رواية ضروب العشق الفصل الرابع والعشرون 24 - بقلم ندى محمود توفيق
(( ضروب العشق ))
_ الفصل الرابع والعشرون _
كانت ستجيب عليه ولكن احست باليد التي قبضت على الهاتف من الخلف وجذبته من يدها بقوة ، فاستدارت مذعورة فورًا وتسمرت بأرضها حين رأته يقف أمامها وبيده الهاتف !! .. وضعه على أذنه يستمع إليه ويهتف " الو .. الو ملاذ !! " ، تلونت عيناه بلون دموي مرعب وخرج صوته المريب والذي يقذف الخوف في الابدان :
_ اعتبره أول وآخر تحذير ليك وإلا اقسم برب العزة ما هخليك تشوف الشمس تاني
ولم يكن في حاجة ليوضح له مباشرة من ماذا يحذره ، يكفي أنه فهم جيدًا ماذا يقصد .. انهى الاتصال والقى عليها نظرة نارية ملتهبة بنيران السخط وبعض الخذلان ، اكتفى بهذه النظرة التي تحدثت بدلًا عنه واستدار متجهًا نحو الخزانة يخرج ملابس له بعد أن نزع عنه سترته .. غامت عيناها بالعبارات وشعرت بسكين حادة غُرست في قلبها ، خجلت أشد الخجل من نظرة الخذل التي رأتها في عيناه ، أبدًا لم تكن تريد أن تراها أو تجعله يشعر بالخذلان فيها للمرة الثانية ، هي فقط خشيت من النتائج إن اخبرته .. خشيت من اضطراب علاقتهم من جديد !! .
خطت بخطواتها المترددة والوجلة نحوه حتى وقفت خلفه مباشرة وقالت بصوت يغلبه البكاء :
_ زين .. أنا آسفة !!
جالت بذهنه فكرة أنها قد تكون كذبت عليه بالأمس ولم يكون مرضها حقيقيًا كما اقنعته ، فالتفت لها برأسه وهتف بأعين مشتعلة وصوت حاد :
_ اعتقد إن امبارح شوفتيه في الفرح عشان كدا طلبتي نمشي وكنتي متوترة ومش طبيعية
توقعت أنه سيكشف الأمر فهو ليس أحمق للدرجة التي تجعله يغفل عن شيء كهذا ، اطرقت رأسها أرضًا وقالت بندم وخذي من نفسها :
_ آسفة !! .. والله خوفت اقولك تتعصب وتحصل مشكلة لو شوفته
سرت رجفة قوية في جسدها أثر صيحته العنيفة بها قائلًا :
_ أنا مبحبش الكذب !!
انهمرت دموعها كالشلال على وجنتيها واجابته بصوت متقطع ومرتعش دون أن ترفع نظرها عن الأرض :
_ خو..فت يا..زين ! ، خوفت اقولك وافكرك بكل حاجة تاني لما تشوفه ، أنا بعمل المستحيل عشان اخليك تنسى اللي حصل وتسامحني ، ولما شوفته امبارح حسيت إنك لو شفته ممكن ترجع تعاملني بجفاء زي الأول
لم يتوقف صياحه بها حيث وصل لذروة غضبه وهو يصرخ بها :
_ ده مش مــــــــبرر !! ، لما شوفتيه كان المفروض تقوليلي مش تمثلي إنك تعبانة عشان نمشي ، ودلوقتي بتردي عليه وبتكلميه !!!
رفعت نظرها له وقالت مسرعة ببكاء حاد محاولة تصحيح ما قاله :
_ لا والله مكنتش اعرف إنه هو .. كان رقم غريب وأنا رديت واكتشفت إنه هو وكنت هقفل المكالمة بس .......
_ بس إيه هااا .. كنتي حابة تسمعي توسلاته عشان ترضي كرامتك وهو بيقولك ارجعيلي ، مش هو ده السبب اللي وافقتي تتجوزيني عشانه برضوا !!
هزت رأسها بالنفي تترجاه بنظراتها أن لا يقل هكذا وهي تبكي بحرقة ولكن ماقاله جعلها تتوقف عن البكاء وترتفع علامات الصدمة والأسى على وجهها ! :
_ عايزة تعرفي اجابة السؤال اللي سألتهولي امبارح .. لا ياملاذ أنا مبثقش فيكي ومظنش إني في يوم هرجع اثق فيكي تاني !
ظلت متصلبة بأرضها كالتمثال واليأس يحاوطها من كل الجهات حتى شعرت بأنه يكتم على أنفاسها تدريجيًا ، راودها الدوار من فرط الضغط العصبي والنفسي الذي عانت منه منذ ليلة أمس ، واحست ببرودة جسدها وبدأت اعصابها في التراخي ولم تسمع شيء بعدها سوى صوته غير الواضح يهتف بذعر " ملاذ .. ملاذ !! " .
***
كل من حسن وكرم يتبادلون الأحاديث داخل مكتبه ، ويتناقشون بأمور تخص العمل بجدية شديدة ، حتى قطع لحظات عملهم رنين الهاتف الخاص بكرم الذي نظر لشاشته وقرأ اسم المتصل " مسعد " فوجه حديثه لأخيه وهو يجذب الهاتف ليجيب عليه :
_ ثانية ياحسن مسعد بيتصل !
أجاب على الاتصال ليأتيه صوته القوي وهو يقول :
_ الو ياكرم بيه
_ أيوة يامسعد حصل إيه ؟
طالعه حسن بنظرات مستفهمة فانزل هو الهاتف من على أذنه وقام بتشغيل مكبر الصوت ليسمع كليهما صوت مسعد الجاد :
_ البيت اللي قاعد فيه اتحرق
غضن حاجبيه بدهشة وهتف بخشونة :
_ لحظة يامسعد بيت مين ده اللي اتحرق ؟!!!
_ اللي قتل مرات حضرتك ياكرم بيه
تبادل هو وحسن نظرة منصدمة ثم عاد يجيبه بصوت صلب :
_ اتحرق إزاي وهو عايش ولا لا
_ مش عايش محدش لحقه وجثته مش باين ليها ملامح أصلًا .. لكن مين اللي عملها معرفش ، تقريبًا واحد من اللي ليهم فلوس بضاعة عنده ولما مدفعلهوش قتله
هتف حسن يتساءل باهتمام وتعجب :
_ حصل امتى يامسعد الكلام ده ؟!
استغرب الآخر قليلًا عند سماعه لصوت حسن ولكنه اجابه بنفس نبرته السابقة :
_ امبارح الفجر
اكمل حسن بغلظة :
_ هو مكنش في حد معاه في البيت ؟
_ لا جثته بس اللي طلعت من البيت
مسح كرم على وجهه متأففًا بخنق ثم هتف بشيء من الانزعاج :
_ طيب يامسعد خلاص
انهي معه الاتصال ونظر لحسن الذي لاحت على شفتيه بشائر الابتسامة المندهشة والممتزجة بالتشفي ثم نظر له وقال باسمًا :
_ هو ده افضل عقاب كان يستحقه وربنا اداله جزائه اللي يستحقه في الدنيا
لا يزال تحت تأثير الدهشة ولا يصدق كيف حدث هذا فجاة ، ولكن لا يهم فقد داهمته مشاعر السعادة والتشفي مثل أخيه حيث أجابه باسمًا :
_ الصراحة مكنتش متوقع ابدًا إن يحصل كدا .. أنا كنت لسا النهردا هبلغ عن مكانه وكان هيتعدم بما إنه هربان من السجن أصلًا وعليه حكم أعدام فبمجرد ما يتمسك كان هيتنفذ عليه الحكم بس ربنا أخذه أخذة عزيز جبار منتقم
اتسعت ابتسامة حسن وأجابه بمداعبة لطيفة :
_ طيب بمناسبة الخبر الحلو ده بقى لازم نحتفل وباقي اليوم النهردا اجازة وهنمشي الموظفين
_ نمشي مين !! ، أنت عبيط يالا !!!! .. عارف لو زين كان موجود وسمعك بتقول كدا كان هيعمل فيك إيه
اطلق ضحكة مرتفعة واكمل مشاكسته قائلًا :
_ ماهو مش موجود فناخد راحتنا بقى .. بعدين خلاص القرار صدر أنا أساسًا عايز امشي ومش طايق اقعد ، وإنت ........
توقف عن الكلام عندما فتحت يسر الباب ودخلت متجهة نحو كرم ووضعت أمامه بعض الملفات تأخذ رأية بشيء معين ، غير مبالية تمامًا لوجود حسن وكأنه ليس موجود ، فحدق بها بأعين ثاقبة كالصقر يتفحصها بتدقيق في ملابسها وحين تذكر ضحكها ودلالها مع ذلك الذي يدعى " راسل " ابن خالتها ، استشاط واحتقن وجهه بالدماء .. هب واقفًا وقال بمضض وهو يوجه حديثه لأخيه ولكن عيناه مثبتة عليها :
_ أنا همشي ولو حصلت حاجة ابقى اتصل بيا
رفع عيناه عن الأوراق وحدق بأخيه هاتفًا بنبرة عادية :
_ طيب ومتنساش تاخد معاك الملفات اللي محتاجة مراجعة وتظبطها زي ما اتفقنا
اماء له برأسه وعيناه لا تزال معلقة عليها وكلما يراها لا تنظر له وتتجاهله تمامًا يزداد غيظه .. حجب نفسه بصعوبة عنها واندفع إلى خارج المكتب قبل أن يفقد زمام نفسه ، أما هي فلوت فمها بخنق واقتضاب ثم اخذت الورق وانصرفت بعد أن انتهت من حديثها مع كرم الذي ضحك بخفة بمجرد رحيلها وقال :
_ ربنا يهديكم
***
فتحت عيناها تدريجيًا ببطء شديد وكانت الرؤية مشوشة في باديء الأمر حتى بدأت تتضح وأول شيء رأته كان هو حيث كان بجوارها على حافة الفراش وعيناه تحوم فيها إشارات الفزع .. سمعت همسه القلق إليها عندما رآها عادت لوعيها :
_ ملاذ أنتي كويسة .. اخدك للدكتور ؟!
هزت رأسهل بالنفي وعصف بذهنها ماحدث قبل أن تفقد وعيها فغامت عيناها بالعبارات مجددًا لتعتدل في نومتها حتى تصبح شبه جالسة .. اجفلت نظرها للأسفل ولم تقوي على وضع عيناها بعيناه وخرج صوتها به غصة مريرة ، منكسر ومهزوز :
_ أنا مكنش في نيتي اخبي عليك أنا لما شوفته قولت دي صدفة ومش هشوفه تاني فلموش لزمة اقولك واعمل مشكلة ملهاش لزمة ، لو كنت اعرف إن ده اللي هيحصل كنت قولتلك
فرت دموعها من عيناها لترفع اناملها وتجففهم مكملة حديثها بنبرة بائسة وتائهة :
_ أنا لغاية دلوقتي بشوف في عينك نظرة عدم الثقة يازين ، بحسك مش واثق فيا ولسا بتفكر إني ممكن اخدعك أو اخونك .. وإنت قولتها بنفسك إنك مش بتثق فيا
دموعها ، نبرتها ، بؤسها ، جميعهم اصابوا الهدف تمامًا وغرسوا في يساره سهم حاد .. فاضعفته دموعها وندم على ماقاله في لحظة غضب لا تحسب ، لانت نظرته لها واصبحت ممتلئة بالدفء والاعتذار .. فأصدر تنهيدة حارة ومسك بكفها يملس عليه بلطف هامسًا بأعين محبة :
_ غلط ! ، أنا مشكيتش فيكي أنا كل غضبي كان بسبب إنك خبيتي وكدبتي عليا ، كنت أحب إنك تقوليلي مش تخبي عليا .. ومتاخديش على كلامي أنا كنت متعصب ومكنتش عارف أنا بقول إيه ، وزي ما إنتي محتاجة تحسي بثقتي فيكي أنا كمان محتاج ده ، ومحتاج احس بإنك بتعتبريني كل حاجة بنسبالك مش مجرد زوج ، في حجات كتير ناقصة بينا ياملاذ أنا مش هعرف اشرحهالك صدقيني
توقفت عيناها عن ذرف الدموع وحدجته بحيرة امتزجت باليأس من كلماته ، أما هو فهب واقفًا وانحني إليها يطبع قبلة رقيقة على شعرها متمتمًا :
_ ارتاحي وكلي الأكل اللي جبتهولك ، وأنا هروح اصلي الضهر في المسجد وجاي
تابعته بوجه عابس وهو يستدير ويرحل ، وعقلها يطرح الاسئلة " ما هو الناقص ؟! ، ماذا يقصد بالأشياء الناقصة بيننا ؟!! ، وياترى ماذا على أن أفعل حتى اساعد معه في إكمال الناقص ؟!! " .. لا شك في أنها اخطأت حين ظنت بأن الوصول لذروة العشق سهلة ! ، فلن يصل للعشق الصادق إلا من مر بجميع تحدياته ووقف صادمًا بوجه اعتى الرياح و الصعاب ، وليس هناك أصعب من التوغل لقلب رجل ناضج ومثقف .. وحتى تتمكني من الإلمام بجميع جوانبه عليكي أولًا أن تلمسي أعمق نقطة في داخله !! ..........
***
مع غروب الشمس وحلول المساء .......
فتح كرم الباب ودخل ثم نزع حذائه عنه واغلق الباب خلفه وقاد خطواته نحو غرفته مباشرة لظنه بأنها ستكون نائمة في فراشهم ولكنه سمع صوتها وهي تهتف من المطبخ :
_ كرم إنت جيت ؟!
توقف والتفت برأسه للخلف وأجابها :
_ أيوة ياشفق جيت
ثم استدار بكامل جسده وذهب إليها ليجدها تقف أمام آلة تحضير القهوة وتحاول تشغيلها وهي تقول بعبث :
_ إزاي بتشتغل دي .. نفسي أعمل عليها قهوة مش عارفة !!
مالت شفتيه للجانب بضحكة بسيطة واقترب منها ليقف بجوارها ويغمغم بعد أن ابعدها برفق :
_ ابعدي وهوريكي إزاي تتعاملي معاها
تراجعت للخلف وركزت كامل انتباهها عليه وهو يريها طريقة تشغيلها والتعامل معها وبعد أن انتهى نظر لها بعيناه الرمادية متمتمًا :
_ عرفتي إزاي هتشغليها ؟!
اماءت بابتسامة رقيقة وهمت بأن تطبق عملي ما علمها حتى تحضر لها كوب قهوة لعله يزيل الآم رأسها ، ولكنها وجدته يقبض على رسغها هاتفًا بشيء من الحزم :
_ إيه إنتي هتعملي قهوة دلوقتي ؟!!
_ أهاا مصدعة أوي والله ولما بشربها بتظبط دماغي جدًا !
رأت الابتسامة تشق طريقها لشفتيها وهو يردف ساخرًا :
_ إيه شغل المدمنين ده !! ، أنا اللي من عشاقها مش بشرب منها في الوقت المتأخر ده ، ثم إن غلط تشربيها دلوقتي لو مصدعة نامي لكن لو شربتيها دلوقتي هتزود عليكي الصداع وهتعملك إرهاق ومش هتعرفي تنامي
رفعت يدها تشير إلى عقلة من سبابتها قائلة برجاء ونظرات مستعطفة :
_ هشرب حتة صغننة خالص ، قد كدا !!
هز رأسه رافضًا بحدة مزيفة ليحاول اخفاء ابتسامته على طفوليتها :
_ تؤتؤ .. قولت لا
تأففت بخنق وقالت بعبوس وضيق :
_ يوووووه إنت وحش على فكرة
لف ذراعه حول كتفيها وهو يديرها لكي تتجه معه نحو الغرفة متمتمًا بمشاكسة محببة لقلبها :
_ تقريبًا إنتي أول واحدة تقول إني وحش ، بس ما علينا تعالى عشان عندى ليكي خبر حلو
تجاهلت جملته الأخيرة أو بالأحرى لم تركز فيها جيدًا فأجابته بغنج انوثي ومغازلة صريحة به :
_ بهزر طبعًا هو مين ده اللي وحش ! ، كل الحلاوة دي ووحش !!
رفع حاجبه فاترًا عن ابتسامة واسعة تميل لليسار قليلًا وقال برقته المعهودة يتغزل بها بمداعبة لأول مرة .. فقد تمكنت في الأيام القليلة أن تمحو حواجز توتره وخجله منها واصبح يتصرف معها بطبيعية وبحرية أكثر :
_ دي عيونك اللي حلوة
لم يكن حيائها بقدر صدمتها من أنه يتغزل بها ، لتصمت وتحدجه بمزيج من الخجل والدهشة ، وعلى شفتيها ابتسامة مستحية ، ولكنها تصرفت بشيء من المرح وهي تهتف :
_ هو أنا المفروض دلوقتي اتكسف ولا اندهش ؟!
_ زي ماتحبي !!
قالها بنفس تعابير وجهه السابقة لتحاول هي الخروج من قوقعة خجلها وتوترها ، فتهتف بفضول :
_ طيب إيه هو الخبر اللي بتقول عليه ده ؟!
أخذ نفسًا عميقًا وأخذت ملامحه القليل من الجدية مع بعض الفرح وهو يقول :
_ من هنا ورايح مفيش قلق تاني وده مش بنسبالك بس ده بنسبالي أنا كمان ؛ لإني كنت ببقى قلقان وخايف عليكي كل ما اطلع من البيت واسيبك وحدك بسبب الحيوان اللي كان بيحاول يأذيكي .. ودلوقتي حصل حريق في البيت اللي كان موجود فيه وهو كان جوا ومات محروق لدرجة إن جثته مش باين ليها ملامح
هيمن عليها الذهول للحظات قبل أن تهدر بصدمة وعدم استيعاب :
_ لحظة ، فهمني طيب ده حصل إزاي وامتى ؟!
_ حصل امبارح الفجر ، أما إزاي فأنا ذات نفسي معرفش بس مش هو ده المهم .. المهم إننا خلصنا من شره وربنا انتقم لينا منه ، أنا حاسس براحة جميلة جدًا من وقت ما عرفت وبحمد ربنا إنه خلاني اشوفه قبل ما يموت عشان اخد حق اروى واطفي ناري ، دلوقتي بس أنا أقدر أقول إن الهم اللي كان على قلبي انزاح
اتسعت ابتسامتها وقالت بسعادة غامرة وأعين تفيض حبًا :
_ لا أنا بقى بحمد ربنا انه استجاب لدعواتي لإني كنتي خايفة عليك منه أوي ، بس خلاص مات وارتحنا منه
حدجها مبتسمًا للحظات طويلة يمعن النظر فيها حتى وجدها تهتف بحماس طفولي :
_ طيب وبمناسبة الخبر الحلو ده يلا نشرب قهوة
انطلقت منه ضحكة مرتفعة وقال بإصرار ورفض قاطع :
_ لا برضوا .. ويلا روحي نامي عشان الصداع اللي عندك ده يخف
_ اووووووف بجد ياكرم
رأته يقف جامدًا لا يظهر عن أي ابتسامة أو تعبيرات لطيفة ، فقط معالم وجهه صارمة بعض الشيء فتحركت باتجاه الغرفة وهي تلتفت برأسها له وترمقه بأعين مغتاظة وتقوم ببعض الحركات الكوميدية بشفتيها كدليل على غيظها وخنقها منه ومن رفضه ، وأخيرًا سارت مباشرة دون أن تتلفت له ودخلت الغرفة ليضحك هو مغلوبًا على أمره من مشاكستها وعنادها ثم لحق بها !! ........
***
طرقت ميار عدة طرقات خفيفة على الباب حتى اتاها صوته الرجولي وهو يسمح لها بالدخول ففتحت الباب ودخلت على استحياء ، ورأته يشير لها بعيناه ناحية الباب ففهمت فورًا واغلقته خلفها ثم تحركت نحوه وجلست على المقعد المقابل له هامسة بنظرة مضطربة :
_ حضرتك قولت إنك عايزني ؟!
أخذ طاهر نفسًا عميقًا قبل أن يهتف بحدة :
_ أيوة حبيت اقولك بنفسي عشان تعملي حسابك ومتحطيش أمل إنك ممكن ترجعي المانيا تاني
رمقته بذهول صامتة لخمس ثوانٍ حتى تحدثت بعد استيعاب لما تفوه به للتو :
_ بس ياعمو أنا لسا فاضلي سنة في الكلية ومش هقدر اسيبها
اظلمت عيناه ونبرته أصبحت أكثر خشونة وغلظة ، ليجيبها بأعين ارهبتها قليلًا :
_ كليتك هتكمليها هنا .. لكن سفر تاني مفـــيــــش ياميار ، انسي إنك تشوفي المانيا دي تاني حتى لو اطلقتي من علاء
كانت إشارات الصدمة تعلو معالم وجهها ونظراتها لا تصدق ما يأمرها به ، بل وحتى عقلها يرفض الخضوع .. فهدرت في رفض بسيط :
_ wie bitte !!! , ich kann nicht
( ماذا !!! ، أنا لا استطيع )
ارتفعت نبرة صوته قليلًا وهتف بقسوة :
_ أنا مش بخيرك ! .. ده اجباري ومش قراري لوحدي دي جدتك بنفسها هي اللي قالتلي كدا
استقامت واقفة وهتفت مندفعة بأعين دامعة :
_ لا بس ده ظلم أنا مش عايزة اعيش في مصر وعايزة اكمل دراستي في المانيا
طاهر بصياح هادر وانفعال مخيف :
_ ظلم !!! ، كان المفروض تفكري في ده قبل ما تعملي عملتك المهببة دي وتخلي راسنا في الأرض
انتفضت واقفة بهلع من أثر صيحته وانهمرت دموعها غزيرة لتسحب نفسها بسرعة وتندفع لخارج مكتبه عائدة لغرفتها متجاهلة نظرات زوجة عمها المستاءة منها .
فتحت غرفتها واغلقت الباب خلفها ثم القت بنفسها على الفراش منخرطة في نوبة بكاء عنيفة واستمرت على وضعها هذا إلى مايقارب الربع ساعة ، حتى رأت علاء يفتح الباب ويدخل بعد أن عاد من الخارج .. نزع سترته عنه غير مباليًا لها ولكن حين وقع نظره عليها ورأى وجهها الغارق بدموعها هتف بغلظة وسؤال من دافع الفضول فقط :
_ مالك ؟!
لم تجيبه فقط القت عليه نظرة كلها غل وغضب لتجده يعيد سؤاله ولكن بنبرة مرعبة :
_ لما اكلمك تردي عليا !
وثبت من الفراش واقفة واندفعت نحوه تصيح به بسخط قوي غير مكترثة لأي شيء ودون أن تضع في الحسبان نتائج فعلتها تلك :
_ أنا مش عايزك ومش عايزة اعيش هنا ، أساسًا أنا مش طيقاكم كلكم ، ومحدش فيكم عايز يصدقني والكل شايفني كذابة !! ..هو إنت فاكر إنك هتخوفني بطريقتك دي ، أنا أصلًا مش شيفاك راجل ياعلاء عشان اخاف منك
هي حقًا فقدت عقلها بالكامل لتهتف بهذه الكلمات أمامه دون ادراك لعواقب الأمر .. كان يحجب نفسها عنها بصعوبة منذ أن تزوجها بسبب أبيه الذي يحذره مرارًا وتكرارًا من أن يقوم بفعل متهور معها ، ولكن بعد ما قالته الآن هيجت الوحش الخامد في أعماقه ، وأثارته لدرجة لا يمكنها تخيلها حيث شعرت بكفها القوي يهوي على وجنتها بعنف حتى اسقطها على الفراش وانحني نحوها يجذبها من خصلات شعرها ليجعلها تقف على قدماها مجددًا صارخًا بها بصوته الجهوري الذي نفضها نفضًا بأرضها :
_ مش راجل هااا ، عشان اتجوزتك وداريت على فضيحتك يا***** مش شيفاني راجل ، ده أنا مشوفتش واحدة في بجاحتك ياقذرة
ارتفع صوت نشجيها القوي وهي تحاول التملص من بين قبضتيه بينما هو فأكمل ولكن هذه المرة بهمس أثار قشعريرة في جسدها :
_ إنتي فعلًا متربتيش وعايزة تربية وأنا عارف هربيكي من أول وجديد إزاي ياميار ، مبقاش علاء العمايري أما خليتك تشوفي التربية على حق
ثم دفعها على الفراش مجددًا تاركًا إياها وهو يهتف مشمئزًا :
_ جاتك القرف في شكلك !!
***
تحديدًا بغرفة يسر .......
تقف في الشرفة وتترك لنسائم الشتاء الباردة الحرية في لفح وجهها فيتطاير معها خصلات شعرها السوداء .. دومًا رأته كتلك النسائم الباردة لا يملك دفء أو رفق ، فقط القسوة والصقيع .. كانت دموع عشقها تنهمر على وجنتيها لتدفئها فيأتي هو بصقيعه ليثير الرجفة في جسدها ويجمدها بجفائه ! ، لم تكن تطلب منه أكثر من بعض اللطف والحنو ، كان سيكيفها القليل من مشاعر الحب والرغبة ، ولكنه رأى أن حتى المشاعر كثيرة عليها .. واشبعها قسوة وإهانة ومشاعر كلها نقم ، ولكنها هي المخطئة .. هي من سمحت له بتدميرها وتجميد قلبها ، هي الساذجة الوحيدة في هذه الحكاية !! ، اندفعت خلف هوسها به حتى نسيت كبريائها وكرامتها فبعثرها لأشلاء ودهسها ! .. وفي الواقع هو لم يهنها بل هي من اهانت نفسها حين ركضت خلف رجل لا يريدها ، وحين دعس بقدمه على عزة روحها في صباح الليلة الأولى بينهم ولقنها بكلماته القاسية وحملها هي ذنب ما حدث بينهم ، ورغم هذا لم تفق وعادت له مجددًا حتى تكون الصدمة أقوى ويزيد من اذلالها عندما عرف بحملها وأجباره لها على إجهاضه ، حينها استفاقت من تعويذة العشق التي كانت تعميها لتفهم وتدرك أن ذلك الرجل لا يستحق ذرة واحدة من عشقها ولا يستحق سوى البغض !! .
اخفت وجهها بين ثنايا كفيها منخرطة في بكاء حار بقلب منفطر ومنكسر ، تبكي حرقة على مافعله بها فقط لأنها احبته ورغم كل هذا مازالت تشتاق له ، تبًا لهذا العشق اللعين !!! .
رفعت وجهها وجعلت نجفف دموعها بسرعة عندما دخلت أمها الغرفة وسمعتها تهتف :
_ يسر ياحبيبتي إنتي لسا صاحية !
التفتت برأسها لأمها وابتسمت بتكلف تتصنع الطبيعية :
_ هنام دلوقتي ياماما
_ طيب ادخلي ياحبيبتي من البرد إيه اللي موقفك كدا !!؟
كانت تقاوم بالظهور ثابتة حتى لا تنفجر باكية أمامها وقالت بخفوت :
_ حاضر هدخل ، روحي إنتي نامي
_ تصبحي على خير
_ وإنتي من أهله
استدار ورحلت أمها فاستنشقت هي القليل من نسائم الشتاء حتى تعيد تجميد قلبها وتتوقف عيناها عن ذرف الدموع ، ولأول مرة ينفعها الصقيع ويزيدها قوة وصلابة ، أخرجت زفيرًا يحمل بخار الشتاء ثم دخلت واغلقت باب الشرفة واتجهت نحو فراشها لتمدد جسدها عليه وتتدثر جيدًا بالغطاء مغمضة عيناها في محاولة بائسة منها للهرب من واقعها الأليم !! .
***
يتجنب الحديث معها منذ صباح اليوم ولا ينظر لها ؛ حتى لا يوهمها بأنه صفي تمامًا لها .. ولكن تجاهله لها بات يثير جنونها ولا تطيقه ، لا تتحمل رؤيته غاضب منها ولن تهدأ إلا حين تحصل على مسامحته وتنزع الاستياء من أعماقه ، وستعتذر له بكل الطرق الممكنة ! .
رأته يقف أمام الخزانة يخرج ملابس له حتى يأخذ حمام دافيء فنهضت من الفراش واعترت طريقه قبل أن يتحرك تنظر له بعبوس وتهمس بأسى :
_ لسا واخد على خاطرك مني صح !
اطال النظر في معالم وجهها دون أن يجيب وهو يجاهد في منع نفسه التي تلح عليه بأن يعانقها ويعنفها بلطف حتى لا تنظر له بهذه النظرات التي تأثره مجددًا ، وكأنها قرأت أفكاره فوجدها ترتمي بين ذراعيه وتعانقه دافنة وجهها بين ثنايا رقبته هامسة بصوت مبحوح ويغلبه البكاء :
_ ارجوك يازين متعاقبنيش ببعدك عني وجفائك ، أنا تعبت والله ومبقتش قادرة استحمل
اذابت الجليد بنبرتها وعناقها له فخر مستسلمًا أمامها وابعدها عنها يتمتم بصوت دافيء عندما رأى عيناها الممتلئة بالدموع :
_ متعيطيش !
أجابته بعينان تلمع بوميض الأمل ونبرة فرحة :
_ يعني مش زعلان مني خلاص ؟!
مالت شفتيه للجانب بابتسامة عاشقة وكانت في عيناه نظرة مريبة وجديدة تمامًا ، فطالعته هي بحيرة تنتظر منه الأجابة بنعم ، ولكنه اراد أن تكون اجابته مختلفة ، حيث رأته ينحني برأسه ناحيتها فتجمد جسدها واضطربت حين توقعت فعلته القادمة .. ولم يخطأ توقعها حيث نجح في أن يسرق أخيرًا اولى لحظاتهم الغرامية معًا للحظات كانت بمثابة ساعات بالنسبة لكليهما ، فيسلبها عقلها بكامل ارادتها .. ابتعد بعد لحظات عابرة واقترب من اذنها يهمس بنبرة اطلقت سهامها إلى قلبها وبابتسامة واسعة :
_ أظن كدا الإجابة وصلت !
ثم تحرك متجهًا نحو الحمام تاركًا إياها في تخبطات مشاعرها ، تحاول لملمة شتات نفسها الذي بعثرها للتو ، ثلاث ثواني بالضبط وارتفعت الابتسامة الخجلة لشفتيها تدريجيًا لتضع كفها على فمها أو على شفتيها تحديدًا موضع قبلته وهي تضحك باستحياء وسعادة غامرة ، هرولت نحو الفراش وتدثرت بالغطاء مولية وجهة الحمام ظهرها لكي تتهرب منه حين يخرج كوسيلة لإخفاء خجلها ، ظلت تحملق في اللاشيء أمامها وهي تبتسم إلى حين سماعها لباب الحمام يفتح بعد دقائق ليست بطويلة ، فأغلقت عيناها فورًا متصنعة النوم وقد احست بقلبها الذي يطرق بعنف كالمطرقة ، وزاد توترها حين شعرت به ينضم بجوارها في الفراش هاتفًا :
_ ملاذ !!!
فتحت عيناها على أخرهم ودارت بهم في جميع حدود الغرفة التي أمامها لا تعرف بماذا تجيبه ، بل خجلها هيمن عليها لدرجة أنها إن اجابته ستتلعثم ولم تخرج كلمة واحدة صحيحة على الأقل ، أما هو فضحك بصوت مكتوم حين فهم خجلها وقال باسمًا بشيء من المكر ليوقعها في شباكه :
_ ملاذ إنتي نمتي ؟!
" نمت !! ، أجل هذه أفضل حجة لأتهرب منه " قالتها لنفسها بارتباك وتصنعت النعاس وهي تردف بتلعثم :
_ أاا..ايوة
كتم ضحكته واجابها بمزيد من اللؤم :
_ امال بتردي عليا إزاي !
وجدت نفسها تلتفت له برأسها وتهتف مغتاظة من مكره واصراره على زيادة خجلها :
_ برد عليك من الحلم يازين !!
انطلقت منه ضحكة مرتفعة نسبيًا ثم اعتدل في نومته واقترب منها طابعًا قبلة رقيقة على جبهتها هامسًا :
_ طيب تصبحي على خير
ذلك الخبيث لم يكفيه مابعثره منها بقبلته منذ قليل والآن يحاول أن يبعثر ما تبقى ، اجابت عليه بإيجاز وتوتر امتزج بحياء ملحوظ منها :
_ وإنت من اهله
وسرعان ما عادت توليه ظهرها من جديد مغمضة عيناها في محاولة منها للسيطرة على دقات قلبها المتسارعة !! .
***
داخل منزل محمد العمايري في صباح اليوم التالي .........
كان كل من هدى ورفيف والجدة يجلسون على مائدة الطعام ويتناولون فطورهم ، معادا الجدة التي كانت تحدق بالطعام في صمت دون أن تدخل لقمة واحدة منه في فمها ، فانتبهت لها هدى وتأففت بنفاذ صبر هاتفة بلين :
_ ياماما كلي ابوس إيدك ، إنتي بتاخدي علاج ولو مكلتيش كويس هتتعبي ، ده من وقت اللي حصل مع ميار وإنتي مش بتاكلي كويس !
نظرت لها وقالت باقتضاب :
_ المفروض إني أكون فرحانة ياهدى ؟!
اقتربت بمقعدها منها وامسكت بكفها تملس عليه بلطف هامسة بحنو ، فهي تعتبرها أمًا لها وبينهما علاقة قوية :
_ أنا مبقولكيش تفرحي ! ، أساسًا محدش فينا فرحان .. بس مينفعش تفضلي زعلانة كدا ومش عايزة تاكلي
غامت عينان الجدة بالدموع وهي تقول بوجه حزين :
_ مش قادرة اصدق إنها عملت كدا ياهدى ، أنا دلعتها فعلًا بس كنت واثقة فيها وفي الآخر هي تحط راسي في الأرض
تدخلت رفيف في الحديث وقالت بشيء من الحزم :
_ تيتة إنتي فعلًا غلطانة إنك مكنتيش بتاخدي بالك منها ولا بتراقبي أفعالها ، بس ده ميمنعش إن الغلط الاكبر عليها وميار مش صغيرة وعارفة الغلط من الصح ، وأظن إنها دلوقتي بتدفع تمن غلطها بجوازها من علاء
اماءت الجدة بتأيد على ماقالته حفيدتها ثم مدت يدها وجففت دمعتها لتنظر لهدى وتقول بصرامة :
_ والاستاذ حسن مش ناوي يقول اللي حصل بينهم خلاه يطلق مراته
عبست ملامح هدى وقالت بضيق وصوت يائس :
_ لا هو ولا يسر عايزين يتكلموا ، وانا هتجن وافهم ازاي طلقها بالسهولة دي .. مش معقول تكون خناقة عادية اللي حصلت بينهم
هتفت الجدة بحدة ونظرات ثاقبة :
_ أنا هتكلم معاه لما ياجي وهعرف اتصرف معاه الغبي ده !
تنهدت هدى بعدم حيلة بينما رفيف فابتسمت على نعتها له بالغبي ، فإن نظرت من المنظور الواقعي هو بالفعل كما وصفته الجدة ، اهدر فرصة لن تأتيه ثانية .. ولن يجد فتاة تعشقه بقدر يسر مهما فعل !! .
***
كان كرم لا يزال نائم في الفراش بثبات تام ، وهي بجواره كلاهما وجه لوجه تحدق به بتمعن ، تتأمل ملامحه الهادئة والجميلة حتى وهو نائم ، شعره الذي يعطي لمسة بنية خفيفة ، انفاسه المنتظمة والدافئة ، لا يمكن أن يكون بكل هذه الوسامة حتى في نومه .. باتت تعشقه أكثر من أي شيء ، بل وكيف لامرأة تحظي بقرب هذا الوسيم واللطيف ولا تقع بين شباك عشقه .
وجدت به الأخ والصديق والزوج عندما كان لا يوجد لديها أحد سواه ، لطفه وحنانه وحسن معاملته وكلامه الساحر اجبروها على الانخراط بتعويذة العشق ، رأت فيه طوق النجاة وحظت بالآمان بقربه وحصلت على ملجأ لها من كل شيء .. يكفيها وجوده معها الذي يمنحها القوة والسكينة والأطمئنان .
هناك مشاعر متضاربة وكثيرة تشعر بها تجاهه ولكنها لا تعرف حتى كيف تصفها لنفسها سوى أنها تعشقه بكل حرف تحمله الكلمة من معنى .
ومع الأسف يبدو أنها ستعاني من ألم العشق ، فهي تعرف جيدًا أن برغم كل ما يفعله معها لا يحبها مثلما تحبه فقط يراها كصديقة وشخص يمتلك مكانة كبيرة جدًا في قلبه ، ولكنها لا تريد تلك المكانة بل تريد قلبه كله .. تريد عشقه مثلما يعشق زوجته حتى الآن ، فالعشق لا يعرف العدل وإن أحببت يجب عليك أن تتبع قاعدة الانانية أول شيء ، وهي لا تريد أن يكون بقلبه سواها ، ولكنه لا يحبها !! .
هل هي قبيحة ولذلك لا يلتفت لها ؟ ، ماذا وجد بزوجته حتى عشقها لهذا القدر ؟ .. هل هناك شيء لا يعجبه فيها ؟ ، أم أنها فشلت خلال هذه الفترة أن تنل القليل من حبه ؟ ، توقفت عن طرح الاسئلة لنفسها حين رأته يفتح عيناه فكانت هي جامدة تمامًا تحملق به بأعين دامعة ولكنه بسبب استيقاظه للتو لم ينتبه جيدًا لها وفقط عقد حاجبيه باستغراب حين رآها تحدق به ورسم ابتسامة عذبة على شفتيه يجيبها وهو يهب جالسًا ويفرك عيناه :
_ صباح الخير !
تمتمت بخفوت وابتسامة مهمومة :
_ صباح النور
التفت لها برأسه وغمغم متسائلًا بحيرة :
_ إنتي صاحية من بدري ؟!!
اعتدلت في نومتها وجلست مثله ، تهز رأسه نافية وتهمس :
_ لا !!
أماء برأسه بحركة خفيفة ثم نهض من الفراش واتجه إلى الحمام الملحق بغرفتهم لتحدق على آثاره بيأس وضيق ، وبقيت مكانها لدقائق طويلة حتى خرج بعد أن أخذ حمامه الصباحي وكان يمسك بالمنشفة يجفف شعره الذي تتساقط منه قطرات الماء ، وأخيرًا انتبه لوضعها المريب وشرودها وعبوس وجهها فاقترب وجلس بجوارها بعد أن لف المنشفة حول رقبته وغمغم باهتمام :
_ مالك ياشفق ؟!
_مليش !
قالتها بعدم مبالاة لوضعها وقلة حيلة ، فدقق هو النظر جيدًا بعيناها المجفلة لأسفل ليراها ممتلئة بالدموع ، فظهرت علامات الدهشة والقلق على وجهه وسألها بهدوء :
_ بتعيطي ليه ؟!
رفعت اناملها لعيناها ومسحت دموعها ثم هزت بكتفيها لأعلى وتمتمت بصوت بائس دون أن تنظر له :
_ مش بعيط !!
_ طيب العياط ده ، ليه علاقة بسيف ومامتك ؟!
نفت برأسها وهي مازالت مطرقة لأسفل بوجه تعلوه معالم الأسى ، فزدادت حيرته وقلقه ليمد اناملها ويرفع ذقنها برفق هامسًا :
_ بصيلي ياشفق ، في إيه ؟!!!
علقت عيناها عليه وتمتمت بنظرات مشوشة وصوت مهزوز يغلب عليه البكاء :
_ هو أنا وحشة ياكرم ؟!
غضن حاجبيه بريبة من سؤالها العجيب ولكن سرعان ما ابتسم وتمتم بحنو وهو يملس على شعرها :
_ وحشة !!! ، أنا مش فاهم إيه مناسبة السؤال ده ، بس لا أكيد مش وحشة ياشفق ، بالعكس انتي جميلة جدًا كفاية ملامحك البريئة وتصرفاتك العفوية اللي بحبها أوي
عادت تشيح بوجهها عنه وتقول محتجة بقلة ثقة :
_ متجاملنيش !
زادت ابتسامته اتساعًا وهمهم برقة :
_ أنا مش بجاملك ومبعرفش اجامل أساسًا .. طيب تعالي !
وقف وجذبها من يدها بلطف حتى اوقفها أمام المرآة ووقف خلفها مباشرة ثم وجدته يضع كلتا يديه على كتفيها هامسًا بنظرات عيناه الرمادية الساحرة :
_بصي لنفسك ، إنتي شايفة نفسك وحشة كدا !!!
دققت النظر بنفسها في المرآة لثواني قليلة ثم نظرت لصورته هو في انعكاس المرآة لتجده يكمل همسه الذي كان قريب بما فيه الكفاية من أذنها :
_ وبعدين أنا في رأى إن الجمال عمره ما كان بالشكل
ابتسمت ساخرة وهي تقول :
_ آهاا الجمال جمال الروح وكلام الأفلام والمسلسلات ده !
استرسل حديثه بكامل الدفء والرزانة :
_ بس ده مش كلام أفلام ده حقيقة ! ، في ناس حلوة كتير شكلًا بس لا اخلاق ولا طبع ولا تعامل والناس كلها بتبقى بتكرهم وفي ناس بتبقى مش حلوة ابدًا بس اخلاقها وطبعها مع الناس بتجبر الكل إنه يحبها ، إنتي مستحيل تحبي حد عشان شكله وإلا ده يبقى مسمهوش حب يبقى اسمه اعجاب وهياخدله كام يوم أو كام شهر ويروح ، هديكي مثال مثلًا .. في كتير بيتجوزوا بنات مش حلوين أو العكس وبيبقوا مبسوطين وفرحانين ببعض ، هتقوليلي إزاي حبها أو ازاي حبته دول مس لايقين على بعض خالص هقولك هي محبتش شكله هي حبت ذاته ، في النهاية اللي عايز اوصولهولك إن مفيش حد هيحبك عشان شكلك انتي بروحك وافعالك بتخلي الشخص اللي قدامك يحبك ، فهمتي ؟!
ادمعت عيناها بعاطفة جياشة ، وهي تبتسم على حظها الجميل وتقول لنفسها " وماذا إن كان وسيم الشكل مثلك وجميل الطبع أيضًا ، بتأكيد سافقد عقلي تمامًا ! " التفتت له بكامل جسدها وهي تحدجه بدموع عيناها وتبتسم بعشق جارف وارتمت بين ذراعيه مغمغمة بدلال انوثى جميل :
_ طيب اسمحلي اقولك إن إنت اللي حلو بجد في كل حاجة مش شكلًا بس
كان يشك في حقيقة مشاعرها تجاهه منذ فترة والآن شكه ازداد أكثر في أعماقه ، ولكنه لم يعقب كثيرًا وفضل أن يتصرف بطبيعية تمامًا وكأنه لم يفهم شيء من نظراتها العاشقة له دومًا .. لاحت ابتسامة بسيطة على شفتيه ورفع يده يضعها على ظهرها متمتمًا بنعومة :
_ اممممم عارف قولتهالي كتير قبل كدا ، بس إنتي مش ملاحظة إنك بتتغزلي فيا كتير الأيام دي
ابتعدت عن وقالت بمشاكسة وغنج عفوي :
_ أنا !!! ، لا ابدًا ، إنت أكيد بيتهأيلك !!
_ اااه ما أنا قولت كدا برضوا !
قالها بابتسامة امتزجت ببعض المكر ، لتتخلي هي عن مزاحها وتقول بلطافة وامتنان به القليل من الخبث شاكرة إياه على كلماته الرائعة التي قالها للتو :
_ شكرا ياكوكو !
مد يده يقرص وجنتها بلطف ويقول بنفاذ صبر مغتاظًا :
_ العفو ، بس نبطل كوكو دي هااا !!
افترت عن ابتسامة عريضة وأسنان بيضاء ناصعة أما هو فألقى عليها نظرة دافئة أخيرة قبل أن يستدير وينصرف ، تاركًا إياها تبتسم بهيام وتصدر تنهيدات مغرمة بجماله !!! .
***
داخل مقر شركة العمايري تحديدًا بمكتب حسن ......
مر اسبوع منذ أن تركت المنزل ورحلت ، اسبوع فقط قلب جميع الموازين ضده ! ، ولا ينكر أنه لسبب مجهول لا يتمكن من التوقف عن التفكير فيها بالأخص بعد ظهور ابن الخالة الذي يراه بكثرة معها ، وفي كل مرة يراها معه يداهمه شعور عدواني تجاهه بأن يذهب ويبرحه ضربًا ومن ثم يجذبها ويرحل بها فيعنفها بشدة ، ولكنه يتجاهل ذلك الشعور الذي يخنقه ولا يعرف سببه ، وينجح بكل مرة أن يتمالك أعصابه بصعوبة .
الآن هناك صوت بداخله يلح عليه بأن يذهب ويتحدث معها لعله يتمكن من الحصول على مسامحتها ، فهناك حقيقة واحدة يقرها وهي أن ضميره يقتله كل يوم ، ولا يستطيع اسكاته ، يشعر بالذنب تجاهها وتجاه طفله ولا يود أن تكون النهاية مؤلمة لكيلهما هكذا ! .
هب واقفًا بعد أن حسم قراره وغادر مكتبه متجهًا إلى مكتبها ولكنه قابلها في الطريق وهي على وشك أن تستقل بالمصعد الكهربائي وهمت بأن تضع قدمها بداخله ولكن تراجعت حين سمعت صوته يهتف مناديًا عليها :
_ يــســر !
اغلقت عيناها وهي تأخذ شهيقًا قوي وتخرجه زفيرًا متهملًا ، تؤهل نفسها لمواجهته بقوة كما اعتادت ، وبالفعل التفتت له بكامل جسدها وطالعته بثبات تام ليقترب ويقف أمامها متمتمًا بهدوء :
_ ممكن نتكلم شوية ؟
قالت بعدم اكتراث وجفاء وهي تهم بالاستدارة والرحيل :
_ مفيش حاجة بينا عشان نتكلم فيها !
قبض على رسغها ليوقفها من الرحيل هامسًا بنبرة تحمل بعض الرجاء :
_ خمس دقايق بس !
نظرت ليده التي تقبض على رسغها بنظرات نارية فتركها فورًا حتى لا يغضبها أكثر بينما هي فقالت بشراسة :
_ معاك خمس دقايق بظبط تقول فيهم اللي عايزه لاني مش فاضية ، وايدك دي متلمسنيش تاني ياحسن فاهم ولا لا !!
تنهد بضيق وقال موافقًا :
_ حاضر ، ممكن بقى تاجي المكتب عشان مش هينفع نتكلم هنا !
تأففت بخنق ثم سارت قبله باتجاه المكتب ودخلت ، ليدخل هو خلفها ويغلق الباب ثم يقول بصوت رجولي مشيرًا بعيناه على الأريكة :
_ اقعدي
اغتاظت بشدة من محاولاته لكسب الوقت وقالت شبه منفعلة :
_ إنا مش هقعد .. قول اللي عايز تقوله ياحسن يلا
رمقها بأسى فقد يبدو أنه لم يتمكن من الحصول على مايريد أبدًا ، اقترب منها ووقف أمامها مغمغمًا باعتذار صادق :
_ أنا عارف إني كنت بعاملك وحش وظلمتك أوي وهِنتك وعذبتك ، وعارف إننا كنا متفقين على الطلاق وانك عندك حق تاخدي مني الموقف ده بعد اللي حصل مني ، بس أنا مش حابب ننهيها بالطريقة دي صدقيني وحابب اثبتلك ندمي
ضحكت باستهزاء قائلة :
_ هي انتهت خلاص مش لسا هننهيها .. إنت طلقتني لو ناسي يعني !! ، وأنا مش فارق معايا ندمك أو غيره أصلًا ، خلاصة الكلام إنت ذات نفسك كلك متفرقش معايا
اطال النظر في عيناها يحاول البحث عن القليل من العشق المدفون تجاهه ولكنه لم يجد سوى الغضب والنقم والثبات ، فابتسم ببعض المرارة ساخرًا :
_ يااااه بالسرعة دي قدرتي تكرهيني ، بعد كل اللي عملتيه عشان توصلي ليا وبعد كلامك إني مش هلاقي حد يحبني قدك !
كانت تعافر نفسها الضعيفة على الظهور أمامه بمظهر القوية ، ولملمت ما تبقى من شتات قلبها لتجيبه بكل القسوة والحزم والقوة :
_ مبقتش عايزة احبك خلاص !! ، كان غلط كبير جدًا ، وإنت أكبر غلط هفضل ندمانة عليه طول حياتي ، أنا ندمانة على كل ذرة من مشاعري اللي اهدرتها على واحد ميستهلش زيك ، عايز الصراحة أنا الوحيدة اللي طلعت غبية وساذجة من اللعبة دي مش إنت وللأسف ادركت ده متأخر ، بس متقلقش كلها كام يوم وهمحيك من كل ذكريات حياتي زي النكرة ؛ عشان مش يسر اللي هيكسرها واحد حقير زيك
ثم تراجعت للوراء واخرجت هاتفها الذي يعلن عن وصول اتصال من أحدهم ، ثم يسمعها تجيب عليه وهي تغادر المكتب :
_ الو يا راسل أنا نازلة أهو !
كور قبضة يده بقوة ، وهو يجز على أسنانه هامسًا بأعين حمراء كالدم :
_ امممممم راسل !!!!!
***
فتح علاء باب المنزل ودخل ليجد أمه تسرع إليه قائلة بانفعال :
_ برن عليك إنت وابوك محدش بيرد عليا ليه ؟!!
اجابها مستغربًا من انفعالها :
_ كنت في اجتماع ياماما وبابا كان معايا أنا جاي آخد حاجة وماشي تاني ، في إيه متعصبة كدا ليه ؟!
_ ميار مش قاعدة في البيت ، قلبت عليها البيت كله ملهاش أثر !
............ نهاية الفصل ............
•تابع الفصل التالي "رواية ضروب العشق" اضغط على اسم الرواية