رواية ميثاق الحرب و الغفران الفصل الثالث والعشرون 23 - بقلم ندى محمود
(( ميثاق الحرب والغفران ))
_الفصل الثالث والعشرون_
ظهر صوت ابراهيم الحازم وهو يسأل ابنة أخته:
_عملتي في روحك إكده كيف يعني؟
تنفست بتوتر ملحوظ بعدما رأت الصدمة تحتل معالم إخلاص والغضب على وجه عمران، لتجيب على خالها بخفوت:
_مكنتش قاصدة طبعًا ياخالي.. يعني أنا وآسيا شدينا مع بعض وبعدين أنا وقعت واتخبطت في الدولاب
كان الصمت من نصيب إخلاص التي تتابع تعبيرات وجه منى بتشكيك فيما تقوله بينما ابراهيم فتابع بحدة:
_ولما أنتي وقعتي لوحدك قولتي ليه أن آسيا اللي عملت إكده فيكي ووشعللتي البيت وعملتي مشاكل من على مفيش
ألقت نظرة مضطربة على عمران الذي كان يحدقها بعينين مرعبة، ثم أشاحت بنظرها وردت على خالها ببراءة متصنعة:
_كنت فاكرة أن هي اللي زقتني ياخالي والله عشان إكده قولت إن هي
تأفف ابراهيم بخنق وأردف:
_وجاية تقولي الكلام ده دلوك ليه مقولتيش ليه من الأول
اخترعت ذريعة مناسبة وأجابت عليه:
_كنت تعبانة ومش قادرة اتكلم ولما قعدت مع نفسي وافتكرت اللي حُصل بينا زين افتكرت أن هي معملتش حاچة وأن أنا اللي وقعت من غير ما اقصد
رغم أن ثلاثتهم لم يقتنعوا بأسبابها ولم يصدقوها إلا أنهم صمتوا باستثناء عمران الذي ثبت نظراته المميتة على منى وسألها بنبرة تحمل بحة رجولية مريبة:
_من غير قصد يامنى ولا كنتي قاصدة عشان تعملي مشكلة بينا؟!
انحصرت في الزاوية وراحت تنظر إليه بارتباك دون أن تجيب وبتلك اللحظة تدخلت إخلاص وهتفت في جدية:
_خلاص ياعمران هي قالتك مكنتش قاصدة وكانت فاكرة أن آسيا اللي عملت فيها إكده وأهي جات وقالتلنا اللي حُصل عشان المشاكل متزيدش
دار بنظره المخيف بين والديه وبين ابنة عمته.. فقد تصاعدت النيران وازدادت اشتعالًا في صدره بعد اعترافها، لكنه تمالك أنفعالاته بصعوبة أمامهم وبالأخير ألقى نظرة على منى قذفت الرعب في قلبها ثم استدار وغادر يترك ثلاثتهم معًا.. فلو بقى أكثر من ذلك سينسى أنها ابنة عمته وسيفقد أعصابه تمامًا عليها وعليهم جميعًا.
***
بعد مرور ساعتين بتمام الساعة الحادية عشر قبل منتصف الليل...
فتح عمران باب غرفته ودخل، القى بنظره أول شيء على الفراش ظنًا منه أنه سيجدها نائمة لكن الفراش كان فارغ فضيق عيناه باستغراب وذهب بنظره نحو الحمام وقبل أن يتقدم إليه ليتأكد من وجودها به، انحرفت عينيه على الشرفة فرآها تقف بسكون وتضع الحجاب على نصف شعرها لينزل بقيته على كتفيها يغطيها وهي تضمه عاقدة ذراعيها أسفل صدرها، طالت نظرته المتمعنة لها يتذكر اعتراف منى بالأسفل وأنه لم يصدق آسيا حين أقسمت له أنها لم تفعلها وجعلها تذهب لتعتذر من ابنة عمته على ذنب لم تقترفه، ولا سيما فيما فعله بها بالصباح.. لا يفهم ما الذي يحدث له ولا كيف استحوذ جموحه عليه لهذه الدرجة المرعبة وقاده للتصرف بهذا الشكل الدنيء.
تنفس الصعداء بخنق ثم أخرج زفيرًا متمهلًا وتقدم إليها بخطوات هادئة حتى وقف خلفها من اليسار وتنهد بضيق قبل أن يلف ذراعه حول كتفيها منحنيًا عليها يلثم رأسها بقبلة دافئة هاتفًا:
_حقك عليا
رمقته بنظرة قاتلة كانت كفيلة لتتحدث عن كل ما بصدرها وبلحظة كانت تدفع ذراعه بعيدًا عنه هاتفة بتحذير واشمئزاز:
_متلمسنيش ولا تفكر تقرب مني تاني واصل
لوى فمه بانزعاج وقال بخفوت محاولًا تهدأتها:
_أنتي عندك حق بس أنا متوقعتش أنها تعمل إكده في روحها أبدًا وأنا الفترة دي مضغوط ومليش خلق إني أفكر في المواضيع دي
ابتسمت ببرود وردت في كل ثبات وعدم تأثر:
_وأديك عرفت أهو أن هي اللي عملتها.. كان لازم تسمعها منها عشان تصدق وتعرف أن آسيا مش كدابة.. الاعتذار اللي اعتذرته لمنى الصبح مكنش ليها قد ما كان ليا.. اعتذرت لنفسي عشان وثقت فيك ولما شفتها وهي بتضرب روحها متحركتش وكنت عارفة أنك مش هتصدقها وهتنصفني أنا لكن أنت اخدتني من يدي غصب وخليتني اعتذرلها.. ده كله كوم طبعًا واللي عملته الصبح كوم تاني
ظهر الندم والامتعاض على معالمه ليردف بأسف:
_مكنتش حاسس بروحي يا آسيا ولا داري باللي بعمله والغضب عماني.. أنتي عارفة أني مستحيل أعمل حاچة كيف إكده
ضحكت بسخرية وقالت بقسوة:
_اتضح أني معرفش حاچة ومعرفكش ومش عاوزة أعرف لغاية ما تطلقني عشان ارتاح من البيت ده ومنك ومن الكل
لاحت بشائر الاستياء على قسماته الغليظة ليقول باستنكار:
_ولما اطلقك هتروحي وين؟!
ابتسمت بثقة وردت في قوة:
_متقلقش أنا مش هغلب.. خليك أنت بس في نفسك وچهز روحك عشان قريب هنحقق أمنية الحچة إخلاص لما تطلقني وتچهزلك چوازتك التانية
مال بوجهه للجانب وهو يتأفف بنفاذ صبر وانزعاج حقيقي من كلماتها بينما هي فاستدارت توليه ظهرها بعدم اكتراث وهمت بالذهاب للحمام لكنه قبض على رسغها يوقفها ويديرها نحوه هاتفًا بحيرة:
_عاوزة أعملك إيه يعني عشان ارضيكي!
جذبت يدها من قبضته بكامل العنف وهتفت في نظرة شرسة تحمل الإنذار:
_تبعد عني
ألقت بعبارتها النارية في وجهه وتركته وابتعدت ليرفع هو يده لوجهه يمسح عليه وهو يتأفف بخنق وراح ينزع عنه جلبابه الأسود ويلقيه بإهمال مكان ما تصل يده.
***
داخل منزل خليل صفوان تحديدًا بغرفة خلود....
خرجت من الحمام وهي ممسكة بذلك الجهاز الأبيض الصغير (اختبار الحمل)، عيناها متسعة بصدمة ومازال عقلها يحاول استيعاب النتيجة التي أمام عينيه، تسارعت نبضات قلبها وارتخت أعصابها لدرجة افقدتها القدرة على الوقوف فألقت بحمل جسدها كله دون وعي على الفراش تجلس وهي تحدق أمامها بذهول لكن ماهي إلا لحظات حتى ألقت بالاختبار وراحت تلكم فوق وجنتيها هاتفة:
_يامرك ياخلود هتعملي إيه دلوك في النصيبة دي.. لو حد عرف هيقتلوكي
أخذت تلطم وتنوح بصوت منخفض وسط بكائها وارتجاف جسدها كله من فرط الخوف وتردد دول توقف:
_اعمل إيه.. اعمل إيه؟!!!
لم تهدر وقت أكثر من ذلك وراحت تجذب هاتفها بتلهف تجري اتصال بعشقيها الذي أجابها بعد رنات قصيرة فوجدها تصرخ بوجهه في صوت مرتعش:
_الحقني ياسمير الحقني
ضيق عينيه بعدم فهم وقال بسرعة في فزع:
_في إيه مالك؟
همسات بصوت منخفض خشية من أن يسمعها أحد:
_أنا حامل
سمعت صرخة منه في الهاتف كادت أن تطرشها:
_إيـــه.. حامل كيف يعني!
خلود بأعصاب مدمرة:
_إيه السؤال اللي بتسأله ده.. كيف إزاي يعني!
حاول تمالك أعصابه وأجابها بصوت مترقب لسماع الإجابة:
_أنتي مش قولتي أنك بتاخدي الحبوب بتاعت منع الحمل دي
انتظر سماع الرد منها ولكن الإجابة كانت بالصمت مما جعله يهيج كالثور ويصرخ بها:
_ردي عليا ياخــلـود كنتي بتاخديها ولا لا؟!!!
سالت عبراتها فوق وجنتيها بغزارة وراحت تكتم على فمها تمنع صوت شهقاتها العالية، تحاول التحكم بارتجاف يديها وجسدها كله لتجيبه بالأخير بصوت متقطع من فرط البكاء:
_لا مخدتهاش.. متخيلتش أنه يحصل إكده وقولت أنت هتاچي تتقدملي أساسًا يعني مش معقول يحصل حاچة في الكام مرة اللي بنتقابل فيهم دي
صدح صوت صراخه المرعب من جديد في سماعة الهاتف:
_وأهو حصل قوليلي هتعملي إيه دلوك عاد
لم يسمع منها رد سوى صوت بكائها الذي يخترق أذنه بقوة واصابه بالجنون أكثر، راح يمسح على وجهه وهو يتأفف محاولًا التفكير وتمالك انفعالاته حتى يجد حل لتلك الكارثة، وبعد عشر ثواني تقريبًا رد عليها بحدة يلقي بأوامره:
_العيل اللي في بطنك ده تنزليه علطول تشوفي أي حد وتتصرفي ياخلود
فغرت شفتيها وعينيها بدهشة لترفع أناملها تمسح دموعها وتتبدل ملامحها بلحظة للغضب تجيبه برفض قاطع:
_أنا مش هنزله ومش هقتل عيلي ياسمير.. أنا اتصلت بيك عشان تلحقني وتاچي تطلب يدي من ناسي قبل ما حد يعرف ويقلتوني مش عشان تقولي نزليه ده ولدك مش ولدي وحدي
ضحك بعدم تصديق رغم الحالة المرعبة المسيطرة عليه وقال بسخرية:
_اطلب يدك إيه أنتي مش عارفة وضعي كيف.. ولا فكرك ناسك هيوافقوا عليا.. العيل ده هينزل يعني هينزل ياخلود فاهمة ولا لا
لم يملها لحظة لتجيب عليه بل أغلق الاتصال دون توديعها حتى وتركها تحدق بالهاتف في ذهول وسط دموعها التي عادت للانهمار من جديد....
***
بصباح اليوم التالي.......
كانت تقف فريال بسوق الخضار تقوم بشراء الخضروات والفواكه للمنزل.. فقد أصرت هي على الذهاب بدلًا من أمها موضحة أنها تشعر بالضجر في المنزل وتريد أن تشم بعض الهواء النقي وتريح عقلها قليلًا من التفكير الدائم.
كانت تقف أمام سيارة خشب مسطحة فوقها كميات كبيرة من الطماطم وبيدها كيسًا أسود تختار الطماطم الجيدة والسليمة وتضعها بالكيس وأمامها بائع الطماطم الذي يصيح بصوته العالي موضحًا سعر الطماطم ببعض الكلمات المعتادة مثل(الطماطم طازجة ورخيصة وجيدة)كنوع من جذب الناس إليه ومن حولها الصخب والضجة مزعجة بسبب الزحام، ومع كل هذا هي كانت بعالم آخر لا تشعر بأي شيء حتى توقفت فجأة يدها عن التقاط الطماطم بعدما سمعت صوت أنثى كان مألوفًا وعليها وحين التفت كان هو بالفعل ولم تخطأ.
منيرة بابتسامة لطيفة:
_اديني كيس ياحچ عاوزة كيلو طماطم
مد الرجل لها الكيس الأسود وهو يهتف باسمًا:
_اتفضلي ياست الكل
جذبت الكيس من يده وبدأت في التقاط الطماطم ووضعها بكيسها متصنعة أنها لا ترى فريال التي تقتلها بنظراتها الحارقة، وبعدما انتهت من شراء الطماطم التفتت تجاه فريال وهتفت بصدمة:
_وه هو أنتي إهنه يافريال.. لا مؤاخذة مخدتش بالي ياغالية أصل من ساعة الچواز وأنا بقيت بحس معدش فيا عقل بسبب چلال اللي واخده مني
لم تتحرك ولم تظهر لها أي تعابير سوى البرود والجمود بينما الأخرى فابتسمت بلؤم ونظرات كلها غنج ثم راحت تصيح على طفل صغير من جيرانهم وفور وصوله إليها ناولته الأكياس تمثل التعب والإرهاق متمتمة:
_خد الكياس دي يامحمد ووصلها قدامي على بيت عمك چلال ياحبيبي معلش عشان مش قادرة اشيل
أماء لها الصغير رأسه بالموافقة وسار مبتعدًا عنهم بينما هي فالتفتت تجاه فريال ورفعت يدها لتلويها وتمسك بظهرها مدعية الألم في كلماتها المنحرفة ومعالم وجهها:
_معلومك عاد لساتنا عرسان وچلال امبارح مخلنيش أنام الليل وقضينا الليل كله مع بعض.. وصاحية جسمي كله متكسر، أسيبك أنا عاد عشان معطلكيش وأروح أنا لاحسن اتأخر
ألقت بقنبلتها ورحلت لتترك الأخرى تحترق من غيرتها وقهرها، ولو بقت مكانها للحظة أخرى كانت ستنهار باكية أمام ذلك الحشد من الناس كلها، لكنها كظمت المها وراحت تدفع ثمن الطماطم للبائع ثم أخذت الكيس واندفعت لخارج السوق كالسهم المشتعل وهي تشتم في تلك الوغدة وزوجها الخائن.
***
داخل غرفة عمران.......
خرج من الحمام بعدما انتهى من حمامه الصباحي مرتديًا بنطال فقط تاركًا قطرات الماء تتساقط من شعره الغريز على صدره العاري.
استقر نظره عليها وهي تقف أمام خزانتها ترتبها مرتدية عباءة بيضاء ضيقة تظهر منحنياتها بدقة وتترك العنان لشعرها الأسود الغزير والطويل ينسدل فوق ظهرها ليغطيه كله، كانت عبارة عن قنبلة أنوثة وإغراء بتلك الملابس وشعرها الذي يسلبه عقله كلما يراه.. فبقى لوقت طويل نسبيًا وهو يتفحصها بنظراته الجريئة على الرغم من أنها تتجاهله تمامًا وكأن لا وجود له حتى لا تنظر بوجهه لكنه لم يكترث لشيء وترك عيناه تنعم بهبة النظر لهذا الجمال.
بعد ثلاث دقائق تقريبًا فاق من تأثير تعويذة ساحرته محاولًا السيطرة على نفسه ثم تقدم نحو الفراش والتقط المنشفة ليجفف بها شعره وبين كل لحظة والأخرى ينظر لها يتابع تحركاتها التي باتت تزعجه فهي فعليًا تستنكر وجوده ولا تراه، تمر أمامه وتسير من جانبيه ولا تنظر، لولا أنه لا يريد أن يزيد الأوضاع سوءًا لكان الآن اتخذ موفقًا حاسمًا من تصرفاتها المزعجة، لكنه قرر أن يتركها تفعل ما يحلو لها حتى يهدأ غضبها وترتاح.
توقفت يدها عن ترتيب الملابس عندما سمعت صوته وهو يقول بجدية:
_النهاردة هكلم أما عشان تخلي منى ترچع لبيتها
التفتت له برأسها وسألته بتعجب:
_ليه؟
استغرب سؤالها فكان يتوقع الفرحة ستغمرها فور سماعها لقراره، أجابها بغضب:
_عشان أنا فيا اللي مكفيني ومليش خلق لخناقات الحريم اللي كل شوية دي.. يعني ترچع بيتها احسن وتريحنا كلنا بما إنها مضيقاكي كمان وانتي معاوزهاش
ابتسمت بسخرية بعدما فهمت تلميحه وقالت في لا مبالاة:
_مين قالك أني عاوزاها تمشي أنا مليش صالح وبالعكس كمان أنا اللي بقولك خليها تقعد هي من نفسها هتمشي بعد إكده.. مهما كانت دي ضيفة والضيف واجب إكرامه يامعلم
اتسعت عيناه بعدم استيعاب أن من تتحدث أمامه هي زوجته ثم ابتسم بسخرية وقال في خبث:
_أنتي اللي بتقولي إكده!!.. مش على أساس بتكرهيها وبتغيري منها راح وين كل ده
عقدت ذراعيها أسفل صدرها وتطلعت في وجهه بقوة لتقول في قسوة دون أن تلين ملامحها حتى بمجرد ابتسامة:
_بكرهها جايز أكون إكده صُح أما بغير قولتلك مليون مرة دي أوهامك أنت ياعمران ومفيش حاچة منها حقيقة
لوى فمه بنظرة جانبية ماكرة ليسألها هذه المرة بشكل مباشر:
_يعني معدتيش بتغيري عليا منها؟!
رغم أن رده صدمها وأربكها بعض الشيء لكنها ذكرت نفسها بما فعله معها بالبارحة وفورًا عادت تشتعل من جديد، لم تظهر له غيظها وتصرفت بكل برود حيث اكتفت بالضحك القوي وهي تهز رأسها بقلة حيلة واستهزاء.. بينما هو فتقدم منها حتى وقف أمامها مباشرة وحاصرها بينه وبين الخزانة يهمس بابتسامة ثغر تسلب العقول:
_ما تردي هو القط كل لسانك ولا إيه!
أزعجها اقترابه منها فرفعت يدها بملامح وجه مكفهرة وكانت تنوي دفعه بعيدًا لكن فور ملامسة يدها لصدره العاري سحبت يدها بسرعة في خجل وصاحت به مغتاظة:
_بعد ياعمران عني قولتلك متقربش مني ولا تتكلم معايا نهائي اعتبرني مش موچودة
ابتسم ببرود مستفز ومتعمد لكي يثير جنونها أكثر:
_بس أنتي موچودة اعتبرك كيف مش موچودة وأنتي قصاد عيني طول اليوم
أغلقت عيناها بنفاذ صبر وهي تستغفر ربها، بالأخير استجمعت شجاعتها وتجرأت حيث رفعت يديها المرتعشة والخجلة مجددًا ودفعته هذه المرة من صدره لتوليه ظهرها وتعود تكمل ما كانت تفعله وهي تحاول التحكم بنبضات قلبها التي تضرب بصدرها في عنف.
ابتسم هو بنصر وخبث ثم هتف بنبرة عادية:
_سبيي اللي في يدك ده عشان ننزل للفطور يلا
ولم يلبث للحظة بعد إنهاء عبارته حتى نزل بنظره على طول جسدها وقال في لهجة حازمة وآمرة:
_وطبعًا مش محتاج كل مرة أقولك وأفكرك تغيري هدومك قبل ما تنزلي وتلبسي حاچة زينة وواسعة
لوت فمها بقرف وهي توليه ظهرها ولم تجيب بينما هو فاتجه نحو الفراش وجذب جلبابه وارتداه ثم اقترب من المنضدة وجذب فرشاة شعره مسرحًا شعره الذي لم يستغرق سوى ثواني ومن بعدها غادر وتركها....
***
كانت فريال في طريق عودتها للمنزل وهي عبارة عن جمرة من النيران المشتعلة، كلما تتذكر ماقالته منيرة حول قضائهم ليلة مميزة بالأمس تتأجج نيران الغيرة بصدرها ويتمزق قلبها من القهر.
توقفت تلقائية عند مرورها من أمام معرض الأجهزة الكهربائية الخاص به ورأته وهو يقف يتحدث مع الزبائن.. صرخ صوتها في عقلها أن تندفع نحوه وتفرغ شحنتها المكتظة به لكنها تجاهلت الصوت فلا فائدة بالنسبة لها من ذهابها أو بقائها النتيجة ستكون واحدة.
وقعت عيني جلال على خارج المعرض بمحض الصدفة فرآها وهي تستدير وتبتعد، وبلحظة كان يشير لأحد العمال أن يأتي ويهتم بالزبائن بدلًا عنه، ثم اسرع للخارج شبه ركضًا يلحق بها وفور وصوله لها أوقفها من ذراعها هاتفًا:
_فريال
توقفت مرغمة على أثر قبضته فوق ذراعها وهي تلوي فمها بخنق ثم استدارت له بجسدها كاملًا تحدقه بملامح وجه نارية فتسمع سؤاله الصريح:
_أنتي كنتي چاية تشوفيني وتتكلمي معايا؟
استاءت وكانت على وشك أن تدفعه بعيدًا عنها وتصرخ به لكنها تمالكت أعصابها بذكاء واكتفت بإماءة وجهها كرد بالإيجاب على سؤاله، بينما هو فابتسم بحنو وداخله تراقص فرحًا بعدما ظن أنها قد تكون قررت أعطائه فرصة أو حتى العودة لمنزلها، ليتمتم بخفوت:
_طيب تعالي نتكلم في مكتبي چوا في المعرض
سحبت ذراعها من قبضته بهدوء غريب وسارت خلفه في خطوات واثقة حتى وصلا لمكتبه الداخلي، سبقته هي بالدخول وكان هو خلفها بعدما أغلق الباب.. ثم تقدم إليها ووقف أمامها مباشرة وهو يبتسم ينتظر منها أن تبدأ في حديثها.
تطلعته بقسمات وجه جافة ونظرات لا تحمل من الحب شيء ثم هدرت بثبات ولهجة جديدة عليها وكأنها فريال مختلفة:
_چيت اسألك أمتى هتچيب المأذون وتخلص إجراءات الطلاق؟!
بظرف لحظة واحدة رأت ابتسامة الأمل التي كانت تزين وجهه تختفي ليحل محلها اليأس والغضب ويجيبها بحزم:
_وأنا قولتلك مفيش طلاق يافريال
زمت شفتيها ببرود مستفز وقالت بقوة:
_وأنا مصممة ومش هغير رأي
رفع يده ومسح على شعره نزولًا لوجهه وهو يزفر بغيظ ثم هتف بغضب:
_طب على الأقل فكري في العيال وعشانهم ارچعي عن اللي دماغك ده
ابتسمت بمرارة وقالت:
_أنا بعمل إكده عشان عيالي لكن أنت اللي مفكرتش فيهم لما أتچوزت وچبتلهم مرات أب لا وكمان عايش متهني معاها ومبسوط كأنك عريس فعلًا وتلاقيك مش بتفكر ولا بتهتم بعيالك حتى
غضن حاجبيه بعدم فهم ودهشة ليردف بانزعاج:
_مبسوط وعريس إيه ده!!!.. إيه الكلام اللي بتقوليه ده
ضحكت وفقدت القدرة على البقاء صامدة أكثر من ذلك أمامه تتصنع البرود وهي تشتعل من داخلها، حيث قالت وهي تعيد تكرار كلماته بلهجة مستهزئة :
_بقول الحقيقة.. أنا مخونتكيش يافريال ومحصلش حاچة بينا ومش هيحصل
رد بكل ثقة وقوة:
_دي الحقيقة صُح مفيش حاچة حُصلت ومش هتحُصل
صرخت به بعصبية:
_متكدبش عليا.. لمرة واحدة متبقاش چبان ياچلال وقول الحقيقة في وشي
احتقن وجهه بالدماء واستشاط هو الآخر فصاح بها منفعلًا:
_الحقيقة سمعتيها لكن أنتي اللي عاوزة تصدقي نفسك ودماغك بس، مش بتختاري تصدقيني لو لمرة واحدة حتى ومكنش عندك ثقة فيا ومازالتي
قهقهت بصوت عالي ثم راحت تجيبه ساخرة:
_أنت عندك حق أنا غلطانة كيف مثقش في چوزي وأبو عيالي اللي أتچوز عليا من ورايا.. المفروض أصدق راچل كان بيبص في عيني وبيكدب كل يوم ومفكرش في مرة يقولي أنه هيتچوز
صابت الهدف بعبارتها واسكتته تمامًا، لا يمكنه مجادلتها في حقيقة كلماتها.. مهما قالت في هذا الأمر هي محقة وهو مذنب.
بينما هي فابتسمت بعينان دامعة وهتفت:
_اتكلم ساكت ليه ولا عشان عارف روحك غلطان وأنا عندي حق في كل كلمة.. اللي احنا فيه ده أنت سببه ياچلال أنا كنت بس مستنية منك تاچي وتاخد بيدي من بيت أبويا وتقولي يلا عشان ترچعي بيتك وتقولي مش أنا اللي عملت إكده في عمران لكن أنت كرامتك كانت فوق كل حاچة
ابتسم لها بعينان انطفأ بريقهم ثم تحرك نحو الأريكة يجلس فوقها يستند بساعديه فوق فخذيه مطأطأ رأسه للأسفل ويهمس في استنكار:
_رغم أن احنا الأتنين غلطانين لكن أنتي مش عاوزة تعترفي بغلطك وبترمي اللوم كله عليه كأني شيطان وحرق ودمر كل حاچة بناره.. ودلوقتي اللي عملته مش مخليكي شايفة روحك عملتي إيه غلط وكله أنا السبب فيه، مش فاكرالي أي حاچة زينة عملتها معاكي واصل لا حبي ليكي ولا تمسكي بيكي رغم كل ظروفنا من وقت موت أبويا.. لو أنا خاين وكداب كيف ما بتقولي يبقى أنتي أنانية يافريال
سالت دموعها بغزارة فوق وجنتيها وبعد عبارته الأخيرة شعرت بسكين حاد اخترق صدرها ودون أي انتظار كانت تندفع للخارج تغادر وتتركه بمفرده كما هو على وضعه لا يتحرك.
***
كان في طريقه لقاعة المحاضرة حتى يأخذ أدواته الهندسية التي تركها هناك، لكنه توقف للحظات عندما سقطت عيناه على حور وهي تقف تتحدث مع ابن خالتها.. احتقن وجهه وأظلمت عيناه ثم استدار وأكمل طريقه بخطوات سريعة.
علق نظرها عليه عندما رأته وشردت وهي تفكر بحديثها مع شقيقتها ولم ينتشلها من شرودها سوى صوت ابن خالتها وهو يقول:
_يابتتي أنا بكلمك!
ردت عليه ببلاهة وإيجاز:
_طيب ماشي يامازن هتصل بيها حاضر متقلقش روح أنت وأنا كمان هروح اشوف صحبتي فين
اماء لها بالموافقة ثم ودعها ورحل بينما هي فخرجت بسرعة تجلس فوق أحد المقاعد تنتظر عودته، لم يمر سوى دقائق قصيرة حتي رأته يسير باتجاه الباب الخارجي ينوي الرحيل.. فاستقامت واقفة وأسرعت في خطاها خلفه التي كانت شبه ركض حتى تلحق به وفور وصولها هتفت منادية عليه:
_بلال
تسمر بأرضه على أثر صوتها الناعم ثم استدار بجسده لها لتتقدم هي منه وتقول ببسمة مرتبكة:
_ازيك؟
رد بنبرة جادة بعض الشيء:
_كويس الحمدلله وأنتي؟
شعرت بالغلظة في نبرته مما أظهر العبوس فوق ملامحها أكثر ومع ذلك حاولت أخفائه لتقول باضطراب ملحوظ:
_أنا شوفتك صدفة وقولت اسلم عليك يعني عشان ليا فترة مش بشوفك
تنهد بلال الصعداء بضيق وقال في حزم غير مقصود:
_أنا باچي دايمًا ياحور بس مش فاضي الفترة دي بسلم مشروع التخرچ وورايا مشاغل كتير غيره
لوت فمها بإحراج وأجفلت نظرها أرضًا لتجيبه بخفوت معتذرة:
_آه، آسفة معلش لو عطلتك عن حاجة
ابتسم لها بلطف وقال قبل أن يهم بالرحيل:
_ولا يهمك.. عن أذنك عاوزة حاچة؟
هزت رأسها بالنفي بمعالم وجه بائسة ومريرة بينما هو فاستدار وابتعد عنها بخطواته كانت ستهم وتصيح منادية عليه مرة أخرى لكن تراجعت وهمست لنفسها بحزن وحيرة تسأل نفسها السؤال التي كانت تود طرحه عليه:
_هو أنا عملت حاجة ضايقتك مني طيب؟!
***
بتمام الساعة الواحدة ظهرًا داخل منزل ابراهيم الصاوي ...
كان الجميع انتهى من تناول طعامه وبعضهم جلس يتحدث بعد الأنتهاء من الغذاء والبعض الآخر اتجه لغرفه وكانت آسيا هي أول من تركتهم وصعدت لغرفتها بالأعلى وعمران لحق بها بعدما أوضح أنه مرهق من العمل ويريد النوم قليلًا.
مدت يدها لمقبض باب غرفتها وفتحته وكانت على وشك الدخول لولا صوت منى الذي أوقفها وهي تهتف منادية على زوجها الذي كان على بعد خطوات قليلة منها:
_عمران
التفتت برأسها للخلف فرأت عمران توقف والتفت لابنة عمته التي تقدمت ووقفت أمامه تهتف بإحراج وحزن:
_ممكن اتكلم معاك في حاچة
التفت برأسه تجاه آسيا فوجدها تقف تتابعهم لكن فور التفاته ناحيتها رمقته بعدم مبالاة ودخلت الغرفة ثم أغلقت الباب.. تجاهلت الأمر وكأنه لا يهمها لكنها كانت تشتعل.. بينما هو فهز رأسه بالموافقة لمنى التي همست في أسف:
_أنا مكنش قصدي اعمل مشكلة بينك أنت وآسيا.. وحقيقي وقت خناقتنا أنا مكنتش حاسة بحاچة وافتكرتها هي اللي زقتني وبعدين لما فوقت وألم راسي خف شوية حتى إني افتكرت اللي حُصل يعني مكنتش بكدب
كانت آسيا تقف خلف باب غرفتها وتضع أذنها على الباب تستمع لحديثهم وهي تغلي كالقدر.. تلك الأفعى مازالت تكذب وتحاول استعطافه حتى يلين غضبه تجاهها فهمست لنفسها بوعيد:
_اصبري عليا يامنى بس اخلص اللي أنا عاوزاه وهخليهم يطردوكي برا ياحرباية
كان رد عمران على اعتذارها الصمت بعدما فضل عدم الرد عليها خصوصًا وهو يعرف أنها تكذب لكن الأخرى تابعت بعينان دامعة وصوت نادم:
_متزعلش مني ياعمران حقك عليا والله مش عاوز اشوفك شايل في قلبك ولا مضايق مني خالص
رد بصوت رجولي غليظ وهو يحاول إنهاء ذلك الحوار العقيم الذي بدأ يزعجه حقًا:
_اللي حُصل حُصل يامنى خلاص وأنتي قولتي مكنش في نيتك حاچة صُح؟!.. يبقى خلاص قفلي على الحوار ده ومتفتحهوش تاني ويبقى احسن لو فضلتي بعيدة عن آسيا عشان أنا مش عاوز مشاكل ومليش دماغ للكلام ده
هزت رأسها بالموافقة وهي تلوي فمها ببؤس محاولة إظهار البراءة رغم أنها تشتعل من غيرتها بسبب تحذيره لها من أن تبتعد عن زوجته.. ثم تابعته وهو يستدير ويتجه نحو غرفته فتندفع هي الأخرى بغضب نحو غرفتها.
كانت آسيا تجلس فوق مقعدها وممسكة بهاتفها تشاهد أحد فيديوهات برامج الأخبار التي ظهرت لها على تطبيق اليوتيوب.. لم ترفع نظرها له حتى حين دخل وكأنها لا تراه ولا تكترث بما حدث منذ قليل بالخارج، بينما هو فوقف ينظر لها بترقب في انتظار أن ترفع نظرها لكنها لم تفعل.. فضيق عيناه وزفر بخنق ثم اقترب من خزانته وأخرج ملابسه وبدأ في تبديل الملابس أمامها.. هو يعلم أنها تنزعج من ذلك التصرف وتطلب منه تبديل ملابسه في الحمام بسبب خجلها والآن يفعلها عمدًا حتى يثير غضبها ويجعلها تتحدث لكنها خيبت ظنه ولم تتفوه بحرف واحد وبقت كما هي على وضعها تدفن نظرها في الهاتف ولا تهتم لأمره كأنه نكرة.
كانت غايته أن يثير جنونها ولكن الحقيقة أن هي من فعلت بتجاهلها المستمر له.. اسرع في ارتداء ملابسه ثم اندفع نحوها وجذب الهاتف من يدها بعنف فرفعت هي نظرها له أخيرًا وهزت رأسها باستغراب تسأله:
_في إيه؟!
هتف بغضب حقيقي وانزعاج:
_مبحبش قعدة التليفونات كتير يعني أنتي ست متچوزة ووراكي التزامات مش هتسيبي اللي وراكي وتقعدي على التليفون
دارت بنظرها في أرجاء الغرفة المنظمة وكأنها تريه أن التزاماتها في هذا المنزل تنحصر في غرفتهم فقط، ثم أجابته بكل هدوء تضمر خلفه اللؤم:
_مفيش حاچة أعملها لو أنت محتاچ حاچة قولي وأعملها
القى بالهاتف فوق الفراش في غيظ وهتف بلهجة لا تقبل النقاش:
_لما أكون موچود مش عاوز اشوف التليفون ده في يدك
ابتسمت بتكلف ووقفت تجيبه بانصياع غريب:
_تمام!
ولته ظهرها وهمت بالخروج للشرفة لكنه أوقفها بسؤاله الغير متوقع:
_مسألتيش يعني منى كانت عاوزة تتكلم معايا في إيه؟!
ابتسمت بخبث بعد سؤاله وسرعان ما رسمت الجفاء والتفتت برأسها تجاهه تردف بعدم اكتراث:
_عشان مش مهتمة أعرف.. وحاچة متخصنيش أنت وبنت عمتك بتتكلموا مع بعض وميصحش اتدخل چايز تكون حاچة منى مش عاوزاني أعرفها
استقرت في عيناه نظرة مريبة فهمت من خلالها أنها خطتها تنجح تدريجيًا والآن هو يشتعل مثلها من الداخل بسبب تجاهلها وتصنعها أنها لا تشعر بالغيرة عليه.
ولته ظهرها من جديد ودخلت للشرفة تقف تتابع الشارع أسفلها وهي تبتسم بمكر وتهمس في صوت منخفض يحمل الوعيد:
_ولسا يامعلم!
***
بتمام الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل....
كانت جليلة تجلس فوق مقعد خشبي مبطن منذ وقت طويل بالصالون وتنظر من النافذة تتابع الشارع بشرود حتى غلبها النوم وغفيت مكانها.
بنفس اللحظة كان الجد حمزة بطريقه لغرفته بالأعلى بعد عودته من حفل زفاف ابنة أحد أقاربهم لكنه توقف بخطواته فور سماعه لصوت همهمات غريبة ومزعورة فالتفت حوله يبحث عن مصدر الصوت ليجد جليلة تجلس فوق المقعد نائمة وتهمهم بكلمات غير مفهومة وسط نومها.. اقترب منها وهزها بلطف هاتفًا:
_چليلة فوقي.. چليلة
انتفضت مكانها وفتحت عيناها مفزوعة لتحدق في والد زوجها بعينان مزعورة ودامعة فيجذب هو مقعد ويجلس أمامها يسألها بقلق:
_مالك يابتي؟
انهمرت دموعها فوق وجنتيها فور تذكرها لزوجها الذي كان ضمن حلمها الآن.. تذكرت نظراته المعاتبة والمنزعجة منها وهو يحتضن ابنته بين ذراعيه ويرفض اقتراب أي حد منها.
حاول حمزة تهدأتها بلطف حتى تتوقف عن البكاء لكنها همست بصوت ضعيف:
_وحشتني بتي قوي يابوي
تبدلت ملامحه للضيق وهو يقول بجفاء:
_بتك غلطت ياچليلة ولولا ستر ربنا كان زمانها ميتة دلوك أو احنا مفضوحين والحمدلله أنها اتچوزت والموضوع عدي من غير خساير
هزت رأسها بالرفض وهي تدافع عن ابنتها لأول مرة:
_لا أنا حاسة أن بتي مظلومة وهي معملتش حاچة احنا ظلمانها يابوي ورميناها لناس ابراهيم ومسألناش فيها.. أنا معرفش كيف صدقت فيها إكده.. آسيا متعملهاش
هتف حمزة بغضب وعدم استيعاب:
_ظلمانها كيف يعني والصور اللي شوفناها بعيونا دي إيه!
رفعت كتفيها بجهل وردت بثقة:
_معرفش بس أنا متوكدة أن في حاچة احنا منعرفهاش.. وإلا مكنش ربنا هيبعتلي الإشارات دي كلها.. أنا بحلم دايمًا بآسيا وخليل وكنت بحلم بيه دلوك كان بيبصلي بعتاب وهو متعصب وواخد آسيا في حضنه وهي بتبكي
رتب خليل على كتفها بحنو متمتمًا في لهجة حازمة:
_ده بسبب عقلك المشغول ببتك بس ياچليلة لكن الأحلام دي ملهاش معنى متوهميش نفسك.. آسيا لطخت شرفنا وفضحتنا حتى أنا مكنتش مصدق كيفك وكنت بقول دي تربيتي كيف تعمل إكده بس الحقيقة باينة كيف الشمس قصادنا والصور خير دليل
هزت رأسها رافضة تصديق ما يدعيه.. ووجها غارق بالدموع بينما هو فتوقف وغادر ليتركها مكانها منخرطة في نوبة بكائها وشعورها بالندم.....
***
داخل غرفة فريال كان جلال متسطح فوق الفراش يتمعن في السقف بشرود وبجواره ابنه الصغير نائم....
لم يكن بوضع يسمح له بتحمل منيرة أو حتى رؤيتها وكان يريد البقاء بمفرده ينعزل حتى لو لمجرد ساعات معدودة بين جدران غرفته هو وحبيبته عله يشعر بتواجدها معه وتتخلل رائحتها المسكرة لأنفه، لكن صغيره لم يسمح له وشاركه الفراش مصممًا على النوم معه الليلة فوق فراش والدته ليوافق هو مغلوبًا وسط ضحكه عليه.
اختلى بأفكاره المؤلمة مجددًا وها هي تصيبه في مقتل من جديد، كلماتها ونظراتها الناقمة لا تخرج من عقله أبدًا.. ليتها تقرر التنازل لمرة واحدة وتحاول منح زواجهم وحبهم فرصة أخرى.. هو ليس لديه شك أن قلوبهم ستخرج من قاع البحر وستطفو فوق سطح المياه مرة أخرى وتعود الحياة لمجاريها إذا فعلت وتركته يصلح خطأه، حتى لو كانت هي أيضًا مخطئة لم يعد يهتم فهو على أستعداد أن يتنازل مجددًا ويمحو الماضي كله دون اكتراث بما فعلته به.. يكفيه أن تبقى معه ولا تتركه، هو لا يطيق فراقها هي وأولاده عنه لأسبوع واحد وأصبح بتلك الحالة المزرية بسبب هجرها له منذ أسابيع فقط.. فكيف ستكون حالته أذا نفذ رغبتها في الطلاق وانفصل عنها للأبد.
رفع أنامله ومسح تلك الدمعة المتعبة التي فرت من عينيه ثم أغمض عيناه ينوي النوم هذه المرة عله يجد مخرج من طريق أفكاره المسدود، دقائق طويلة نسبيًا وانفتح الباب لتدخل منيرة رأسها تنظر له فتجده نائم وبجواره ابنه في فراش فريال.. التهبت نظراتها وكورت قبضة يدها تضغط عليها بغيظ وغيرة ثم غادرت وتركته.
***
كان عمران يقف في الشرفة يتحدث هاتفيًا مع أحد الرجال بخصوص العمل وبعد انتهائه تحرك للداخل ووضع الهاتف فوق المقعد وهو يرفع يده يمسح فوق مؤخرة رأسه بخنق زافرًا، لكن سرعان ما تبدلت ملامح الخنق لأخرى هائمة عندما رآها تقف أمام المرآة ترتدي ثوب أحمر طويل منقط باللون الأبيض وترفع يديها لشعرها تلويه لكي تلمه بالمشبك الكبير.
قادته قدماه دون أن يشعر تجاهها ووقف خلفها مباشرة ثم مسك يدها وانزلها فانفرد شعرها الغزير على طول ظهرها كله وسمعته يهمس بنبرة مميزة:
_سبيه مفرود
ارتجف جسدها من لمسة يده ونبرته حتى أنها تطلعت لانعكاسه في المرآة بتوتر ملحوظ لا تجد الكلمات لتجيب عليه وفقط خرجت همسة خافتة من بين شفتيها:
_ليه؟!!
ابتسم وتمتم بصوت رجولي يذيب القلب:
_شكله إكده عاچبني
طالت نظرتها المندهشة إليه.. لوهلة ظنت نفسها داخل حلم وليس بواقعها المرير.. لا يمكنها تصديق أن ما تراه أمامها الآن هو عمران وبتلقائية أفصحت عن أفكارها حيث سألته ببلاهة:
_عمران أنت تعبان؟!
قهقه برجولية وزم شفتيه لها بجهل، رغم أنها رغبت بالضحك لكن تصرفت بجفاء تكمل خطتها الممتعة.. هي تعلم جيدًا محاولاته الذكية في نيل رضاها لكنها أذكي ولن تسامحه بسهولة.
آسيا بقسوة وهي ترفع يديها وتلم شعرها من جديد:
_وأنا مش عاچبني وبلاش تستغل كل فرصة وتقرب مني ياعمران عشان أنا مش هنسى اللي عملته وكمان مش عاوز اتكلم معاك واصل ياريت تنسى إني موچودة معاك واصل ولو مش عارف أنا ممكن اسيبك وأروح اقعد مع فريال هيكون أسهل واحلى
رأت ملامح وجهه المخيفة بدأت تحتل مكانها وبتلك اللحظة علمت أن الصمت هو أفضل حل حتى لا تقع كوارث بينهم.. وفور انتهائها من ربط شعرها اتجهت نحو الفراش وقبل أن تنام راحت تجذب الوسائد وتضعهم على طول الفراش بالمنتصف بينهم فنظر هو لها بحيرة وهتف بنفاذ صبر:
_بتعملي إيه؟!
ردت ببرود:
_كيف ما أنت شايف بعمل فاصل بما أن مفيش مكان غير السرير ده وأنا مش عاوزة أنام چارك فالمخدات دي هتكفي الغرض
لم يجيبها فقط تابعها بنظراته الشرسة حتى انتهت وتمددت بجسدها على الفراش مغلقة عيناها تستلم للنوم.. مسح على وجهه نزولًا للحيته وهو يتأفف بتذمر ثم تسطح هو الآخر بالجزئية التي خصصتها له وبجواره تمامًا تلتصق به الوسائد وهي على الجانب الآخر.
رفع يديه واستند بهم أسفل رأسه محدقًا في السقف بصمت وبين كل لحظة والآخرى يلقي نظرة عليها، بعد مرور نصف ساعة تقريبًا من السكون التام من كلاهما تحرك ورفع جسده قليلًا يميل عليها ليتأكد إذا كانت نائمة أم مستيقظة وفور تأكده من نومها العميق راح يمد يده لتلك الوسائد المزعجة ويزيلها ليليقها على الأرض بإهمال، خطوته التالية كانت اقترابه منها بكل تريث حتى أصبح خلف ظهرها تمامًا وانحنى عليها يلثم شعرها بدفء.
كان على وشك أن يبتعد وينام لكنها تململت أثناء نومها واستدارت على جهته ثم دخلت بين ذراعيه، اخفض نظره لها متأملًا إياه ثم وضع رأسه فوق الوسادة وادخل ذراعه أسفل رأسها فتنغمس هي بين أحضانه دافنة وجهها بين صدره كالطفل الصغير، والغريب أن رغم كل هذا مازالت داخل سباتها العميق، قبَّل رأسها للمرة الثانية ثم اغلق هو الآخر عيناه لكي ينام...
***
بصباح اليوم التالي.....
كانت فريال تقف بغرفتها أمام النافذة شاردة الذهن تتذكر مقابلتها مع منيرة بالأمس ثم شجارها مع زوجها.. تستعيد كل شيء مر منذ بداية الأمر كيف كانت نظرات تلك الخبيثة لها بكل مرة وكأنها تحتفل بانتصارها في معركة لم تخضوها سوى بالخداع.. فلو وقفت أمامها في تلك المعركة حتمًا ستخسر.
منذ أمس وحوارها مع آسيا وما قالته لها لا يغادر عقلها بأي شكل كان.. تفكر في كل كلمة تفوهت بها وها هي أخيرًا تعطيها الحق في رأيها.
دخلت إخلاص الغرفة واقتربت من فريال تهتف لها بجدية:
_يلا يافريال عشان الفطور يابتي
لم تجد رد منها فاقتربت منها أكثر وهزتها برفق في كتفها هاتفة:
_فريال أنا بكلمك
انتبهت لها ونظرت لأمها بنظرة جديدة كلها قوة ووعيد لتضيق إخلاص عيناها بحيرة وتسألها:
_مالك ياحبيبتي؟
عادت فريال تلقي بنظرها من النافذة مجددًا قبل أن تهتف بكل ثبات واصرار:
_أنا راچعة بيتي تاني ياما
.............. نهاية الفصل ..........
•تابع الفصل التالي "رواية ميثاق الحرب و الغفران" اضغط على اسم الرواية