش هسامح نفسي
طالت نظرته الثاقبة إليها وهو يستمع لاعتذارها وندمها ثم أطلق تنهيدة حارة ورفع أنامله يبعد خصلاتها المتمردة عن عينيها ويسألها باسمًا:
_لو مكنتش سامحتك وغفرتلك يا آسيا مكنتش هدخلك بيتي واخليكي على ذمتي لحظة واحدة.. بس أنا اعتبرت أفعالك دي غباء وتهور من ست عواطفها بتسيرها ومش فاهمة ولا عارفة عواقب اللي بتعمله وعشان إكده عديتلك في المرة الأولى اللي عملتيه لكن صدقيني لو مكنتش غفرت كنتي هتقولي چحيم ناسي أهون عليا مليون مرة من راچل كيفك
هزت رأسها بالنفي هاتفة في خفوت جميل ونظرة تحمل معاني مميزة:
_عمري ما كنت هقول إكده
ضحك وهتف رافعًا حاجبه اليسار بمكر يضمره خلف قسماته الجادة:
_ليه؟
التزمت الصمت وسكنت تمامًا فقط أخذت تتمعنه بنظراتها المضطربة وعقلها الذي يبحث عن رد أو كذبة بالمعنى الأدق دون أن تعترف له بحقيقة مشاعرها تجاهه، كانت نظراته الرجولية العميقة تركبها أكثر وتسحبها لأعماق محيط عواطفها ولو كانت بقيت بين ذراعيه واستمرت في التحديق به للحظة أخرى كانت ستفرغ كل ما يملأ صدرها في وجهه.. فابتعدت عنه بسرعة كالتي لدغها عقرب وقالت بتلعثم وعينان زائغة:
_ أنا هروح الحمام اغسل وشي
لم يجيبها واكتفى ببسمته اللئيمة ثم تابعها وهي تهرب منه وتتوارى خلف باب الحمام، بينما هي فوقفت واستندت بظهرها على الباب وهي تبتسم باستحياء رغم أن كلمات فريال لا تزال عالقة بذهنها لكنها أبت أن تفسد عليها جمال لحظتها وفقط ما جعل وجهها يعبس مرة أخرى هو شعور الفراغ والبرودة الي يحتاجها بعدما خرجت من بين ذراعيه فليتها تسكن به ولا تبتعد عنه أبدًا.. ولكن مع الأسف كيف سيحدث إذا كان هو لا يبادلها نفس المشاعر.
***
داخل غرفة الصالون بمنزل خليل صفوان، كان جلال جالسًا فوق الاريكة وبيده سيجارة يضعها بين أسنانه ثم يخرجها وينفث معها الدخان بقوة للخارج، لقائهم معًا ونظراتها وكلماتها لا تغادر عقله كل كلمة تفوهت به تتكرر دون توقف، لو كان يعاني من الآم قلبه في السابق فالآن تحول الألم لجرح ينزف الدماء بغزارة، نعتها له بالخائن يمزقه.. نظرات الكره والنفور التي استقرت في عينيها اصابته في مقتل ليتها طعنته بسكين حاد بدلًا من تلك النظرات القاسية.
المظلوم أصبح ظالم!
انفتح الباب وظهرت منيرة من خلفه ثم تقدمت نحوه وجلست بجواره في صمت للحظات قبل أن تمد يده وتمسك بيده هامسة:
_إيه اللي مضايقك ياچلال.. مش قادرة اتحمل أشوفك إكده
سحب يده ببطء من أسفل يده ثم ربت فوق ظهر كفها بلطف هامسًا في بسمة متكلفة:
_مفيش حاچة يامنيرة.. مشاكل الشغل اطلعي أنتي نامي وريحي
زمت شفتيها بعبوس وقالت في يأس:
_وأنت مش هتاچي تنام؟
تنهد بقوة ثم زفر أنفاسه الحارة في عدم حيلة ليجيبها بنبرة خالية من أي مشاعر:
_اطلعي وأنا چاي وراكي كمان شوية
اماءت له بالموافقة وهي مازالت تحتفظ بملامحها العابسة والبريئة لكن فور وقوفها وانصرافها تحولت ملامحها لأخرى كلها نقم وحقد على فريال وتقسم من داخلها أنها ستمحيها من عقله وقلبه للأبد لكن أولًا يجب عليها التخلي عن تلك الأمور الخاصة بالخجل والحياء فإن استمرت فيها لن تكسبه مطلقًا.
خرج جلال بعدها بدقائق وقاد خطواته للأعلى حيث غرفته لكنه توقف بالطابق الثاني تحديدًا أمام غرفته هو وفريال واقترب منها بخطوات ثقيلة، فتح الباب ودخل ووقف يدور بنظره على كل ركن بها فَجَرت مشاهدهم الغرامية وحبهم أمام عينيه التي تلألأت بالعبرات دون وعي منه وسقطت دموعه فوق وجنتيه، رفع كفيه وكفكف دموعه محافظًا على صلابته من جديد حيث انصرف وأغلق الباب ثم أكمل طريقه للطابق الثالث نحو غرفته مع زوجته الجديدة.. هو من اقحم نفسه بذلك الوضع وسيتحمله رغمًا عنه.
فتح الباب ودخل فوجدها متسطحة فوق الفراش شبه نائمة وترتدي ثوب وردي قصير وبحمالات فوق الكتفين ينزل بفتحة مثلثية عند الصدر يظهر داخلها بوضوح.. تجاهل ما رأته عيناه تمامًا وتصرف بكل برود كأنه لم يرى شيء وبدأ في تبديل ملابسه ثم اقترب من الفراش وتمدد على الطرف الآخر منه ينوي النوم.. لكن الأخرى كانت قد عزمت على أن تتخلى عن خجلها منه حيث اقتربت منه في الفراش ورفعت جسدها قليلًا ثم دخلت بين ذراعيه تضع رأسها فوق صدره.. اصابته الدهشة من تصرفها الجريء الذي أدرك الهدف منه جيدًا وما تسعى إليه ليزفر بخنق وبقى ساكنًا لم يحرك يده أنشًا واحدًا ولم يحاوطها.. بينما هي فقد ابتسمت بنصر وسعادة وأغلقت عيناها تنوي النوم بعدما وجدته لم يبعدها عنه.
دقائق قصيرة وقد ذهبت هي بسبات عميق وهو على وضعه بنفس السكون يتطلع في السقف بشرود فقط يفكر بحبيبته، وحين أنتبه أنها نامت تنهد الصعداء وأبعدها عنه برفق يضع رأسها فوق الوسادة ليبتعد ويصنع مسافة بينهم ثم اغلق هو الآخر عينيه راغبًا في النوم هربًا من كثرة التفكير والهموم التي تلازمه.
***
بصباح اليوم التالي......
دخلت جليلة على غرفة أحفادها ووجدت معاذ يجلس فوق فراشه يذاكر دروسه رغم أن اليوم إجازة من الدوام المدرسي لكن موعد الدرس الخصوصي بعد ساعات ويجب عليه حل واجبه قبل الذهاب للدرس.
جلست بجواره على الفراش وقالت مبتسمة:
_درسك ميتا يامعاذ؟
معاذ بنبرة طبيعية:
_الساعة 12 ياستي
سألته جدته بترقب:
_طيب تلفونك اللي چايبهولك أبوك معاك
نظر لها وهز رأسه بالإيجاب ليسمعها تسأله مرة أخرى بنظرة ضائعة:
_معاك رقم عمتك آسيا؟
عاد وهز رأسه لها بالإيجاب مرة أخرى دون أن يفهم سبب اسألتها بينما جليلة فقد لمعت عيناها وظهر وميض مختلف بهم قبل أن تقول بجدية:
_ طيب اتصل بيها دلوك واطمن عليها
معاذ بكل عفوية وابتسامة جميلة:
_طيب أنا هتصلك بيها وأنتي كلميها ياستي؟
هزت بالرفض وقالت مسرعة في حدة:
_ لا مينفعش اكلمها أنت كلمها وأنا هقعد چارك وافتح اللي اسمه مكبر الصوت ده عشان اسمعها
كان يحدق بجدته في استغراب وجهل لسبب رفضها التحدث مع ابنتها لكنه نفذ ما طلبت والتقط هاتفه وراح يبحث عن رقم عمته وفور عثوره عليه كان سيضغط على اتصال لكن جليلة امسكت بيده وقالت تحذره بصرامة:
_بس اوعاك تقولها أن أنا چارك وسامعاها
هز رأسه بالموافقة لجدته وهو يزم شفتيه بعدم فهم ثم ضغط على زر الاتصال ومن بعدها ضغط على فتح مكبر الصوت فارتفع صوت الرنين وهم ينتظرون الرد من آسيا التي أجابت بعد وقت:
_الو مين؟
ابتسم معاذ ورد بتلقائية:
_أنا معاذ ياعمتي
تهللت أسارير آسيا على الجانب الآخر وقالت بحنو:
_ بتتصل من وين يامعاذ؟
_ ده تلفوني أبويا چبهولي عشان اكلمه لما أكون عاوز حاچة وهو مش في البيت
ضحكت بخفة بينما معاذ فنظر لجدته وهو يسألها بنظراته ماذا يقول فأشارت له أن يتحدث بأي شيء.. فعاد للهاتف وسأل عمته بشوق فور تذكره أمه:
_أمي عاملة إيه.. هي چارك؟
تبدلت نبرة آسيا من المرح واللين لأخرى عابسة وهي تجيب ابن أخيها:
_ أمك زينة ياحبيبي اطمن.. هي مش چاري دلوك شوية هخليها تكلمكم.. أنت طمني كيفكم في البيت مرت أبوك دي بتضايقك أنت وأخوك ولا حاچة؟
رد على عمته بخنق وقرف:
_لا احنا أصلًا مش بنكلمها ولا بنقعد چارها في مكان واحد
سمع عبارة آسيا القوية وهي تقول بفخر:
_چدع ياواد خليكم إكده علطول اوعاكم تضحك عليكم بكلمتين
ثم همست بين نفسها بصوت منخفض في غيظ:
_راچل مش كيف أبوك چبان
كانت جليلة تستمع لها وعيناها غارقة بدموع الشوق والحب لم تهتم لتحريضها لابن أخيها على زوجة ابيه التي اختارتها هي له.. هي فقط كانت تشبع قلبها من سماع صوت ابنتها التي غاب عنها لوقت طويل.. وتدخل السكينة والطمأنينة له بعد الأحلام المزعجة التي كانت تراودها الأيام السابقة عن ابنتها، سمعتها بالنهاية بعد وقت من تحدثها مع ابن اخيها وهي تقول له بحنو:
_أنا هقفل عشان خالك عاوزني وأنت خد بالك من أخوك وبعدوا عن الحرباية اللي اسمها منيرة دي
ضحك على نعت عمته لزوجة أبيه بالحرباء وودعها بكل حب ثم انهى الاتصال وعندما التفت تجاه جدته وجد وجهها غارق بالدموع فاتسعت عيناه بدهشة ولم يلبث ليسألها ماذا بها حتى وجدها تنحنى على رأسه وتلثم شعره بحنو هامسة في صوت مبحوح:
_كمل مذاكرتك ياولدي عشان تلحق تخلص قبل درسك
ثم استقامت واقفة وغادرت تتركه يفكر بفضول وعدم فهم لكنه لم ينشغل بالتفكير كثيرًا وراح يكمل مذاكرته...
***
وقف عمران أمام باب غرفة فريال ورفع يده يطرق عدة طرقات خفيفة متتالية وينتظر ليسمع صوتها الذي أتاه بعد لحظات، ففتح الباب ودخل بكل هدوء ثم اقترب منها وجلس على طرف الفراش بجوارها وراح يتمعنها بنظراته الدقيقة، كانت تمامًا كالجسد الذي بلا روح،عيناها منتفخة من فرط البكاء ونظراتها ضائعة ووجها كالزهرة الذابلة، فتنهد الصعداء بضيق وفرد ذراعه يلفه حول كتفيها ويضمها لصدره مقبلًا شعرها بحنو هامسًا:
_ميستاهلش تعملي في روحك إكده عشانه يافريال
هتفت بصوت يغلبه البكاء:
_عمري ما كنت أتخيل أن چلال يعملها ويتچوز عليا مهما حصل بينا، ده كان لما كنت بچيب سيرة الموت وأقوله لو موت متفضلش لحالك واتچوز أنا مسمحاك كان بيتعصب من مچرد ما يسمع كلمة چواز ولا فراق
ابتعدت برأسها عن صدر أخيها وتطلعته بعينين تملأها العبرات:
_كيف عملها ياعمران.. كيف قدر يتچوز عليا، كسر قلبي وعمري ما هسامحه على اللي عمله فيا
مال عمران برأسه على وجهها وقبَّل جبهتها بكل دفء هاتفًا في لهجة رجولية لا تحمل المزاح:
_ابويا كان عنده حق هو وأمي لما كانوا عاوزينك تطلقي منه.. أنا كنت رافض عشان عارف انكم بتحبوا بعض بس بعد اللي عمله هو ميستهالكيش
أجفلت نظراتها أرضًا وردت بعجز وقهر:
_أنا دلوك مش بفكر في أي حاچة ياعمران.. هملوني لحالي لغاية ما أهدى وارچع كيف ما كنت وبعدين هقولكم أنا عاوزة إيه
تنهد الصعداء بقوة ثم أجابها بجدية:
_طيب خدي وقتك يافريال، بس اعملي حسابك أن أنا أول واحد هيقف قصادك لو فكرتي ترچعيله.. بعد الحالة اللي أنا شايفك فيها دي معدش چوازك منه ليه فايدة، اللي يزعلك ويدوسلك على طرف كأنه داسلي أنا على طرف وحسابه معايا عسير
أنهى عبارته وعاد ينحنى عليها من جديد يلثم رأسها متمتمًا ببسمة جميلة:
_قومي يلا عادي اغسلي وشك وطلعي روحك من الحالة دي عشان عيالك.. مش عاوز آجي تاني اشوفك على نفس الوضع
تطلعت لأخيها بامتنان وحب صادق وهي تبتسم له وتوميء بالإيجاب على طلبه.. بينما هو فألقى عليها نظرة أخيرة ببسمته ثم انصرف وغادر غرفتها...
***
كانت آسيا بطريقها للطابق الأرضي حيث المطبخ وأثناء مرورها من جانب غرفة منى سمعت صوتها تهتف:
_ آسيا !
توقفت آسيا وبقت مكانها دون حركة وقد تبدلت ملامحها للاشمئزاز، وبعد لحظات استدارت بجسدها نحوها وهي تتأفف عاقدة ذراعيها أسفل صدرها، بينما الأخرى فكانت تتطلعها مبتسمة بشيطانية وتقف داخل غرفتها.. لوت آسيا فمها بنفاذ صبر بعدما فهمت أنها تريد التحدث معها بالغرفة بعيدًا عن مسامع وأنظار الجميع فتقدمت نحوها ودخلت الغرفة لتقف عند عتبتها مردفة بقرف:
_خير عاوزة إيه ولا لساتك محرمتيش من حبسة الأوضة
ضحكت منى بلؤم وسألتها بكل تبجح:
_عمران عمل إيه لما عرف إنك حبستيني
طالت نظرة آسيا المميتة لها قبل أن تبتسم بثقة وتجيبها:
_باس على راسي وقالي ولا يهمك ياروح قلبي.. في ناس متربتش إكده تستاهل أحيانًا
رغم نيران الأخرى التي اشتعلت لكنها حافظت على برود أعصابها وتابعت في محاولاتها لإثارة جنون آسيا حيث هتفت بعين تلمع بوميض المكر:
_وياترى بعد اللي هتعمليه دلوك هيسكتلك كمان ويقولك ولا يهمك ولا هياخد موقف
لم تفهم تلمحياتها الشيطانية لكنها بالفعل كما توقع منى ثارت وهاجت عواصفها حيث اندفعت نحوها وانقضت عليها تقبض على ذراعها بكل عنف صائحة بها:
_شكلك مش هتجبيها لبر معايا.. وقولتلك ميت مرة خليكي بعيدة عن جوزي بس باينلك مش بتفهمي بالحسنة ولازم تشوفي وشي التاني
كان الثبات الأنفعالي والهدوء يستحوذ على منى بشكل غريب حتى أنها ضحكت بقوة ودفعت يد آسيا عنها وتقهقهرت بخطواتها البطيئة للخلف وهي تبتسم بخبث.. لكن ما حدث بعد كان أكثر صدمة بالنسبة لآسيا !
رأتها تندفع نحو حافة الخزانة الخاصة بها وتضرب جبهتها بها وسط صراخها العالي:
_بعدي عني يا آسيا.. يامرت خالي الحقيني.. بعدي عني آااااااه.. ياعمراااان الحقوني هتموتني
أظلمت عيني آسيا وتحول وجهها ليصبح كالأشباح المرعبة.. نظراتها كانت قاتلة لمنى وهي تتابع المسرحية التي تمثلها أمامها باحترافية، لم تتحرك أنشًا واحدًا من مكانها فقط أستمرت في متابعتها عاقدة ذراعيها أسفل صدرها.. تنتظر لترى نهاية ذلك المشهد التمثيلي إلى أين سينتهى وتلك الافعى متى ستتوقف عن أذية نفسها مدعية أن آسيا ما تفعل.
سقطت منى على الأرض وهي مستمرة في صراخها وامزجته ببكائها.. أما رأسها فقد تأذت بشدة والدماء أصبحت تسيل منها وباللحظة التالية كان الباب ينفتح وتقتحم الغرفة إخلاص ومن خلفها عمران.. ركضت نحو منى الساقطة فوق الأرض وهي تصيح بزعر بعدما رأت دماء رأسها:
_إيه اللي حُصل يامنى؟!!
ردت بصوت مرتجف وسط بكائها وهي تتصنع البراءة:
_آسيا دخلت عليا ولقيتها بتهب فيا وبتقولي امشي من بيتي مش عاوزاكي فيه وبعدي عن جوزي ياخطافة الرجالة وبعدين خبطتني في الدولاب
كان الهدوء المريب يهيمن على آسيا التي تستمع وتتابع مسرحيتها الاحترافية.. لم تبذل مجهود لتدافع وتكذب ما تدعيه تلك الوغدة، بينما عمران فكان هدوءه هدوء ما قبل العاصفة يتابع ما يحدث وعيناه المرعبة تنتقل من بين ثلاثتهم.
وثبت إخلاص واقفة واندفعت نحو آسيا تصرخ بها بانفعال:
_بيتك منين.. هاا مين أنتي عشان تقولي للي في بيتي امشي وأقعد ده بيتي وبيت ابراهيم الصاوي ومش هيكون بيتك لو اطبقت السما على الأرض.. جواز ولدي منك كان غلطة وأنا بنفسي هصلحها واخليه يطلقك قريب قبل ما تعملي في حد فينا مصيبة وتقتليه
لم تتفوه ببنت شفة ولم تجيبها فقط حافظت على برودها لتكفتي بنظراتها المميتة لمنى فكانت قد تحولت الساحرة الشريرة تمامًا والوعيد والشر الذي يلمع في عينيها كان ينذر بالجحيم القادم.
اقترب عمران من أمه وهتف بصوت محتقن وهو يحاول تمالك أعصابه:
_شوفي منى ياما واطمني عليها وعلى الجرح اللي في راسها ده
رمقت إخلاص ابنها بغيظ وابتعدت عن آسيا لتقترب من منى مرة أخرى وتساعدها على الوقوف حتى تجلس على الفراش.. بينما هو فرمق آسيا بنظرات قذفت الرعب في بدنها وبلحظة كان يقبض على ذراعها ويجذبها معه للخارج متجهًا نحو غرفتهم.
***
دفعها لداخل الغرفة بعنف ودخل خلفها ثم اغلق الباب واندفع نحوها كالثور الهائج صارخًا:
_إيه اللي عملتيه ده اتچنيتي!!!
رغم خوفها من ثورانه المخيف إلا أنها وقفت أمامه بكل ثبات وقالت:
_ معملتش حاچة ياعمران
عاد صوته الجهوري يصدح بأرجاء الغرفة وهو يهتف مستهزءًا منها:
_هي ضربت روحها وفتحت راسها بنفسها بقى طالما أنتي بريئة ومعملتيش حاچة
استاءت واحتدمت نظراته وهي تجيبه بصدق وشجاعة:
_ايوة هو ده اللي حُصل فعلًا هي فتحت راسها بنفسها عشان تقول أنا اللي عملتها
طالت نظرته النارية لها، كان يظهر بوضوح على قسمات وجهه أنه لا يصدقها وظن أنها تكذب عليها لتخفي فعلتها مما زاد من جموحه وجنونه أكثر فراح يقبض على ذراعها بكل قوته وعنفه صارخًا:
_اوعاكي تكذبي عليا فاهمة ولا لا.. صدقيني هقطعلك لسانك واصل ده.. انتي إيه بدل ما تعترفي بغلطك وتخلي عندك دم وتروحي تعتذري منها واقفة قصادي بتقولي معملتش حاچة وحاطة عينك في عيني وبتكذبي.. قسمًا بالله يا آسيا لو ما اتظبطي ومشيتي عدل لأكون موريكي النچوم في عز الضهر.. قولتلك مليون مرة إهنه مش بيت ابوكي اللي هتعملي فيه اللي على هواكي ومهتلقيش حد بيوقفك عند حدك
كانت كلماته قاسية ورغم الألم الذي يجتاح ذراعها من قبضته العنيفة وكأنه يعتصره إلا أنها أخفت ألمها حتى خوفها منه تبدد وحل محله الحزن من عدم تصديقه ووعيده لها بعقابه العسير، غامت عيناها وردت عليه بصوت مبحوح:
_صحُ ده مش بيت أبويا ده بيت الراچل اللي قتله وعمره ما هيكون بيتي كيف ما قالت أمك.. ابوك اللي عامل قصادنا الملاك الطاهر وهو شيطان في هيئة بني آدم و......
انفجر بركانه وتحول لجمرة مشتعلة وبلحظة غضب رفع يده بالهواء وكان سيهوى بها فوق وجنتها لكنه توقف على آخر لحظة ويده معلقة في الهواء، أغلق على قبضته بقوة وهو يشتعل من فرط غضبه ولم يجد بجواره شيء سوى الحائط ليفرغ به غيظه فضرب بقبضته فوقه وهو يصرخ بها بصوت رجولي ارعبها:
_الموضوع ده لو اتفتح قصادي تاني وسمعت الكلام ده منك قولي على روحك يارحمن يارحيم.. فاهمة ولا لا
أشاحت بوجهها للجانب بعيدًا تخفي دموعها التي انسابت فوق وجنتيها من فرط الضيق والخوف بينما هو فاقترب ومال على أذنها يهمس بنبرة قاسية:
_متصغريش روحك قصادي وقصاد الكل بسبب غيرتك من منى.. الكل عارف زين سبب چوازنا ووضعنا كيف
تجرعت قسوته وإهانته بكل قوة رغم تمزق قلبها لكن هيهات أن تظهره له بعد سخريته من غيرتها عليه، استدار هو وهم بالاندفاع لخارج الغرفة بعدما أنهى عبارته لكنه توقف على أثر صوتها وهي تقول بكل شموخ وبغض:
_مش أنا اللي اغير من واحدة كيف بت عمتك العقربة دي.. واحدة ناقصة متعرفش العيب ولا الغلط من الصُح.. ولو فاكر إني غيرانة عليك فمتتوهمش، الغيرة دي لما يكون في حب بس أنا بكرهك ومبطيقكش ياعمران ومستنية اليوم اللي اتطلق فيه منك.. ووقتها هبقى اقف چار أمك وهي بتچوزك من منى أصلها شبهكم
ثار بعد عبارتها الأخيرة وكان سيفقد أعصابه مجددًا عليها لكنه تملكها بصعوبة ورحل صافعًا الباب خلفه.. يتركها تقف ثابتة للحظات قبل أن تنهار باكية بألم....
***
داخل منزل خليل صفوان.......
بحث جلال عن أمه بالمنزل ولم يجدها وبالأخير قرر الإتجاه للمطبخ وفور دخوله وقع نظره على منيرة وهي تقف أمام الطاولة وأمامها صحن ممتلئ بورق العنب، فتصلب مكانه وثبت عيناه على الصحن بحزن ليجدها تقترب منه وتمسك بيده هامسة في دلال:
_أمي جليلة قالتلي إنك بتحب ورق العنب وعملتهولك بيدي النهاردة
لم يلتفت لها ولم يعيرها اهتمام وغاص بذكرياته سابحًا في الماضي الجميل له مع زوجته وحبيبته...
فتحت فريال الباب ودخلت وهي حاملة فوق يديها صينية فوقها صحون داخلها أصناف مختلفة من الطعام ضمنهم ورق العنب المميز الذي لا يتفوق عليها أحد فيه.
اقتربت من الفراش وجلست على طرفه ثم وضعت الصينية أمامه هاتفة بحب:
_النهاردة هنتغدى لحالنا مع بعض وعملتلك كل الوكل اللي بتحبه
ضحك ورد غامزًا بلؤم:
_دي إيه الدلع ده.. لتكوني عاوزة حاجة يافريال؟
لكزته في كتفه برقة وهي تزم شفتيها بضيق هاتفة:
_أخص عليك ياجلال من ميتا أنا كان اهتمامي بيك عشان مصلحة.. بعدين فيها إيه لما ادلع جوزي حبيبي وراجلي وأبو عيالي
غمز لها بخبث وهو يضحك ثم مال عليها وهمس بنظرات وقحة:
_طب إيه رأيك ادلعك أنا كمان
اتسعت عيناها بدهشة وهي تضحك بخجل وابتعدت عنه بسرعة قبل أن ينل منها ليتوعد لها بنظراته ثم اخفض نظراته للطعام وراح يمد يده أولًا لصحن ورق العنب والتقط واحدة ثم القاها في فمه ليمضغها بكل تريث وتلذذ وهو يهتف في عاطفة ونبرة جميلة:
_امممم ورق العنب الفاخر.. مفيش مخلوق بيعرف يعمله كيف ما بتعمليه يافريالي مدوقتش زيه واصل
ضحكت واقتربت منه ثم مالت عليه وطلعت قبلة ناعمة مثلها فوق وجنته خامسة بثقة وغنج أنثوي مثير:
_ومش هتدوق.. اوعاك اشوفك بتاكله من يد حد تاني وبتشكر فيه ياچلال
ابتسم ورمقها بغرام هامسًا وهو يقترب منها بوجهه أكثر:
_ وهو اللي ياكل من اليد العسل دي يعرف كيف ياكل من يد تاني من الأساس
ابتسمت له بعشق بينما هو فكالت نظرته المشتاقة والراغبة قبل أن يقول غامزًا:
_أنا مرة واحدة حسيت روحي مش چعان خلي الوكل ناكل شوية قولتي إيه؟
طرح سؤال ولم يمنحها فرصة الإجابة حيث نال منها وانغمسوا معًا بلحظاتهم الخاصة والغرامية وسط ضحكها وهمساته المرحة والرومانسية التي لا تخلو من الوقاحة بالتأكيد...
فاق من شروده على صوت منيرة وهي تهتف باستغراب:
_چلال سرحت وين إكده.. بقولك هناكل إهنه ولا فوق في اوضتنا
سحب يده من قبضة يدها ورد ببرود وخنق:
_أنا مش جعان ورايا شغل وماشي كُلي أنتي
وبظرف لحظة كان يستدير ويبتعد متجهًا للخارج لكن اصطدم بأمه التي سألته بتعجب:
_ على وين إكده ياولدي مش هتاكل ولا إيه دي مرتك من صباحية ربنا واقفة في المطبخ بتحضرلك الوكل اللي بتحبه
ظهر الخنق على ملامحه وهو يقول بعدم اكتراث:
_ورايا شغل ضروري.. كلوا أنتوا بالهنا والشفا
قفلت جليلة طريقه ووقفت كالسد وهي تسأله بلطف رغم حزم سؤالها:
_شغل إيه بس ياولدي ده أنت عريس مش تاخد أجازة لأسبوع إكده تريح فيها راسك وتتبسط مع مرتك
تنهد الصعداء بنفاذ صبر ورد عليها بحدة ونظرة مريبة:
_الشغل مبيوقفش ياما عشان حاچة.. خليني امشي عاد عشان اتأخرت
أبعدها من طريقه بكل رفق وغادر ليترك زوجته تشتعل من فرط الغيظ بسبب تجاهله الدائم لها واستحواذ فريال على عقله طوال الوقت ، أما جليلة أخذت تتابعه في نفاذ صبر وخنق وهي تقسم أنها لن تسمح لابنة ابراهيم أن تعود لابنها من جديد أبدًا.....
***
كان بلال يجلس فوق إحدى المقاعد الخشبية أسفل المظلات بالجامعة وبيده هاتفه يضعه فوق أذنه يجري اتصال بأخيه وينتظر الرد منه.. لم يحصل على رد منه فعاد يكرر الاتصال مجددًا وهو يتنهد بضيق وبتلك اللحظات بينما كان يدور بنظره في الأرجاء حول بكل تلقائية سقطت عينيه على حور وهي تجلس بجوار نفس الشاب(ابن خالتها) ويتبادلون أطراف الحديث بحميمية وجدية، أنزل الهاتف من على أذنه وثبت نظره عليهم يتابعهم بتركيز في نظرات مشتعلة، لا يفهم ما الذي يحدث له لكن تتأجج النيران بصدره كلما يراها تجلس مع ذلك الرجل وتُخلق رغبة شديد في ثناياه أن يندفع نحوهم ويجذبها من جانبه مانعًا أياها من الحديث معه أو مع أي رجل غيره حتى.
شعر بالخنق من طول متابعته لهم وتزايد غضبه فهب واقفًا وسار مبتعدًا ينوي الدخول لمبنى الكلية حتى لا يراهم أمام عينيه ويفقد أعصابه أكثر، لم يكترث لصياح صديقه الذي كان يركض خلفه محاولًا اللحاق به.. قبض على ذراعه واوقفه عنوة وهو يقول بانزعاج:
_إيه ياعم بنده عليك ومطنشني في إيه؟!
بلال باستياء محاولًا عدم النظر تجاه حور:
_مش مطنشك يامؤمن بس مليش مزاج اتكلم ومتعصب
ضيق الآخر عينيه بحيرة وسأله في اهتمام:
_متعصب.. في حاچة حُصلت ولا إيه في البيت عندك
انحرفت عيناه رغمًا عنه نحوها ورآها تضحك بقوة وسط حديثها معه فتمالك انفعالاته ورد على مؤمن بغيظ مكتوم:
_أنا داخل جوا عاوز تاچي تعالي معاوزش خلاص
رغم أن مؤمن لم يفهم ما سبب عصبيته المفرطة وتحوله المفاجيء هذا إلا أنه لحق به بسرعة ولم يتركه بمفرده....
***
بمساء ذلك اليوم في تمام الساعة الحادية عشر قبل منتصف الليل...
كان يجلس بغرفة الجلوس الصغيرة الخاصة بعمران ويلقي بنظره من النافذة شاردًا الذهن وهو جالس فوق الإريكة، يعيد الساعات القليلة التي مرت من هذه الليلة عندما ذهب مع أبيه وعائلته وعمران ليتقدموا بطلب يد الفتاة التي اقترحتها عليه إخلاص ووافق.
تذكر كيف كانت مرتبكة وخجلة عندما دخلت الغرفة عليهم وهي حاملة فوق يديها صينية فوقها كاسات العصير.. لم تتجرأ على رفع نظرها إليه من فرط حيائها وقدمت له العصير بعينين تدفنهم في الأرض، بتلك اللحظة لعن نفسه ألف مرة على ما سيفعله بتلك المسكينة، فتاة جميلة مثلها تستحق رجل يحبها ويصعد معها للنجوم من فرط عشقهم لبعض.. لكن هو قلبه ليس بيديه ولن يستطيع منحها الحب، ليته لم يوافق من البداية قبل أن يدخل بقدميه لطريق ليس به عودة.
انتهى الأمر وتم تحديد كل شيء بجلسة واحدة حتى أن الخطبة ستتم بعد أسبوعين من اليوم.
انفتح الباب ودخلت إخلاص.. كانت تبحث عن عمران وظنته هنا لكن عندما رأت بشار على هذه الحالة تنهدت الصعداء بحزن ودخلت لتقترب منه بخطواتها الهادئة وتجلس بجواره هامسة:
_ إيه ياولدي أنت معجبتكش عروستك ولا إيه؟!
تأفف بشار بقلة حيلة ومسح على وجهه وهو يردف بصوت مهموم:
_مش عاوز أظلمها ياما معايا ملهاش ذنب إني قلبي متعلق بواحدة تاني هبقى بخونها.. أنا ندمان إني وافقت
اشتدت قوة نظرات إخلاص التي قالت بجدية ولين:
_أنت عملت الصُح يا بشار متقولش ندمان ياولدي.. إيه هتفضل عايش لحالك إكده طول عمرك لا معاك بيت ولا عيال عشان خاطر الست رحاب، بعدين إنت عرفت من وين إنك هتظلمها مش يمكن لما تخطبها وتعرفها تحبها وتنسى رحاب
بشار بشجن:
_الموضوع مش بالسهولة دي ياما
إخلاص بحدة وإصرار كله ثقة:
_طول ما أنت مصعبه على نفسك هيبقى صعب.. سيب روحك ومتفكرش في اللي جاي وادي لنفسك ولخطيبتك فرصة وأنا متوكدة إنك هتحبها.. البت كيف البلسم تتحط على الجرح يطيب وانت شوفتها كيف كانت النهاردة
زفر بقوة وقال مغلوبًا في أسى:
_صدفيني أنا نفسي وبتمنى أن اللي بتقوليه يحُصل واقدر احبها وانسى رحاب
ابتسمت إخلاص بحنو وقالت في أمل وسعادة:
_طالنا أنت اللي بتقول إكده يبقى هيحُصل أطمن.. أنت دلوك متفكرش في حاجة وافرح بس وجهز لخطوبتك اللي بعد اسبوعين دي.. عشان كمان لسا هننزل نشتري الشبكة للعروسة
بشار بنبرة خافتة ومتعبة:
_ أن شاء الله ياما أن شاء الله
اتسعت ابتسامتها أكثر ورتبت فوق كتفه بحنو ثم استقامت واقفة وسارت تجاه الباب لتتركه وتغادر الغرفة...
***
داخل غرفة عمران....
فتح الباب بهدوء تام ودخل ثم أغلقه بنفس الطريقة وقاد خطواته للداخل لكنه توقف عندما وجدها تقف أمام الخزانة ترتب الملابس وهي مرتدية بنطال وبلوزة ضيقة دون أكمام.. تفحصها بنظره في تلك الملابس الناعمة والجميلة بنظرات دقيقة لكنه غضن حاجبيه باستغراب عندما لاحظ ذراعها وجلدها الذي تلون بالازرق الداكن.. وسرعان ما تبدلت ملامحه للحنق عندما تذكر شجارهم بالصباح وأنه كان يقبض على ذراعها بعنف والنتيجة أمامه الآن.
فاقت من شرودها وانتبهت لوجوده فانتفضت والتفتت برأسها للخلف تجاهه وفورًا أسرعت تجذب شالًا من الخزانة تضعه فوق ذراعيها تخفي جسدها عن أنظاره وهي ترمقه بغيظ وانزعاج.. فتأفف هو مغلوبًا واقترب منها ليقف أمامها مباشرة هاتفًا بلهجة حادة:
_شيلي الشال ده ووريني دراعك
تراجعت خطوة للخلف وقالت بعناد في غضب:
_ملكش صالح بيا
تنهد الصعداء ببرود مزيف ليجيبها في لهجة آمرة لا تقبل النقاش:
_سمعتي قولت إيه!
صاحت به في استياء شديد:
_مسمعتش ومش عاوزة اسمع منك حاچة بعد عني ومتتكلمش معايا واصل
أنهت عبارتها وهمت بالابتعاد والفرار منه لكنه منعها بذراعه الذي حاوطها من خصرها وجذبها نحوه لتصطدم بصدره.. شهقت بصدمة وباللحظة التالية دون تفكير كانت تصرخ بصوتها المرتفع فأسرع هو وكتم على فمها بيده صائحًا:
_إيه الچنان ده اكتمي!
دفعت يده عن فمها بقوة وصاحت وهي تحاول التملص من بين يديه:
_بعد عني بدل ما أصرخ تاني والم البيت كله
ابتسم بسخرية ورد في غلظة:
_هتقوليلهم إيه عاد.. جوزي قرب مني ولا بيتحرش بيا!
نظرت في عينية بقوة وقالت في ثبات وغيظ:
_أه هقولهم مش البيت كله عارف وضعنا كيف برضوا ولا إيه!
فهم ما ترمي إليه فتجهمت ملامحه وتأفف بقوة ثم راح يمد يده لينزع عنها الشال لكنها صرخت وهي تحاول إبعاد ذراعه عن خصرها:
_متلمسنيش بعد ياعمران
كانت تتلوى بين ذراعيه كالدودة مما أثار خنقه حقًا فصرخ بها بعصبية:
_ما تثبتي في إيه متخلنيش اتنرفز عليكي
سكنت رغمًا عنها بسبب خوفها وعندما نزع الشال عن كتفيها ارتجفت من فرط ارتباكها وخجلها ثم وجدته يمسك ذراعها ويرفعه برفق للأعلى حتى يتمكن من رؤية الزراق الذي فوق جلدها ليهمس في جدية:
_حطيتي عليه تلچ؟
لوت فمها بخنق واستغلت فرصة تركيزه على ذراعها لتهرب من بين يديه بسرعة صائحة به بحرقة:
_محطيتش حاچة ومتعملش روحك مهتم قوي.. روح شوف بت عمتك واطمن عليها لتكون ماتت ولا چالها ارتچاچ في المخ
كانت تقول عبارتها الأخيرة باستهزاء بينما هو فاظهر ثبات أنفعالي تام وقال في برود متعمد:
_شوفتها وكنت عندها اطمني.. واعملي حسابك إنك هتروحي تعتذري منها على اللي عملتيه النهاردة ولما حبستيها
ضحكت بقوة في سخط هادر وراحت تجيبه بكل سخرية:
_مش عاوز احب على يدها كمان واقعد تحت رچليها واترچاها تسامحني
استدارت وولته ظهرها وهي تندفع نحو الحمام لكنها شهقت بفزع عندما شعرت بذراعه من جديد وهذه المرة حاوطها به وقربها لتلتصق بصدره وهو يقف خلفها وينحنى بوجهه عليها من الخلف يهمس في أذنها بنبرة أربكتها بشدة:
_لما حبستيها كنتي غيرانة ومش عاوزاها تروح معايا والنهاردة الله أعلم حصل إيه خلاكي تعملي إكده بس أكيد ليه علاقة بغيرتك اللي مش عاوز تعترفي بيها
ارتجفت بين يديها لكن حاولت البقاء صامدة والتفتت برأسها له لتصبح في مواجهة وجهه مباشرة وتقول مبتسمة بجفاء:
_أنا مش بغير غير على الناس اللي بحبهم ياعمران وأنت مش من ضمنهم يعني متوهمش روحك على الفاضي
ابتسم مستنكرًا ردها الكاذب وكان سيثبت لها بطريقته الخاصة كذب ما تدعيه لكن قطع اللحظة صوت رنين هاتفه.. وهي بلحظة ابتعدت عنه واسرعت للحمام تلوذ به من بين براثينه.. بينما هو فتابعها مبتسم بمكر ثم أخرج هاتفه وراح يجيب عليه بجدية.....
***
بصباح اليوم التالي......
منذ أيام يزورها دوار قوي ورغبة شديدة في التقيأ.. ببداية الأمر أقنعت نفسها أنه ربما حمى أو تعب وإرهاق لكن مع تكراره يوميًا بدأت تشعر بالقلق خصوصًا أنها ليست المرة الأولى التي تراودها فيها هذه الأعراض.. فقد تعرضت لها مرتين من قبل والآن الثالثة!
حسمت قرارها وقررت الخروج والذهاب للصيدلية حتى تشتري اختبار الحمل وتتأكد من شكوكها، كانت بطريقها للعودة للمنزل بعد انتهائها لكنها توقفت على أثر صياح ابنها الصغير عليها وحين نظرت إليه رأته داخل سيارة والده وفورًا نزل منها هو وشقيقه وركضوا نحوها يحتضونها بقوة فضمتهم هي بحنو ولثمت رأس كل منهم في حب هامسة:
_عاملين إيه ياحبايب قلبي
رد عمار بحماس طفولي:
_أبوي هياخدنا النادي زي كل أسبوع ياما تعالي معانا
رفعت نظرها وتطلعت لجلال الذي كان يتمعنها بأسى وسرعان ما اخفضت رأسها ونقلت نظرها بين أولادها مبتسمة بدفيء:
_مش هينفع ياحبايبي خليها مرة تاني هاخدكم ونروح مع بعض دلوك مش هينفع
أخذوا يلحوا عليها ويترجوها أن توافق وهي تقف عاجزة أمامهم لا تستطيع الرد لا بالموافقة ولا الرفض، وبعد ثواني كان جلال يتقدم نحوهم ويقف يهتف بهدوء:
_يلا يافريال متزعليش العيال طالما عاوزينك تاچي معاهم
رمقته بنارية وكره بينما الأولاد فقد وثبوا بفرحة بعد عبارة والدهم وامسكوا بيد أمهم يجروها نحو السيارة لتضحك هي مغلوبة وتردف:
_طب خلاص سيبوا يدي هركب لحالي
تركوها أمام باب المقعد الأمامي مباشرة لتضحك هي عليهم ثم تفتح الباب وتستقل بالمقعد ويسرعوا هما ليستقلوا بالمقعد الخلفي.. كانت تتجاهل النظر في وجهه وأن فعلت فلم يكن يرى شيء في عينيها سوى النقم والنفور مما يزيد من نزيف قلبه وألمه.
همس لها بصوت منخفض دون أن يصل لأذن أولادهم:
_على الأقل متعمليش إكده قصاد العيال يافريال أبوس يدك
نظرت له بنارية وهتفت في اشمئزاز وغضب:
_أنت احمد ربك أصلًا لولا العيال مكنتش ركبت جارك ولا لساني خاطب لسانك واصل.. كرهت وشك ومبقيتش طايقة أشوفك
لم تفشل هذه المرة أيضًا بطعنه في أعماق قلبه بكلماتها الناقمة والقاسية.. ليتطلع إليها بوجع وبعينيه توسل أن لا تقول هكذا وتطعنه بسهامها المسمومة لكنها حتى لم تنظر له واشاحت بوجهها بعيدًا عنه ليتنهد هو في قلة حيلة ويثبت نظره على الطريق محاولًا البقاء صامدًا.
توقفت السيارة بعد دقائق طويلة أمام النادي الاجتماعي ونزل الأولاد أولًا بكل حماس ولحق بهم جلال وأخرهم كانت فريال التي فتحت الباب وفور نزولها داهمها نفس الدوار العنيف وكاد أن يحتل توازنها لولا أنها أسندت يدها على باب السيارة، هرول هو نحوها مفزوعًا وحاوطها بذراعيه هاتفًا في قلق واهتمام:
_فريال مالك.. اخدك للدكتور ياحبيبتي
دفعته بعيدًا عنها بعنف هاتفة في نبرة منخفضة حتى لا تصل لأذن الأطفال:
_اوعاك تقرب مني ولا تلمسني تاني فاهم ولا لا ياچلال.. وقريب قوي هتطلقني أنا مش هكمل مع راچل خاين كيفك
لوى فمه بأسى لكنه همس بجدية:
_فريال مش وقته الكلام ده دلوك مش قصاد العيال
تطلعت إليه بسخرية ثم انتهبت على صوت معاذ وهو يسألها باهتمام:
_إنتي كويسة ياما؟
أمسكت بيده وقالت مبتسمة:
_كويسة ياحبيبي يلا عشان ندخل النادي وتلعبوا أنت وأخوك
أمسكت يد كل واحد منهم من جهة وسارت معهم للداخل ولحق هو بهم في وجه يظهر فوق معالمه الهم والحزن بوضوح.
جلسوا بالداخل على مقاعد مقابلة لبعضها حول طاولة متوسطة والأولاد ذهبوا ليلعبوا.. كانت هي تتابعهم دون أن تحيد بنظرها عنهم وتتجاهله بشكل كامل كأنه غير موجود على عكسه هو الذي كان يتأملها بشوق وحب امتزج بحزنه وندمه على ما فعله، بعد دقائق قصيرة وجدها توقفت فجأة فسألها بتعجب:
_رايحة وين؟
قالت دون أن تنظر له وهي تجذب حقيبتها معها:
_الحمام في مانع
لم يعقب واكتفى بمتابعتها وهو يراها تسير تجاه الحمام كما قالت.. بعد حوالي عشر دقائق داخل الحمام خرجت وهي تمسك بيدها اختبار الحمل الذي يعطي نتيجة إيجابية، وعلى عكس المتوقع بدل من أن تصاب بنوبة سعادة غامرة انهمرت دموعها فوق وجنتيها بغزارة في قهر وألم وما ساعدها على البكاء براحة أكثر أنها كانت بمفردها في الحمام ولا يوجد أحد معها.
مر على بقائها بالداخل حوالي خمس عشر دقيقة وربما أكثر وبعد أن تمالكت نفسها بصعوبة وغسلت وجهها قررت الخروج من جديد وكان مازال بيدها الاختبار.. لكن عندما فتحت الباب رأته يقف على مسافة بعيدة نسبيًا من الحمام ينتظرها...
***
خرجت آسيا لشراء بعض مستلزماتها الشخصية وبينما كانت بطريق عودتها للمنزل توقفت عندما لمحت خلود فابتسمت بشيطانية وانتصبت في وقفتها لتصبح أكثر شموخًا وعنجهية ثم سارت خلفها وعندما اقتربت منها هتفت منادية عليها:
_خـلـود
........ نهاية الفصل ..........
•تابع الفصل التالي "رواية ميثاق الحرب و الغفران" اضغط على اسم الرواية